دور الإعلام التونسي في فترات التأسيس
التغطية الإعلامية للمحامل المختلفة
بين فترة المجلس القومي التأسيسي 1956/1959
وفترة المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 ....
عبداللطيف الفراتي
هذه مداخلة ألقاها الكاتب بمناسبة ملتقى نظمه مرصد الأديان الذي يديره الأستاذ الدكتور محمد الحداد الأستاذ الجامعي في الفلسفة، ارتأينا نشرها لتعميم الفائدة، حول مقارنة للتغطية الصحفية بشأن الدستور في زمنين مختلفين الأول بمناسبة إعداد الدستور الأول الذي صدر في 1 جوان 1959 والثاني بمناسبة ما يجري من حديث حول كتابة الدستور الحالي.
ماذا عسى المرء أن يقول بعد يوم حافل بالمداخلات القيمة، انطلقت مع ذكريات الأستاذ مصطفى الفيلالي، في شهادته عن تجربته في المجلس القومي التأسيسي في النصف الثاني من الخمسينات، إلى معالم المرحلة القادمة، إلى تحديات مضمون الدستور وملامح القانون الانتخابي.
وبما أن العمر طال ليعايش المرء من موقعين مختلفين، وكملاحظ متابع تجربتين لصياغة دستور في البلاد على مدى لا يزيد عن 50 سنة إلا بقليل، فلنتحدث عن تلك المعايشة، ليس بنفس وقع تجربة الأستاذ الفيلالي حيث كان في قلب الحدث، أو اختصاصية فقهاء القانون الدستوري ، ولكن من موقع المراقب الخارجي الملاحق للحدث، لا الذي يعيشه من داخل.
في تلك السنوات الثلاث أو تزيد قليلا، لم يكن هناك لا تلفزيون ولا إنترنت ، وحتى الإذاعة كانت مشوشة في أعماق البلاد بعيدا عن العاصمة، وكانت لا تشتغل سوى ساعات معدودات في اليوم.
وكان المعين الوحيد هو الصحيفة، ولعلي محظوظ حيث كانت جريدة الصباح تطرق بابنا كل صباح، وقد تسنى لي وأنا أعد هذه العجالة أن أتصفح بعض صحف تلك الفترة، وما خرجت به في مقارنة مع إعلام اليوم، أن الصحيفة وأقصد بالذات جريدة الصباح كانت تقتصر على بعض التغطية الصحفية، ولكن كانت أيضا تتولى نشر دساتير عدد من البلدان أحسب أنها كانت مفيدة للنواب المؤسسين.
ولم يكن هناك وقتها نقاش صحفي أو لعله كان محدودا جدا بشأن مضمون دستور 1959 وتوجهاته الكبرى، فقد كان ما يجري وراء الأبواب المغلقة حكرا على طبقة سياسية، لعلها كانت ورغم الفارق الزمني فيما أذكر، أكثر وعيا ومسؤولية مما نشهد اليوم.
ولا بد للمرء أن يذكر هنا أن عدد النواب المؤسسين في تلك الفترة كان 98 نائبا، وينتمون كلهم إلى عائلة سياسية واحدة هي الحزب الدستوري، بينما عدد النواب المؤسسين في المجلس اليوم هو 217، وتسيير النقاش بين هذا العدد أكبر وأكثر تعقيدا، خاصة وقد استفدنا أن هؤلاء ينتمون إلى 8 أحزاب عدا المستقلين بكل توجهاتهم، هذا في فترة الإنطلاق أم اليوم فإنه يصعب على المرء أن يرد النواب المؤسسين إلى عدد محدد من الأحزاب أو العائلات السياسية ، خاصة بعد انشقاقات أحيانا متعددة في أحزاب كثيرة لعل أبرزها حزب المؤتمر وحزب التكتل والعريضة الشعبية والجمهوري، هذا عدا الإنشقاق عن الإنشقاق.
ولقد فتحت لنا الصحافة وكنت في أول الشباب الأعين على التجارب الدستورية وقتها، ويبدو لي أن المؤسسين أيامها باعتماد ما نشرته الصحيفة، اختاروا من التوجهات الدستورية أكثرها تقدمية، في إطار ما يمكن أن نستشفه من الركائز التي يعتمد عليها أي دستور، أي الحقوق والواجبات والحريات الأساسية العامة والفردية من جهة ، وتنظيم الدولة ومؤسساتها من جهة أخرى.
وفي ما عدا ذلك مما يمكن للمرء أن يستشفه من الصحافة في إحاطتها القليلة بأمر كتابة الدستور، ورغم توقف المصدر الرئيسي للمتابعة مدة 7 أشهر، فقد تم إيقاف جريدة الصباح عن الصدور بين سبتمبر 1957وأفريل 1958 لتمكين الجريدة الوليدة للحزب الدستوري "العمل" من تركيز نفسها في السوق،
فإنه لم يتسن قراءة أي نقاش في العمق، يهم تنظيم هياكل الدولة، مثل أسباب اختيار نظام رئاسي على الطريقة الأمريكية، على الأقل من ناحية المظهر، لكن يتراجع فيه دور السلطة التشريعية الرقابية لحد التفسخ والغياب.
قوبل الأمر وكأنه قدر محتوم، وحتى الانتقال من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري ، كان كالفقاعة التي انفجرت فجأة وبدون مقدمات على الصحافة، ثم توارت، ولم يدر نقاش صحفي في غمرة الحماس لمدى شرعية قرار اتخذ، ولكنه لا يخلو من المشروعية، باعتبار أن الدعوة الملكية في ديسمبر 1955 لانتخاب مجلس تأسيسي، كانت تتجه إلى إقامة ملكية دستورية لا جمهورية، بحيث بدا الانتقال إلى نظام جمهوري هو تجاوز للأمر العلي الذي كان وراء إنشاء المجلس وتجاوزا له.
وحتى قضية الهوية والفصل من الدستور الذي حدد هوية الدولة، والذي جرى بشأنه نقاش مستفيض آنذاك فإن الصحافة لم تشارك فيه ولم تكن مرآة عاكسة له، ولا بد من العودة للرائد الرسمي لمتابعة تطوراته.
وسنرى أن الأمر مختلف مع المجلس الوطني التأسيسي، الذي انتخب في 23 أكتوبر 2011، لمدة سنة وفقا للنص الذي دعا لانتخابه، وتجاوز بعد ذلك بكثير زمنه المحدد، مما يطرح هنا مجددا قضية الشرعية والمشروعية، ويبرز الرأي القائل بأنه مجلس سيد نفسه، وبالتالي لا يتقيد بنص الدعوة لانعقاده، وهو أمر انفجر على أعمدة الصحف ، وعلى شاشات التلفزيون ، وذبذبات الإذاعات ، وأسطر المواقع الإليكترونية، في جو من انطلاق إن لم نقل انفلات حريات صحفية جديدة على البلاد لم يسبق لها مثيل.
وفيما عدا البث المباشر لوقائع اجتماع المجلس القومي التأسيسي يوم 25 جويلية 1959 يوم إعلان الجمهورية ، وما شهده من إخراج منظم مسبقا ومهيء وموزع الأدوار، فإن أشغال المجلس القومي التأسيسي كانت تجري وراء الجدران المغلقة، بعكس ما حصل تحت قبة المجلس الوطني التأسيسي، الذي كانت كثير من فعاليات جلساته تدور على المباشر، بكل تناقضات أعضائه وخصوماتهم الجدية أو التي هي أقل جدية.
ومن هنا فإن الصحافة بكل محاملها قد أخذت دورها كاملا، في نقل الفعاليات، وكذلك النقاشات بين فقهاء القانون الدستوري، والنواب المؤسسون، والدخول في متاهات التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، ولنا أن نقول هنا إن النواب لم يكونوا هذه المرة يتمتعون بالحرية التي تمتع بها أسلافهم في 1956/1959 في تفصيل الدستور وفق إرادتهم بل تدخلت ثلاثة عناصر :
أولها المؤسسون ذاتهم
ثانيها فقهاء القانون الدستوري وغيرهم من رجال القانون ومن لهم معارف قانونية
وثالثها المواطنون أنفسهم.
فقد حفلت أعمدة الصحف والبرامج الإذاعية والتلفزيونية والإذاعية خصوصا طيلة فترة السنة والنصف الماضية بالمواقف والمواقف المضادة.
و أحسب أن هذا النقاش العام قد أثر في مسار الدستور وبشكل مهم، ولا بد من التوقف هنا عند ثلاث نقاط ركائز:
هوية الدولة حيث أمكن أن يقع الاحتفاظ بالفصل الذي حددها في دستور 1959 وهو فصل جاء بعد توافقات صعبة آنذاك، دون زيادة أو نقصان، ولم يأت ذلك بسهولة، وإن كان هناك مزيد من الشد والجذب حول الفصل 141 ، والذي يحاول أن يأخذ باليسار ما أعطاه الفصل الخاص بالهوية باليمين.
قضية الضمير والتحديد من حقوق الإنسان ومدى كونيتها.
تنظيم هياكل الدولة وتوزيع السلطات.
و هي قضايا وغيرها أسالت من الحبر ومن ساعات البث الكثير، ووضعت الأغلبية النسبية لحزب حركة النهضة على المحك، وفرضت حدا أدنى من التوافق.
ولقد كان للإعلام هنا إسهامه المباشر هذه المرة، في إثارة القضايا، وكان وعاء لنقاشات كثيرة تم خوضها، بحيث أثرت في الحصيلة، وما زال مدعوا للتأثير خاصة في مجال أحكام انتقالية غريبة إن لم نقل شيئا آخر ، وبعض التفصيلات التي يخوض فيها المؤسسون من النواب وفقهاء القانون الدستوري، دائما عبر صحافة بقدر ما نالت حريتها، وإن كان هناك سعي لتكميم فمها بقدر ما تبدو حريصة على المكتسب الحقيقي الوحيد للثورة.
ولعل المجتمع المدني مثل مرصدنا هذا عليه واجب ثقيل اليوم، يتمثل في أن عدم ترك أمر الحريات الصحفية، قضية منوطة بالصحفيين وبالمنظمات المهتمة مباشرة بالصحافة وحدها، بل قضية مجتمع، وما بالعهد من قدم فالمجلس التأسيسي حول جلسة استماع للمرفق العمومي للتلفزيون بداية هذا الأسبوع إلى جلسة مساءلة، ليس له الحق فيها باعتبار أن المرفق ليس حكوميا بل عموميا ولعل العودة إلى ما حصل يبرز الخلط في المفاهيم بين ما هو حكومي وما هو عمومي، ويدلل على أن النواب المؤسسون اعتقدوا أن المرفق العمومي هو مرفق خاضع للأغلبية إذا كانت هناك أغلبية فعلية وبالتالي فهو حكومي، متناسيا دور الهيئة العليا للإعلام السمعي البصري ودورها التعديلي الذي منحها إياه القانون.
أعتقد أني أطلت أكثر من اللزوم فالمعذرة، ولا أريد أن أسبق الحدث، ولكني اعتقد أن زميلي النقيب ناجي البغوري سيدخل في تفاصيل أكبر في هذا المجال، ويتحدث من ناحية الحريات الصحفية بين النظري والتطبيقي.
تونس في 15/06/2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق