بكل هدوء
|
كتبها عبد اللطيف الفراتي
صفاقس المهملة .. المهمشة
تونس/ الصواب/20/05/2019
عندما تلقيت دعوة كريمة من رجل
الأعمال ، فاخر الفخفاخ الذي مر من الاشتغال بتجارة الزيت ، إلى مستوى عالمي وخاصة
إفريقي كمصدر ووسيط ناجح ، وصاب فكرة بنك عالمي كبير جمع له كل مقومات النجاح ولم
يحصل بشأنه على ترخيص السلطات المختصة ،
للقاء في مدينة صفاقس مسقط رأسي ، جمع فيه عددا من مثقفي العاصمة من أصيلي المدينة
تحت شعار " كونغرس صفاقس " استهدف تجميع روافد المجتمع المدني في
الولاية ، واستنهاض الهمم من أجل تجاوز ما يعتبره سكان المدينة والولاية
وشتاتها (دياسبورا) من إهمال وتهميش منذ
الاستقلال.
وكانت لي تجربة مع هذه النغمة في شهر
جوان 2011 مباشرة بعد الثورة عندما بادر
عدد من المثقفين والجامعيين منهم بالخصوص ، لاجتماع حول فنجان قهوة في فندق الزيتونة ، أحد
أقدم الفنادق الفاخرة في البلاد التونسية ، والذي بقي فريدا وحيدا ، فيما حفلت مدن
أخرى بسخاء الدولة في بناء الفنادق وإقامة حركة سياحية، وإذ كنت أشعر بصحة الشكوى
من إهمال أبناء الجهة ممن تقاذفتهم أمواج الهجرة الداخلية والخارجية وبعضهم أصبح
من أصحاب المؤسسات الاقتصادية الناجحة والكبيرة ، فقد قلبت اللوم عليهم ، من حيث
إنهم وبمناورات معروفة من منطقتهم ، كانوا أيضا وراء القضاء على كل الزعامات التي
تجاوزت المحلية وأصبحت وطنية ، مثلما حصل للرجل الرمز منصور معلى ، الذي ذهب ضحية
تحالف من رجال الساحل ( عبد الله فرحات والهادي نويرة ومحمد الصياح وربما الطاهر
بلخوجة ) لإقصائه من القيادة عبر مؤامرة رقم 9 ، وهي المؤامرة التي استهدفت في
مؤتمر الحزب الدستوري المترشحين عدد 9 و19 و29 و39 و49 و59 و96 وما بعدهم وصدرت
الأوامر بعدم التصويت لفائدتهم ، وانخرط وقتها في المؤامرة رجال سياسة جهويين على
أمل أن يصبحوا من المستوى الوطني ، وكان أن فقد منصور معلى موقعه في اللجنة
المركزية وبالتالي في الديوان السياسي ، الذي كان يحتل فيه الموقع الثالث بعد
الرئيس بورقيبة والهادي نويرة ، منذ أن استبعد وأطرد محمد المصمودي بعد مغامرة
الوحدة مع ليبيا ، ومع فقدان موقعه في الحزب الحاكم ، فقد الرجل أيضا موقعه كأهم
وزير في الحكومة للتخطيط والمالية ، وهو الموقع الذي منه كان يعتبر زعيم الجهة بلا
منازع ، وبالتالي ومن المحلية ارتفع إلى مركز متقدم على المستوى الوطني ، وكان
منصور معلى آنذاك قد أنشأ أياما لتنمية صفاقس وجهتها ، وتصور مشاريع للولاية تشع
على محيطها شمالا وجنوبا وغربا ، ولعل المشروع الوحيد الذي تحقق آنذاك من مشاريعه
، هو إحداث كلية طب لتخريج أطباء لولايات الوسط والجنوب ، يكون رافده مستشفى جامعي
، وإن كان محمد مزالي وزير التربية والتعليم العالي آنذاك ، قد عرقل المشروع
باشتراط إقامة كلية مماثلة في سوسة ، وهو ما لم يكن أمرا سهلا ، باعتبار كلفة المشروعين في نفس الوقت ، وإيجاد الكفاءات التدريسية
الكافية لهما.
وبإقالة منصور معلى الذي فقد وقتها
سنده الحزبي والذي كان ضحية مؤامرة داخلية في جهته وأخرى من المركز ، والتي اعتبرت
مؤامرة لوقف انطلاق المدينة والولاية وحتى المنطقة ، دخلت المدينة في سبات عميق ، وفيما عدا نهضة عمرانية بقدر
انتشارها بقدر فوضويتها ، لم تشهد لا المدينة ولا مداخلها ولا أحوازها ولا
معتمدياتها أي جهد استثماري عمومي منذ كارثة شركة آن ب ك وسياب ، اللتان أقامتا قطيعة بين ساحل المدينة
شمالا وجنوبا ، وبين رئتها البحرية التي كانت زاخرة ، بالبلاجات وبحياة ليلية
نشيطة.
وحتى المطار
الذي كان مبرمجا لأن يكون ثاني مطار في الأهمية
بالبلاد زمن فرنسا ، أقيم مكانه شبحا لمطار لا حركة فيه ، ويصلح ليكون مبناه في مستوى محطة قطار في قرية
من قرى فرنسا الثانوية ، أما منطقة السلوم التي كانت تعتبر ثاني أو ثالث قاعدة
عسكرية في البلاد ، بإسقاطاتها على
الحركية التجارية في الجهة ، فقد أغلقت قبل أن تعود محتشمة ، وفيما كانت
مركزية كهــــربائية كبرى في " الحفارة " بمقاييس ذلك الزمن ، فقد تم
إغلاقها لتقوم سنترالات في سوسة وقابس وباستثناء صفاقس.
وحتى السور
وهو أحد أسوار خمسة كبرى مشهود لها في العالم العربي ، فإنه لم يقع استغلاله ويشكل
اليوم عبئا ثقيلا من ناحية تعهده على البلدية
، التي ناءت كواهلها بنفقات تعود إلى ضرورة صيانته ، وإلى امتداد فوضوي لمدينة بلا
" ساس ولا راس"، تحتاج لمجهود وطني كما مدن أخرى كبرى.
ذلك هو
التوصيف ، غير أن الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال استمرأت هذا الوضع لولاية وما
وراءها ، كان يمكن أن تكون القاطرة القوية لكامل البلاد كما هو الشأن في بلدان
العالم ، ولكن الارادة السياسية ، إن لم تكن غائبة في أحسن الأحوال فإنها ، كانت
مساهمة في وضع مأساوي ، وإذ تتحدث ولايات عديدة عن التهميش ، فإنه يحق لولاية
صفاقس أن تشكو ، وفقا لما سمعناه في هذا اللقاء ، لا فقط من إهمال وتهميش ، بل
إهمال وتهميش مقصود منذ الاستقلال .
وقد ذكرني ما
سمعته في هذا اللقاء بحالة الشيعة في "احتفالات " ذكرى مقتل الحسين خاصة
في كربلاء والنجف ، بسياط الحديد تجلد
الاجسام حزنا على الحسين حفيد النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يمكن أن يسمى الجلد
الذاتي أو وذلك أبلغ باللغة الفرنسية "l’auto-flagellation"، هو الظاهرة المنتشرة في ولاية صفاقس
لشعور عميق بالظلم والغبن من المركز ومن الأبناء في الشتات الذين بنوا ثروات دون
التفكير في الاستثمار في مسقط رأسهم .
اللقاء الذي
حضرته إذن بمبادرة من فاخر الفخفاخ ، كان مناسبة لإفراغ ما في القلب من حسرة ، على
مدينة وولاية ضاعت ، وتقهقرت بعد أن كان يمكن أن تكون طليعة ، وما بقي لها فقط ،
هو التميز العلمي ، فهي الأولى تعليميا انطلاقا من نتائج الباكالوريا وذلك منذ الستينيات فهي الأولى ومن بعيد سنة بعد سنة ، وجامعتها على
قلة الإمكانيات ، هي في طليعة الجامعات عالميا ، إذ تحسب من بين الجامعات الـ 300 الأوائل في العالم ، متفردة في ذلك مع جامعة
المنار من بين الجامعات التونسية ، كما إن أبناء مدارسها متميزون في المسابقات
العالمية للرياضيات وسنة بعد سنة يحرزون على المرتبة الأولى ، كما منذ أيام في
المسابقة الدولية للروبو أي الانسان الآلي .
وإلى عودة
للحديث قريبا عما إذا
كان بإمكان منطقة ما ، مهما كان كد أبنائها أن تحقق انطلاقتها في غياب دعم وطني على الأقل في مجال البنية
التحتية الملائمة ، أو في ظل بيئة ملوثة ، تورث أخطر الأمراض ، رغم الوعود
المتكررة وآخرها من رئيس الحكومة الشاهد ، أن تحقق بمفردها ، وفي حالة تهميش متعمد كما يقولون أي
تقدم لجهتها لتكون عنصر تطور وتقدم وتنمية للبلاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق