Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأربعاء، 11 أكتوبر 2017

اقتصاديات : تفسير أسباب الاندفاع للهجرة

اقتصاديات

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
طريقة أخرى لقياس تدهور الاقتصاد
أي مستقبل ينتظر أبناءنا ؟
تونس /الصواب / 08/10/2017
لعل المرء تصيبه الغيرة ، كلما رأى غيره ، وقد تفوق عليه وخاصة إذا تفوق على أبنائه ، الذين يريد لهم أن يكونوا متميزين متفوقين ، ومهما يكن من أمر فإن المرء ينتظر أن يكون أبناؤه أفضل منه وأعلى مرتبة ، وأوسع رزقا وأفضل مقاما ، وحتى إذا كان مرفها فهو يتمنى أن يكونوا أحسن منه حالا .
غير أن تلك هي التمنيات ، وكانت ممكنة بل واردة في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات والتسعينيات ، فلقد عشنا نحن الجيل الذي فاق الستين والسبعين اليوم في وضع أفضل مما كان عليه غالبا آباؤنا وخاصة أجدادنا ، الذين عرفوا أو لم يعرفوا الكهرباء في بيوتهم ، والمياه الجارية في ديارهم والثلاجة والراديو ثم التلفزيون ، وفي الثمانينيات عرف جيلنا أي جيل السن الرابعة اليوم أي ما بعد السبعين الفاكس والكومبيوتر والانترنت ، وعرف السفر والتجوال بين البلدان على الأقل بالنسبة لما يسمى بالطبقة المتوسطة عموما، وخاصة منها الطبقة الوسطى العليا ، وكان يعتبر من يبلغ دخله ما بين ألف و1500 دينار  مرفها ، ويكون الأمر أفضل إذا كان ذلك مضاعفا باشتغال الزوجة وفي موقع كادر سواء في القطاع الخاص أو العام.
كيف انحدرنا ، ولم يعد الأبناء كما يأمل أو آمل الآباء ، أن يكون أبناؤهم أفضل حالا منهم وأكثر رفاهية .
جيل استطاع ولو كان من الإطارات المتوسطة ، أن يبتني لنفسه فيلا ولو صغيرة على قطعة أرض متوسطة بين 400 و500 متر مربع ، تتوفر فيها كل المرافق ، وذلك بالحصول على قروض ميسرة تدفع أقساطها على مدى 15 أو 20 سنة بفوائض متدنية ، لا تفوق 5 وفي أسوإ الأحوال 7 في المائة .
في نفس المواقع سواء الإدارية ، أو في المؤسسات العمومية أو الخاصة  ،هل يستطيع الشاب أو حتى من تجاوز سن الشباب اليوم ، أن يطمح إلى ذلك المستوى الذي عاش فيه صغيرا وشابا يافعا.
لقد صدمت عندما رافقت  زوجين ومعهما طفلاهما ( في الابتدائي ) ، عزما على شراء بيت من صالة وغرفتين في ضاحية متوسطة ( النصر) وفي أعاليها  بعيدا عن العمران ، صدمت لأمرين اثنين :
أولهما ثمن المسكن ، الذي يناهز 300 ألف دينار
وثانيهما ، ما ينبغي لهما أن يدفعاه شهريا كأقساط لسداد القرض ، بعد أن كانا وفرا ادخارا ومساعدة من أبويهما بحوالي 100 ألف دينار ( وذلك ليس متاحا للكل ) ، فالمبلغ  اللازم للسداد يقارب 1800 دينار شهريا  ، وإن كانا كلاهما من الكوادر العليا ، فإنهما قادران على مجابهة ذلك ، ولكن كم منن الناس يقدر فعلا ، إذ لا ينبغي أن لا تتجاوز أقساط السداد 40 في المائة من المرتب الخام.
ورأيت الزوجة تقول لزوجها ، وهي لا تبدو شديدة التحمس فالغرف صغيرة ، لا تحتمل ما اشترياه من أثاث في أيام العز ، بمساعدة الأهل : يعني وداعا للسفر للخارج مرة كل عامين ، ووداعا لتقضية أسبوع في الفنادق مرة صيفا ومرة شتاء، " فالبنك سيلهف ما أمامنا وما وراءنا ، حتى نصل لسن الكهولة ويكبر الأولاد".
رب العائلة المسكين ، كان يدرك كل ذلك ولكن كل شيء يهون في سبيل ، ما يسمونه " قبر الحياة " ، وهو يسعى لإخفاء مشاعره ،  أما الزوجة والأبناء الفرحين بأنهم سينتقلون للبيت الجديد ، غير عابئين ببعده عن المدرسة ، وعن مجالات الترفيه ، وعن مرافق التجارة ، التي كانت تسهل عليهم شراء حاجيات من الرغيف إلى الخضر وكل لوازم العيش.
بدا لي " الكوبل " سعيد بأنه سينتقل للتمليك ، ولكنه حائرا أمام التزامات جديدة ، فهل تكفي سيارة واحدة هي سيارة وظيفية للأب ، بعد ضرورة الاستغناء عن السيارة الثانية الصغيرة ، لأنه لا طاقة لاحتمال نفقاتها المتزايدة ، من بنزين في أوج ارتفاع أسعاره ، وصيانة تقفز أثمانها من شهر إلى آخر ، ومن طابع جبائي وتأمين هذا إذا سلم ربي ، ولم تدخل لمستودع الاصلاح لسبب طارئ من أي نوع.
هذا الحديث عن طبقة متوسطة عليا تنال مرتبات تفوق 3000 أو 3500 دينار، بين زوجين يكدان من الصباح لليل ، فما هو الشأن بطبقة متوسطة أو متوسطة تدحرجت إلى طبقة متوسطة دنيا ، فيما البقية في الحضيض ، تدحرجت إلى درجة الفقر ، فالموظف المحضوض الذي ينال شهريا كمرتب أكثر من ألفي دينار وما أقل عددهم ، وإذا لم يتمتع بمزايا وظيفية أخرى فإن مرتبه الحقيقي لا يكاد يصل إلى 600 أو 700 يورو ، فيما عملتنا التونسية المتدهورة مرتبطة بالعملة الأجنبية، التي يؤثر صعودها أو نزول عملتنا في أسعارنا وخدماتنا   الداخلية ما يزيد الطين بلة .
هذا في مستوى عيش الأجيال الحالية التي تعيش كابوسا حقيقيا ، ولكن ماذا سيكون مصير كل هؤلاء الأفواج التي نراها أمام المدارس بمئات الآلاف ، الأكيد أنها ستعيش وضعا أسوأ من وضع شبابنا العامل اليوم ، وكهولنا الذين اجتازوا العقبة.
لذلك لا يمكن للمرء إلا أن يتفهم اندفاع الشباب للهجرة للخارج ، فالإحساس بانعدام مستقبل لائق ، لا يمكن إلا أن يشعر بعدم الاطمئنان ، وبات الكبار هم الذين يدفعون الأبناء للبحث عن فرص في الخارج ، وهذا ما يفسر أن 850 طبيبا متخصصا هاجروا إلى فرنسا وألمانيا خلال بضعة أشهر، ومثلهم أو أكثر من المهندسين الحائزين على شهادات مرموقة ، أما إرساليات بلدنا إلى أوروبا وأمريكا من الطلبة المتفوقين ، فإنها لا تعني من المنطلق إلا هجرة مؤكدة ، فلا أحد منهم سيعود.
وحتى أبناء "الذوات " من أصحاب المشاريع والقادرين على الاستثمار ، بما يتوفر لآبائهم ، فهم أيضا محجمون على العودة للاستثمار في مشاريع آبائهم ما يحقق استمراريتها  ، أو الاستثمار في مشاريع جديدة ، ما دامت بلادنا على هذه الحال من الاضطرابات الاجتماعية والمطلبية المنفلتة والإضرابات والإعتصامات " القانونية " والفوضوية .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق