Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الخميس، 23 مايو 2019

اقتصاديات : نسبة نمو معطلة

اقتصاديات

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
وعود في الهواء ..
نحو الانكماش
الاقتصادي بخطى مسرعة
تونس / الصواب / 23/2019
عندما كانت الحكومة بمناسبة نقاش الميزانية في أوخر العام المنقضي ، تبشر بالعودة إلى نسبة نمو متحسنة  ،  تقطع مع الوضع السابق  السيء ، بحوالي 2.8 في المائة ، لم يكن الكثيرون يصدقون ، فالأفق لم يكن يبشر بذلك ، وعلى ذلك الأساس كانت الحكومة سخية ، في صرف زيادات للقطاعين العام والخاص والوظيفة العمومية ، بعد تمنع وتحمل حالة إضراب عام ، رغم تحذيرات صندوق النقد الدولي ، ومشاهدتها الوعود الممقطوعة لعدم زيادات الأجور، وعلاج قطاع الدعم والهدر المصاحب له ، وباعتبار نكوص الحكومة عن تعهداتها فإن الصندوق فكر طويلا قبل أن يقبل وبإلحاح تونسي كبير،  أن يصرف قسطا آخر من القرض الموعود ، مفتاح الحصول على قروض أخرى من جهات دولية .
كان القول الحكومي إن البلاد خرجت من عنق الزجاجة ، وهي على طريق سالك للنمو ، وكانت اللهجة تبدو متفائلة ، غير أن خبراء ممن أثق بهم وتقارير البنك المركزي لم تكن متفائلة ، وبقيت بين بين ، من أصدق ، وإذ لم يكن صندوق النقد الدولي بمثل هذه النظرة التفاؤلية ، فإن خبراءه كانوا يروجون لنسبة نمو ضعيفة ، ولكن غير حادة كما رأينا لاحقا، شخصيا وبعد كل هذا كنت أنتظر نسبة نمو للثلاثية الأولى بحوالي 2 في المائة ، أما أن تبرز نائج تلك الثلاثية نسبة نمو لا تتجاوز 1.1 في المائة ، فإنها كانت كجلمود صخر سقط علينا من علي ، على رأي الشاعر الجاهلي.
نسبة النمو متدنية لهذا الحد  ما تعني للذين لا يدركون ، تعني استثمارات أقل ، وتوفير فرص عمل أقل ، ودخول المرحلة التي تسبق الانكماش أو الركود الاقتصادي.
لست غراب البين لأبني على الشاؤم تشاؤما أكبر ، ولكني أعرف والكثيرون يعرفون ، أننا في أزمة حادة ، وأن الوعود الواعدة بقرب الخروج من عنق الزجاحة لم تكن في محلها  ، وأن العام 2020  لن يشهد العودة إلى نسق نمو قريب من الطبيعي ، والطبيعي في نظري شخصيا وباعتبار إمكانياتنا الكامة هو ما بين 5 و7 في المائة ، كما في مصر وكما في أثيوبيا دون الحديث عن رواندا التي تحقق نسب نمو برقمين أي أكثر من 10 في المائة ، أو حتى السينغال أو ساحل العاج ،حيث أخذت الإصلاحات تؤتي أكلها ، ونسب النمو العالية تمكن من توفير الكفاية ما يمكن من استثمارات منتجة مباشرة ، وبالتالي احتواء البطالة ، والحد من آثارها المدمرة ، فاليد العاملة  العاطلة لا تنتج ، وهي بطبيعة الحال مستهلكة ،  سؤال كيف سيكون المستقبل ، في ظل إكراهات كثيرة ، منها الارتفاع المرتقب في أسعار البترول في السوق الدولية في ظل التطورات والأحاث الأخيرة  ، والآثار المدمرة لانهيار الدينار ، الذي من المفروض إن يقلص التوريد ، ويعطي دفعة للتصدير ، ولكن ماذا نصدر ، والمواد غير الفلاحية من زيت زيتون وتمور وحمضيات وأسماك ، تتأرجح بين الاستقرار والتراجع  فيما التوريد يواصل نسق بلاد غنية، وحتى الخدمات ليست في أحسن أحوالها ، ونقص السيولة ، وكف البنوك عن تمويل القروض الاستهلاكية ، خصوصا بعد نضوب السيولة عندنا لسحوبات الدولة التي استدارت للسوق المالية المحلية فتحلبها حتى يتحول حليبها إلى دم الحياة ،  تراحع الاستهلاك  يهدد أحد روافع النمو والرافعة الوحيدة الباقية أي الإستهلاك ، وإن كنا لا نستهلك ما ننتج ، دليل ذلك انخرام توازن الميزان التجاري الذي يزداذ ثلاثية بعد ثلاثية ولم ينفع معه علاج ،  بعكس كل ما قيل  فإن الوضع الاقتصادي يزداد سوء ، كما التوازنات المالية المنخرمة .
 وكل الأمل أن لا تكون نسبة 1.1 في المائة هي قدرنا المقبل ، هذا إذا لم نصل إلى ما وصلته تركيا من انكماش ثلاثية بعد ثلاثية ، وهي الحالة التي وصلناها سنة 2011 ، والتي يصعب الخروج منها.
أما الأمل في عودة المواطنين للجهد والعمل فقد أصبنا  باليأس منها. في انتظار أن نواجه أياما أصعب  تبدو الأوضاع الحاية لا شيء أمامها .


الاثنين، 20 مايو 2019

بكل هدوء: صفاقس اتهام بإهمال وتهميش مقصود

 بكل هدوء

كتبها عبد اللطيف الفراتي
صفاقس المهملة .. المهمشة
تونس/ الصواب/20/05/2019
عندما تلقيت دعوة كريمة من رجل الأعمال ، فاخر الفخفاخ الذي مر من الاشتغال بتجارة الزيت ، إلى مستوى عالمي وخاصة إفريقي كمصدر ووسيط ناجح ، وصاب فكرة بنك عالمي كبير جمع له كل مقومات النجاح ولم يحصل بشأنه على ترخيص السلطات المختصة  ، للقاء في مدينة صفاقس مسقط رأسي ، جمع فيه عددا من مثقفي العاصمة من أصيلي المدينة تحت شعار " كونغرس صفاقس " استهدف تجميع روافد المجتمع المدني في الولاية ، واستنهاض الهمم من أجل تجاوز ما يعتبره سكان المدينة والولاية وشتاتها  (دياسبورا) من إهمال وتهميش منذ الاستقلال.
وكانت لي تجربة مع هذه النغمة في شهر جوان 2011  مباشرة بعد الثورة عندما بادر عدد من المثقفين والجامعيين منهم بالخصوص ،  لاجتماع حول فنجان قهوة في فندق الزيتونة ، أحد أقدم الفنادق الفاخرة في البلاد التونسية ، والذي بقي فريدا وحيدا ، فيما حفلت مدن أخرى بسخاء الدولة في بناء الفنادق وإقامة حركة سياحية، وإذ كنت أشعر بصحة الشكوى من إهمال أبناء الجهة ممن تقاذفتهم أمواج الهجرة الداخلية والخارجية وبعضهم أصبح من أصحاب المؤسسات الاقتصادية الناجحة والكبيرة ، فقد قلبت اللوم عليهم ، من حيث إنهم وبمناورات معروفة من منطقتهم ، كانوا أيضا وراء القضاء على كل الزعامات التي تجاوزت المحلية وأصبحت وطنية ، مثلما حصل للرجل الرمز منصور معلى ، الذي ذهب ضحية تحالف من رجال الساحل ( عبد الله فرحات والهادي نويرة ومحمد الصياح وربما الطاهر بلخوجة ) لإقصائه من القيادة عبر مؤامرة رقم 9 ، وهي المؤامرة التي استهدفت في مؤتمر الحزب الدستوري المترشحين عدد 9 و19 و29 و39 و49 و59 و96 وما بعدهم وصدرت الأوامر بعدم التصويت لفائدتهم ، وانخرط وقتها في المؤامرة رجال سياسة جهويين على أمل أن يصبحوا من المستوى الوطني ، وكان أن فقد منصور معلى موقعه في اللجنة المركزية وبالتالي في الديوان السياسي ، الذي كان يحتل فيه الموقع الثالث بعد الرئيس بورقيبة والهادي نويرة ، منذ أن استبعد وأطرد محمد المصمودي بعد مغامرة الوحدة مع ليبيا ، ومع فقدان موقعه في الحزب الحاكم ، فقد الرجل أيضا موقعه كأهم وزير في الحكومة للتخطيط والمالية ، وهو الموقع الذي منه كان يعتبر زعيم الجهة بلا منازع ، وبالتالي ومن المحلية ارتفع إلى مركز متقدم على المستوى الوطني ، وكان منصور معلى آنذاك قد أنشأ أياما لتنمية صفاقس وجهتها ، وتصور مشاريع للولاية تشع على محيطها شمالا وجنوبا وغربا ، ولعل المشروع الوحيد الذي تحقق آنذاك من مشاريعه ، هو إحداث كلية طب لتخريج أطباء لولايات الوسط والجنوب ، يكون رافده مستشفى جامعي ، وإن كان محمد مزالي وزير التربية والتعليم العالي آنذاك ، قد عرقل المشروع باشتراط إقامة كلية مماثلة في سوسة ، وهو ما لم يكن أمرا سهلا  ، باعتبار كلفة المشروعين  في نفس الوقت ، وإيجاد الكفاءات التدريسية الكافية لهما.
وبإقالة منصور معلى الذي فقد وقتها سنده الحزبي والذي كان ضحية مؤامرة داخلية في جهته وأخرى من المركز ، والتي اعتبرت مؤامرة لوقف انطلاق المدينة والولاية وحتى المنطقة ، دخلت المدينة في سبات عميق ، وفيما عدا نهضة عمرانية بقدر انتشارها بقدر فوضويتها ، لم تشهد لا المدينة ولا مداخلها ولا أحوازها ولا معتمدياتها أي جهد استثماري عمومي منذ كارثة شركة آن ب ك  وسياب ، اللتان أقامتا قطيعة بين ساحل المدينة شمالا وجنوبا ، وبين رئتها البحرية التي كانت زاخرة ، بالبلاجات وبحياة ليلية نشيطة.
وحتى المطار الذي كان مبرمجا لأن يكون ثاني مطار في الأهمية  بالبلاد زمن فرنسا ،  أقيم  مكانه شبحا لمطار لا حركة فيه ،  ويصلح ليكون مبناه في مستوى محطة قطار في قرية من قرى فرنسا الثانوية ، أما منطقة السلوم التي كانت تعتبر ثاني أو ثالث قاعدة عسكرية في البلاد ،  بإسقاطاتها على الحركية التجارية في  الجهة ،  فقد أغلقت قبل أن تعود محتشمة ، وفيما كانت مركزية كهــــربائية كبرى في " الحفارة " بمقاييس ذلك الزمن ، فقد تم إغلاقها لتقوم سنترالات في سوسة وقابس وباستثناء صفاقس.
وحتى السور وهو أحد أسوار خمسة كبرى مشهود لها في العالم العربي ، فإنه لم يقع استغلاله ويشكل اليوم  عبئا ثقيلا من ناحية تعهده على البلدية  ، التي ناءت كواهلها بنفقات تعود  إلى ضرورة صيانته ، وإلى امتداد فوضوي لمدينة بلا " ساس ولا راس"، تحتاج لمجهود وطني كما مدن أخرى كبرى.
ذلك هو التوصيف ، غير أن الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال استمرأت هذا الوضع لولاية وما وراءها ، كان يمكن أن تكون القاطرة القوية لكامل البلاد كما هو الشأن في بلدان العالم ، ولكن الارادة السياسية ، إن لم تكن غائبة في أحسن الأحوال فإنها ، كانت مساهمة في وضع مأساوي ، وإذ تتحدث ولايات عديدة عن التهميش ، فإنه يحق لولاية صفاقس أن تشكو ، وفقا لما سمعناه في هذا اللقاء ، لا فقط من إهمال وتهميش ، بل إهمال وتهميش مقصود منذ الاستقلال .
وقد ذكرني ما سمعته في هذا اللقاء بحالة الشيعة في "احتفالات " ذكرى مقتل الحسين خاصة في كربلاء والنجف ، بسياط الحديد  تجلد الاجسام حزنا على الحسين حفيد النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يمكن أن يسمى الجلد الذاتي أو وذلك أبلغ باللغة الفرنسية "l’auto-flagellation"، هو الظاهرة المنتشرة في ولاية صفاقس لشعور عميق بالظلم والغبن من المركز ومن الأبناء في الشتات الذين بنوا ثروات دون التفكير في الاستثمار في مسقط رأسهم .
اللقاء الذي حضرته إذن بمبادرة من فاخر الفخفاخ ، كان مناسبة لإفراغ ما في القلب من حسرة ، على مدينة وولاية ضاعت ، وتقهقرت بعد أن كان يمكن أن تكون طليعة ، وما بقي لها فقط ، هو التميز العلمي ، فهي الأولى تعليميا انطلاقا من نتائج الباكالوريا  وذلك منذ الستينيات  فهي الأولى ومن بعيد سنة بعد سنة ، وجامعتها على قلة الإمكانيات ، هي في طليعة الجامعات عالميا ، إذ تحسب من بين الجامعات الـ  300 الأوائل في العالم ، متفردة في ذلك مع جامعة المنار من بين الجامعات التونسية ، كما إن أبناء مدارسها متميزون في المسابقات العالمية للرياضيات وسنة بعد سنة يحرزون على المرتبة الأولى ، كما منذ أيام في المسابقة الدولية للروبو أي الانسان الآلي .
وإلى عودة للحديث  قريبا  عما إذا كان بإمكان منطقة ما ، مهما كان كد أبنائها أن تحقق انطلاقتها  في غياب دعم وطني على الأقل في مجال البنية التحتية الملائمة ، أو في ظل بيئة ملوثة ، تورث أخطر الأمراض ، رغم الوعود المتكررة وآخرها من رئيس الحكومة الشاهد ، أن تحقق  بمفردها ، وفي حالة تهميش متعمد كما يقولون أي تقدم لجهتها لتكون عنصر تطور وتقدم وتنمية للبلاد.


الثلاثاء، 14 مايو 2019

قرأت لكم : خلفيات هامة ينبغي الوقوف عندها

قرأت لكم


منقول عن فايس بوك من حساب الصديق رضا الكزدغلي وهو أحد أكبر إخصائيي الإعلام وفنون الاتصال في تونس ، وكذلك تحليل الخطاب السياسي اتفقنا معه أو اختلفنا  ، وبقلم   الأسعد بوعزي * ورغم طوله الممتد ، ننشره على مدونة الصواب ، باعتبار أهميته ، بالنظر لطبيعة المرحلة السابقة للإنتخابات ، وبروز دور المرأة ، حيث تعتبر القيادة الهامة في المرحلة الحالية لثلاث سيدات أولاهما والأكثر بروزا على السطح السيدة عبير موسي القيادية السابقة من الصف الثاني في التجمع الدستوري الديمقراطي ، والتي قفزت إلى الصفوف الأولى هي وحزبها في استطلاعات الرأي سواء في المجال الرئاسي أو التشريعي ، ويقول محللون للشأن السياسي أنها تسجل تطورا انفجاريا  exponentielle  في مواقعها بين الجهات المترشحة ، أما السيدة الثانية التي تأخذ أهمية كبرى فهي ألفة التراس ، ويقال إنها تنتمي إلى عائلة متمرسة بالسياسة في بنزرت ، وهذا المقال الذي ننقله إليكم بخصها ، وهي لا تبدو منتمية لحزب معين ، ولعلها و" عيش تونسي " تنتظر الوقت المناسب  ربما لتأليف حزبها أو وضع نفسها وحركتها التي تقول إنها تتوفر على 400 ألف من المتعاطفين و تتوفر على على ثروة غير محدودة ،و أما الثالثة التي تشق الصفوف فهي السيدة دنبا الهدة المحامية وابنة الوزير الأسبق وأحد أهم من عرفتهم السفارة التونسية  كسفير في أمريكا لمدة لا تقل عن 7 سنوات ، وهي  أصيلة مدينة سوسة ، مرشحة لمواقع هامة في الانتخابات المقبلة ، واختارت أن تكون في الصفوف الأمامية والبعض يقول قبل الأمامية في حزب الديل الذي يرأسه رئيس الحكومة الأسبفذق مهدي جمعة ، وهي كذلك إن حت معلوماتنا القنصل الشرفي للشيلي في تونس.
ونقدم لكم اليوم منقولا " عيش تونسي " الذي تبدو وراءه أو على الأصح أمامه واحدة من هؤلاء الثلاث ألفة التراس ، في انتظار فرص أخرى ننقل معها ، ما يتيسر لنا من معطيات عن الاثنتين الأخريين

                                   ***

عيش تونسي
   مقال مهم جدير بالاطلاع حول
" عيش تونسي" : بقلم الأسعد بوعزي *
بات من الواضح أن جمعية “عيش تونسي” تمثل مشروعا سياسيا كبيرا قد تقف وراءه بعض الجهات النافذة بالداخل وبالخارج. أما “وثيقة عيش تونسي” فسوف تتحوّل في المنظور القريب (قبل الحملة الإنتخابية المقبلة) الى برنامج إنتخابي لفائدة حزب قد يُشكّل في إبّانه أو لفائدة حزب آخر قائم.
إن المتتبع للإستراتيجية المعتمدة من طرف جمعية “عيش تونسي” للبروز على الساحة السياسية التونسية لا يفوته أن يلاحظ الشبه الكبير بينها وبين تلك الإستراتيجية التى سمحت لحركة “الجمهورية الى الأمام” الفرنسية بأن تكنس حزبين عريقين تداولا على حكم فرنسا منذ ستّينات القرن الماضى وتدفع بشابّ كان شبه مغمور (إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron) إلى أعلى هرم السلطة بفرنسا.
وللتحقّق من مدى صدق هذه الجمعية التونسية في نواياها من عدمه لا بدّ من مقارنتها مع حزب “الجمهورية الى الأمام” من حيث النشأة والإستراتيجية المتبعة والحكم عليها بالإعتماد على ما قد يفرزه التحليل من معطيات وإستنتاجات.
1- المقارنة من حيث النشأة:
تمّ الإعلان عن حركة “الجمهورية الى الأمام” من طرف ماكرون في السّادس من أفريل 2016 أي سنة واحدة قبل الإنتخابات الرئاسية الفرنسية. وكانت الحركة في بدايتها تسمّى بإسم “إيمانوال ماكرون الى الأمام” (
EMA en marche) لغاية تجميع غالبية الشعب حول وجه شبابيّ متخرّج من إحدى أفضل المدارس الفرنسة (المدرسة الوطنية للإدارة ENA) وناجح في أعماله ومدعوم من اللّوبيات المالية وكبرى الشركات الصناعية.
إن التوقيت الذي تمّ إختياره للإعلان عن الحركة (سنة واحدة قبل الإنتخابات) يأتي في وقت ضاق فيه الفرنسيون ضرعا من الفشل الذريع الذي سجله الرئيس هولاند
Hollande)) على كلّ الاصعدة.
إن هذا الوضع المتأزم في فرنسا ساعد “الجمهورية الى الأمام” على أن تكون حزبا لاقطا (
un parti attrape-tout). وبمفهوم العلوم السياسية فإن مثل هذه الأحزاب تكون قادرة على إلتقاط كلّ الناقمين على الوضع مهما كانت توجهاتهم ومشاربهم وإستقطابهم عبر “مكينة” تقوم على المال والإعلام.
على غرار “الجمهورية الى الأمام” فإن التوقيت للإعلان عن “عيش تونسي” تمّ إختياره بعناية ليكون سنة واحدة قبل الإنتخابات التشريعية والرئاسية (ماي 2018) وفي وقت بلغت فيه نقمة المواطن على الحكومة وعلى الأحزاب النافذة ذروتها. وكما هو الشان بالنسبة للحركة الفرنسية، فإن “عيش تونسي” إعتمدت بدورها على “مكينة” إعلامية ومالية لتصبح ما يشبه الحزب اللاّقط لعديد الشرائح الإجتماعية.
وكما كان الشأن بالنسبة لماكرون، فإن “عيش تونسي” تسعى الى تسليط الأضواء على سليم بن حسن (ومن ورائه الفة الترّاس رامبورغ) ليصبح أيقونة هذه الجمعية لغاية تنفيذ أجندة لم يتمّ الإعلان عنها بعدُ.
والسيّد سليم بن حسن هو شاب تونسي معروف في الوسط الجمعياتي والنقابي بباريس. أسّس “جمعية العلوم السياسية للعالم العربي” (
Sciences PO monde arabe) سنة 2006 وقام بعديد الأنشطة حول مواضيع تتعلق بالإصلاحات السياسية في البلدان العربية. عُرف بتنظيم مؤتمر للنقاش بين رموز نظام بن علي وكلّ الوجوه المعارضة المعروفة على الساحة السياسية آنذاك. ولعلّ معرفته بالشأن السياسي التونسي وتألقه ونجاحه في العمل الجمعياتي هوّ الذي ساعد على إختياره من طرف الجهة التي تقف وراءه ليتولى رئاسة “عيش تونسي”.
2- المقارنة من حيث الهيكلة:
إن هيكلة “الجمهورية الى الأمام” قامت عند نشأتها على أربعة جمعيات بُعثت كلها سنة 2016 وأُريد لها أن تكون متكاملة في مهامّها وداعمة لبعضها البعض:”الجمعية من أجل تجديد السياسة الفرنسية”
Association pour le renouvellement de la politique française مسجلة في سجلّ الجمعيات تحت اسم EMA en marche وهي جمعية تُعنى ببلورة سياسة الحركة،
-“جمعية تمويل الجمعية من أجل تجديد السياسة الفرنسية” ومهمتها كما يدلّ عليها إسمها هي تمويل الحركة،
-“جمعية اليسار الحُر”
Association de la gauche libre وهي عبارة عن خلية تفكير Un think tank تعمل لمصلحة الجمعية،
-إئتلاف “الشباب مع ماكرون”
Collectif les jeunes avec Macron وهي القوّة المجنّدة من أجل العمل الميداني وتنظيم الأنشطة والتظاهرات.
وعلى غرار حركة “الجمهورية الى الأمام” فإن “عيش تونسي” تقوم على نفس الهيكلة :
-“جمعية عيش تونسي” التي يقول عنها مؤسّسوها أنها “تسعى الى القضاء على الفوضى ووضع البلاد على السكّة”،
-“مؤسسة رامبورغ” التي تموّل جمعية “عيش تونسي”. تجدر الإشارة الى ان هذه المؤسسة تمّ تأسيسها في تونس مباشرة بعد الثورة (سنة 2011) بدعوى تنمية الثقافة والفنون والنهوض بالتعليم والصناعات التقليدية. ترأس هذه المؤسسة السيدة ألفة الترّاس “رامبورغ” وهي ايضا سفيرة المرصد الدّولي لحقوق الإنسان بتونس
Human Rights Watch Tunisia وعضو مؤسس لجمعية “عيش تونسي”.
-“مجموعة الخبراء” وهي ما يشبه خلية تفكير تعمل في الخفاء (
think tank) وهي التي يقول عنها سليم بن حسن أنها تساعد الجمعية على تحليل المعطيات المنبثقة عن الإستشارة التي نظمتها الجمعية،
-مجموعة “شباب عيش تونسي” وهي جمعية غير موجودة من الناحية القانونية غير أنها متواجدة على الميدان من أجل تنظيم الإستشارات والأنشطة التي تغطّيها الجمعية.
وعلى ضوء ما ورد ذكره فإنه يمكن إستنتاج ما يلي:
الإستناج الأوّل: إن التشابه بين “الجمهورية الى الأمام” و”عيش تونسي” من حيث النشأة والهيكلة يدعو الى الإستغراب. ما توفّر من معطيات يدلّ على أن هذا الشبه لم يأتى بمحض الصدفة ولعله أُريد له (من جهة بعينها) أن يكون كذلك.
الإستنتاج الثاني: إن الأهداف الحقيقية “لعيش تونسي” تبقى غامضة وهي في كل الأحوال لا يمكنها أن تكون لغاية خيرية وإجتماعية لأن تلك الغاية تندرج ضمن مهام مؤسسة رامبورغ التي تموّلها. هذا الغموض الغريب من شأنه ان يقود حتما الى فرضية تقضي بإعتبار “جمعية عيش تونسي” ذراعا سياسية لهذه المؤسسة.
3- المقارنة من حيث سياسة الإتصال:
بادرت حركة “الجمهورية الى الأمام” منذ تأسيسها بالقيام بحملة من أجل جمع مائة ألف شهادة (
témoignages) من أجل إصدار مخطّط عمل وهو ما أسماه ماكرون بالخطوة الرئيسية لتأسيس الحزب. شارك في هذه الحملة التي تهدف أيضا الى التعريف بالحركة أربعة آلاف شابّا وإستعملوا كلّ الوسائط لجمع الشهادات وخاصّة منها الإتصال المباشر بالمواطنين (porte à porte).
قام فريق متكون 200 خبيرا بمعالجة المعلومات التي تمّ الحصول عليها وكان ذلك بواسطة برمجيات جدّ متقدمة (
algorithmes). وإنبثقت عن هذه الأعمال وثيقة عمل تشتمل على عدّة نقاط تمّ إعتمادها لبلورة البرنامج الإنتخابي لفادة ماكرون وهو برنامج يهدف بالأساس إلى مغازلة المواطن البسيط وإغرائه إذ أنه ركّز بالأساس على التشغيل والصحة والتعليم والرعاية الإجتماعية وتحسين ضروف العيش للمواطن.
تمّ الإعلان عن هذا البرنامج من طرف ماكرون في مؤتمر كبير صُرفت فيه أموال طائلة قبل أن تتمّ الإستعانة بأحد أكبر المكاتب المختصة في إدارة الحملات الإنتخابية (
Liegey Muller Pons) لبلورة إستراتيجية الحملة.
تقوم هذه الحملة بالأساس على تنظيم الأنشطة والمؤتمرات والومضات الإشهارية وإستغلال شبكات التواصل الإجتماعي وخاصّة على ما يسمّى بالإستهداف عبر الهاتف (
démarchage téléphonique). وتهدف هذه الطريقة (التي يتداخل فيها عديد الاطراف مثل شركات الإتصالات وبرمجيات التعامل مع الحرفاء في الفضاءات التجارية الكبرى ومراكز الإتصال الإحترافي centres d’appel) الى التعبئة عبر الهاتف لفائدة ماكرون. تجدر الإشارة الى أنه تمّ الإتصال بستّة ملايين فرنسي بهذه الطريقة في ضرف وجيز لا يتجاوز اسبوعين.
من الملاحظ عندنا أن “عيش تونسي” إتبعت نفس الطريقة ونسجت على منوال “الجمهورية الى الأمام” بإتباع الخطوات التالية:
-القيام بإستشارة وطنية غطّت كامل تراب الجمهورية وإستهدفت كلّ الشرائح الإجتماعية بواسطة كلّ الطرق بما فيها الإتصال المباشر وخاصة عبر تنظيم أنشطة تستهوي الشباب مثل تلك التي تتعلق بالنقل المباشر لمباريات كأس العالم على شاشات عملاقة تمّ تركيزها في كلّ من بطحاء الملاسين والقصر الأثري بالجم والكاف ورجيم معتوق وغيرها من الأماكن المهمشة. إن هذه الأنشطة تمثل طريقة ذكية للتقرّب من الشباب الناقم على الأوضاع وكسب تعاطفه خاصة وأن الجمعية يشرف عليها شبّان يعبرون عن الأمل والنجاح.
-هذه الإستشارة التي غطت كلّ الولايات وشملت 400.000 مواطنا (وهل من الصدفة أن يكون “للجمهورية الى الأمام” نفس العدد من المنخرطين؟) تهدف على حدّ قول المشرفين على الجمعية الى “رصد الإخلالات وجمع إهتمامات التونسيين” من أجل الخروج بوثيقة عمل.
في ظرف بضعة أيّام منذ الإنتهاء من جمع المعلومات (أقل من شهر)، إنبثق عن هذه الإستشارة ما سُمّي “بوثيقة التوانسة” وهو ما يدلّ على أن هذه المعلومات تمّت معالجتها بواسطة برمجيات مختصة (
algorithmes) تماما كان الشأن بالنسبة للإستشارة التي قامت بها “الجمهورية الى الأمام”. تشتمل الوثيقة على 12 نقطة صيغت كلّها بطريقة شعبوية تذكر بتلك النقاط التي تقدم بها الهاشمي الحامدي في إنتخابات المجلس التأسيسي وتحصل بفضلها على عدد لا يستهان به من المقاعد. لا بدّ من الإشارة الى أن إسم الوثيقة وعدد نقاطها فيهما الكثير من الشعبوية لكسب المواطن وإغرائه. إن تسمية الوثيقة “بوثيقة التوانسة” اُريد بها إضفاء الشرعية الشعبية على الجمعية وأمّا عدد النقاط (12) فانه يوحي بعدد التونسيين (12 مليون). لذلك ترى أن أعضاء الجمعية يقولون لك: “هذه الوثيقة ليست وثيقتنا، فهي أمانة قدّمها لنا التوانسة في شكل توصيات خلال إستشارتهم وأعدناها اليهم في شكل وثيقة”.
-هذه الورقة التي حُضيت بموافقة مجلس الخبراء (
think tank) تمّ تقديمها للعموم (تماما كما فعل ماكرون) في مؤتمر صحفي حضره ما يزيد عن 200 صحفي بين تونسيين وأجانب وعدد كبير من رجال السياسة والأعمال. بهرج هذا المؤتمر الذي غصّ به نزل “اللاّيكو” يوحي بضخامة المبلغ المالي الذي صُرف من أجل إنجاحه.
الشروع في التسويق لهذه الوثيقة عبر حملة إعلامية مدروسة تقوم بالأساس على غزو شبكات التواصل الإجتماعي وإستهداف المواطن عبر الهاتف
démarchage téléphonique (تماما مثلما فعلت “الجمهورية الى الأمام”) وعلى الومضات الإشهارية التي يقدّمها فنانون وتُعرض أوقات ذروة المشاهدة والإستماع على أبرز الوسائل الإعلامية المسموعة منها والمرئية.
ما يمكن إستنتاجه ممّا سبق ذكره هو الآتي:
الإستنناج الثالث: إن تكلفة الإستشارة الوطنية وكلّ الأنشطة المرتبطة بها والمتولدة عنها قد تتجاوز قدرات “مؤسسة رامبورغ” لوحدها لتشمل رجال أعمال ومؤسات أخرى تحرص الجمعية على إخفائها.
الإستنتاج الرابع: إن السياسة الإعلامية للجمعية على غاية من التطوّر والحرفية بما يوحي بوجود جهة مختصّة تقف وراء بلورتها ومتابعة تنفيذها.
الإستنتاج الخامس: إن حملة إستهداف المواطنين عبر الهاتف لتسويق “وثيقة التوانسة” ما كان لها ان تكون لولا إمتلاك الجمعية لبعض المعطيات الشخصية الخاصة بالمواطنين. هذا من شانه أن يُفسّر بإحتمال وجود تواطئ لبعض المؤسسات التجارية التي تمتلك عديد المعطيات عن التونسيين كما من شأنه أن يدلّ عن وجود بعض الثغرات في القانون المتعلق بالمحافظة على المعطيات الشخصية
4- بعض النقاط المثيرة للإهتمام في ما يتعلق بأعضاء الجمعية:
-من الملاحظ ان جمعية “عيش تونسي” تحرص على إخفاء مصادر تمويلها وهوية العديد من أعضائها كما تتعمّد عدم نشر قانونها الأساسي ونظامها الداخلي على مواقعها الرسمية.
-إن أعضاء الجمعية الذين ظهروا للعموم كلّهم شبّان درسوا بالخارج ولهم علاقات وطيدة بمنظمات المجتمع المدني بأوروبا (جمعيات ونقابات). هم يقولون انهم تركوا أعمالهم بالخارج وعادوا الى تونس ليتفرّغوا لجمعية “عيش تونسي” من أجل النهوض ببلادهم. من بين هؤلاء الأعضاء نذكر:
ألفة الترّاس : العضو المؤسس ورئيسة “مؤسسة رامبورغ” (عاشت بكل من أنقلترا وفرنسا).
سليم بن حسن: رئيس الجمعية (فرنسا).
صدّام الجبابلي: منسق الجمعية (المانيا).
صفوان الطرابلسي : مدير الدراسات (فرنسا).
وفي هذا المجال، لا بدّ من الإشارة الى أن بعض المقربين من ألفة الترّاس لهم علاقة وطيدة برموز السياسة الفرنسيين نذكر من بينهم زوجها
Guillaume Rambourg الذي شارك في تمويل حملة ماكرون وصديقها كمال معتوق الذي كان من بين المستشارين المقربين من الرئيس السابق هولاند.
إن ما يجلب الإنتباه لدى كافة أعضاء الجمعية هو تمكنهم من المناورة في الحوار وقدرتهم على الإلتفاف على الأسئلة وحذقهم لكسب ثقة المُحاور وبراعتهم في التعبير بالإشارة وبتقاسيم الوجه وإستحضارهم لعديد الأجوبة المعدّة سلفا على طريقة القوالب الجاهزة. كلّ هذه البراعات يمكن إكتسابها عبر تكوين من إختصاص بعض المراكز الأروبية والأمريكية وهو ما قد يدلّ على أن هذه النخبة من الشباب تلقت تكوينا في الإتصال قبل مجيئها الى تونس (
coaching).
5- مَا مدى صدق جمعية “عيش تونسي” في نواياها؟
على ضوء ما ورد ذكره وإستنادا على الإستنتاجات التي تمّ إستخلاصها من هذا التحليل فإنه يمكن قول ما يلي:
-إن عيش تونسي في ظاهرها جمعية ككلّ الجمعيات وفي باطنها قد تخفي مشروعا سياسيا كبيرا. هي تدّعي أنها جمعية تسعى الى “تخفيف الضغط على التونسي ووضع تونس على السكة الصحيحة” عبر تنفيذ “وثيقة التوانسة”. وهي لا تنفي تعاطيها للسياسة وتبرّر ذلك بالضرورة التي يفرضها العمل الميداني.
ما أعتقده هو أن “عيش تونسي” يمثل مشروعا سياسيا كبيرا قد تقف وراءه بعض الجهات النافذة بالداخل وبالخارج. هذه الجهات تنفق الكثير من الأموال بإسم جمعية “عيش تونسي” دون الكشف عن مصدرها وتستعمل كلّ الوسائل المادية والمالية والإعلامية لبلوغ هدفها حتّى وإن تطلّب ذلك بعض التجاوزات القانونية كالتّصرف في المعطيات الشخصية وعدم الكشف عن مصادر التمويل خلافا لما أوصى به قانون الجمعيات.
ما أعتقده أيضا هو أن “وثيقة عيش تونسي” سوف تتحوّل في المنظور القريب (قبل الحملة الإنتخابية المقبلة) الى برنامج إنتخابي لفائدة حزب قد يُشكّل في إبّانه أو لفائدة حزب آخر يكون قريبا من رجال الأعمال تتولّى الجمعية (ومن ورائها مؤسسة رامبورغ) دعمه ومساندته.
علينا ألاّ ننسى أن أحد رؤساء الأحزاب الليّبرالية في بلادنا تربطه صداقة متينة بالسيدة ألفة الترّاس رامبورغ وهناك بعض التقارير التي تشير إلى أنه سبق له ان تحول الى المغرب لحضور حفل تمّ تنظيمه بمناسبة عيد ميلادها.
________________
* ضابط بحرية متقاعد.
( نعتذر عن عدم الحصول على ترخيص بالنشر من كاتب المقال ، كما هي عادتنا باعتبار أخلاقيات المهنة الصحفية ، لكن تعذر علينا ذلك رغم المحاولة ، وارتأينا النشر رغم ذلك لأهمية ما جاء في المقال وتأثيراته المزلزلة من وجهة نظرنا ليس على بلادنا فقط بل  على المنطقة كلها .)



الاثنين، 6 مايو 2019

قرأت لكم

في مجلة " أسواق العرب"
أكبر المجلات الاقتصادية العربية
التأقلم مع ليبيا الجديدة
كتبهadminفىمايو 06, 2019فىأولالمغرب العربيسياسة
تتصاعد وتيرة الحرب الليبية بشكل بدأ يُحدث تغييراً في الوقائع السياسية ويتطلب بالتالي إطار عمل جديداً لتسوية النزاع وتقاسم السلطة.
https://i2.wp.com/www.asswak-alarab.com/wp-content/uploads/2019/05/28926-836182813.jpg?resize=1200%2C799
الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس ومبعوثه الخاص غسان سلامة: البحث عن حل جديد
بقلم طارق المجريسي*
شكّل تقدّم قوات خليفة حفتر باتجاه طرابلس في الرابع من نيسان (إبريل) إنعطافة محورية لم يتنبّه العاملون في الشأن الديبلوماسي في العالم إلى أهميتها. فقد أغلقت هذه الخطوة الباب على الإتفاق السياسي الليبي وعلى محاولات تعديله، بما في ذلك سلسلة المفاوضات بين حفتر ورئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج، واتفاق أبو ظبي المشؤوم الطالع الذي أسفرت عنه تلك المفاوضات. يتبلور مشهدٌ جديد في ليبيا، بما يُرغم صنّاع السياسات على العودة إلى خانة الصفر والبدء من جديد البحث عن حل.
لم تعد المؤسسات السياسية المنبثقة عن الإتفاق السياسي الليبي (مجلس النواب وحكومة الوفاق الوطني) والإطار السياسي لتقاسم السلطة المنصوص عليه في الاتفاق، قادرة على احتواء الوقائع السياسية والعسكرية الليبية أو تجسيدها. من وجهة نظر حفتر، لقد بات الإتفاق السياسي الليبي عاجزاً عن تأمين تقدّمه الشخصي، ولذلك وضعَ مختلف رهاناته في سلة اجتياحه لطرابلس. إذا تكللت جهوده هذه بالنجاح، فلن تعود هناك حاجة إلى العملية السياسية. وإذا مُنيت بالفشل، فسوف يواجه هواجس أكثر إلحاحاً، لا سيما محاولة الحفاظ على لحمة تحالفه تحت قيادته. وتشعر حكومة الوفاق الوطني، من جهتها، بأنها تعرضت لخيانة شديدة من المجتمع الدولي الذي ركّز على ممارسة ضغوط على الفصائل الليبية الغربية لدفعها نحو الانخراط في المسار الديبلوماسي، في حين تغاضى عن التصعيد العسكري الذي لجأ إليه حفتر متأمِّلاً بأن يساهم استرضاؤه في تشجيعه على التفاوض.
يعتبر الطرفان راهناً أن الحرب هي خيارهما الوحيد. لسوء الحظ، النصر الذي يطمح إليه كل منهما يبدو خارج نطاق إمكاناتهما. فحتى لو كان حفتر قادراً على نقل سلاحه المتفوّق وعديده البشري الكافي عبر الطريق الحافل بالمخاطر الممتد على طول ألف كيلومتر (620 ميلاً)، من قاعدته في بنغازي إلى طرابلس، من شأنه أن يطلق حصاراً قاسياً قد يؤدّي إلى القضاء على رأسماله السياسي والدعم الشعبي له. وإذا كانت الميليشيات الغربية المناهضة لحفتر تتطلع إلى تحقيق نصر حاسم، لا يكفي أن تطرده من غرب ليبيا وتتفاوض على استسلام البلدات التي تدعمه، إنما يتعين عليها إخراجه من المواقع الاستراتيجية (مثل حقول النفط والمطارات) التي يُسيطر عليها في شرق ليبيا، كي تضمن عدم قدرته على شن حملة جديدة. يُظهر الهجوم الذي شنّته قوات جنوب ليبيا بقيادة علي كنّا في 18 نيسان (إبريل) على قاعدة تمنهنت الجوية الخاضعة لسيطرة حفتر عبر اقتحامها ونهبها، وتعبئة قوات حفتر للتقدّم باتجاه سرت، كيف أن هذه الحرب ستسلك منحى تصاعدياً في مختلف أنحاء البلاد.
مع استمرار حالة الحرب في البلاد، لن يحتدم مستوى النزاع وحسب، إنما أيضاً طبيعته في إطار سعي الطرفَين إلى تعزيز قواعد الدعم وانتزاع أفضلية استراتيجية. فعلى سبيل المثال، وإذ يُسيطر حفتر على الحقول النفطية، فيما تُسيطر طرابلس على توزيع الأموال، أصبح الاقتصاد الليبي ساحة المعركة المقبلة، مع بذل قوات حفتر محاولات العام الماضي لتصدير نفطها الخام عبر الإلتفاف على شركة النفط الوطنية (التي تقوم بإيداع جميع إيراداتها في المصرف المركزي الخاضع لسيطرة طرابلس). إذا لم يتمكّن حفتر من الحفاظ على موطئ قدم في غرب ليبيا، فغالب الظن أن خطوته المقبلة ستكون الإقدام من جديد على بيع النفط خارج المنظومة القائمة لإنقاذ ماء الوجه، وتمويل عملياته، وقطع الإيرادات التي يُعوّل عليها خصومه لخوض الحرب.
يتجاهل الجانبان الدعوات لوقف إطلاق النار. وأحد الأسباب هو أن الديبلوماسيين يُقدّمون طرحاً يرفضه الجميع، ويتمثّل في تجميد النزاع بما يؤدّي إلى إعادة إطلاق العملية السياسية نفسها التي أدّت إلى اندلاع الحرب في المقام الأول. والسبب أيضاً هو أنهم يتوجّهون إلى الأشخاص الخطأ. ففي هذه المرحلة، لا يمكن التكلم باستعلاء مع حفتر. السبيل الوحيد للحدّ من نزعته القتالية هو إقناع القاهرة وأبو ظبي والرياض – الجهات الأساسية التي تزوّده بالسلاح والتمويل والمساعدات الاستراتيجية مثل الهجمات الجوية – بالتوقف عن دعم عملياته. وقد تبيّن أيضاً أنه ليس للسراج أي تأثير تقريباً داخل المعسكر المعارِض. فقد أثار هجوم حفتر ما يمكن اعتباره على الأرجح التعبئة الأوسع للقوات في ليبيا منذ العام 2011، إذ رصّت مجموعة واسعة من الميليشيات المدنية والعصابات وغيرها من القوات في غرب ليبيا صفوفها في الجبهات الأمامية لمواجهة حفتر. وقد أدّت هذه التطورات إلى الحد من سيطرة السراج الضعيفة أصلاً، وليس أكيداً أنه سيتمكّن من التأثير في التعبئة التي حصلت، فكم بالأحرى وقفها. بدلاً من ذلك، تتركّز السلطة على مستوى حكومة الوفاق الوطني، بصورة متزايدة، في يدَي وزير الداخلية فتحي باشاغا الذي يتولّى أيضاً وزارة الدفاع منذ 14 نيسان (إبريل). هذا وينبغي أن يعكس إتفاق وقف إطلاق النار توافقاً بين القادة المختلفين الذين يتولون زمام الدفاع عن العاصمة.
الأسباب التي تقف خلف فشل الجهود الدولية في التوصل إلى تسوية تتمثل في عجز المؤسسات القائمة عن ممارسة السيطرة، والحماسة الشديدة التي يُبديها مختلف الأفرقاء المتناحرين في التعبير عن إيمانهم بأحقّية القتال الذي يخوضونه، فضلاً عن عدم قابلية الإطار السياسي الراهن للإستدامة. مع تدهور الأوضاع، يواجه الشعب الليبي والدول المجاورة تهديدات أكبر، ويُصبح الإستقرار أبعد منالاً. ومع الإنحسار الكامل للمفاوضات السياسية في ليبيا لتحل مكانها الحملات العسكرية، وفيما تُغذّي التدخلات الخارجية قدرة الطرفَين على الإستمرار في خوض الحرب، تتصاعد وتيرة الأحداث، ما يزيد من صعوبة التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين الأفرقاء المتورطين بشدّة في النزاع. واقعياً، لا يُمكن أن يتحقق وقف إطلاق النار إلّا عندما يدرك حفتر وداعموه أن كلفة الحرب باهظة جداً – لعجزهم حرفياً عن المتابعة، أو بسبب منع وصول شحنات الأسلحة إليهم من الخارج، أو نبذهم على الساحة الدولية – وعندما تحصل حكومة الوفاق الوطني وحلفاؤها على ضمانات بأن حفتر لن يستغل أي اتفاق لوقف إطلاق النار بهدف ترسيخ موقعه استعداداً لشن هجوم جديد. في حال التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، من شأن ذلك أن يُفسح في المجال أمام عملية سياسية جديدة لترسيخ هذا الواقع الجديد. وقد يشتمل ذلك على اندفاعة لاستكمال مشاورات المؤتمر الوطني التي تتم برعاية الأمم المتحدة، والتي من شأنها أن تُحوِّل الدعم الشعبي للحل العسكري إلى ضغوط شعبية واسعة النطاق على الأفرقاء الليبيين للتوصل إلى حل سياسي. في نهاية المطاف، سيكون إشراك الشعب الليبي عاملاً أساسياً لتقويض الرغبة في خوض الحرب وإنجاح أي عملية سياسية.
لقد تسبّب هجوم حفتر على طرابلس باستقطاب شديد في ليبيا، إنما أيضاً في أوساط المجتمع الدولي عبر إرغام عدد كبير من الأفرقاء الذين كانت مواقفهم ملتبسة في السابق، مثل واشنطن، أو الذين لعبوا على وتر التفرقة بين الأطراف، مثل موسكو، على حسم موقفهم. لقد تعرّضت فرنسا، التي تُعتبَر الداعمة الأساسية لحفتر في أوروبا، لهجمات لاذعة من المسؤولين في حكومة الوفاق الوطني وأبناء طرابلس بسبب تدخّلها الطويل الأمد لمصلحة فريق معيّن، ما أرغمها على التخفيف من حدّة موقفها، أقله في العلن. غير أن الحرب التي روّج لها حفتر وداعموه الإقليميون حققت نجاحاً واضحاً وسريعاً. فيما تتضح وقائع ليبيا الجديدة بصورة أكبر، وفي حال وقعت ليبيا في قبضة الكوارث التي تلوح في الأفق على المستويَين الإنساني والأمني وكذلك في قطاع الطاقة، فغالب الظن أن ذلك سيدفع بالغرب إلى إعادة النظر في أسلوبه في التعاطي.
كي يتأقلم صنّاع السياسات الدوليون مع الواقع الليبي الجديد، عليهم أن يُهيّئوا أدوات جديدة للانخراط على الساحة الليبية، ويؤمّنوا محافل جديدة لنقاشات متعددة الأطراف ذات فاعلية أكبر. وفي هذا الصدد، يمكن توسيع مجموعة 3+3 التي تضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا ومصر والإمارات العربية المتحدة، لتشمل أفرقاء على غرار روسيا وتركيا. قد يؤدّي توسيع خيمة النقاشات الدولية إلى زيادة الصعوبات التي تعترض التوصل إلى تسوية، لكنه يعكس بصورة أدق وجهات النظر المختلفة ويقلل من احتمالات انطلاق مسارات ديبلوماسية مناوئة على أيدي الأفرقاء المستائين من استثنائهم من المفاوضات الرسمية. سوف يستغرق صنّاع السياسات بعض الوقت للتأقلم مع الواقع الجديد، إنما تحتاج التطورات في ليبيا أيضاً إلى بعض الوقت كي تُفسح في المجال أمام تبلوُر فرصة واقعية للتدخل الديبلوماسي. قد يبدو أمراً شاذاً أن المسار للتوصل إلى وقف إطلاق النار في بلدٍ معيّن يقع بالكامل خارج حدود هذا البلد، لكن إذا لم تتمكّن الدول المتعددة التي تؤثّر في التطورات الليبية من رص صفوفها والعمل معاً، مما لا شك فيه أن الحرب الأهلية الليبية سوف تستمر في سلوك منحى تصاعدي بما يعود بالضرر على جميع المعنيين.
طارق المجريسي محلل سياسي ليبي وزميل زائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. لمتابعته عبر تويتر:
Tmegrisi@
عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية


الموقف السياسي : مفاجآت بالجملة قبل الانتخابات

الموقف السياسي

يكتبه عبد اللطيف الفراتي
5 أشهر قبل الانتخابات
تونس / الصواب /06/05/2019
قبل 6 أشهر من الانتخابات لا يمكن للبرلمان إسقاط الحكومة ، وليست هناك حكومة تقبل بأن تحل نفسها وتستقيل ، إلا إذا بدا ليوسف الشاهد أن يستقيل ،  واستقالته تعني إستقالة الحكومة ، ويكون بذلك في توافق مع الأخلاق السياسية العالية ، التي تفترض في ديمقراطية ناشئة ، أن لا تجري الانتخابات بحكومة تتولى مسؤولية تسيير السلطة ، تجنبا للتأثيرات الجانبية للحكام/ المترشحين ، وما يمكن أن ينتج عن ذلك من تأثيرات غير محمودة.
لكن كيف يبدو الوضع اليوم  وما هي ملامحه ؟
سنترك جانبا الانتخابات الرئاسية ، ففي غياب غالب ، باحتمال ترشح رئيس قائم ، بطلب ولاية أو عهدة جديدة ، تبدو الحظوظ نظريا متساوية بين الأطراف المقبلة على الترشح ، وإن لم يعرف لا عدد المترشحين للرئاسة ولا أسماؤهم على وجه الدقة، وما يجري تسريبه عن احتمالات صعود هذا أو ذاك قبل 6 أشهر من الانتخابات الرئاسية ، لا يدل على شيء كبير ، فالفقاقيع تنتفخ لتنفجر في انتظار انتفاخ فقاقيع أخرى ، حتى ترسي الأمور قبل 3 أو أربعة أسابيع من إجراء تلك الانتخابات ، وبعد أن تكون اتضحت ولو كمؤشرات نتائج الانتخابات التشريعية البرلمانية.
**
أخذ التونسيون يتعودون على حقيقة جديدة لم يدركوا أبعادها في انتخابات 2014 الرئاسية ، وهي أن رئيس الجمهورية لا يملك صلاحيات كبيرة ، وأن حقيقة الحكم هي بيد رئيس الحكومة  لا رئيس الجمهورية ، إلا في الدفاع والخارجية ، وإلى حد ما الأمن ، وأي رئيس مقبل بعد الباجي قائد السبسي بشخصيته الطاغية ، وباعتباره رئيس الحزب الذي تنبثق منه الحكومة ، وبالتالي له دالة عليه ، سوف لن يتمتع فعليا  الرئيس الجديد بالسلطة التي  كان تمتع بها الرئيس الحالي ، حتى في الميادين المخصوصة التي أوكلت إليه بحكم الدستور .
5 أشهر إذن قبل الانتخابات البرلمانية ، التي تركز حقيقة السلطات في يد المجلس التشريعي ، الذي يوكلها للشخص الذي يختاره رئيس الدولة في اختصاص مقيد،  ليترأس الحكومة الذي بيده حقيقة السلطات.
الصورة الضبابية الحالية وفقا لمختلف عمليات سبر الآراء ، تتفق على أن الحزب الأول في نسبة الأصوات وعدد المقاعد في البرلمان سيكون النهضة  ( إلا إذا حدث طارئ غير متوقع ) ، وإذا كانت النهضة فازت بالمقام الأول ، فإن الدستور يبوؤها حق تشكيل الحكومة ، وبالتالي يكون رئيس الحكومة منها.
غير أن النهضة وفقا لما تتفق عليه عمليات سبر الآراء فقدت ما بين 25 و50 في المائة من مخزونها  النظري قبل 6 أشهر ، واستقرت في وضع أدنى حتى مما كانت عليه في انتخابات 2014 ، الذي كان هو الآخر  أدنى من الانتفاخ الذي سجلته في انتخابات 2011.
وباعتبار هذا النكوص ، فلعل عدد المقاعد  التي ستحصل عليها افتراضا في انتخابات أكتوبر 2019 ، لن يمكنها من النجاح في تشكيل الحكومة ، ولا ترشيح رئيس وزراء يستطيع أن يجمع أغلبية مهما كانت ولو بسيطة.
واقع اليوم ينبئ عن توقعات لم تكن منتظرة البتة قبل أسابيع ، فالحزب الدستوري الحر وزعيمته عبير موسي ، تحقق تقدما انفجاريا exponentiel   يجعلها تقدم الصفوف بسرعة مذهلة،  إذا تواصل بنفس الحجم ، ولعلها هي وحزبها ، ستتقدم للمرتبة الثانية  بعد النهضة ، بصورة تجعلها تسبق حزب تحيا تونس أي حزب الشاهد ، وحزب نداء تونس الذي سقط بين أيدي طوبال ، بعد أن فضلته رئاسة الحكومة على شق نجل الرئيس حافظ قائد السبسي، وفي هذه الحالة وإذا صحت آخر عمليات سبر الآراء ، ولم تزد تعميقا فإن الأحزاب الثلاثة يمكن أن تنال مجتمعة أكثر من 40 في المائة من الأأصوات ، وباعتبار طبيعة التصويت النسبي مع أعلى البقايا ، وما يفرزه من عدد من المقاعد  ، فإنها يمكن أن تنال أغلبية تفوق  الـ 109 مقعد  بحيث تستطيع أن تحكم ، دون أن تكون لها أغلبية  2/3 ، الضرورية في حالات كثيرة ، طبعا هذا إذا اتفقت ثلاثتها ، وإذا لم تنضم لها من فتات الأحزاب الوسطية الصغيرة ، ما يمكنها بشيء من الابتزاز من إقامة أغلبية صلبة، بالنهضة أو بدونها.
وهذا ما  بث الفزع  في حزب الاتجاه الاسلامي ، منذ نشر نتائج استطلاع الزرقوني ، فتجند المئات على الفايس بوك ، لتوقع الأسوأ ، أو للتشكيك في نتائج الاستطلاعات ، هذا كله بقطع النظر عما ستسفر عنه معارك الغرب الليبي ، وتطورات الجزائر.

الجمعة، 3 مايو 2019

الموقف السياسي : انتخابات التحديات الكبرى


الموقف السياسي
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
لمن أصوت ؟
تونس / الصواب /03/05/2019
يبادرني كثير من الأصدقاء والمعارف بمجرد التحية ، وأحيانا قبل التحية بسؤال : " لمن ستصوت في الانتخابات المقبلة ؟"  ويضيف البعض : " في الانتخابات التشريعية والإنتخابات الرئاسية؟" .
وقد اكتشفت أن السؤال مطروح على عدد كبير من الأصدقاء ، وأحيانا حتى قبل التحية .
وقد مللت من الجواب النمطي الذي بت أكرره : " سابق لأوانه ، فالصورة لم تتضح بعد ، ونحن على بعد أقل من ستة أشهر من الانتخابات ، وبالنسبة للأصدقاء المقربين أضيف :" أعرف لمن لن أصوت ، ولي موقف حاسم ، ولكني لم أحدد لمن سأصوت " .
وللمقربين المقربين أقول : " لن أصوت لمن يدعون لنمط مجتمعي غير النمط الذي بدأنا على طريقه منذ  عهد الملك أحمد باي في سنة 1837 ، والذي جسمه الحبيب  بورقيبة بإصلاحاته الاجتماعية والمجتمعية ، والموروث من عهود النهضة ( ليس الحزب) ابتداء من محمد علي في مصر ، والطهطاوي ومحمد عبده ، وقاسم أمين أب تحرير المرأة في العالم العربي ثم الطاهر الحداد إلى بقية المصلحين التونسيين  والمشارقة ،لا لن أصوت إذن لمن ينتسبون لحسن البنا وسيد قطب ، وفكر الجماعة الاسلامية في السبعينيات عندنا  قبل مراجعات الثمانينيات والتسعينيات ، التي ما زالت لم تبلغ مداها ، والتي ما زالت تقف أمام حاجز تصور الدولة المدنية فلا تستطيع اختراقه  مثلما فعلت الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا ، لن أصوت أيضا للداعين لسياسات التجميع والتأميم ومعاداة المبادرة الخاصة ، الذين تجاوزهم الزمن .فلم يهضموا بعد قرن أو اثنين المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية للعصر ، ويضعون الخطوط الحمراء يمينا ويسارا دون النفاذ للواقع المعاش داخليا وعالميا ، إذن فإني أعرف وبعيدا عن كل تحجر لمن سوف لن أصوت ، بدون ،أن ينال من قناعتي مطلقا حق تواجد الجميع على الساحة السياسية مع كل ما يستحقه فكرهم من احترام  دون تأييد أو انخراط ، ودون أن أجد فيه ما يستجيب لمتطلبات العصر ، بل على العكس يمثلون عقبة كأداء في وجه تطور المجتمع. طبعا من وجهة نظري . "
ولكن ومن الناحية الثانية فإني أجد صعوبة في تحديد لمن سأصوت ، وهذا جوابي للسائلين على الأقل في الوقت الحاضر.
العائلة الوسطية  متشظية ، لا تحمل برنامجا مقنعا ، ولا تعتمد فكرا معينا ، ولكن منها سأختار لمن سأصوت  وربما مثل الانتخابات الماضية سألجأ للتـــصويت المفيد ، سمة هذه العائلة أنها ، وفيما عدا القليل ، ليست متشبعة في الغالب بثقافة سياسية منطلقة من حقائق الواقع العالمي وصولا إلى الواقع المحلي ، ففي وقت تقوم فيه ركائز فكرية جديدة تمت تجربتها فنجحت في عدد من البلدان الافريقية والآسيوية وفي أمريكا اللاتينية ، نجد أنفسنا ما زلنا نلوك بلا وعي بحقائق واقع اليوم شعارات تجاوزها الزمن وباتت من ماض ولى ، وسأقف أمام ثلاث أو أربع احتمالات للإختيار وإن كان سابقا لأوانه :
أولها اختيار الحزب الفائز في آخر انتخابات عامة سنة 2014 ، أي نداء تونس ، وكما كنت سباقا للقول إنه كان صرحا فهوى ، فاعتقادي راسخ بأنه ما زال يهوي ويتفكك ، ولعل وراء تفككه مؤسسه الذي حاول وما زال يحاول أن يفرض ابنه  في محاولة توريث تجاوزها الزمن ، وهو إذا استمر على مساره ، فلعله لن يكون له حضور في الانتخابات المقبلة ، فهناك قيادتان كل منها تعتبر نفسها تمثل الشرعية ، وبالتالي ستعد قائمات مرشحيها،  وفي هذه الحالة وإذا استمر الوضع على ما هو عليه ، بقيادتين ولجنتين مركزيتين ، فإنه وبموجب القانون لا حق لحزب واحد أن يرشح قائمتين ، وإذا حصل وتقدم كل شطر بقائمته فإن القانون الانتخابي يفترض عدم القبول بهما الإثنتين ، وبالتالي يخرج الحزب الأول في الانتخابات التشريعية الأخيرة من السباق تماما ، هذا إلا إذا حسم القضاء في الجهة منهما جهة الابن المدلل ، وجهة طوبال ،  من التي لها الشرعية للحديث باسم النداء وتمثيله ، وهو أمر قد يتطلب أشهر طويلة فيما الموعد محدد وضيق لتقديم القائمات المرشحة.
وثانيها : الحزب الجديد " تحيا تونس" المنبثق من رحم " النداء" ولكن مع تطعيم بالكثير من الدستوريين والتجمعيين ، والذي يجر خيبات سنوات الحكم الأخيرة هو وشريكه النهضة المسؤولة معه وغيرهما على ما آلت إليه أحوال البلاد من تدهور وانتكاس ، وفي حالة ما إذا خرج النداء من السباق فإنه يمكن أن يرث الأصوات العائدة إليه أصلا ، ولكن عائقه الأكبر يتمثل في أنه يجر كالكرة الحديدية الثقيلة تحالفه مع النهضة .
وثالثها هذه الوافدة الجديدة عبير موسي وحزبها الذي لا يعرف أحد من هي قياداته غيرها ، والذي يبدو أنه يسري كالنار في الحشيش اليابس ، والساعي بصعوبة لتجميع الدستوريين والتجمعيين ، وتستعمل رئيسته خطابا غير مقبول ، متنكرة لواقع فرض نفسه خلال الثماني سنوات الأخيرة ، ومستعملة خطابا إقصائيا ليس من العصر ، وإن كانت خففت منه خلال الأسابيع القليلة الماضية ، ومتوسلة بحنين إلى ماض كانت فيه الأوضاع الاقتصادية والاجتمــــاعية للناس أفضل مما هي اليوم ، و لكن مع نظام مستبد لا مجال فيه لأي حريات بل لتعسف شديد.
مع هذا الثلاثي هناك مجموعة من  الأحزاب الأخرى يطفو على السطح منها حزب محمد عبو الذي يقف بين بين ، وتلك مشكلته الكبرى لشق طريق سالك.
طبيعة نظام الاقتراع المعتمد منذ الثورة أنها لا تسمح ، بحصول أي طرف على أغلبية ولو بسيطة ، بحيث يفرض الإئتلاف أحيانا  حلول مغايرة لطبيعة الأشياء ، مثلما حصل في عام 2012 عندما تحالف حزب النهضة بمرجعيته الدينية ، مع حزبين يقولان لكل من يريد أن يسمع أنهما حزبان مدنيان وهما حزبا منصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر ، وقد دفعا ثمنا باهضا لهذا التحالف غير الطبيعي ، فتم إقصاؤهما بصفة شبه تامة في الانتخابات الموالية  عام 2014 عن طريق صندوق الاقتراع ، أو مثلما حصل بعد انتخابات 2014 عندما قام توافق بين حزب مدني هو النداء ( وأطراف أخرى لا تختلف عنه إلا في التسمية  ) وحزب بمرجعية دينية ما زال لم يستطع أن يتخلص منها رغم كل ما يقوله هو النهضة ، فسارت الأمور من سيء إلى أسوأ وتقهقر الحال الاقتصادي والاجتماعي للبلاد بمسؤولية رئيسية مشتركة  للنداء والنهضة. ويقال إن النهضة تكوي وتحرق من يتحالف معها ، وهذا يبو صحيحا إلى حد بعيد.