Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الثلاثاء، 19 ديسمبر 2017

الموقف السياسي : مسار ما قبل وما بعد الثورة

الموقف السياسي
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
منذ ثورة 17/14
خيبة الأمل المتكررة
تونس / الصواب / 16/12/2017
عندما أهل علينا يوم 7 نوفمبر 1987 ، كنت علمت بالحدث قبل الكثيرين ، فقد كنت أغط في نوم عميق عندما أيقظني التليفون بجرسه الحاد تحت رأسي ، وكان على الخط المرحوم الحبيب شيخ روحه ليعلمني دون زيادة معطيات أن انقلابا حصل في تونس ، كان رئيس التحرير الأول  لجريدة الصباح عبد الجليل دمق مسافرا ، أعتقد أنه كان في الاتحاد السوفياتي ، في السيارة وأنا في الطريق إلى مقر الجريدة في نهج علي باش حانبة ، استمعت إلى بيان الوزير الأول  منذ قرابة شهر زين العابدين بن علي ، وبقدر امتعاضي من الانقلابات وإيماني العميق أنها لا ولن تقدم إيجابيا ، فقد بعث نص بيان شعرت بأنه كتب بماء الذهب لما جاء فيه من وعود لا يمكن للمرء إلا أن يبصم عليها  بأصابعي العشرة كما كان يقول خميس الشماري  ـ كان ذلك هو اعتقادي في تلك اللحظات التاريخية ، وأنا أشق شوارع خالية في ذلك الصباح ، لا أثر فيها لما يدل على انقلاب قد حصل ، كل شيء هادئ ، ولكن في شيء من التوجس ، ماذا حصل لبورقيبة ؟ ثم كيف سيكون المستقبل هل ستصح الوعود ، بعد أن كان التصحيح الهيكلي الذي تولاه رجل المعجزة إسماعيل خليل قد أخذ طريقه ، وأعاد الأمل إلى النفوس.
من اللحظات الأولى أدركت أن بيان 7 نوفمبر هو من تحرير الهادي البكوش ، فالكلمات كلماته ، والنفس نفسه ، وإذ أدعي أني أعرف الرجل فإني شعرت بأنه كان وراء كل كلمة في البيان ، وسيدعي بن علي أنه هو كاتب البيان ، وإذ سيؤكد منظر العهد الصادق شعبان في أحد كتبه أن البيان من تحرير بن علي مستشهدا ، بصورة للنص بخط بن علي فإن لا أحد صدق ذلك.
التقينا بعد نصف ساعة في مقر الجريدة ، كان على رأسنا الحبيب شيخ روحة وثلة من كبار المسؤولين  فيها ، بسرعة انتهينا إلى أن علينا أن نقف إلى جانب التغيير ، لم تكن الكلمة أطلقت  ذلك الصباح بعد ، ولكن سؤالا حائرا كان مرتسما على الشفاه ، ما هو مصير بورقيبة ؟.
شرعنا في إعداد طبعة خاصة ، لم نكن نجر وراءنا يومها كبعض الزميلات ، أي إطراء لبورقيبة ولا أي تسبيح بحمده ، لا ذلك اليوم ولا الأيام السابقة ، فقد كان بورقيبة على عظمة دوره في تحرير البلاد وقيادتها على مساك التطور، قد اختل توازنه ، وبات في حالة لم يكن له معها أن يواصل وهو يرتكب كل يوم كارثة جديدة ، أو يعد لخطب جديد ، في ذلك اليوم كان مفترضا أن تبدأ محاكمة جديدة وغير قانونية لراشد الغنوشي بهدف سوقه إلى المشنقة ، والذين كانوا مع أو ضد الغنوشي كانوا يعتقدون أن تلك تعتبر غلطة سياسية فادحة.
خطآن في نظري تم ارتكابهما ذلك اليوم ، فبعد ساعات من بيان 7 نوفمبر ، تم على غير انتظار الطبقة المثقفة ،  اعتماد الحزب الاشتراكي الدستوري كقاعدة للحكم ، وتعيين بن علي رئيسا له ، كانت تلك طعنة أولى في صدر القوى التي كانت تأمل تغييرا حقيقيا ، يستبعد الحزب الحاكم  ، ويعتمد القوى الحية التي كان لها تصور يعتمد تمشيا ديمقراطيا ، لا يمكن أن يتحقق مع حزب تعود لا فقط على اعتماد قوة الدولة ، بدل أن يكون صاحب تصورات مبلورة لا تستبعد القوى الحية، ولا تستفرد بالحكم كما الماضي.
عامان أو ثلاثة أعطى بن على خلالها بعض المؤشرات الايجابية على الصعيد السياسي ، تخللتها مسارات استبدادية كان الأمل أن لا تتعمق ، في نفس الوقت ، كان المسار الاقتصادي بفضل إسماعيل خليل ومحمد الغنوشي والنوري الزرقاطي وبعدهم صلاح مبارك ومصطفى كمال النابلي والصادق رابح  وغيرهم كثيرون ، يرسمون طريقا اقتصاديا ، كان يمكن أن يحقق أكثر مما تحقق ، وللواقع لم يكن قليلا ما تحقق ، ولكن التيبس السياسي والفساد في العائلة المحيطة بالرئيس ، دفعت ما يتحقق من إيجابيات  على طريق التباطؤ  ، وأذكر أنني خلال زيارة للبنك الدولي قبيل سنة ألفين  بقليل استمعت إلى  المسؤول عن مكتب شمال إفريقيا في جلسة خاصة  وهو هنغاري يقول لي ، إن الفاقد في نسبة النمو في تونس يبلغ 1.5 إلى 2 في المائة بسبب الفساد واستيلاء العائلة على المقدرات ، كما أذكر أني وفي ندوة تم تنظيمها في الدوحة حول التجارة والديمقراطية ، وبمجرد أن جلست في مكاني على طاولة   في مأدبة عشاء نظمها أمير قطر ، من بين طاولات كثيرة وقد وضعت أمامي كما البقية بطاقة تحمل اسمي وصفتي وبلدي ، حتى انبرى شخص عرفت لاحقا أنه قطري ، يوجه لي الكلام ،" أنت من تونس ، بلاد اللصوص والحرامية " ، وكان يقصد أن يسمعه أكثر عدد ممكن سواء على تلك الطاولة أو على الطاولات المجاورة ، وإذ رفعت صوتي بالاحتجاج وقلت : "لا أسمح لك ، ولا لغيرك "، حتى انبرى يحكي قصة استثمارات كبيرة أقدم عليها في تونس ، ولكنه بحكم قضائي كما قال جرد منها.
صحيح أن تونس حققت نسب نمو بين 1990 و2010 ، بمعدل بين 4 و6 في المائة ، ولكنها لم تنجز ما كان مخططا أي ما بين 7 و8 في المائة كمعدل سنوي ، جزئيا بسبب الفساد ، وحتى أزمة 2008 التي تضررت منها دول كبرى مرت بسلام.
كان ذلك يعني  لو تحقق ، توفير ما يمكن من دفع الاستثمار ، و ما يمكن من تحقيق التوازنات الكبرى الداخلية والخارجية ، ما يمكن من امتصاص البطالة أو على الأقل الجزء الأكبر من البطالة .
ولكن عاملان اثنان أو ثلاثة قطعا مسيرة كان يمكن أن تكون ناجحة :
أولها غياب الديمقراطية وحرية التعبير، وغلق كل إمكانيات التنفس التي تقدر على تصحيح الأخطاء وفي الوقت المناسب.
ثانيها طول فترة رئيس واحد لم يستفد من تجربة سلفه ، الذي رغم قوة شخصيته وما قدمه للبلاد قبل الاستقلال وبعده ، والكاريزما التي كان يتمتع بها  ، لم ينجح لطول مدة حكمه واهتراء شعبيته ، وتواصل شيخوخته وتراجع مداركه ، والخطإ القاتل المتمثل في تعيين عسكري في موقع الخلافة ، بن علي ، لم يستفد من كل ما حصل فاستمر حكمه 23 سنة في زمن تسارع إيقاعه ، وشمل الإدراك كافة طبقات شعبه .
وثالثا عدم كفاية ما اعتبره معجزته الإقتصادية ، في تحقيق الكرامة للناس وتوفير فرص العمل للعدد الأكبر ، باعتبار عدم كفاية نسب النمو ، على أهميتها النسبية. وهو الذي كان يعتبر نفسه صديقا لأمريكا ، لم يتنبه إلى أنها لفظته ، وأنها استعملت أدوات خارجية للإيقاع به ، كما لم يتنبه رغم أنه رجل مخابرات ، إلى الإنذارات الداخلية المتمثلة في ما حصل في الحوض المنجمي وفي بن قدران ، فيما لعبت قناة الجزيرة والأدوات الاتصالية الجديدة ،  دورا في زعزعة عرشه ، الذي كان يظنه مكينا فضلا عن جبنه ، وهروبه  تاركا في حركة جبانة وراءه.
**
هل يمكن تأريخ الثورة بيوم 17 ديسمبر 2010 ، أو بيوم 14 جانفي 2011 ، سيظل الخلاف قائما ، والثورات (إذا كان ما حصل في تونس ثورة ) تؤرخ عادة بيوم انتصارها ولعل ما حصل في فرنسا و روسيا وهما أكبر ثورتين مرجعيتين في العالم على مر التاريخ دليل على ذلك  ،  سيدي بوزيد والقصرين و تالة وصفاقس (بأكبر مظاهرة حصلت في البلاد يقال إنه أكبر من مظاهرة تونس يوم 14 جانفي ) وتونس العاصمة في اليوم الذي غادر فيه بن علي البلاد ، مغدورا أو هاربا ، لا يهم  التاريخ .
إذا كانت ثورة فهي ثورة غير اعتيادية   ATYPIQUE لأنها وبعكس الثورات التي سبقتها في العالم ، لم تعتمد فكرا ولا تنظيرا ، ولأنها لم تتوفر على قيادة ، ولأنها لم تمسك بزمام الأمور بعد "نجاحها" بل تركت " للحرس القديم "  أمر مواصلة قيادة البلاد.
ومن المنظرين من يقول إنها ثورة ولكنها لم تكتمل.
بقطع النظر عن كل ذلك فإن " التغيير " ولنسمه كذلك تجاوزا ، أثار حماسا كبيرا وفرحة لا يمكن أن توصف ، واعتبر خلاصا للبلاد ، من عهد ديكتاتوري ، وانهيار ـ صحيح الأمر أو خاطئ ـ اقتصادي اجتماعي مجتمعي SOCIETAL  ،
وقد شاهدنا حتى قياديين في الحزب الحاكم ممن انضموا إما غصبا أو بصورة انتهازية  إليه يرحبون بما حدث ، فيما إن قيادة التجمع ولنسمه كذلك فقط ، اختبأت في جحورها ، ولم تتول الدفاع لا عن نفسها ولا حزبها ولا سلطتها ، مما يعني أن البناء كله كان قصرا من ورق ، وأن تماسكه كان تماسكا اصطناعيا ، كما هو شأن الديكتاتوريات وأحزابها الانتهازية، ولعله كان من الطبيعي أن يدافع حزب الدستور الذي يفخر بتاريخ يمتد بين 75 و90 سنة حسب التوجهات عن نفسه ، إلا أنه استسلم استسلاما غير مشرف ، فانفرطت قياداته بهروب الزعيم ، ولم تستطع أن تصمد لا أمام المتظاهرين ، ولا أمام طبقة سياسية جديدة رغم أنها كانت تتحرك في غير انتظام ، ولقد كان المراقبون ينتظرون أن تعيد القيادة تنظيم نفسها بعد هروب رئيسها وتعقد اجتماعات هياكلها  ، وتحدد أدوات تحركها ، ولكنها استسلمت للتيار فجرفها إلى أن ، وصل الأمر لمحاكمة صورية قضت بحل أقدم وأعرق حزب في تونس ، بصور يقول  بعض القانونيين  أنه لم يكن لا قانونيا ، ولم تحترم فيه الإجراءات الطبيعية للمحاكمات العادية .
وفي ما عدا بعض ردود الفعل القليلة ، فقد تم حل التجمع الدستوري  ومصادرة أملاكه ، بدون أن يتحرك " مناضلوه "  الذين  كانت القيادة تفتخر بأن عددهم يتجاوز 2.5 مليون ، تبخر وجودهم ، وتبين أن نضالهم كان اسميا لا فعليا .
**
يوم 15 جانفي 2011 ، استلمت قيادة البلاد بنفس الوجوه القديمة الأمر  ، فالذين قاموا بالثورة إن كانت هناك ثورة ، غابوا عن المشهد تماما ، وتم تطعيم الحكومات المتعاقبة  وقتها  بوجوه من  المعارضات القديمة ، وعدد أكبر من الكفاءات تم استقدامها فورا من الخارج ، واستمر الوضع كما كان ، لولا اعتصامي القصبة الأول والثاني الذين كان وراءهما قيادات من جهتين متناقضتين استعملتا ، قواعد اتحاد الشغل والمشاركين في مظاهرات 17 ديسمبر /14 جانفي  هما حزب العمال الشيوعي  الذي كان أتباعه وقود الثورة عن طريق فروع اتحاد الشغل لا مركزيته،  و حزب حركة النهضة الذي عاد بقوة بعد عودة زعيمه راشد الغنوشي إلى البلاد دون أن يكون شارك لا من قريب أو بعيد في فعاليات وتفاعــــــــــلات " الثورة ".
وبعد أن   كان  التوجه سائرا نحو تكليف مجلس النواب القائم ومجلس المستشارين بتعديل الدستور في العمق  ، والدعوة لانتخابات رئاسية وتشريعية بعد 90 يوما ، كان أحمد نجيب الشابي  يمني النفس بالانتصار فيها ، بما يمكنه من رئاسة الدولة وبأغلبية برلمانية باعتبار شرعيته النضالية في المعارضة ، سارت الرياح في اتجاه معاكس ، فقد تحالفت قوى عديدة في اتجاه حل المجالس التشريعية لنفسها والدعوة لصياغة دستور جديد من ورقة بيضاء ، فاضطر محمد الغنوشي الوزير الأول للاستقالة باعتبار عدم موافقته على هذا التمشي الذي كان يراه مؤديا بالبلاد إلى المجهول ، وتولى الباجي قائد السبسي لا فقط رئاسة الوزراء بل رئاسة الدولة فعليا وإن كان أبقي فؤاد المبزع رئيسا للجمهورية .
**
هل كان هذا التوجه الذي انطلق في بدايات شهر مارس 2011 هو الذي قاد البلاد إلى الوضع المنهار الذي تتحمل تبعاته حتى اليوم ، ويبدو أنها ستواصل تحمل تبعاته لمستقبل غير منظور ، هل كان الوضع سيكون أفضل لو سارت البلاد في التوجه الذي اختاره لها الوزير الأول محمد الغنوشي ، أي انتخابات رئاسية وتشريعية في أجل قصير بعد تعديلات دستورية ليست في العمق ، وهل كان يمكن تجنيب البلاد فترة انتقالية طويلة نسبيا ، امتدت لحد اليوم ، ولم تستطع البلاد أن تخرج منها ،  رغم الانتخابات الرئاسية التشريعية لخريف 2014 ، فغرقت إلى الأعناق في أزمة اقتصادية اجتماعية كبرى ، مع اتضاح أن دستور 2014 قد شابته هنات كبيرة  ، بعكس ما كان يقال من أنه أحسن دستور في العالم .
هناك الأرقام التي لن نتحدث عنها طويلا فهي معلومة ومتداولة ، وتبرز أن تونس في حالة ميؤوسة من التخبط والتدهور والانهيار.
ولكن سنتحدث عن الوضع بعين المواطن ، فجميعنا تحمسنا للثورة عندما جاءت وجاء معها أمل عريض بمستقبل مشرق ، بعضنا ممن تضرر من حكم سابق ظالم وفاسد نسبيا انتعش على فكرة حلول الديمقراطية والعدل والإنصاف  وانفتاح الآفاق ، كثيرون منا ممن اعتقدوا بإطلالة مستقبل باسم ، يطمئنهم على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم .
كل هذا تبخر كحلم قطعته يقظة بائسة ، فالطبقة الوسطى تآكلت وجزء منها التحق بجحافل الطبقة الفقيرة التي آملت أن ينالها حظ الارتفاع في السلم الاجتماعي فكانت سقطتها مدوية ، والطبقة الفقيرة أصلا باتت مسحوقة ولولا التضامن المجتمعي لباتت تفترش العراء ولا تجد لقمة العيش ، بعد سبع سنوات أخطاء وراء أخطاء بدأت مع الترويكا  والمرزوقي والجبالي والعريض وبن جعفر ، التي جبنت عن اتخاذ القرارات الموجعة المنقذة رغم اتضاح الصورة ، جاءت الحكومة الانتقالية بقيادة المهدي جمعة فاعتبرت نفسها حكومة تصريف أعمال ليس إلا ،   ثم جاءت حكومات قائد السبسي والصيد والشاهد ، فلم تأخذ الثور من قرونه ولم تصارح الشعب بحقيقة أمر استفحل منذ 2011 ، فغابت الدولة وتبخرت هيبتها واستقالت عن أداء مهامها .
والحصيلة بعد 7 سنوات أو تكاد أن مكاسب ما قبل الثورة ولنقل بصراحة أنها لم تكن قليلة ـ أقول هذا وأنا أحد ضحايا العهد السابق ـ ، أن  الوضع في  بلادنا ليس اليوم في أحسن حال ، حتى مقارنة بالماضي إلا من ناحية الممارسة الديمقراطية وحرية التعبير على أهميتهما  ، ولكن عندما تتحدث مع الشارع يقولون لك ، إننا لا نأكل ديمقراطية ولا نتملك بحرية التعبير ، إلا من استفادوا ويستفيدون من الوضع، ويثرون على حسابنا.
 لا يمكن للمرء أن يكفر بالثورة ،  ـ إذا كانت هناك حقا ثورة ـ ولكنه لا يمكن أيضا أن لا يلاحظ بالعين المجردة ، أن أوضاعنا تردت ، وأن بلادنا تتدحرج كل يوم .
كان الأمل بعد الثورة أن تتحسن الأوضاع فإذا بها  تنهار ، مع انهيار العملة الوطنية ، التي هي مقياس الوضع العام ، ومع انهيار الطاقة الشرائية  ومع انخرام التوازنات العامة جميعها ، ومع الانفلات المجتمعي ، وتعاظم حجم الجريمة والفساد و رديفه الإرهاب.
معاذ الله أن يتمنى  المرء عودة الماضي ، فلقد كان العهد مظلما ، ولكن على الأقل ليتمنى الإنسان مع الممارسة الديمقراطية وحرية التعبير التي تجاوزت حدود المنطق ، لقمة عيش سائغة ،  وباتت مطمحا غير متوفر في بلد يزداد فيه من هم تحت عتبة الفقر ، ويتفقر من كانوا يعتبرون من الطبقة الوسطى ، بينما ترتفع فئات جديدة من أثرياء المرحلة ، ليسوا كلهم من رجال الأعمال ، بل ممن يعرفهم الشعب ويعرفون أنفسهم.
 طبقة طفيلية استطاعت أن تنفذ إلى الثروة وأن تتمعش من عرق الناس ، وأحيانا من غبائهم .



الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

الموقف السياسي : من يحكم تونس ؟

الموقف السياسي

يكتبه عبد اللطيف الفراتي
حكومة اتحاد الشغل
تونس / الصواب/05/12/2017
لم يبق في غياب الدولة إلا أن يقدم الرئيس الباجي قائد السبسي على إقالة حكومة يوسف الشاهد ، ويدعو الاتحاد العام التونسي للشغل لتعيين من يتولى رئاسة حكومة جديدة ، تكون الثالثة في عهدته الرئاسية ، وبهذه الصورة يتم إطلاق يد اتحاد الشغل في تصريف الشأن العام خاصة الاقتصادي والاجتماعي ، ومواجهة التحديات التي تعيش في ظلها بلاد ، أشبه أن تكون في وضع أسوأ مما عرفته سنة 1986  وسنة 1969 و سنة 1956 ، بل في وضع يمكن مقارنته بما كانت عليه البلاد سنة 1880 و1881 ، عندما تم فرض كوميسيون مالي على البلاد ، انتهى إلى فرض الحماية ، وإخضاع تونس لاستعمار استمر 75 سنة فقدت خلالها البلاد مقومات سيادتها  ، وبالتالي استقلال قرارها.
ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي ، تم تشريح ميزانية العام2017 ، وسقطت التعهدات  التي تم بذلها للمؤسسات المالية الدولية ، والتي كان يمكن معها أن تستعيد المالية العمومية شيئا من عافيتها ، فتراجعت الحكومة عن قرارات كانت ضرورية لتقويم أوضاع البلاد ، وجاءت نهاية 2017 بمناسبة درس موازنة 2018 بتراجعات في غير نظام  للحكومة ، فاتخذ النواب قرارات بتقليص ضرائب و أداءات مقررة لها ، من شأنها أن تسعى للعودة بالمالية  العمومية إلى عقلانية فقدتها منذ 2011 ، مما تم معه الاضطرار إلى أمرين اثنين :
أولهما : التراجع عن قرارات تجميد الأجور في الوظيفة العمومية بعد أن وصلت نسبتها إلى أرقام تعتبر من أعلى ما هو موجود في العالم .
ثانيهما : إلى الإعلان عن ضرورة القيام بإعداد ميزانية تكميلية قبل بدء السنة المالية ، وهي سابقة غريبة في الدول ، فعادة وعندما تضطر دولة ما لميزانية تكميلية يكون ذلك في آخر السنة المالية لا في أولها أو حتى قبل المصادقة على ميزانية سنة ما.
أما ميزانية العام الجديد 2018  فإن النواب أقدموا على قضمها ، بعدم المصادقة على مقابيض كثيرة مبرمجة ، في تناقض كامل مع القانون الأساسي للميزانية الذي يفرض على كل نائب أو جهة تسحب مداخيل مقررة ، اقتراح ما يقابلها من مقابيض ، على اعتبار أن الموازنة هي تعادل بن الإنفاق والمداخيل ، غير أن ذلك على أهميته لا يعد المظهر الأخطر ، بل جاء الاتفاق بين الحكومة واتحاد الشغل المعلن عنه قبل أسبوع بمثابة الضربة القاضية لتوازن ميزانية هي في حد ذاتها تشكو من انخرام فادح ، وذلك بتعهدات من الحكومة لعدم اتخاذ إجراءات مقررة كان مفترضا أن تدخل لخزينة الدولة أموالا طائلة وفقا لميزانية بدأ خرقها قبل أن يبدأ تطبيقها.
ويبدو من المؤكد أن يوسف الشاهد الحريص على البقاء في منصبه كرئيس للحكومة ، وأمام المناورات الجارية داخل حزبه نداء تونس ، فضل بدأ مسك الثور من قرونه ، وعلى أمل أن يكون رئيس الجمهورية المقبل ،  فضل أن يقدم على تقديم تنازلات كبيرة في تناقض مع تعهدات لمؤسسات مالية دولية ، وهو أول من يعرف أنه غير قادر عليها ، على أن يواجه الواقع.
وإذ ضمن استناده إلى اتحاد الشغل الذي سيقف في صفه ، في مقابل زعماء حزبه ، فإنه ومتى تقرر التخلص منه كما سبق أن حدث مع سلفه الحبيب الصيد ، ودارت ماكينة نداء تونس فإن الرياح ستذروه ، لن يفيده في ذلك لا اتحاد الشغل ولا غيره  ولن يجد النهضة في صفه ، ومن هنا فإن البلاد تعيش في خضم مناورات قاتلة لاستقرار الحكم  ، وبالتالي لإمكانيات القيام بأي إصلاحات لا في العمق ولا على السطح .
ولعل حكومة اتحاد الشغل "قادرة "  على  مواجهة تحديات كبرى تعصف بالبلاد ، فتتخذ القرارات الموجعة التي يرفض اتحاد الشغل أن تتخذها الحكومات المتعاقبة منذ 7 سنوات ، فيسهم بالتالي في دفع البلاد إلى حافة الهاوية ، برفض عقلنة سياسات التعويض الدافعة للإفلاس ، وسياسات إعادة هيكلة المؤسسات العمومية في اتجاه خوصصة من منها في القطاع التنافسي ، وتحسين أداء المؤسسات المحتكرة  بطبيعتها ، وإعادة مؤسسات التأمينات الاجتماعية إلى موقع يعيد إليها توازناتها.
ولكن هل يقبل اتحاد الشغل الدخول في مغامرة  استلام الحكم  الفعلي ،  وهو أول من يعرف أنه سيترك فيها رياشه ، ولذلك لعله يعود بذلك إلى حد أدنى من الرشد، ويكتفي بدوره المطلبي وفقا لإمكانيات البلاد الحالية في انتظار أيام أفضل. ويكف عن مزايدة ولعب دور سياسي أكبر من حجمه، وم إمكانيات بلد ينزف وليس هناك من يقف من أجله على حد تعبير يوسف الشاهد.
fouratiab@gmail.com


الاثنين، 27 نوفمبر 2017

عربيات : خريطة جديدة للعالم العربي ، ليس للعرب دور في رسمها

عربيات
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
إعادة توزيع الأوراق
تونس /الصواب / 28/11/2017
بعد مرور قرن على إطلاق وعد بلفور في 2 نوفمبر 1917 ، في تنكر لتعهد بريطاني تجاه الشريف حسين ملك الحجاز من طرف ماك ماهون ، وبعد قرن أو يزيد على اتفاق اقتسام جثة الرجل المريض المتمثل في الخلافة العثمانية ، التي خسرت مغامرتها بالدخول في الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية وإيطاليا  في مواجهة فرنسا وبريطانيا وروسيا ، وهو اتفاق  سايكس بيكو الذي قطع أوصال الأمة العربية ، وجزأها أكثر مما كانت مجزأة في ذلك الحين ، والتي اقتطعت منها فرنسا  وبريطانيا وإيطاليا أجزاء واسعة ، متمثلة في كل الشمال الافريقي بما فيه مصرـ قبل أن تقتطع بريطانيا وفرنسا كلا من العراق وفلسطين والأردن والشام ، بعد مرور قرن حان الحين لإعادة تقطيع الأوصال وتجزئة المجزأ.
في ما عدا تركيا وإيران وهما الدولتان غير العربيتين على مشارف العالم العربي اللتان حافظتا وستحافظان على وضعهما كأقوى قوتين متماسكتين في المنطقة  مع مصر ، وتتمتعان باستقرار فعلي ، فإن بقية الدول في المنطقة وكلها عربية تشهد اهتزازات وزوابع شديدة ، وتخضع لأطماع إقليمية ودولية ليست بالهينة ، فإيران استكملت السيطرة على الهلال الخصيب متمثلا في العراق وسوريا ولبنان ، بيد طولى تتمثل في شيعة العراق وعلويي سوريا المنتصرين وحزب الله اللبناني الشيعي  الذي تهدد بواسطته إسرائيل  ، هذا في ما عدا اليمن الذي يكاد  يكون سقط بيد الزيديــــين الشيعة ، بينما ( طهران)عينها تغمز نحو البحرين التي توجد بها  أغلبية  شيعية ، وتحكمها عائلة مالكة سنية ليست محل إجماع  في بلادها ، كما إن   إيران لها   قدرة على تحريك  أقليات شيعية في المملكة العربية السعودية والكويت والإمارات يشك البعض في ولائها لدولها ، ففي الأيام الأخيرة تحرك وفقا لتقديرات فرانس 24  عشرون  مليون من الشيعة من كل الأقطار  للحج للنجف وكربلاء بمناسبة ذكرى مقتل الإمام علي ، أي 10 أضعاف الذين أدوا فريضة الحج إلى مكة فيما يمثل الشيعة بكل فروعهم 12 في المائة من مجموع المسلمين.
ويبدو أن تركيا خسرت المواجهة بالخسارة الفادحة التي حصلت لها في سوريا ـ حيث سواء بقي بشار الأسد في الحكم أو أستبعد كشخص ـ فإن أنقرة التي راهن  "خليفتها " أردوغان على التطرف  السلفي  ، قد منيت عبر داعش والقاعدة بهزيمة كبرى ، إذ تم أو سيتم كنـــس " دولة الخلافة " التي كان أردوغان الرئيس التركي، يمني النفس باستعمالها لاسترجاع الخلافة العثمانية في شكل جديد ، ومواجهة المد الشيعي الفارسي الصفوي كما كان حصل خلال قرون بين الصفويين والعثمانيين بلا غالب ولا مغلوب ، فبينما راهن قادة إيران على العقيدة الشيعية الصاعدة منذ انتصار الإمام الخميني ، واستعملوا الشعور الوطني بصبغته الدينية العقدية  في محاربة إسرائيل بقصد استرجاع فلسطين (؟..)، راهن القادة الأتراك وفي مقدمتهم أردوغان على التطرف الإخواني والأبعد من الإخواني من السلفيين ، ممن نفخت في صورتهم الولايات المتحدة زمن باراك أوباما ( صاحب الأصول المسلمة بوصفه ينحدر من عائلة مسلمة من كينيا ) والسيدة كلينتون ، فاستنجد بمواطنين سنيين من مختلف البلدان العربية  وغير العربية ، كانوا غالبا منسلخين عن الأغلبية  في بلدانهم ، وتسفيرهم وتسييرهم لمحاربة نظام الأسد  والحكم العراقي المتهم بشيعته ، وفي الحقيقة لمحاربة المد الشيعي وانتصارا للسنة ، وذلك اعتمادا على تمويل قطري مباشر ، وتمويل سعودي غير مباشر ، عبر جمعيات تمولها  الحكومات السعودية وتسلحها أنظمة خليجية رجعية.
وللواقع فإن انتصار الأسد  الشخصي  ،  الوقتي أو الدائم ، وتطهير سوريا والعراق ، لم يحصلا إلا بتدخل روسي كاسح مكن الروس لأول مرة من وضع أرجلهم بقوة في المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط ، وأعطى الفرصة للفرس بتحقيق ما عجزوا عنه منذ قرون بالسيطرة على أجزاء كبيرة من الوطن العربي بفضل شدة  وحزم وانضباط الحرس الثوري وحزب الله ، ولعل المكسب الوحيد  الذي حصل لتركيا أردوغان هو المتمثل في الانتصار لتركمان  سوريا والعراق وتمكينهم لأول مرة من وزن في بلادهم زيادة عن السيطرة على الأكراد وكسر طموحهم بإنشاء دولتهم االكردية  ـ والمتمثل أيضا   في الاعتراف لتركيا  بدور في محادثات ثلاثية روسية- إيرانية -تركية استبعد منها العرب أصحاب الشأن.
خريطة جديدة للمنطقة على حساب العرب كما كان الشأن قبل قرن ، ولكن بعنصر جديد ، هو أن الاسلام بات محضنة  للإرهاب الدولي ، ومهما كانت خسارة داعش كبيرة على الأرض ، فإن المجتمع الدولي يجد نفسه في مواجهة حركة إرهاب دولية لو بحث المرء في أسبابها العميقة ،  لوجدها متمثلة في تداعيات وعد بلفور ونتائجه على الأرض ، وما يشعر به 500 مليون عربي ومليار و600 مليون مسلم من غبن لاغتصاب فلسطين ، والعجـــز عن استرجاعها  بالحرب أو الـــسلام ،  ولن يهنأ بال العالم وعلى مدى أحقاب ما دامت المظلمة مستمرة ، وسيعيش بين مخالب عمليات إرهابية ، يعترف الغرب قبل غيره أنها مرشحة بأن تستمر ما دامت قضية فلسطين لا تجد حلا ، وكما يقول المنظرون فإن الارهاب هو سلاح من وقفت بهم الحال إلى زقاق مغلق.


الجمعة، 20 أكتوبر 2017

الموقف السياسي : مصر وتونس ، السبب الرئيسي لنفرة غير مبررة

الموقف السياسي
بقلم عبد اللطيف الفراتي
تفاعل تونسي مصري حداثي
على مدى قرابة قرنين من الزمان
قبل أن ينقطع الخيط
تونس / الصواب /16/10/2017
رغم مستواه التعليمي الأولي ، فإن المشير أحمد باي الأول  قد تميز بالنسبة لأسلافه ، بفكره الشبابي ، وطموحه ، وحيويته وشجاعته ، وإذ أراد أن يحرر البلاد من وصاية الباب العالي ويدفعها على طريق الحداثة ، فقد قرر أن ينقل إلى تونس الحركة التحديثية  التي تولى القيام بها محمد علي في مصر وهو الذي كان معجبا به : (  كتاب المملكة التونسية تحت حكم البايات لمؤلفه ماهر كمون ) .
فمن مظاهر حنكة هذا الباي وتبصره اطلاعه عن كثب على التجارب الناجحة التي قامت بها بعض البلدان الأجنبية وسعيه إلى الاقتداء بها  ، من ذلك تأثره بتجربة محمد علي بمصر، وما حققته هذه البلاد العربية من تقدم وقوة وجاه في النصف الأول من القرن التاسع عشر : ( كتاب حكام إفريقيا وتونس لمؤلفه عبد الوهاب الجمل ).
للتأمّل والعبرة:
بدأ التعليم العلمي الحديث في مصر، عند مطلع النهضة العلمية الحديثة ، و اختار الطبيب الفرنسي العالم أنطوان كلوت (Clot Antoine Barthelemy نوفمبر 1793/28 اوت 1868)، مؤسس مدرسة الطب في أبي زعبل عام 1827 (انتقلت إلى القصر العيني عام 1837)، أن يكون التعليم باللغة العربية ، رغم الاعتراضات الكثيرة التي قاومته، سواء من المستعمرين، أو من الذين يجهلون إمكانيات اللغة العربية ، أو ممن يعتبرون التعليم والتحدث باللغة الأجنبية علواً وتسامياً، أما انطون فكان يعتقد بأن تعلم الطلاب لعلومهم بلغتهم أسهل كثيراً وأعمق فهماً وإدراكاً، كما أن ذلك يزودهم بوسيلة كفأة للتفكير والتذكر، ولتطوير مفاهيمهم ومداركهم، بينما يضطرهم التعلم بغير لغتهم إلى تعلم لغة جديدة أولاً، ولن تكون هذه واسطة سهلة ومقبولة للتواصل الفكري واللغوي لديهم، مع الآخرين، حتى إلى درجة بسيطة، بالمقارنة مع ما تزودهم به لغتهم العربية القومية، لغة حياتهم وممارساتهم اليومية. ( الدكتور عبد اللطيف الحناشي )
**
عندما نتحدث عن الحداثة في تونس ، نغفل عن التفاعل الذي حصل بين البلاد التونسية والبلاد المصرية ، فقد كان لخديوي مصر  ( الملك المصري  محمد علي والذي كان شبه أمي  1769/1848) تأثيرا كبيرا على عدد من البلدان العربية التي تقدمت أشواطا في طريق الحداثة والتطوير  بعد محاولات التحديث التي سبقت إليها مصر وكانت نبراسا لعدد من البلدان العربية ، ومن بينها تونس حيث افتتن مليكها المشير أحمد باي بالإصلاحات التي تولاها مــحمد علي في بلده ، وأقدم على تقليدها ، مما أدخل تونس في عصور التنوير.
وإذ لم تكن تحركات المشير أحمد باي كلها إيجابية ، فهو الذي انخرط في إنفاق أهدر إمكانيات البلاد ودفعها إلى أبواب الافلاس مثل بناء قصر المحمدية الذي أراده شبيها بقصر فرساي في باريس ، فإنه أنشا المدرسة الحربية بباردو التي كانت من وجهة نظري أول محاولة ناجحة لإدخال العلوم الصحيحة إلى تونس، على غرار مدرسة الترسانة في مصر في بدايات القرن التاسع عشر ومدرسة الطب في أبي زعبل سنة 1927 والتي أتمت تخريج الأطباء قبل أن تخريج الأفواج الأولى من الدكاترة من بريطانيا في سابقة  هي الأولى من نوعها في العالم العربي.
ولقد كان الترابط وثيقا بين مصر وتونس طيلة القرن التاسع عشر  والعشرين ، وكانت تونس محط رحال علماء مصريين لعل أبرزهم محمد عبده ، أو  الأديبة المثقفة الأميرة نازلي ، التي انتهت بالزواج من أحد أعيان التونسيين وفتحت منتدى يجتمع فيه حولها  الأدباء  من رجال ونساء الفكر التونسيين ، ومن يأتي من مصر ، كما ذكر المرحوم أبو القاسم محمد كرو في موسوعته ذات الستة أجزاء ضخمة ، فقد كان رافع رفاعة الطهطاوي علامة بارزة بالنسبة لرجال عصره من التونسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، هو والأفغاني ، كما قاسم أمين ، أول من دعا لتحرير المرأة في أواخر القرن 19 ، والذي سبق الطاهر الحداد بنحو 30 سنة ، وإن كان الطاهر الحداد من وجهة نظري أكثر جرأة في كتابه " أمرأتنا في
الشريعة والمجتمع" .
ولقد استمر التلاقح بين البلدين ، وإن كانت  تونس تستوحي من مصر والمشرق العربي أكثر من العكس ، خصوصا وقد ابتليت تونس بالاستعمار الفرنسي الاستيطاني ، والذي كان يحاول فرنسة وتنصير التونسيين ، ومن وجهة نظرنا أن مصر هي التي أدخلت الفكر القومي العربي إلى تونس ، أكثر من المشرق الأقصى متمثلا في سوريا والعراق ولبنان ، بعد أن كان السائد هو فكرة الأمة الاسلامية ، ولقد اشتهرت منذ العشرينيات من القرن العشرين عبارة " الدين لله والوطن للجميع "، وهناك اختلاف فيما إذا كان قائلها هو طلعت حرب أب الصناعة المصرية أو مكرم عبيد وكلاهما من المصريين المسيحيين.
وبلغ من التأثير المصري أنه وبعد سعد زغلول والوفد الذي قاده إلى لندن ، للمطالبة بالاستقلال ، ولم يمر وقت طويل حتى أنشأ عبد العزيز الثعالبي الحزب الحر الدستوري التونسي ( الحر بمعنى الليبيرالي ) ، في وقت قصير بعد حصول الثورة البلشفية في 1917 ، التي اعتبرت لا دينية وشيوعية تمييزا له على الأحزاب الكثيرة القائمة وقتها ، والتي تنسب نفسها للاشتراكية وتحارب الأديان  أو على الأقل تضع لنفسها مسافة مع الدين ، وتم تسيير وفد إلى باريس للمطالبة بالاستقلال على غرار الوفد المصري  إلى لندن ، الذي كان منطلقا لتسمية الحزب في مصر ، "حزب الوفد " وهو حزب قائم لليوم.
ويقول الدكتور عبد الواحد المكني في أكثر من كتاب من كتبه أن التأثير المصري بلغ حتى الأسماء في العائلات ، فبعد الأسماء التقليدية التي كانت مستعملة وفدت علينا أسماء حديثة لم تكن تطلق على الأبناء والبنات نتيجة التشبه بأسماء المواليد في مصر ، ولقد لعبت الزيجات المختلطة مع مصريات غالبا ولكن أيضا من أقطار مشرقية أخرى دورا في تنويع وتطوير الأسماء.
وعودة إلى بورقيبة ، فقد سبق رحلته إلى هناك  ( مصر) والتي دامت بين 4 و5 سنوات ، وفود عدة لاجئين  تونسيين كانوا مطلوبين من فرنسا وكانوا موضوع تتبع وملاحقة ، بينهم الحبيب ثامر والرشيد إدريس وحسين التريكي ومراد بوخريص وآخرين ، فقد وجد بورقيبة هناك حضنا دافئا استطاع منه أن يقوم بالدعوة للقضية التونسية ، سواء من القاهرة التي كانت عاصمة قضايا التحرر من ربقة الاستعمار ، أو عبرها إلى عدة عواصم في الشرق الأوسط والشرق الأقصى أو حتى في الولايات المتحدة ، حيث قابل بترتيب مسبق في سفارة المملكة العربية السعودية، وزير خارجية أمريكا "دين روسك " ونشرت له معه صورة ، أقامت الدنيا ولم تقعدها في باريس ،
وإذ سكن تباعا في بيت حسين التريكي ، الذي كان يتمتع ببعض الرفاهة ،  ويقطن في بيت فاخر في ضاحية رفيعة من  ضواحي العاصمة المصرية ، فإنه سكن أيضا في فندق بسيط ، وكان يعقد لقاءاته مع الوفود المبتعثة للعاصمة القاهرة في صالونات فنادق فاخرة ، حيث يقوم بالدعاية للقضية التونسية وينال التأييد لها، وبعكس ما يقول بورقيبة فإن كل الشهادات ، تقول بأنه كان يتلقى المساعدة  من الحكومة المصرية و من الجامعة العربية ، فضلا عما كان ينفق على سعة ، مما كان يوفره له الهادي شاكر من أقربائه ومعارفه في مصر ، وإلى الحد الذي تم كف يده عن التصرف في الأموال في القاهرة ، وأوكل الأمر بمقتضى قرار من مؤتمر دار سليم  للحزب الحر الدستوري الجديد إلى الحبيب ثامر.
و من القاهرة انطلق الدعم للقضية التونسية عبر رجال لا ينبغي نسيان أفضالهم على حركة التحرير التونسية التي كانت في حاجة للسند ،  ولعله وجب ذكر بعضهم حفظا للذاكرة :
عبد الرحمان عزام باشا ، أمين عام جامعة الدول العربية آنذاك
محمد صلاح الدين : وهو من حزب الوفد ، وتولى وزارة الخارجية المصرية عدة مرات حتى سنة 1952 ، أي حتى ثورة عبد الناصر
محمد ظفر الله خان وزير خارجية باكستان في ذلك الحين
الدكتور محمد فاضل الجمالي وزير خارجية العراق
محمد علي طاهر المناضل الفلسطيني المقيم في مصر الذي لازمه في القاهرة ، وكان بمثابة مستشاره ومدخله إلى الشخصيات النافدة أيامها في الأوساط المصرية والدبلوماسية
وإذ كافأ بورقيبة محمد فاضل الجمالي ، فأنقذه من براثن عبد الكريم قاسم صاحب انقلاب 14 تموز في العراق بعد أن كان محكوما عليه بالإعدام ، فاستقدمه وأغدق عليه ، وإذ أطلق اسم محمد صلاح الدين على أحد أنهج العاصمة تونس ، فإن بورقيبة  استضاف عديد المرات وأكرم محمد علي طاهر وأغدق عليه ، وقد تسنى لي أن أتعرف على الرجل ، إذ كان خلال إقاماته الطويلة في تونس يسهر في مكتب الاستاذ المرحوم الهادي العبيدي ، وإذ كنت لفترة أعمل سكرتير التحرير الليلي في جريدة الصباح ، فقد كنت أتمتع بجلسات الرجل الذي كان بمثابة الموسوعة تماما كما كان الهادي العبيدي ، وتحاليله المصيبة ، وفي ساعات النهار كثيرا ما جمعني الغداء مع ابنه الذي كان يرافقه صيفا خارج فترات الدراسة .
كان محمد علي طاهر ضيفا مبجلا على بورقيبة ، وعلى تونس فقد كانت له شبكة من الأصدقاء واسعة  في مصر والعالم العربي وظفها لفائدة بورقيبة والقضية التونسية ، وخاصة بين من كانوا لاجئين في القاهرة ، ومن كان سندا لهم أيام الكفاح.
**
غير أن بورقيبة قلب ظهر المجن لمصر بعد أن استقر له الحكم في تونس وذلك حسب تقديري لسببين  رئيسيين :
أولهما ، أن انقلاب عبد الناصر سنة 1952 ، قد أثار حفيظته ، فهو أشد ما كان يكره الانقلابات العسكرية  وسيكون هو نفسه ضحية  الإزاحة على وقع انقلاب بوليسي ، ولم يكن يعتقد أن الانقلابات   يمكن أن تأتي بخير ، إضافة على ما يبدو من نفوره من مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد الذي ترأس عدة حكومات مصرية قبل الثورة .
وثانيهما أن عبد الناصــــــــر ارتكب خطأ جسيما ، باختيار التدخل في الشأن التونسي ، وتأييد صالح بن يوسف على حساب بورقيبة ، وهو أمر استمر حتى بعد اغتيال بن يوسف في سبتمبر 1961 ، ويعتقد بورقيبة أن محاولات اغتياله من طرف بن يوسف ، قد تم التخطيط لها في المخابرات المصرية على يد قائد المخابرات فتحي الذيب ، الذي يقال إنه اعترف بذلك في سياق مذكراته.
من  هنا فإن بورقيبة الذي عاش في مصر لفترة يمكن أن تفوق الفترة التي عاشها في فرنسا في العشرينيات ، أصيب بكره مرضي لعبد الناصر ، وعبره لمصر ، هذا فضلا على أنه اعتبر نفسه دوما أحق بزعامة العرب من الرئيس المصري ، الذي لم يكتف بمنافسته بل بزه وتفوق عليه ، ونال من ثقة العرب شعوبا أكثر منه بكثير حتى هزيمة 1967.
وإذ يعود بورقيبة لقلوب التونسيين منذ وفاته في سنة 2000 ، فإن عبد الناصر قد عاد لقلوب الكثير من  العرب بعد سنوات  من غيبته ، بأكثر  كثيرا بحيث نافسه حيا وميتا.
**
لكن بورقيبة لم يكتف بكراهية متأصلة لعبد الناصر ومصر ، بل أخذ يكيد لدور مصر  وجامعة الدول العربية في  شأن مساندة الكفاح التحريري  التونسي ويقلل من شأن تلك المساندة ، ونجد أثر ذلك في التاريخ الرسمي كما كتبه له محمد الصياح ، أو كما صاغه في محاضراته وخطاباته ، ويؤاخذ بورقيبة مصر على الاستقبال الذي خصوه به في نقطة الحدود عندما وصل من ليبيا ، في رحلته المحفوفة بالمخاطر التي انطلقت على مركب من قرقنة  بترتيب من الحبيب عاشور ، فلم يكن أعوان الحدود  المصريين يعرفونه ، وهو الذي يظن نفسه مشهورا ، وكان لا بد له من ساعات انتظار حتى يسلموه وثائق تسمح له بالدخول بعد العودة للسلطة المركزية في القاهرة ، كما بدا له أن من سبقوه من الزعماء التونسيين للقاهرة ، هاربين من ألمانيا المنهزمة كانوا يعاملون مثله ، بينما هو الزعيم " المجاهد الأكبر " ولم يكن يخطر في باله أن تلك الزعامة المنفردة لم تكن تدخل في أذهان الموظفين المصــريين أو في جامعة الدول العربية ، من هنا حاول أن يوطن ( بتشديد الطاد وكسرها)  التونسين على كره متأصل لمصر ، واحتقار لها ، وعدم اعتبار وزنها الاستراتيجي ، والتاريخ ، والمدد الحداثي الذي قدمته للمنطقة بما فيها تونس.
ولقد ساعدت بورقيبة في ذلك عوامل موضوعية ، وإذ يعرف العرب عموما والتونسيين خصوصا هزائم مصر في حروبها  مع إسرائيل ، فإنهم لا يعرفون أو لم يتسن لهم أن يعرفوا ، أن مصر خاضت 4 حروب كبرى نيابة عن العرب ، تركت فيها كل ريشها ، وفقدت فيها و بها أسبقيتها على بقية العرب ، فعند قيام الثورة المصرية سنة 1952  ، كان الدخل الفردي في مصر وفقا لوثائق بين أيدينا أعلى من الدخل الفردي في المملكة العربية السعودية ، وأن الجنيه المصري كان يساوي 4.8 دولار، وأنه لم تكن هناك بطالة في مصر وأن الصناعة المصرية كانت مزدهرة وتصدر لكل العالم بفائض تجاري ، وفائض في ميزان المدفوعات .
وليس هذا تبرير ولكن المصريين ساندوا السادات في كامب دافيد ، مؤملين أن يعيد ذلك رخاء فقدوه ، وقد ردد رسميون مصريون أمامي عديد المرات ، " بينما كانت تستزف أموالنا في حروب متعددة مساندة لقضايا عربية  ، ويموت خيرة شبابنا ، فإن  عربا آخرين تزداد ثرواتهم ويعيشون في رخاء ، ولا يقدمون لمصر ما تمول به تلك الحروف المكلفة ".
**
 إن 60 سنة من التدمير المنظم لعلاقات كانت حميمة بين تونس ومصر ، لا يمكن أن تعود إلى طبيعتها بين يوم وليلة ، ولكن وجب اليوم أن ندرك ، أن التفاعل التاريخي بين مصر وتونس ، وإزالة الشوائب التي صنعتها سنوات الجفاء الناصري – البورقيبي والارتياب الذي لا مبرر له ، لم تعد تفيد.
وإذ يبقى جانب  كبير وفق تقدير البعض ، صغير وفق تقدير البعض الآخر من التونسيين ، على مؤاخذة شديدة من الحكم المصري  الحالي الانقلابي ، فإن علاقات الدول لا يمكن أن تكون وليدة اللحظة ، فالطبيعي هو عودة انسياب السلع والخدمات والأشخاص  والأفكار والتيارات الفكرية المتجذرة في القدم ، بمقدار طبيعة تاريخية علاقات ، ولكن أيضا المصالح المشركة ، وعلاقات العروبة التي هي أقوى من كل علاقات أخرى على الصعيد الاقليمي والدولي.





الأربعاء، 11 أكتوبر 2017

اقتصاديات : تفسير أسباب الاندفاع للهجرة

اقتصاديات

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
طريقة أخرى لقياس تدهور الاقتصاد
أي مستقبل ينتظر أبناءنا ؟
تونس /الصواب / 08/10/2017
لعل المرء تصيبه الغيرة ، كلما رأى غيره ، وقد تفوق عليه وخاصة إذا تفوق على أبنائه ، الذين يريد لهم أن يكونوا متميزين متفوقين ، ومهما يكن من أمر فإن المرء ينتظر أن يكون أبناؤه أفضل منه وأعلى مرتبة ، وأوسع رزقا وأفضل مقاما ، وحتى إذا كان مرفها فهو يتمنى أن يكونوا أحسن منه حالا .
غير أن تلك هي التمنيات ، وكانت ممكنة بل واردة في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات والتسعينيات ، فلقد عشنا نحن الجيل الذي فاق الستين والسبعين اليوم في وضع أفضل مما كان عليه غالبا آباؤنا وخاصة أجدادنا ، الذين عرفوا أو لم يعرفوا الكهرباء في بيوتهم ، والمياه الجارية في ديارهم والثلاجة والراديو ثم التلفزيون ، وفي الثمانينيات عرف جيلنا أي جيل السن الرابعة اليوم أي ما بعد السبعين الفاكس والكومبيوتر والانترنت ، وعرف السفر والتجوال بين البلدان على الأقل بالنسبة لما يسمى بالطبقة المتوسطة عموما، وخاصة منها الطبقة الوسطى العليا ، وكان يعتبر من يبلغ دخله ما بين ألف و1500 دينار  مرفها ، ويكون الأمر أفضل إذا كان ذلك مضاعفا باشتغال الزوجة وفي موقع كادر سواء في القطاع الخاص أو العام.
كيف انحدرنا ، ولم يعد الأبناء كما يأمل أو آمل الآباء ، أن يكون أبناؤهم أفضل حالا منهم وأكثر رفاهية .
جيل استطاع ولو كان من الإطارات المتوسطة ، أن يبتني لنفسه فيلا ولو صغيرة على قطعة أرض متوسطة بين 400 و500 متر مربع ، تتوفر فيها كل المرافق ، وذلك بالحصول على قروض ميسرة تدفع أقساطها على مدى 15 أو 20 سنة بفوائض متدنية ، لا تفوق 5 وفي أسوإ الأحوال 7 في المائة .
في نفس المواقع سواء الإدارية ، أو في المؤسسات العمومية أو الخاصة  ،هل يستطيع الشاب أو حتى من تجاوز سن الشباب اليوم ، أن يطمح إلى ذلك المستوى الذي عاش فيه صغيرا وشابا يافعا.
لقد صدمت عندما رافقت  زوجين ومعهما طفلاهما ( في الابتدائي ) ، عزما على شراء بيت من صالة وغرفتين في ضاحية متوسطة ( النصر) وفي أعاليها  بعيدا عن العمران ، صدمت لأمرين اثنين :
أولهما ثمن المسكن ، الذي يناهز 300 ألف دينار
وثانيهما ، ما ينبغي لهما أن يدفعاه شهريا كأقساط لسداد القرض ، بعد أن كانا وفرا ادخارا ومساعدة من أبويهما بحوالي 100 ألف دينار ( وذلك ليس متاحا للكل ) ، فالمبلغ  اللازم للسداد يقارب 1800 دينار شهريا  ، وإن كانا كلاهما من الكوادر العليا ، فإنهما قادران على مجابهة ذلك ، ولكن كم منن الناس يقدر فعلا ، إذ لا ينبغي أن لا تتجاوز أقساط السداد 40 في المائة من المرتب الخام.
ورأيت الزوجة تقول لزوجها ، وهي لا تبدو شديدة التحمس فالغرف صغيرة ، لا تحتمل ما اشترياه من أثاث في أيام العز ، بمساعدة الأهل : يعني وداعا للسفر للخارج مرة كل عامين ، ووداعا لتقضية أسبوع في الفنادق مرة صيفا ومرة شتاء، " فالبنك سيلهف ما أمامنا وما وراءنا ، حتى نصل لسن الكهولة ويكبر الأولاد".
رب العائلة المسكين ، كان يدرك كل ذلك ولكن كل شيء يهون في سبيل ، ما يسمونه " قبر الحياة " ، وهو يسعى لإخفاء مشاعره ،  أما الزوجة والأبناء الفرحين بأنهم سينتقلون للبيت الجديد ، غير عابئين ببعده عن المدرسة ، وعن مجالات الترفيه ، وعن مرافق التجارة ، التي كانت تسهل عليهم شراء حاجيات من الرغيف إلى الخضر وكل لوازم العيش.
بدا لي " الكوبل " سعيد بأنه سينتقل للتمليك ، ولكنه حائرا أمام التزامات جديدة ، فهل تكفي سيارة واحدة هي سيارة وظيفية للأب ، بعد ضرورة الاستغناء عن السيارة الثانية الصغيرة ، لأنه لا طاقة لاحتمال نفقاتها المتزايدة ، من بنزين في أوج ارتفاع أسعاره ، وصيانة تقفز أثمانها من شهر إلى آخر ، ومن طابع جبائي وتأمين هذا إذا سلم ربي ، ولم تدخل لمستودع الاصلاح لسبب طارئ من أي نوع.
هذا الحديث عن طبقة متوسطة عليا تنال مرتبات تفوق 3000 أو 3500 دينار، بين زوجين يكدان من الصباح لليل ، فما هو الشأن بطبقة متوسطة أو متوسطة تدحرجت إلى طبقة متوسطة دنيا ، فيما البقية في الحضيض ، تدحرجت إلى درجة الفقر ، فالموظف المحضوض الذي ينال شهريا كمرتب أكثر من ألفي دينار وما أقل عددهم ، وإذا لم يتمتع بمزايا وظيفية أخرى فإن مرتبه الحقيقي لا يكاد يصل إلى 600 أو 700 يورو ، فيما عملتنا التونسية المتدهورة مرتبطة بالعملة الأجنبية، التي يؤثر صعودها أو نزول عملتنا في أسعارنا وخدماتنا   الداخلية ما يزيد الطين بلة .
هذا في مستوى عيش الأجيال الحالية التي تعيش كابوسا حقيقيا ، ولكن ماذا سيكون مصير كل هؤلاء الأفواج التي نراها أمام المدارس بمئات الآلاف ، الأكيد أنها ستعيش وضعا أسوأ من وضع شبابنا العامل اليوم ، وكهولنا الذين اجتازوا العقبة.
لذلك لا يمكن للمرء إلا أن يتفهم اندفاع الشباب للهجرة للخارج ، فالإحساس بانعدام مستقبل لائق ، لا يمكن إلا أن يشعر بعدم الاطمئنان ، وبات الكبار هم الذين يدفعون الأبناء للبحث عن فرص في الخارج ، وهذا ما يفسر أن 850 طبيبا متخصصا هاجروا إلى فرنسا وألمانيا خلال بضعة أشهر، ومثلهم أو أكثر من المهندسين الحائزين على شهادات مرموقة ، أما إرساليات بلدنا إلى أوروبا وأمريكا من الطلبة المتفوقين ، فإنها لا تعني من المنطلق إلا هجرة مؤكدة ، فلا أحد منهم سيعود.
وحتى أبناء "الذوات " من أصحاب المشاريع والقادرين على الاستثمار ، بما يتوفر لآبائهم ، فهم أيضا محجمون على العودة للاستثمار في مشاريع آبائهم ما يحقق استمراريتها  ، أو الاستثمار في مشاريع جديدة ، ما دامت بلادنا على هذه الحال من الاضطرابات الاجتماعية والمطلبية المنفلتة والإضرابات والإعتصامات " القانونية " والفوضوية .