Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

اقتصاديات : ذاهبون ولكن تاركون الخراب وراء ذيولهم

اقتصاديات
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
بعد خراب البصرة
تونس/ الصواب /31/12/2013
لا يصح عادة في ليلة رأس السنة، والعالم يحتفل بتوديع عام انتهى، ويحتفل بعام جديد، يسود التفاؤل بإشراقه، أن لا يكون المرء متفائلا.
ولكن الواقع المعاش يشدنا    إلى واقع لا يبدو ورديا، بل إنه يرشح بلادنا لأن تكون في وضع أسوأ من ذلك الذي سبق والذي كان على غاية من السوء هو الآخر.
وكانت ألفة يوسف قد سبق لها أن قالت عن حكامنا الحاليين، إنهم سيغادرون حتما، ولكنهم سيتركونها خرابا، كان ذلك قبل عام ونصفا، ويبدو أن نبوءتها صدقت، وتحققت لسوء الحظ والأسف.
وليس هناك من حظ للواقع، بل إن ما وصلنا إليه هو من صنع فعل بشري، إما أنه كان عن جهل وقلة كفاءة، أو عن إرادة مبيتة.
4 حقائق   نقدمها هنا ويتفق حولها الخبراء:
أولا أن وضع بلادنا الاقتصادي قد تدهور بنسبة 14 في المائة عما كان عليه في 2010
ثانيا أننا على حافة إفلاس بانت بوادره
ثالثا أن كل المؤشرات باتت في الأحمر وأن وضع تونس دوليا بات غير مطمئن
رابعا أن المستقبل رغم كل شيء لا يبدو ورديا من الناحية الاقتصادية وبالتالي في ما يهم حياة الناس.
وللواقع فإن ذلك لم يكن حتمية تاريخية بعد الثورة، بل كان نتيجة لسياسات قائمة على عنصرين:
1/ عدم كفاءة فاضح في تسيير شؤون البلد مصحوبا بقلة خبرة وضعفا في تصور كيفية تسيير دولة.
2/ شراء الزمن والاعتقاد بأنه لا ينبغي اتخاذ القرارات الجريئة ذات المذاق المر، تحسبا من انتخابات قادمة تسعى النهضة لربحها رميا لعرض الحائط بنتائج تلك السياسات على حياة الشعب.
**
من هنا تجد تونس اليوم نفسها في الوضع الذي هي عليه، من تدهور على كل الأصعدة وخاصة الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية.
فقد تراجعت تونس اقتصاديا بشكل مفجع دليل ذلك نسبة النمو التي لن تتجاوز لهذا العام 2.6 في المائة في أحسن التقديرات، وتراجع الدينار وارتفاع نسبة التضخم وانفلات التوازنات جميعها بصورة تهدد وضع البلاد وقد تدفع للانفجار.
وتراجعت اجتماعيا ( الواحد في المائة نمو  يكفي بالذات لتوفير 17 ألف فرصة عمل أي مجموع 44 ألف شغل جديد بينما الوافدون على سوق العمل سنويا يراوح 80 ألفا ما يعني إضافة 36 ألفا لسوق العاطلين، الذي يشكو من تواجد 700 ألف بطال ، والحديث عن خلق 115 ألف منصب شغل عام 2012 ليس سوى ذرا للرماد في العيون، باعتبار أن الوظيفة العمومية استقطبت وحدها أعدادا منهم يفوق الاحتمال وأنها باتت ب700 ألف موظف وشبه موظف تنافس الولايات المتحدة بـ800 ألف موظف لـ300 مليون ساكن)
وتراجعت مكانتها الدولية وسمعتها التي بناها بورقيبة وجعل من البلاد الصغيرة التي اسمها تونس رقما عربيا ودوليا يقرأ له ألف حساب.
**
لعل الموازنة الجديدة للدولة للعام الجديد تمثل أبرز مظاهر الفشل السياسي ، فهي موازنة افتراضية يأتم معنى الكلمة، وإذا صح باب الإنفاق فيها، والغالب على الظن أنه سيصح إن لم يقع تجاوزه،  فإن باب الموارد أي مداخيل الدولة ، يبدو غير مؤكد البتة وراء ذلك ثلاثة أسباب:
-        أن انخفاض نسبة النمو في العام 2013 سيؤثر بظلاله على محاصيل الأداء، إن الـ 4.5 في المائة المخططة تعني حجما للثروة جديد يمكن أن يفرز مداخيل للدولة بحجم معين ، وعدم تحقيقه والاكتفاء بـ2.6 في المائة يعني أن محاصيل الأداء ستنخفض للنصف تقريبا ، خصوصا وأن تلك النسبة لا تأتي أساسا من نمو سوقي أو من السوق بل باعتبار أنه ناتج على اعتبار أن الأجور في الإدارة تعتبر نموا فيما إنها إلى حد كبير إنفاق غير مبرر. وبالتالي فإن ركيزة من ركائز موارد الدولة ستكون عرجاء
-        أن نسبة النمو المقررة للعام 2014 وهي 4 في المائة لن تكون أحسن حالا وبالتالي فإن مردودها لن يفي بالحاجة.
-        إن باب الاقتراض يبدو في أسوأ أحواله لا على الصعيد الداخلي ولا الخارجي فمصداقية الدولة في الحضيض ولا يعرف ما إذا كان صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي والبنك الإفريقي ومجموعة البنوك العربية يمكن أن تواصل إقراض تونس المنهار وضعها والتي تبدو غير قادرة مستقبلا على السداد.
وفي العام الجديد وباعتبار أن الميزانية ستبلغ 28 مليار دينار، فإن على البلاد أن تخصص 10 مليار كأجور، 37 إلى 39 في المائة من المداخيل
مثلها للدعم وسداد الدين وأقل منها لنفقات التنمية، وإذا كانت الموارد ستكون شحيحة فمن أين ستتجه الحكومة للتخفيف:
-        هل لتقليص أجور الموظفين أو للاستغناء على البعض منهم ؟
-        أم للتوقف جزئيا أو كليا عن دفع أقساط سداد الدين
-        أم لاقتطاع كبير من الدعم ؟
-        أم لإلغاء نفقات ميزانية التنمية؟
وكل حل من هذه الحلول يشكل كارثة يأتم معنى الكلمة.
وواقعيا هل يمكن المساس بأجور الموظفين دون حصول اضطرابات كبيرة؟
وهل يمكن سحب جزء كبير من الدعم في مدة قصيرة، دون توقع ثورة جديدة، نتيجة غلاء مواد أساسية أو مواد لها أثر على حياة الناس.؟
وهل يمكن التوقف ولو جزئيا عن عدم سداد الدين الخارجي، فتلك ستكون الكارثة ويتوقف تماما دفق القروض ؟
ولعل المجال الأقرب هو وقف نفقات التنمية وهذه يكون لها أثر سلبي جدا، إذ تتوقف مظاهر النشاط الاقتصادي بالكامل مع ما يستتبعه من تأثيرات اجتماعية كبرى.
الحكومة الحالية منصرفة ولكنها تترك وراءها خرابا لا يعرف أحد كيف يمكن الخروج من تأثيراته المدمرة.
ألا يصح المثل الخاص بخراب البصرة؟





السبت، 28 ديسمبر 2013

الموقف السياسي: في انتظار قودو

الموقف السياسي                            
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
في الانتظار.
حكومة ودستورا
تونس/ الصواب/28/12/2013
تونس تشد أنفاسها، في انتظار يوم 14 جانفي 2014، لا لأنه الذكرى الثالثة لانتصار "الثورة" ولكن لأنه اليوم الموعود:
** لتشكيل الحكومة "المستقلة المحايدة من الكفاءات المشهود لها وغير المعنية بالترشيح في الانتخابات".
** لإعلان  دستور الجمهورية الثانية
** لسن قانون انتخابي جديد بما فيه من طريقة اقتراع Mode de scrutin
** لتركيب الهيئة المستقلة العليا للانتخابات
ولعله وجب أن نقف عند كل نقطة من هذه النقط ونحاول الغوص فيها:
**
إن رئيس الحكومة المرتقب، ليس معينا ولا مكلفا حتى اللحظة، فلا بد من انتظار تكليفه من قبل رئيس الجمهورية، ليصبح تعيينه رسميا.
وإذ أخذ يجري مشاوراته فإن ذلك لا يعتبر أمرا رسميا.
وهناك خطوات عادية ليجري ذلك:
1/ إعلان استقالة الحكومة القائمة
2 / الإعلان عن توليها تصريف الأمور أي عدم اتخاذها قرارات تلزم البلاد
3/ تكليف مهدي جمعة بتشكيل حكومة جديدة من قبل رئيس الجمهورية، وهو ما لم يقع حتى الساعة.
4/ تولي مهدي جمعة القيام بمشاوراته بصورة رسمية.
وهذه المشاورات تفضل جهات المعارضة أن لا تشمل اقتراح تعيين وزراء من الحكومة الحالية أو الحكومات التي كانت قائمة خلال العامين الأخيرين، ولكن لا يبدو أن ذلك هو موقف الترويكا وخاصة النهضة التي تسعى وبإلحاح للحفاظ على عدد من "المستقلين" في تلك الحكومات، ممن خبرتهم وتبدي اطمئنانا بشأنهم، وهم ثلاثة وزراء الداخلية والعدل والدفاع.
وإذ يبدو أن المعارضة لا ترى ـ وعن مضض ـ مانعا من إبقاء وزير الداخلية، فإنها تعارض صراحة الإبقاء على وزير العدل، ولم يبد عليها رأي في شأن وزير الدفاع.
5/ تشكيل حكومة ليس بين أعضائها من تضع النهضة فيتو على تعيينه.
ولكن هل بقي متسع من الوقت لرئيس الحكومة المرتقب لتولي التشكيل، ولا يغيب أن البلاد دخلت بعد بمناسبة أعياد رأس السنة، في حالة من الجمود؟
وإذا تم التكليف الرسمي خلال يوم أو يومين ، فلعل رئيس الحكومة قد يكون، أعد قائمته التي يقال إنها لن تكون طويلة، وأنها تقتصر على 15 إلى 20 وزيرا ، وإذ تسربت منها أسماء ، فإن مهدي جمعة يبدي حرصا شديدا على الحفاظ على سرية يبدو أنها مخترقة.
هذا من حيث التشكيل، لكن الأمر أعقد من ذلك، ماذا سيفعل الرجل ومن سيكلفون بالملف الأمني والملف الاقتصادي والملف الدبلوماسي، وثلاثتها ملفات حارقة.
والملف الأمني يبدو اليوم أمه ممسوك ومطمئن، ولكن اليقظة تبدو واجبة بل وملحة.
والملف الدبلوماسي يبدو أنه ينتظر من ينقذه من سنتين كارثيتين، تراجعت فيهما مكانة تونس الدولية، وتأرجحت فيهما سمعتها القوية.
أما الملف الثالث، وهو الأكثر حرقة وتأكدا فهو الملف الاقتصادي:
ولعل أمام رئيس الحكومة والشخصية التي سيعينها للنواحي الاقتــــصادية والمالية( وزارة كثيفة الصلاحيات على ما يقال) أمر في غاية الاستعجال، وهو إعادة النظر في ميزانية (لا راس ولا ساس) وصفت بأنها افتراضية على اعتبار أن نفقاتها صحيحة، فيما إن مواردها  مشكوك فيها وغير واقعية.
فالميزانية الجديدة للعام 2014 ستجر أمامها أو وراءها، فشل العام 2013، فقد أنجزت على أساس أصلي بنسبة نمو بـ4.5 في المائة للعام 2013، تنتج تحصيلا جبائيا معينا في 2014، أما وقد انخفضت التقديرات  لنسبة النمو لما يقارب النصف ( 2.6 في المائة في الأغلب) فإن التحصيل الجبائي سينخفض بشكل كبير في العام المقبل، هذا إضافة إلى أن نسبة النمو المقدرة في هذه الميزانية للعام الجديد تعتبر غير واقعية :4 في المائة، وباعتبار التقديرات المحايدة فإنها لن تفوق 2 إلى 2.5 في المائة، خاصة وأن أجور الموظفين ستبتلع  40 في المائة من الميزانية(28 مليار دينار) وهي أي الميزانية تمثل 40 في المائة من الناتج.
تبعات ذلك قدرة متراجعة عن إفراز مقادير هامة لتمويل ميزان التنمية، وقدرة محدودة جدا عن توفير مناصب الشغل الجديدة (17 ألف فرصة عمل سنويا عن كل 1 في المائة من نسبة النمو) ما يعني ( أقل من 50 ألف منصب شغل في بلد تبلغ فيه الحاجة الجديدة إلى 80 ألف فرصة عمل فضلا عن عدم تشغيل البطالة الموروثة والتي تبلغ حوالي 700 ألف عاطل).
كيف الخروج من هذه الحالة ، وما هي كيفية معالجتها.
لكن السؤال الحارق ، وأمام القصور عن إمكانية مواجهة الإنفاق المبرمج بين أجور الموظفين (40في المائة والدعم وسداد المديونية 40 في المائة ونفقات التنمية 20 في المائة) ، ما هو الخيار الصعب الذي ستلجأ له الحكومة الجديدة:
-        تخفيض أجور الموظفين أو التسريح لعدد منهم
-        تقليص الدعم بصفة دراماتيكية على المحروقات و المواد الاستهلاكية الضرورية
-        التوقف جزئيا عن سداد الدين
-        لكن ما قد تتجه له الحكومة أولا هو تقليص نفقات التنمية، وهذا له تأثير سلبي جدا على الاقتصاد في وقت نجد فيه أن الاستثمار الخاص في تراجع كبير وليس مؤكدا أنه سينطلق.
بقي سؤال كبير، هل إن انصراف حكومات الفشل، وقدوم حكومة جديدة من الكفاءات يمكن أن يعيد بعض الثقة داخليا وخارجيا ، فتتحرك عجلة الاقتصاد فعلا.
لكن ذلك يحتاج أولا لمصارحة الناس  بحقيقة الوضع الكارثي وثانيا لاتخاذ قرارات مؤلمة جدا تأخرت حكومات النهضة عن اتخاذها، وأدخلت بذلك البلاد في نفق مظلم ويبدو بلا مخرج.
**
يبدو المسار الدستوري متقدما ولعل موعد 12 جانفي للانتهاء من صياغة الدستور هو تاريخ منطقي وفعلي، ولكن إذا لم يطرأ ما يعطل ذلك حول نقطتين اثنتين:
1/النقطة الأولى تهم مدنية الدولة التي تمت بشأنها توافقات إيجابية ، لا بالنسبة  للديباجة ولا بالنسبة للفصل 141 وغيره من الفصول التي تهم المعايير الدولية لحقوق الإنسان ، ولكن النهضة تصر على أن الجلسة العامة لا بد أن تنظر في طبيعة تلك التوافقات، فهل تسعى لإبطال مفعولها هي وأذنابها من الأحزاب التابعة.
2/أما النقطة الثانية فهي تلك التي تهم الأحكام الانتقالية والتي تسعى النهضة بواسطتها، وقد تولى كتابتها الانفرادية الحبيب خضر، مواصلة وضع يدها على مقدرات الحكم، حتى بعد الانتخابات المقبلة حتى ولو خسرتها.
**
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والتي يبدو أن التوافق بشأنها حاصل، وإن كان هناك حتى قبل أن تظهر تركيبتها من يشكك في استقلاليتها الفعلية.
**
بقيت المعضلة المتمثلة في المجلة الانتخابية، والتي يجب أن تتضمن ما يبرز اهتماما بالمال السياسي ومصادر تمويل الأحزاب والانتخابات.
إلا أن القضية الأكبر هي تلك المتمثلة في طبيعة طريقة الاقتراع، وهناك أصوات أكثر فأكثر ارتفاعا تنادي بأمرين اثنين:
أولهما ينبغي الكف عن اعتماد التصويت بالأغلبية أو النسبية حتى مع أعلى البقايا، واللجوء إلى التصويت على الأفراد في الدوائر الصغيرة وفي دورتين، بما يربط النائب بقاعدة ناخبيه من جهة، ويمكنها من محاسبته ثانيا.
وثانيهما تحديد عدد النواب بواحد عن كل مائة ألف ساكن، مع تنفيل كل جهة ليس فيها عدد سكان لا يصل إلى 200 ألف بمقعد إضافي، وتنفيل كل دائرة يتجاوز فيها عدد السكان العدد الصحيح لمائة ألف بمقعد إضافي إذا فاق العدد غير الصحيح 50 ألفا.
أي إن عدد النواب سيكون بين 120 و140 في أعلى التقديرات.




الثلاثاء، 24 ديسمبر 2013

الموقف السياسي : حكومة جمعة متى وكيف السبيل إليها

الموقف السياسي
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
التطورات الأخيرة.. ومآلاتها المتوقعة
تونس/ الصواب / 24/12/2013
هل البلاد تخطو الخطوات الأخيرة، نحو وفاق وطني، تتشكل في إطاره حكومة كفاءات وطنية من المستقلين(؟) وهل تتجه حقا لإنهاء صياغة الدستور ، وسن قانون انتخابي جديد، وإنشاء هيئة عليا مستقلة للانتخابات وفق الآمال المعلقة، وغير ذلك من الخطوات المنتظرة، لتثبيت الركائز التي ستقوم عليها انتخابات نزيهة شفافة، تقود إلى وضع دائم أي يمتد لمدة 5 سنوات على الأغلب تتحمل فيه حكومة جديدة المسؤولية الكاملة، لكن لطبيعة المرحلة في إطار من التوافق الضروري.
أولا: تشكيل الحكومة
تتجه الأنظار حاليا لمرحلة تشكيل الحكومة، وتركيبتها ، وتلك تعتبر الركائز التي ستعطي تلك الحكومة الثقة الشعبية، فضلا عن الثقة التوافقية.
لا بد من القول إن اختيار رئيس الحكومة جاء بعد مخاض عسير، ولم يكن بالسهولة المتوقعة.
كان الوفاق قد حصل حول الأستاذ مصطفى الفيلالي، وكان مكلفا صحبة الدكتور الصادق بلعيد والدكتور عبد الجليل التميمي، والدكتور عبد المجيد الشرفي ضمن وفد يمثل مجموعة واسعة من المثقفين أصدرت عدة بيانات يمكن القول إنها تأطيرية  للمرحلة بالاتصال بالرباعي الراعي للحوار وعرض مجموعة أفكار يمكن أن تخرج البلاد من عنق الزجاجة، وأن تطرح  تصورات معينة ودقيقة  في ذلك الإطار، وقد حدد يوم الخميس ما قبل الماضي للقاء بين الوفد من طرف الرباعي، على إثر قدوم حسين العباسي من قابس، ولكن وفي آخر لحظة تم "تأجيل " اللقاء، وأصبح الدكتور مصطفى الفيلالي مرشحا لرئاسة الحكومة، وتم التوافق حول اسمه، وتمت دعوته لإبلاغه واستمزاج رأيه، فقبل قبولا بدا مشروطا.
بتنا ليل ما بين الخميس والجمعة، على وقع هذا العرض وهذا القبول، وكانت مجموعتنا من المثقفين سعيدة، باعتبار قيمة الرجل ، وخبرته وتجربته الواسعة، وباعتبار أنه رجل تجميع، ولكن وفي حدود العاشرة من يوم الجمعة، أعلن الدكتور مصطفى الفيلالي  تخليه دون ذكر أسباب.
قيل إن عائلته وخاصة ابنته الطبيبة ومرافقته المقربة منذ وفاة زوجته بعد عشرة طويلة منذ سنتين أو ثلاث، هي التي كانت وراء هذا الرفض.
قد يكون هذا صحيحا إلى حد ما ، ولكن لعل الأصح أن الفيلالي ، قد علم صباحا أنه تم ترشيح 4 من الشخصيات من جهات معينة ليدخلوا حكومته، ولم يكن له أي تحفظ على أي منهم، ولكن المعلومات المتوفرة لدينا تؤكد أنه كان يريد أن يكون له مطلق الحرية في اختيار أعضاده ، وقد يكون هؤلاء من بين من قد يكون فكر فيهم كلهم أو بعضهم، ولكن بدون لي ذراع.
والمعينون من وراء ظهره وفق معلوماتنا تفيد بأنهم الدكتور حمودة بن سلامة والدكتور مصطفى الزعنوني والسيدان أحمد عظوم والحبيب الصيد، وكلهم وزراء سابقون يتمتعون بخبرة في تسيير مصالح الدولة ودواليبها.
بالأسف الشديد قبل نبأ انسحاب مصطفى الفيلالي الذي وجد فيه الناس صورة الرجل الذي تجتمع حوله الأذرع والقلوب، كان الأمل قد عاد.
وانطلق البحث عن العصفور النادر من جديد، وسرعان ما تم خارج إطــــار الوفاق ـ هذا ما ينبغي أن نقوله ـ اختيار المهدي جمعة وزير الصناعة والطاقة في الحكومة المتخلية أو التي ستتخلى.
وإن تم القبول به   لاحقا من طرف الذين غادروا طاولة الحوار، فلعله كان في إطار الواقعية السياسية لا غير.
المهدي جمعة مهندس خريج المدرسة العليا للمهندسين بتونس، فرع الميكانيكا ، دفعته كانت تضم عبد الكريم الهاروني، وخاصة صديقه رضا السعيدي الوزير المكلف بالملف الاقتصادي منذ عهد الجبالي.
ويبدو أن السعيدي هو الذي أشار به على حمادي الجبالي عندما كان يسعى لإقامة حكومة كفاءات من المستقلين، الجبالي نفسه هو من خريجي المدرسة العليا للمهندسين، ولكن في دفعة سابقة.
وعندما تشكلت حكومة العريض ، بعد فشل الجبالي في مسعاه ، ضمه إلى فريقه كمستقل بعيد عن الأحزاب ولحد ما غير مسيس.
يبدو أنه يتميز بقدرة على معالجة الملفات، طيب المعشر ، كثير التواضع ربما أكثر قليلا من اللزوم، ومستعد في سبيل حل المشاكل إلى التحرك حتى خارج وزارته، لذلك فقد نال كثيرا من الاحترام من قبل حسين العباسي الذي وجد فيه المخاطب المتفهم والقادر على الإقناع والاقتناع، كما قد يكون نال ثقة الأعراف وخاصة وداد البوشماوي، بعد أن مارست سرعته في معالجة الملفات التي كانت تبدو مستعصية ، وقدراته على إيجاد الحلول وسرعة الحسم، وطبعا تلك هي خصائص من اشتغلوا في القطاع الخاص خاصة بالخارج.
ومن هنا جاء اختياره، قد يكون باقتراح من المركزيتين النقابيتين، ولكن يبقى السؤال مطروحا عن قدراته في تصريف الشأن السياسي، في غابة من الكواسر المتربصين ببعضهم البعض، و قدرته على مواجهة الوضع المعقد جدا الذي تمر به البلاد، سياسيا وأمنيا واقتصاديا.
المهم أنه اليوم هنا كرئيس حكومة مرتقب، مرتقب لأنه لم ينل بعد الصفة لا القانونية ولا الدستورية، وليتحول إلى رئيس حكومة مكلف فيجب أن يستدعيه رئيس الجمهورية ويعهد إليه بتشكيل الحكومة، وهذا يتطلب وفقا للدستور الصغير دعوة رئيس  الحزب الحــــــــائز على أكبر عدد من المقاعد في المجلس التأسيسي ( الدكتور راشد الغنوشي) وربما أحزاب أخرى للتشاور.
المهدي جمعة شرع منذ الاثنين 16 ديسمبر، في مشاورات مع عدد من الشخصيات الوطنية، ممن يمكن أن يضمها لحكومته، أو ممن يسعى فقط للاستنارة برأيها ، واستمزاج احتمالات دعوتها للوزارة ، دون أن يدعو أحدا بالذات لذلك الانضمام في المرحلة الراهنة.
وهو يجتمع بشخصيات عديدة في موقع الدار المغربية في قرطاج.
أسئلة عديدة تبقى مطروحة، ما هو مدى علاقته بالنهضة، ويقال إنه في شبابه إن لم يكن من أنصارها فهو من المتعاطفين معها، صحيح أو لا.
 ما يوحي به هو أنه يسعى لأن يعطي عن نفسه صورة الشخص الذي هو على مسافة واحدة من كل الأحزاب.
وأيضا ما هي قدراته على عدم الخضوع لضغوط مهما كانت، وهو الذي يبدو أنه غير متمرس بالسياسة، وليست له تلك القدرات على المناورة التي تحصنه من السقوط في الفخاخ التي قد تنصب له.
كذلك ما هو مدى قدرته على الاستجابة للشروط الدنيا التي يمكن أن تجري في ظلها انتخابات نزيهة وشفافة، مثل مراجعة التسميات بين الولاة والمعتمدين والإداريين الذين زرعتهم النهضة لضمان نجاحها في الانتخابات، ثم أيضا ما هو مدى قدرته على الإقدام على حل روابط حماية الثورة.
ثانيا: تركيز الحكومة
لا يكفي أن تتوفر للمهدي جمعة فرصة تشكيل الحكومة، فالأمر يقتضي تكليفه الرسمي، وهذا ما لم يحصل حتى الآن.. لماذا .. السؤال يبقى مطروحا؟
ولكن وعندما يتم التكليف، هل ستترك له الفرصة حقا لتشكيل حكومته، كما يتمنى ويرغب، وكما تتمنى غالبية الطبقة السياسية والمجتمع المدني، أم ستتكثف التدخلات من كل الجهات ،، لوضع فيتو على هذا أو ذاك، أو لترشيح هذا وذاك؟
ومن الآن فإن الذين يرشحون أنفسهم بالعشرات  بل بالمئات.
أحمد نجيب الشابي مثلا يضع ومنذ الآن فيتو على وزير الداخلية الحالي بن جده.
وهناك من هم أكثر تكتما إما في محاولة فرض أسماء، أو محاولة رفض أسماء أخرى.
والمنطق يقول، بأنه من الأفضل لرئيس الحكومة الجديد أن يمتنع عن استعادة أعضاء الحكومة المنصرفة ، بدعوى أنهم من الكفاءات العالية، هذا صحيح ، ولكن ذلك يخلق له حساسيات مع زملائه الآخرين الذين سيعتبرون أنه لا يعترف بكفاءاتهم.
 كما إنه من الأفضل له أن لا يضم إلى حكومته أيا من الوزراء المتحزبين بعد أن أبدى معطر وبن سالم (التعليم العالي) والهاروني (صديق الدراسة) والمكي وربما غيرهم  ضرورتهم لاستكمال برامج بدؤوا في تصورها أو تنفيذها.
وإذ قال البعض إنهم لن يقدموا استقالتهم من الحكومة، فلعل عدم المعرفة بطبيعة الحكومات ، يجعلهم لا يدركون أن استقالة رئيس الحكومة تعني استقالة كل الوزراء.
ولكن متى ينوى رئيس الحكومة تقديم  استقالته؟
أولا:  ينبغي أن تتشكل حكومة جديدة برئاسة مهدي جمعة، لتتسلم المشعل.
ثانيا : إن التكليف لم يحصل بعد، ورئيس الحكومة الجديد ينبغي له الحصول على مهلة معينة للقيام بذلك التشكيل، وهو أمر مرتبط توقيتا بمدى ما سيعترضه من عراقيل، من هذا الطرف أو ذاك، هذا إذا لم نتحدث عن مدى السهولة أو الصعوبة، في العثور على وزراء من ذوي الكفاءة العالية، فالبعض لا يرى نفسه في غير موقع رئاسة الحكومة، والبعض لا يرى نفسه في حكومة لن تستطيع شيئا في ظرف 6 أشهر إلى سنة ، أمام الصعوبات الكبرى والتحديات التي تواجه البلاد والدولة ومؤسساتها.
ثالثا: أنه ومنذ التكليف يبدأ العد التنازلي، ولكن النهضة والمؤتمر يلحان على تلازم المسارات، أي إن الحكومة الحالية لن تستقيل إلا بعد ما يتم سن الدستور والقوانين السياسية المرتبطة بالانتخابات، ولما كان من غير الممكن قيام حكومتين في نفس الوقت فلعل حكومة علي العريض ستبقى رغم أنف الجميع لمدة أخرى قد تتجاوز 14 جانفي المقبل، بينما يبقى مهدي جمعة في وضع رئيس الحكومة المعين، فلا هو وزير الصناعة ولا هو رئيس الحكومة، أي بين كرسيين وهو وضع في كل الأحوال غير مريح .





الاثنين، 23 ديسمبر 2013

الكتاب الأسود مرة أخرى: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله

سانحة
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
"الحقائق" والأكاذيب في الكتاب الأسود
تونس / الصواب/ 23/12/2013
رغم زعمي أني قرأت الكتاب الأسود كاملا في الليلة التي وضع فيها على عشرات المواقع الإليكترونية، وعلى كثير من صفحات الفايس بوك ، فإن الكثير فاتني ولم أتنبه له في تلك الليلة ،  عندما سهرت معه حتى الخامسة صباحا.
وقد نبهني العديد من الأصدقاء إلى أن اسمي كان موجودا في ذلك الكتاب، الذي اعتبره الكثيرون وخاصة من رجال القانون، أنه كان مجرد قرصنة لا قانونية ولا أخلاقية، فإن الكثير من الناس تداولوه، وقرأوا فصوله واستنتجوا منه ما استنتجوا، وخاصة ثلاثة أمور ذات أهمية قصوى عدا غيرها مما يتسم بأهمية أقل:
أولها : أن رئاسة الجمهورية غير مخولة بنشر ما يتاح لها من وثائق تمس حياة الناس وأعراضهم ، وأن الأرشيفيين بمساعدة المؤرخين ورجال القانون والقضاء سواء العدلي أو في إطار العدالة الانتقالية، هي وحدها المخولة بعد البحث المعمق والتمحيص الدقيق في ذلك النشر واعتمادا على تشريعات عدم المساس بالحياة الشخصية.
ثانيا: أن رئاسة الجمهورية إذ تبرأت ونسبت التسريب لأعوان المطبعة الرسمية، فإنها لم تزد أمرها إلا توريطا، فهي تعترف بأنها قامت بذلك العمل، المستهجن وأن غيرها هو من سربه، وكان رد نقابة تلك المطبعة العريقة التي يعود إنشاؤها إلى حوالي 160 عاما ،أكثر إفحاما من كل مصدر آخر.
ثالثا: أن ذلك العمل غير المسؤول، ولا القانوني يعرض، السلطة الأولى في البلاد إلى المساءلة القضائية، وهو أمر في غاية الخطورة ، لم يحدث مثيلا له في تونس طبعا، وقليلا جدا ما حدث في غيرها.
وبإطلاعي على ما ذكر بشأني فقد وجدت أنه إيجابي، وكنت مستغربا أن يتم ذكر لي في كتاب، كان القصد منه تشويه سمعة الناس في إطار الحط من قيمتهم والنيل منهم.
فقد جاء ذكر اسمي مرة واحدة ومن خلال قائمة من طلبوا رخصة إصدار صحيفة سنة 1992، وتم حجب ذلك الترخيص بصورة غير قانونية، على اعتبار أن إصدار الصحف في تونس وبمقتضى القانون لا يخضع للترخيص وإنما لمجرد الإعلام.
غير أن الواقع سواء في فترة الرئيس بورقيبة أو خلال حكم الرئيس بن علي تجاوز القانون، وإني لأذكر الصعوبات التي لاقاها المرحوم المعلم الحبيب شيخ روحه، للحصول على ترخيص لإصدار صحيفة "لوتون" في سنة 1975، رغم أنه كان متنفذا، وكان من بين الساعين لفائدته عدد كبير من رجال السياسة آنذاك، وخاصة رجل الفكر ومدير الديوان الرئاسي آنذاك الأستاذ الشاذلي القليبي، ووزير الداخلية السيد الطاهر بلخوجة.
وفي سنة 1992 وكنت ما أزال رئيسا للتحرير في جريدة الصباح، بدأت أشعر بأن الرياح أخذت تنقلب ضدي، وقد تم لومي كثيرا في تلك الصائفة على طريقة تغطية محاكمة الإسلاميين، واعتبرت بوقا لحركة النهضة، ما أهلني لتلقي مكالمات يومية تنذرني، وللواقع فخلال كل فترة الرئيس بورقيبة، تمتعنا بحرية كاملة وبلا رقيب على أمرين اثنين:
** المحاكمات السياسية التي توليت شخصيا تغطيتها إما منفردا أو كرئيس فريق ابتداء من محاكمة التجاني الكتاري وقيادات الحرس الوطني سنة 1960، إلى مؤامرة 1962 والتي انتهت إلى تنفيذ حكم الإعدام في مجموعة من الضباط والمدنيين، إلى محاكمة مجموعة آفاق إلى محاكمة السيد أحمد بن صالح، إلى محاكمة الإسلاميين في الدفعة الأولى سنة 1980  إلى غير ذلك من المحاكمات، ورغم أننا اعتمدنا دائما النقل الوفي لما يقال ، وكان في أحيان كثيرة في لهجة قوية جدا ضد السلطة، فلم يسبق أن تلقينا لا لوما ولا تهديدا ولا دعوة للكف عن النقل.
** ما كان يجري من مداولات في مجلس الأمة الذي سمي لاحقا مجلس النواب، ورغم أن النواب كانوا كلهم من الحزب الحر الدستوري بتسمياته المختلفة أو من حلفائه ، فإن النواب كانوا يتمتعون بهامش حرية أحيانا قوي، وخاصة نواب اتحاد الشغل وفي أحيان أقل نواب اتحاد الصناعة والتجارة، الذين كانوا يدركون خفايا القرارات الاقتصادية، وإني لأذكر كيف كانت تتغير نصوص القوانين غالبا في اللجان،ولكن أحيانا في الجلسة العامة، وإذ لم يكن مسموحا لنا نحن معشر الصحفيين، بالدخول لمتابعة أشغال اللجان، فقد كانت نتف أحيانا مهمة من تلك التغييرات تصلنا فنحولها إلى أخبار وتحاليل.
ولا أذكر أنه حصل تذمر ما أو إلفات نظر لما كان يحصل وقتها من نقل لمجريات النقاش في المجلس النيابي، وكانت اتسمت في فترات معينة بحدة شديدة ضد الحكومة، مثل ما حصل في خريف سنة 1977 قبل أحداث الخميس الأسود ببضعة أسابيع.
أيامها بدا  لي استصدار رخصة جريدة ، أردتها لتخفيف الوطأة على أصحاب القرار أن تكون فكرية، ومن الفكر يمكن أن أنفذ إلى السياسة، واجتمعت حولي كوكبة من أصحاب رؤوس الأموال، قادرين على التمويل وتحمل الخسارة المتوقعة خلال سنتين أو ثلاثة، وقمت وقتها بتأسيس شركة كان رأسمالها 16 ألف دينار، كبداية على الطريق.
ولكن تم حجب الترخيص عني، فيما أعطيت في تلك الفترة ترخيصات كثيرة ، لصحف لا أريد أن أذكرها بالاسم ولكنها، كانت كلها تسعى في ركاب السلطة، وتنال منها الإعلان السخي والاشتراكات،  لنسخ صحف تتكدس في المخازن ولا يقرٍِؤها أحد.
**
هذا ما لفت نظري حول اسمي الوارد في الكتاب الأسود القاتم السواد من محتواه،
أما الاسم الثاني فهو اسم الدكتور المنصف شيخ روحه، فبعد أن كان يشغل خطة مدير عام بنك كبير جاء لإنقاذ مؤسسة دار الصباح من أن تغرق لا ماليا فقط بل توجها، وكان صاحبها قد أوهنه المرض فاعتكف أيامها في سنة 1993 مريضا في بيته إلى أن يتوفاه الله لرحمته في فيفري 2014.
كانت فترة سنة 1993 قد شهدت حملة قوية من السلطة قادها كل من عبد الوهاب عبدالله من القصر و عبد الرحيم الزواري أمين عام الحزب ضد الصباح، تم تتويجها باستبعادي من رئاسة التحرير توسلا لتغيير الخط التحريري للجريدة.
كانت الأشهر الأخيرة من 1992 قد اتسمت بجفاف منبع الإعلان الحكومي بعد إنشاء وكالة الاتصال الخارجي التي كلفت بدن أي نص قانوني ولا ترتيبي بالتصرف في إشهار المصالح الحكومية والشركات العمومية، وتوقف اشتراكات الجهات الحكومية في جرائد الدار، وكان الإعلان الحكومي أيامها يمثل القسط الأكبر من دخل الصحف، كما إن القطاع الخاص وبمجرد انقطاع إعلانات الدولة يحجم من جهته على نشر إشهاره في الصحف المغضوب عليها.
 بين إ(ست)قالتي وقدوم الدكتور منصف شيخ روحه ثلاثة أو أربعة أشهر، وكانت حجت إليه في مقره في البنك جل إن لم تكن كل الإطارات الكبيرة في صحف الدار أو من بقي منها، بعد أن استنزفت الصحف الجديدة الواردة لمنافسة الصباح ، من أمثال الكاتب الكبير صالح الحاجة وسليم الكراي وجنات بن عبدالله، وغيرهم، وقد امتنعت شخصيا عن ذلك الحج إلى مكتب شارع الهادي شاكر، أنفة ودرء عن نفسي ذلك التمسح الذي كنت أراه مخلا بالكرامة.
ولقد جاء الدكتور منصف شيخ روحه في بداية صيف 1993، وحاول تقويم حسابات الجريدة أو الدار على الأصح، كما حاول إدخال الشفافية على التصرف، ولكنه حاول بالخصوص اعتماد سياسات تعيد للجريدة خطها التحريري الذي اعتمده الوالد المؤسس الصحفي الكبير الحبيب شيخ روحه ، وهو خط متحرر بقدر ما تسمح به الظروف ، ولكم اصطدم مع السلطة ، غير أن مكانة جريدة الصباح كانت تمنع من إيقافها على شاكلة ما حصل سنة 1957 لمدة 7 أشهر وهو ما ندمت عليه الحكومة ندما شديدا في وقته.
ولذلك فإن فترة إدارة الصباح لمدة 7 سنوات أي بين 1993 و2000، كانت فترة مد وجزر، وفي أحيان كثيرة توقف دفق الإعلان الحكومي عن الجريدة ما عرض حياتها لخطر التوقف، وهو ما حصل في صيف 2000 ، بسبب مواقف شجاعة للمنصف شيخ روحه كان لي شخصيا ضلع فيها، وكان سببا في تولي مجلس الإدارة عزل الدكتور منصف شيخ روحه ، وتنصيب إدارة موالية، وطرد الأشخاص الذين اعتبروا مناوئين لطبيعة كتاباتهم، أو لاتهامهم بالالتصاق بالدكتور المنصف شيخ روحه.
لذلك فقد استغربت أشد الاستغراب من ورود اسم الرجل ضمن الذين حصلوا على منافع، وهو على ما أعرفه كان وما يزال متعففا، أما إذا تمت محاسبته بهذا الشأن، على ما كان يصل لصحيفة أو الصحف من إعلان حكومي، بعد أن تم حذف كل الاشتراكات الحكومية، فإنه من جهة حق لكل صحيفة ، ومن جهة أخرى فإن فيه مصلحة للدولة باعتبار توزيع الصحيفة وأهميته.
وعلى قدر ما أعلم فإن دخل تلك الإعلانات  ذهب بالكامل لخزينة الجريدة لا لجيب الدكتور منصف شيخ روحه، إلا ما كان يتقاضاه من مرتب، هو وبكل الأحوال أقل من المرتب الذي كان يتقاضاه لما كان يدير بنكا من بنوك تونس الهامة، ويتمتع بمنافع ناتجة عن تلك الإدارة كما هو شأن المديرين العامين للبنوك.
ولعل للمرء، إلا أن يقول أمام هذه الأكاذيب والترهات التي اعتمدها هذا الكتاب، حسبنا الله ونعم الوكيل، هذا مع التأكيد بأن العلاقة بيني وبين الدكتور منصف شيخ روحه ، انقطعت منذ عزله من إدارة الصحيفة، وطردي منها في سنة 2000، ولم تعد أبدا إلا ما يمكن أن ألتقي به في فترات متقطعة، ودون التعرض لفترة عملت تحت قيادته، وحاولنا فيها مها أن نرتفع بسقف حرية التعبير في زمن ما كان لأحد أن يجرؤ على قول شيء، وإني لأذكر فيما أذكر تلك الإفتتاحية الجريئة التي صدرت عن محاولة اغتيال رياض بن فضل الصحفي الحر، واعتبارها سابقة خطيرة ستعرض القائمين بها للمساءلة في يوم من الأيام ، وهو ما لم يحصل قط حتى بعد الثورة، أو تلك التغطية لانتخابات 1999، وما جاء في التغطيات من نفس تحرري وإبراز دور أحمد نجيب الشابي فيها وخاصة حزبه فيها وتغطية أنشطته ، والقول دائما عن النتائج أنها نتائج رسمية معلنة، وهو ما كان يغضب السلطة أيامها إذ تعتبرها نتائج صحيحة لا يرقى لها شك.
بعد هذا الكتاب وبعد هذه الترهات بشأن أشخاص يتسمون بالنظافة الناصعة لا يسع المرء إلا أن يقول:  " ولله في خلقه شؤون"، ولا يحيق الظلم الصارخ إلا بأهله.