Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأحد، 23 يوليو 2017

صفاقسيات 4 : واقع ومقترحات

صفاقسيات 4/4
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
بمناسبة زيارة رئيس الحكومة الثانية إليها خلال بضعة أسابيع 
صفاقس .. هل يعود الاعتبار؟ (4)
يبدو أن الحكومة اعترفت أخيرا بأنه تم إهمال صفاقس منذ عقود جاء ذلك  على لسان رئيس الحكومة ، و مضيفا أنه جاء الوقت لتدارك ما فات .
وقد اكد رئيس الحكومة يوسف الشاهد وفق ما جاء في تقرير لوكالة الانباء الرسمية وات  لدى افتتاحه الدورة 51 لمعرض صفاقس الدولي التي تنتظم من 4 إلى 18 جويلية أن حكومة الوحدة الوطنية عازمة على إعادة الاعتبار للجهة وإنجاز تعهداتها تجاهها والتسريع بإنجاز كل القرارات التي تم الإعلان عنها لفائدتها خلال  زيارته الأخيرة التي اداها للجهة يومي 20 و21 أفريل الفارط وذلك رغم كل الصعوبات، بحسب تعبيره.
ويذكر إن رئيس الحكومة أعلن آنذاك عن حزمة من الإجراءات يقدر عددها بحوالي 40 إجراء تشمل عديد المجالات.
وقال يوسف الشاهد أن الشروع في تنفيذ عديد الإجراءات منذ الزيارة الى اليوم دليل على صدق الحكومة في المتابعة والتسريع بالإنجاز واستعرض في هذا الصدد مجموعة من القرارات والمشاريع التي شرع فيها مؤخرا منها الانطلاق في تفكيك الوحدات الملوثة أمس الثلاثاء ومشروع المكتبة الرقمية التي تم تجاوز الاشكال القانوني الذي عطل انطلاقها لمدة طويلة والإعلان عن طلب العروض لانجاز القسط الثاني من مشروع تبرورة الذي سجل 31 سحبا لكراس الشروط وانطلاق عدد من مشاريع تطهير الاحياء الشعبية.
كما ذكر بالإعلان عن طلب العروض لإنجاز القسط الأول من المدخل الشمالي الجنوبي لمدينة صفاقس وإنجاز 150 مسكنا اجتماعيا بساقية الزيت وفتح مكتب محلي للصندوق الوطني للتامين عن المرض في قرقنة وغيرها من المشاريع.
و قدم رئيس الحكومة يوسف الشاهد خلال زيارة أخيرة للولاية حزمة من الوعود يمكن أن تغير من سلوك حكومات ما بعد الاستقلال إزاء الجهة لخصتها الصحفية الأديبة المتميزة نجيبة معالج دربال ، في نقط نعتمدها فيما يلي :
ملخص لكلمة السيد رئيس الحكومة اليوم في 21 و22 أفريل  في صفاقس
 • الإنطلاق فورا في تفكيك كل الوحدات الملوثة بمصنع السياب وإيقاف كل إنتاج ملوث مع استصلاح الموقع والانطلاق في برنامج استثماري يقدر بـ 75 مليون دينار لتركيز قطب تكنلوجي ومركز بحث وتكوين حول الموقع.
• برمجة انجاز الطريق السيارة صفاقس – سيدي بوزيد – القصرين.
• إطلاق مشروع تحلية مياه البحر بقيمة مالية اجمالية تقدر بألف مليون دينار سيسمح بتوفير طاقة انتاج تبلغ 200 ألف متر مكعب في اليوم.
• إعطاء إشارة انطلاق اشغال بناء المستشفى الجامعي الجديد بصفاقس باعتمادات جملية تقدر بـ 120مليون دينار، على أن تنتهي الاشغال في ديسمبر من سنة 2019.
• الانطلاق في تهذيب 20 حي شعبي بولاية صفاقس على أن تنتهي أشغالها قبل نهاية سنة 2018.
• توسيع وتهذيب شبكات التطهير في كل من ساقية الزيت والشيحية والمحرس وساقية الداير والحنشة وعقارب وجبنيانة بمبلغ يقدر بـ 36 مليون دينار، والانطلاق في توسيع وتهذيب محطة التطهير بالمحرس على أن تنتهي الاشغال في ظرف 19 شهرا.
• تخصيص قطعة أرض لمشروع المدينة الرياضية التي تمسح 58 هكتارا لإقامة المشروع والإعلان عن تغيير صبغة العقار المخصص للمشروع والإذن بالانتهاء من المخطط الوظيفي للمشروع قبل نهاية السنة الجارية.
•الرفع من طاقة إستيعاب ملعب كرة القدم من 30 ألف الى 40 ألف متفرج وقاعة متعددة الاختصاصات بطاقة استيعاب تقدر بـ 6 آلاف متفرج وقابلة للتوسعة وملعب رقبي بطاقة استيعاب تقدر بـ 500 متفرج.
• الترفيع في طاقة استيعاب ملعب ألعاب القوى بالمشروع الى ألف متفرج مع المحافظة على المسبح بطاقة استيعاب تقدر بـ 500 متفرج.
• تعزيز المشروع بـ 3 قاعات للرياضات الفردية ومركز إقليمي للطب الرياضي ومركز إقامة بطاقة إيواء تقدر بـ 250 سرير ووحدة خدماتية بنفس طاقة الاستيعاب.
• انطلاق مشروع انجاز المكتبة الرقمية.
• بناء مقر واقتناء آلة "معجل خطي" ثانية لفائدة المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة واقتناء آلة "
pet scan " خلال الثلاثي الأول من سنة 2018.
• بناء وتجهيز مركزين لتصفية الدم بكل من الحنشة والصخيرة، على أن تنتهي اشغالها خلال سنة 2019 وإحداث وحدتين طبيتن متنقلتين للإسعاف والانعاش تنطلق اشغالها قبل سنة 2017.
• افتتاح مركز محلي للتامين على المرض ومركز محلي للصندوق الوطني للتقاعد والحيط الاجتماعية بجزيرة قرقنة قبل نهاية شهر أفريل الجاري.
• إحداث دار للخدمات الإدارية بالصخيرة.
• إحداث مركز محلي للصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية بطريق منزل شاكر بصفاقس قبل نهاية السنة.
• إحداث مكتب محلي للصندوق الوطني للتامين على المرض بكل من ساقية الداير وطريق قرمدة قبل نهاية السنة الجارية.
• إعداد برنامج لتهيئة المدخل الشمالي الجنوبي لمدينة صفاقس بقيمة 150 مليون دينار والتي اكتملت الدراسات بشأنها، وسيتم الإعلان عن طلب العروض للقسط الأول الخاص في شهر جوان 2017 والقسط الثاني في شهر سبتمبر 2017.
• اعداد برنامج لتهيئة المحولات على الطريق الحزامية لمدينة صفاقس بقيمة جملية تقدر بـ 140 مليون دينار، وسيتم الإعلان عن طلب العروض للقسط الأول خلال الشهر القادم على أن تنطلق الاشغال في شهر نوفمبر 2017.
• تهيئة الطريق الجهوية رقم 119 من المحرس الى عقارب بقيمة اجمالية تقدر بـ 118 مليون دينار، وستنطلق أشغالها في شهر أوت 2017.
• انطلاق برنامج تعصير الطرقات داخل المناطق البلدية بكل من صفاقس والصخيرة وجبنيانة خلال شهر جوان المقبل.
• إطلاق دراسة "صفاقس 2050"، وهي دراسة استشرافية شاملة لتطور مدينة صفاقس الى حدود سن 2050.
• إعداد مثال تنسيقي لجزيرة قرقنة اعتبارا لخصوصياتها الطبيعية تراعي المحافظة على البيئة والمحيط. وسيكون هذا المثال وثيقة مرجعية تضمن تلاءم أمثلة التهيئة العمرانية للجزيرة.
• اختيار مدينة صفاقس لتكون مدينة نموذجية لبرنامج الشبكة الذكية "صمارت قريد
smart grid" . وسيتم في إطار هذا البرنامج تركيز 350 ألف عداد ذكي من قبل الشركة التونسية للكهرباء والغاز.
• إعلان طلب عروض لإنجاز مشروع طبرورة والإذن بالإنجاز في أسرع الأوقات.
• تخصيص اعتمادات قدرها مليون دينار لصيانة وتهيئة المسرح البلدي.
• توسيع المنطقة الصناعية "دخان" من 50 الى 75 هكتار، وسيتم الانطلاق في أشغال تهيئتها سنة 2018.
• الإذن بالانتهاء من أشغال المنطقة الصناعية بساقية الزيت قبل موفى سنة 2017.
• إعطاء الموافقة ل600 طلب تمويل صغير لبعث مشاريع بولاية صفاقس من شانها خلق مواطن شغل بشكل فوري ومباشر بقيمة جملية تقدر بـ 6.5 مليون دينار.
•إمضاء 500 عقد في إطار برنامج "عقد الكرامة" لأكثر من 500 منتفع.
على أنه رغم سخاء عرض الحكومة فإن للمرء أن يلاحظ عددا من النقائص التي لم تتعرض لها الحكومة ، ولا يبدو أن هناك نية لديها في تحقيقها رغم طول انتظارها وبعضها منذ 1955 :
** تحويل مطار صفاقس إلى مطار دولي ، وتبسيط إجراءات الدخول إليه والخروج منه ، أسوة بمطارات تونس والمنستير والنفيضة وتوزر  وطبرقة ، فالاتفاق حاصل على أن استعمال هذا المطار منفر ، وذلك لأن الاجراءات البوليسية والديوانية ، فيها سيولة ويسر كما المطارات الأخرى ، وبالتجربة الشخصية ، كما يقول الكثيرون ممن أعرف ، فإنهم يفضلون استعمال مطارات تونس وغيرها لأنهم لا ينتظرون ولا ينتظرون للتفتيش الدقيق في المطارات الأخرى ، والمباشرة بفتح خطوط جديدة من وإلى صفاقس.
ويؤكد لي رجال أعمال ، أنهم يفضلون قطع مسافة  ثلاث ساعات والانطلاق من مطار تونس مثلا على ركوب الطائرة من مطار صفاقس.
** إنجاز ميناء المياه العميقة الموعود منذ فترة الاستعمار ، والذي كان جاهزا للإنجاز منذ ذلك الحين ، والتعلل اليوم برأي "الخبراء" ليس سوى مماطلة وتحويل للأنظار ووضع للعصي في  دواليب يوسف الشاهد وتعطيل إرادة رفع المظلمة .
**
غير أنه لا بد من القول أن سكان صفاقس المتشبثين بمدينتهم ومحيطها لا بد أن يأخذوا أمرهم بيدهم ، فعلى مر التاريخ وعدا مرات قليلة مثل تشييد سور المدينة من قبل الأغالبة في بدايات القرن التاسع ، وهو واحد من 5 أسوار عربية بقيت لليوم محيطة إحاطة كاملة بالمدينة العتيقة ، لا يذكر أن الحكومات المتعاقبة اهتمت بالمدينة ، وغابات الزيتون التي تعد مفخرة صفاقس والتي توفر قدرا من الزيت يتجاوز حجم غابة الزياتين  الوطنية التي تتجاوز عددا غابة صفاقس بأربع مرات باعتبار الانتاجية العالية والرعاية الموصولة  ، فهي من زرع أهالي المدينة وتصورهم لقيمة العمل ، كما إن ولاية عرفت بنتائجها العالية في الامتحانات الوطنية باستمرار وعلى مدى أحقاب ، وتأوي أول جامعة تونسية جاءت في الترتيب الدولي من بين الألف الأوائل عليها أن توكل للدولة العناية بأمرين اثنين :
1/ توفير هيكل أساسي كفيل بدعم المبادرة الفردية
2/ القيام بإنشاء ثلاثة مشاريع مصنعة كما حدث في كل الولايات حتى تلك التي تعتبر نفسها مهمشة ، وعلى سبيل الذكر فقد كانت صفاقس قبل الاستقلال معروفة بأن فيها أكبر مركزية كهرباء بعد العاصمة ، اندثرت وقامت سنترالات كهربائية في كل مكان إلا في صفاقس ،كما وعلى سبيل الذكر فقد أنشئت في عدد من الولايات صناعات الاسمنت وهي صناعات معروف أن لها تفرعات مهمة على منطقتها ، وأهمل إنشاء مثل هذه الصناعة في المدينة ومحيطها  ، ولم يعرض حتى على المستثمرين الأجانب مشروع من هذا القبيل بينما كان الترحيب بإنشائه في صفاقس قائما ، كما للمرء أن يتصور إنشاء مصنع للسيارات في مدينة مشهورة بصناعاتها الميكانيكية وبراعة أصحاب الورشات فيها ، وإني لأذكر عندما كانت "الصباح " تطبع في مطبعة "لابريس " في نهج باش حانبة ، أن قطعا من آلة السحب قد تعطبت  ، ولم يكن ممكنا وجودها في السوق بالنظر إلى أن آلة السحب مصنوعة في أول القرن الماضي وكان ميكانيكي إيطاليا معروف باسم جوجو هو الوحيد القادر على صيانتها ، وأذكر أنه وقتها أشار على مدير لابريس المرحوم عمر بلخيرية  بتصنيع تلك القطع في ورشة في صفاقس وهو ما تم ، واستمر العمل بآلة السحب سنوات عديدة  بعد ذلك ، حتى تم تجهيز لابريس بآلة سحب عصرية من فئة الاوفسات.
**
ثلاثة مبادرات لا يمكن أن توكل إلا لأبناء المدينة أو المنتسبين إليها حتى من ولدوا خارجها ويهزهم الحنين الدائم إليها :
** أيام دراسية سنوية على شاكلة تلك التي أنشأها منصور معلى في السبعينيات والتي أنتجت عدة مشروعات كانت تمت بلورتها وقتها ومنها جامعة صفاقس .
وإذ يمكن وضع تلك الأيام تحت رعاية ورئاسة شرفية لمنصور معلى أطال الله عمره ، فهو كفيل بالبحث عن الكفاءات التي يمكن أن تقودها  وأن تفرز عن طريقها مكتب دراسات قار ومستمر النشاط ،، ومن كبار وسامي موظفي الدولة ورجال الأعمال وعددهم ليس قليلا  ممن يحبون مسقط رأسهم القدرة على تصور مدينتهم ومحيطها في أفق 2050 ولم لا 2100،وبلورة المشروعات الثقافية   والتربوية والصناعية الكفيلة بأن تعيد للمدينة إشعاعها وأن تعطي أملا في المستقبل لمن يتخرجون منها فتمكنهم من أن يبدعوا فيها.
** إنجاز إذاعة وقناة تلفزيونية أهلية تكون رافدا مهما للجهة ولمكتب الدراسات المنبثق من الأيام الدراسية. ولا أخال أن رجال أعمال صفاقس  وغير صفاقس سواء في المدينة أو في الشتات سواء في البلاد التونسية أو خارجها ،عاجزون على توفير الاستثمار اللازم ، ولا الكفاءات الكثيرة في المجال الاعلامي سواء ، سواء من أصيلي المدينة أو من غيرها فكلنا تونسيون ، غير متوفرين بالعدد الكافي والقدرات والكفاءات الضرورية لقيادة مثل هذا المشروع الذي بنبغي أن يكون له إشعاع فوق وطني.
** إنشاء بنك في صفاقس يدعم المشروعات المطلوبة ، وكان بنك الجنوب قد فتح إدارته العامة في صفاقس بداية ، قبل أن ينقل إلى العاصمة ويضع اتحاد الشغل يده عليه ، وقبل أن يباع مفلسا إلى التجاري بنك المغربي. وهنا أيضا لا أخال أن رجال أعمال تونسيين وبنوك تونسية وخارجية لا تقبل على المساهمة في بنك يستقر بصفاقس لما تتسم به ، من سمعة عالمية جيدة  ونجاعة عالية في كل ما ينشأ فيها من مشروعات، آخرها ما عبر عنه السفير الفرنسي بتونس ، ولعل السيد منصور معلى الذي أنشأ في بضعة أشهر 4 أو 5 بنوك مع دول عربية ، لن يبخل لا بالمشورة ولا بالسعي ، وإن كانت الأمور أشد تعقيدا بسبب مواقف سياسية خاطئة  وعمى وقلة بصيرة ،  أقدمت عليها حكومات سابقة منذ التسعينيات ، أفقدت البلاد الكثير من إشعاعها ، وقدرتها على الاستقطاب.
انتهى




الأحد، 16 يوليو 2017

صفاقسيات : حرب ضد الزعامات حتى لا تقوم قائمة


صفاقسيات3/4
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
بمناسبة زيارة رئيس الحكومة الثانية إليها خلال بضعة أسابيع 
صفاقس .. هل يعود الاعتبار؟ (3)
بذهاب منصور معلى في 1974 إثر مؤتمر للحزب الدستوري ، أسمي مؤتمر الوضوح ، وتآمرت فيه زعامات محلية  صغيرة من صفاقس تم وعدها بمناصب على الصعيد الوطني ، انتهى نهائيا السند الذي كان يمكن أن تعتمد عليه البلاد ، فقد حصلت مؤامرة التسعة ، أي الدعوة لعدم التصويت في المؤتمر للذين يأتون على قائمة الترشح في المواقع 9 و19 و29 و39 و49 و59 و69 وكل من بعدهم ، وكانت الضحية الأولى منصور معلى ، المترشح على قائمة اللجنة المركزية في الموقع التاسع باعتباره عضو في الديوان السياسي ، وكان هذا المؤتمر جاء بعد أول مؤتمر ديمقراطي للحزب الدستوري منذ 1955 ، أي مؤتمر 1971 ، الذي افتك زمام المبادرة من أيدي جماعة بورقيبة والهادي نويرة ومحمد الصياح وعبد الله فرحات والطاهر بلخوجة بتحالف مع الحبيب عاشور زعيم المركزية النقابية الفاعلة .
ولقد انكشفت اللعبة بمحض الصدفة ، واتضحت ملامحها بوضوح ، فقد تم الاتفاق بين إدارة التحرير  في جريدة الصباح والمبعوث الخاص للمؤتمر الذي كان شخصي أنا ، على تجهيز قائمة المرشحين كاملة على صفحتين ( حجم تابلويد أيامها) وربحا للوقت أتولى إملاء  أسماء غير الناجحين فقط ، فتطبع بالحبر الأحمر، فظهرت اللعبة في أجلى واقعها ، وتبين الناس فظاعة اللعبة ، وأذكر أن الصفحتان بقيتا معلقتين في المغازات والمحلات وحتى بعض الإدارات ، مشيرة إلى كيفية من كيفيات تزييف الانتخابات ، وقد اتهمت أنا وعبد الجليل دمق بتدبير الأمر ، ولكن الواقع لم يكن كذلك ، وقمنا فقط هو وأنا بعمل احترافي ، أبرز ما تم تبييته بليل في أجهزة الحزب لاستبعاد شخصيات اعتبرت إما مشاكسة أو لها طموحات كبرى ،  وكان في وقته عبارة عن فضيحة بجلاجل.
غضب الهادي نويرة من الأمر ، ورغم تأكيدات صديقه الشخصي ، الحبيب شيخ روحه بأنه ليس في الأمر مؤامرة ، فلا يبدو أنه قد اقتنع ، كما يبدو أن منصور معلى نفسه لم يقتنع بتلك الصدفة وقتها.
**
غادر منصور معلى الحكومة كما كانت رغبة الهادي نويرة وما اعتبر توجه " ساحلي " ضد صفاقس  ، وباتت صفاقس  في نظر الكثير من أبنائها يتيمة ، ولم يستطع لا التيجاني مقني الذي فاز بمقعد في الديوان السياسي (1) ولا الهادي الزغل الذي سيعين في منصب كاتب الدولة في وزارة التربية بدون نفوذ فعلي تحت قيادة إدريس قيقة المتسلطة  ولفترة محدودة ، نفض إذن منصور معلى  يديه من صفاقس ، واعتبر أن له مستقبلا على الصعيد الوطني ، وربما الدولي ، وهذا ما دفعه لإنشاء المعهد العربي لرؤساء المؤسسات ، كحاضنة فكرية من مستوى دولي، وبنك تونس العربي الدولي الذي بات بسرعة أكبر بنوك تونس وأنشطها حتى الآن رغم افتكاكه ،  ولكن حتى هذه نازعه فيها الحكم ، فتسبب له زين العابدين بن علي ، في مغادرتها كمغادرة البنك الذي أنشأه منذ 1976 والانكفاء على ذاته ، وإن شده الحنين إلى مسقط رأسه في عام 1982  بعد عودته للسلطة في حكومة محمد مزالي  ، بمناسبة الفيضانات الطوفانية التي اجتاحت صفاقس ، وتسببت في أكثر من مائة قتيل ، فكان وهو وزير التخطيط مجددا  السبب في إنجاز حزام بورقيبة الذي تكلف 50 مليون دينار وقام بحماية المدينة من فيضانات كانت متكررة تتهددها عاما بعد عام .
**
بعد عبد المجيد شاكر وخاصة منصور معلى ، فهم سكان صفاقس ، أنه لم يكن مرغوبا أن يخرج منهم زعيم محلي يكون له فعل وطني ، وفهموا أنه ليس مرغوبا لهم ، أن تهتم بهم الدولة ولا أن تستثمر على أرضهم حتى في البنية الأساسية ، وهناك رغم ذلك من أقدموا على استثمارات محدودة سواء في ولايتهم أو في مناطق عديدة من البلاد.
**
كانت هناك محاولة أخرى لزعامة جديدة للمدينة ومحيطها في عهد بن ، فقد تصدر للمحاولة الجديدة عبد الله القلال  وزير الدفاع ثم وزير الداخلية وأخيرا رئيس مجلس المستشارين ، غير أن المحاولة فشلت لعدة أسباب :
أولها أن الرجل لم يكن يتمتع بكاريزما جاذبة
وثانيها أنه لم يكن مرغوبا زمن بن علي أكثر من زمن بورقيبة  قيام زعامة يمكن أن تؤدي إلى ظل يحجبه هو شخصيا
وثالثها أنه وبعد مغامرة التصنيف للجمعيات التي تصدر لها وانتهت بحل رابطة حقوق الانسان قبل التراجع غير المنتظم للحكومة والمتسم بأنه كان شائنا ، فقد كل شعبيته.
ورابعا تصدره في العام 1991 و1992 للتعسف ضد الاسلاميين وغيرهم من المعارضين والمحاكمات المفبركة وغير المقنعة ولا المستندة لقواعد المحاكمات العادلة استكمل فقدانه لكل أمل في الزعامة لا وطنيا ولا جهويا.
ومن مظاهر تحقير مدينة صفاقس ومنطقتها أن الاذاعة الجهوية التي تأسست منذ بداية الستينيات ،  على يدي مؤسس التوجه الثقافي الجديد الشاذلي القليبي  أطال الله عمره ،  وكانت منارة ثقافية ، وكان صوتها مسموعا في غالب أنحاء البلاد ، وفي ليبيا ، باتت شبحا لذاتها ، فقد تقلصت من إذاعة تبث على الموجة المتوسطة ، إلى إذاعة تبث على الأف آم بصوت غير مسموع لأكثر من 60 أو 70 كلم ، في وقت نجد إذاعات تبث على أف آم تبث في كامل أنحاء الجمهورية ، والفرع التلفزيوني التابع لتلك الاذاعة  الذي كم أثرى التلفزة التونسية بالبرامج والإبداعات أغلق أبوابه أو بقي في حكم المغلق.
والحياة الثقافية الزاخرة، لم تعد تلك التي عرفتها المدينة فيما قبل الستينيات وحتى في الثلاثينيات ، ومنذ تأميم الثقافة ، وغلق الجمعيات الثقافية الأهلية ، والتراث التاريخي كالسور ، والدور المبثوثة بجمالها في المدينة العتيقة ، لم تستغل سياحيا لا هي ولا الأبراج التاريخية ، أما البحر فحدث ولا حرج ، فقد كان ملجأ  ورئة على طول ما لا يقل عن  40 كيلومترا جنوب وشمال المدينة ، فجاءت كارثة السياب والان ب ك وحولته إلى مزبلة .
**
هجر الناس مدينتهم وكما بات التونسيون لا يرجون إلا مغادرة بلادهم للاستقرار في أي بلد في الخارج ، أصبح سكان صفاقس ، بعكس عاداتهم ينتظرون الفرص للالتحاق بالعاصمة أو سوسة والمهدية والمنستير حيث يستطاب العيش.
والمدينة التي كانت تعج بالحياة ، باتت ميتة بحق ، بإرادة مبيتة استمرت على مدى عشرات السنين ، وتبدو نتيجتها واضحة في ما ذكرنا طول الحلقات السابقة.
هل يمكن لهذه المدينة ، ومنطقتها أن تخرج من هذا التهميش ، وتعود كما كانت قاطرة للتنمية  لنفسها ولما يحيط بها  وللوطن بأكمله ، تفعل و تتفاعل .
 هناك وعد صريح من رئيس الحكومة  يوسف الشاهد برد الاعتبار للمدينة ولمحيطها بذله مرتين الأولى بمناسبة زيارة حدد فيها 40 مشروعا للإنجاز ليس فيها للحقيقة واحد مصنع ( بتشديد النون) والثاني بمناسبة تدشين معرض صفاقس الدولي ، وقد تولى بالمناسبة رئيس جمعية معرض صفاقس تعداد  ما تنتظره المدينة وجهتها من الدولة لرفع التهميش .
وهناك ما قاله  السفير الفرنسي بتونس أوليفياي بوافر دارفور في حوار حصري أدلى به مساء اليوم الأربعاء لديوان أف أم ان ولاية صفاقس تعد استثناء في صناعة الأدمغة وذلك نظرا الى ريادتها وطنيا في عدة مناظرات على غرار الباكالوريا... .
وأضاف دارفور أن النتائج المحققة في التعليم الأساسي والثانوي والعالي بولاية صفاقس جعلته يفكر في استراتيجية لصنع محور تعاون بين الجامعات في صفاقس وكبرى الجامعات الفرنسية مشيرا الى أنه بإمكان صفاقس أن تتحول الى 'سيليكون فالي ' Silicon vallée  تونس.

وأفاد بأنه سيتم افتتاح المدرسة الفرنسية بصفاقس خلال شهر سبتمبر المقبل بالإضافة الى تدشين مشروع المعهد العالي الفرنسي بصفاقس والذي سيكوّن المهندسين خلال سنة 2018.





غير أن  لصفاقس دينا كبيرا على فرنسا لا بد أن تسدده :
أولا آثار الحرب التي شهدتها صفاقس بين 14 و16 جويلية 1881 والتي انتهت إلى مقتل 931 من سكان المدينة حسب المصادر الفرنسية ذاتها من بين 10 آلاف ساكن كانوا يعمرونها وقتها ، وما اضطرت من دفعه من غرامات ثقيلة لفرنسا لم تدفع مدينة تونسية مثيلا لها.
ثانيا ضرورة رفع الستار عن أسماء  قتلة الهادي شاكر من الفرنسيين  في عملية غادرة في نابل وهو في إقامة جبرية تحت الحراسة الفرنسية ، وإذ عرف القتلة من التونسيين ونالوا جزاءهم في محاكمة علنية عادلة فإن الجانب الفرنسي من المراقب المدني في صفاقس غانتاس والمراقب الفرنسي في نابل وأعوانهما والمقيم العام ديهوتكلوك ووزارة الخارجية ووزارة الداخلية في باريس بمن فيهما الوزيران آنذاك اللذان أعطيا الموافقة على هذا الاغتيال لا بد أن يعرفوا بالأسماء ولا بد في غياب المحاسبة القانونية أن يحاسبوا أمام التاريخ وأن يقع الاعتذار الفرنسي من هذا الاغتيال هو واغتيال فرحات حشاد ابن ولاية صفاقس هو الآخر.
لكن لا بد من القول لإنهاء التهميش من القول إن إرادة سكان المدينة ومحيطها  غير كافية ، وككل جهة متروكة حتى لا نقول مهمشة تحتاج إلى جهد وطني ، كبير ، فالمشروعات للهيكل الأساسي لا يمكن أن تقوم بها إلا الدولة ، والصناعات المصنعة ، لا بد لها من دفع الدولة.
ومن نافلة القول ، أن أبناء الجهة سواء من الباقين فيها أم من دفعت بهم رياح الأيام لمغادرتها ، أن يكونوا على أهبة الاستعداد للمساهمة بالرأي قبل أي شيء آخر: لماذا لا تعود أيام التنمية السنوية  التي أنشأها منصور معلى  وجزت تحت ساقي المدينة ، لتصور ، بلورة ، والبحث عن منفذين ، لبرامج طموحة ، لماذا لا تتحول المدينة وضواحيها ومنطقتها إلى دور فاعل في الثورة الرقمية العالمية ، وهي تعج بالعقول النيرة ، لماذا لا تقام مدينة للإعلام تكون منارة في هذه البلاد تشع تونسيا وعربيا وإفريقيا وحتى عالميا على غرار مكتبة الاسكندرية وما يحيط بها  ، لماذا ، لا يحصل السعي لإنشاء مدينة للعلوم ، كما تم في العاصمة بتمويل فرنسي ، وفرنسا تسعى اليوم لإعادة تركيز مدرسة لها في صفاقس ، ولم لا جامعة ، كما جاء على لسان سفيرها بتونس؟
أسئلة ، لا يمكن أن يجيب عنها إلا طلائعيين منها ، ولكن من سيقود السفينة؟ هل منصور معلى  أطال الله عمره ما زال يتمتع برغبة وقدرة على ذلك أم إن رجالا من أجيال جديدة سيتولون المهمة؟
الحلقة الثالثة : الأسبوع المقبل





( 1) التيجاني مقني هو الذي كلف في مجلس الأمة  بدفع من جهات معلومة مقربة من بورقيبة ومن الحكومة باقتراح قانون دستوري في 1975 يمكن بورقيبة من الرئاسة بقية الحياة ، واعتبر في صفاقس قبل غيرها وصمة عار.





الثلاثاء، 11 يوليو 2017

صفاقسيات : رفض المركز لزعامة وطنية من صفاقس

صفاقسيات 2/4
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
بمناسبة زيارة رئيس الحكومة الثانية إليها خلال بضعة أسابيع 
صفاقس .. هل يعود الاعتبار؟ (2)
لقد لاحظت من مدة طويلة أن أخشى ما يخشاه أبناء صفاقس هو أن يقع اتهامهم بالجهوية ، ورغم أن الانتساب للجهات المختلفة عام في البلاد ، فإن الصفاقسية يلامون على جهويتهم عندما تبرز من حين لآخر في مطالبات أو افتخار بالجهة واعتمادها على نفسها ، وقدرتهم على العمل وإتقانه ناهيك أنهم يسجلون سنة بعد سنة  وبدون انقطاع أفضل النتائج في الامتحانات الوطنية  بما فيها هذا العام 2017 حيث تم ترتيب صفاقس الأولى في الباكالوريا والأولى في البروفي والأولى في السيزيام وتفوق 4 من 7 في الباكالوريا ونالوا جوائز رئيس الجمهورية ، كما اعتبرت جامعة صفاقس ترتيبا عالميا بين الألف الأوائل حسب أكبر مقياس لترتيب الجامعات في العالم ، وهي وجامعة المنار الوحيدتان في تونس فبين المراتب الألف الأولى.
وكان بورقيبة عندما التحق به الهادي شاكر في مؤتمر قصر هلال التأسيسي أو الانشقاقي عبر عن اطمئنانه على سير الحركة بانضمام صفاقس إليه ، وكان يقول في كل مرة أنه يعلن قراراته الهامة من صفاقس لضمان نجاحها ، وقد دأب خلفه زين العابدين بن علي على إعلان ذلك ،
ويعتقد الكثيرون اليوم أن نجاح الثورة في 2016/2017 يعود إلى ثلاثة عوامل متضافرة :
** انطلاقة يوم 17 ديسمبر 2016 من سيدي بوزيد
** هزة كبرى بسبب الأيام الدموية في تالة في جانفي 2017
** المظاهرة الضخمة في صفاقس يوم 12 جانفي التي سار فيها حسب التقديرات بين 40 و100 ألف متظاهر من أمام محطة الأرتال حتى ليسي طريق قابس أي حوالي ما بين 2 إلى 3 كيلومتر ، والتي يعتبرها الكثيرون الفعل الحاسم في نجاح الثورة ، فيما مظاهرة تونس يوم 14 جانفي بالعاصمة كانت الضربة القاصمة للنظام السابق ( وفي نظر الكثيرين إنه ترنح ولكنه حافظ على توازنه وبقائه) .
صفاقس احتضنت عدة ثورات في تاريخها ، إحداها ضد الاحتلال النورماني الذي سيطر على المدينة في 14 جويلية 1148 ، ولكن حاربه أهلها حتى انتصروا وأطردوا النصارى  كما كان يقال لهم في حينه ، وفي 1864 وتزامنا مع ثورة علي بن غذاهم ثارت صفاقس ضد الباي وتزعم الثورة الباي عسل وقاضي القضاة عبد العزيز الفراتي ، ولكن الباي تغلب عليها ، وفي 16 جويلية 1881 اقتحمت البحرية الفرنسية صفاقس عنوة ، بعد أن رفض أهلها منذ 12 ماي من تلك السنة ما وقع عليه الصادق باي من استسلام لفرنسا ، واستنجدوا بالباب العالي في الاستانة دون جدوى ، ورغم الغرامات الثقيلة سواء في 1864 أو 1881 فإن المدينة وما وراءها استطاعا الوقوف على القدمين مجددا ، ومنذ 1920 وقيام حزب الدستور بزعامة الثعالبي ، وإيفاد وفد لباريس تيمنا بما حصل في مصر على يدي سعد زغلول الذي قاد وفدا للندن ، وتسمية حزبه بحزب الوفد ، انضم سكان صفاقس للحركة الوطنية ، وسرعان ما انضمت أغلبيتها للدستور الجديد بزعامة الهادي شاكر ، وكان رجلا يتمتع بكريزما قوية على بساطة محببة ، وبرز الرجل ليس فقط كزعيم محلي بل كزعيم وطني ، فقد كان ضمن الزعامات الوطنية الكبرى التي تم نفيها لبرج البوف ، ثم لقلعة سان نيكولا  قرب مرسيليا بعد أحداث 9 أفريل  1938، وإذ حضر كل مؤتمرات الحزب الدستوري الجديد فقد برز في مؤتمر دار سليم ، الذي كف يد بورقيبة عن التصرف المالي ، لسلوكه الأخرق من الناحية المالية ، ثم إنه ترأس مؤتمر 18 جانفي 1952 الذي يعتبر مؤتمرا حاسما لأنه أعلن الثورة والمرحلة الحاسمة منها بانطلاق الكفاح المسلح.
وإذ تم اغتياله في 13 سبتمبر 1953 أي 9 أشهر بعد فرحات حشاد ، أصيل ولاية صفاقس هو الآخر ، فإنه كان دائم الحضور في كل المعارك ، بما فيها معركة 1947 التي قادها الحبيب عاشور في صفاقس ضد أحد أبغض المظاهر الاستعمارية ، والتي انتهت بسقوط عدة عشرات من القتلى في مواجهة غير متكافئة مع القوات الاستعمارية .
وكان لصفاقس دور المؤسس للإتحاد العام التونسي للشغل ، فقد تأسس فيها على أيدي فرحات حشاد وعبد العزيز بوراوي ومحمد كريم والحبيب عاشور وغيرهم ، قبل أن ينتقل للعاصمة تونس ، كما كان لها دور حاسم في تأسيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة صحبة الجيلاني بالحاج عمار عن طريق علي السلامي ومحسن الفراتي .
وبقطع النظر عن تقييم الخلاف البورقيبي اليوسفي ، والذي لا يعدو أن يكون صراعا على الزعامة من وجهة نظرنا ، فإن موقف صفاقس إلى جانب بورقيبة في سنة 1954 وتولي تنظيم مؤتمر الحزب الدستوري بين أحضانها  في نوفمبر 1955، مكن البلاد من تجاوز أزمة كان يمكن أن تعصف بها وبمقدراتها.
**
لذلك فإن صفاقس تاريخيا وحاضرا لم تكن مقصرة في مواقفها الوطنية ، وهو ما يدفع أهلها للتساؤل عن أسباب هذا التجاهل على مدى أكثر من 60 سنة  ، وتركها دون استثمارات عمومية وطنية ، بل وإهمالها ، كمدينة وولاية يمكن أن تكون قاطرة للتنمية الذاتية و في الجهات المحيطة بها ، وعلى المستوى الوطني.
وكان الديوان السياسي للحزب الدستوري وبعد خطاب منديس فرانس في 31 جويلية 1954 ، وعودة حزب الدستور للنشاط ودخول أعضاء منه للحكومة التفاوضية ، قد قرر اعتبار يوم 13 سبتمبر من كل سنة عيدا للشهداء ، وفقا لخبر نشرته جريدة الصباح في حينه ، ووفقا لما جاء في كتاب عبد المجيد شاكر " الهادي شاكر جهاد واستشهاد ". و 13 سبتمبر يوافق يوم اغتيال الهادي شاكر وذلك اعترافا من الديوان السياسي بدور الرجل.
غير أن " المجاهد الأكبر " وبعد عوده التاريخية في 1 جوان 1955 ، ألغى ذلك القرار ، ولعل وراء ذلك أساب موضوعية وأخرى ذاتية :
الأولى أنه أي بورقيبة أراد أن يربط الذكرى بحدث 9 أفريل 1938 الذي قتل فيه عدة عشرات بمناسبة مظاهرات للمطالبة ببرلمان تونسي.
أما الثانية فتتمثل أنه كظم غيظا شديدا على كل من المنجي سليم والهادي شاكر ، واعتبرهما المسؤولان الاثنان عن كف يده في التصرف في الأموال عند إقامته في مصر بين 1945 و  1949  ، وتحويل ذلك التصرف إلى الدكتور الحبيب ثامر وهو قريب  المنجي سليم ، وهي أموال كانت متأتية من مساعدات الجامعة العربية والحكومة المصرية وحكومات عربية أخرى ، بعد أن لوحظ أنه لا يحسن التصرف ، وهو ما أثبته المناضل المرحوم حسين التريكي ابن بلده المنستير في كتاباته العديدة.
كان ذلك ما أثار حفيظة بورقيبة ضد المنجي سليم وضد  الهادي شاكر، وضد مدينته بعد طول تقدير ومحبة ، وبعد أن بدا له أن قيادة تونس تآمرت عليه أيام هجرته.
**
لم يكن ذلك كله كافيا لولا عاملان اثنان آخران :
أولهما أن بورقيبة حارب طيلة حياته قيام زعامات محلية أو سياسية إلا في منطقته أي الساحل ، وتونس التي اضطر للتحالف معها منذ مؤتمر صفاقس الشهير في خريف 1955، وهو تحالف غير متكافئ باعتبار أن اليد الطولى كانت لبورقيبة .
وثانيهما أن الصفاقسيين لم يقصروا في ضرب بعضهم البعض ، فبعد أن برز عبد المجيد شكر كزعامة محلية ذات وزن ، خاصة لأسباب وراثية ، تم ضرب صعوده ، فمنذ الاستقلال الداخلي كانت وزارة الداخلية تسند عادة لمدير الحزب الدستوري ، وبهذه الصفة أسندت للمنجي سليم أولا ثم بعده للطيب المهيري ، وكلاهما من العاصمة تونس ، وعندما جاء الدور بعد وفاة الطيب المهيري على مدير الحزب آنذاك وكان يشغل الخطة عبد المجيد شاكر ، اتجه الأمر وجهة ثانية ، على أساس أن التوازنات الجهوية  تقتضي بقاء وزارة الداخلية في تونس ، وبالتالي تم تعيين الباجي قائد السبسي في المنصب ، وإن كان للحقيقة أن عبد المجيد شاكر فقد توازنه منذ مؤتمر الحزب  الدستوري في خريف 1964 ، وتم توزيره في وزارة ثانوية.
غير أن من كان مؤهلا فعلا لزعامة الجهة كان منصور معلى ، الذي تقلب في عدة مسؤوليات عليا برز منها كرجل دولة فعلي ، ولكنه لم يبلغ أشده إلا بعد وصول الهادي نويرة للوزارة الأولى ، فبعد وزارة البريد والبرق والهاتف ، التي شرع في إدخال إصلاحات كبرى عليها ، أهمها  محاولة تحويل الصكوك البريدية إلى بنك شعبي ، بوصفها أكبر مركز للودائع في البلاد ويمكن استخدامه كبنك استثمار بهذه الصفة ، وهو إصلاح ثوري لم يتحقق للآن ، ولا يبدو أنه سيتحقق يوما ، عرض عليه منصب وزير التخطيط ، وإذ قبل بالمنصب لطموحاته الكبيرة لما يمكن أن يحققه للبلاد ، فإن نشر التشكيلة الحكومية كوزير معتمد لدى الوزير الأول ( الهادي نويرة) للتخطيط جعله يرفض ، ولا يقبل إلا بوزارة كاملة غير خاضعة لأحد إلا كوزير كبقية الوزراء ، وبعد أخذ ورد رضخ الهادي نويرة ، ولكن بدفع من بورقيبة الذي كان يرى في الرجل شابا مندفعا مليئا بالوعود.
خلال تلك الفترة من بداية السبعينيات ، تولى منصور معلى صحبة فريق أشبه ما يكون بمكتب دراسات متطور ، إعداد أول تخطيط علمي ، بأهداف واضحة مرقمة ، غير أنه اصطدم بداية بمن هاجمه داخل حزب الدستور ، على أساس أنه أشار إلى نواح إيجابية في عشرية الستينيات ينبغي البناء عليها  أي عشرية أحمد بن صالح ( الذي كان يكن عداء شديدا لمعلى )، لكن تمت لفلفة الأمر، وشرع منصور معلى في تنفيذ مخطط اعتبر مع مخطط بداية الثمانينيات الذي أشرف على إعداده منصور معلى أيضا بعد سنوات من الغياب عن الوزارة ، ومخطط التسعينات بإشراف مصطفى كمال النابلي أفضل وزير تخطيط عرفته تونس ، أفضل المخططات التي عرفتها البلاد شكلا ومبنى .
لكن منصور معلى لم يكتف بذلك بل إنه أسس لأيام دراسية سنوية لمدينة صفاقس ، قدمت مجموعة مشروعات متكاملة ، للتنفيذ بمشاركة حكومية ، وجهات جهوية ، من بينها إنشاء كلية للطب ونواة جامعية وعدة مؤسسات صغرى يمكن أن تكون نواة لصناعات كبرى وذلك انطلاقا من المكامن الموجودة ومن التقاليد الصناعية القائمة ، وبدا أن الرجل لا يسير في الاتجاه الذي ترغبه السلطة ، فقد برز كزعامة جهوية  فرضت نفسها وكان لا بد من التخلص منها ، كما إن المشروعات التي قدمها بدراسات جاهزية متكاملة ، لم تكن في السياق الذي ترغب فيه السلطة من تأهيل جهة قد تلعب دورا ، أكبر مما يريد بورقيبة واللوبي الساحلي.
( يتبع)
( الحلقة  الثالثة : الأسبوع المقبل )



الأربعاء، 5 يوليو 2017

صفاقسيات : الإهمال المقصود

صفاقسيات
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
بمناسبة زيارة رئيس الحكومة الثانية إليها خلال بضعة أسابيع  
صفاقس .. هل يعود الاعتبار؟ (1)
في جوان 2011 كنت في زيارة للعائلة وأصدقاء الطفولة ، وحتى الكهولة في " مدينة " صفاقس ، التي تحولت رغم الانفجار العمراني إلى ريف ،، ممتد ، قائم على تكاثر سرطاني المظهر، عندما اتصل بي بعض من الأصدقاء ودعوني على قهوة في فندق الزيتونة ، أقدم وأشهر وأفخم فنادق صفاقس ، خاصة بعد اللمسات التي أدخلها عليه رجل الأعمال عادل بوصرصار ، وفاء لمدينته لا توقعا لنيل مكسب من هذا الاستثمار الضخم.
في الموعد المعين كنت جالسا ومن حولي مجموعة من مثقفي صفاقس ، ومن رجالاتها ، وبدا لي وكأني موضع اتهام ، فقد لاموا بأننا نحن أبناء صفاقس الذين رمت بهم أمواج الحياة على شواطئ العاصمة ، أهملنا مدينتنا مسقط رأسنا ، ولم نهتم بها ، وتركناها تتحول إلى قرية شاسعة ، ليس فيها مقومات حياة اقتصادية أو ثقافية جديرة بمدينة بهذا الحجم والتاريخ  .. بلا اهتمام من حكومات متعاقبة ، وبلا استثمارات منتجة عمومية ، بل " بتقصيب" ( هكذا الكلمة ) لأجنحتها التي نبتت لها زمن الاستعمار  وقبله ، كانت لهجة فيها لوم ، وفيها عتاب ، وأحيانا فيها هجوم لم أر له المبرر.
أحدهم ممن كان أستاذ تاريخ قال لي .. " كانت صفاقس قطبا مهما سنوات الخمسين ، وكانت معدة لتكون قاطرة للبلاد كلها ، وكان المطار الدولي على وشك التنفيذ ، وكان ميناء المياه العميقة على أهبة للانجاز ، ولكن لم تتحقق إلا كارثة سياب التي سممت الأجواء فتحولت جنائن طريق قابس إلى قاع صفصفا ، وأردفت سياب بـ أ ن ب ك فقتلت شواطئ كانت تعج بالمصطافين وحولتها إلى جبال من الفوسفوجيبس ، ومنعت على السكان حقهم في "الرفاه" .
وأضاف المتحدث بحماس : " يبدو الأمر وكأنه مؤامرة ضد المدينة ، التي تعتبر كلها متحفا مفتوحا بسور دائري هو الأقدم والأكبر في العالم العربي ، ودور فاخرة كان يمكن استغلالها بعد أن هجرها سكانها "  إلى المديـنة " الأوروبية " والضواحي وسألني :     " هل تعرف أن أول إذاعة في البلاد انطلق صوتها من مدينة صفاقس ، قبل تونس العاصمة ، على يدي خواص ، وكانت تبث من فوق صومعة السوق المركزية ، وأن أول مسابقات ملكات الجمال كانت في صفاقس ، وأن حياة ثقافية مزدهرة بأكثر من عشر جمعيات نشيطة كانت فيها مكتبات زاخرة ، وحركة مسرحية لا تهدأ  ، ومسرح في غاية الجمال هدمته الحرب العالمية الثانية ، وحركة لنوادي السينما بقيادة الطاهر شريعة الأب الفعلي لمهرجان قرطاج السينمائي ، كل هذا ذهب إلى غير رجعة ، بعد تأميم الثقافة بإنشاء اللجان الثقافية الحكومية منذ منتصف الستينيات ، وحل كل تلك الجمعيات التي كانت سندا ثقافيا قويا مشعا على كامل البلاد ، وتساءل أين هي عشرات ألوف الكتب التي كانت تملأ رفوف جمعية الثقافة والتعاون المدرسي وجمعية الاتحاد الصفاقسي الزيتوني ، واللخمية ، والمكتبة العمومية ، أين ذلك النشاط الجم الذي اختفى ، واختفى معه الدور الرائد لمدينة كانت على مر القرون مصدرا للعلم ومنارة للثقافة عن طريق سيدي إسحاق الجبنياني ومحمد الشرفي الكبير عالم الرياضيات والخرائط وابنه الذي ما زالت نظرياته الرياضية تدرس في الجامعات العالمية بعد مرور 500 سنة على وفاتهما ، أين أثر سيدي علي النوري شطورو عالم البحار ، أين أثر عبد العزيز الفراتي الكبير بين القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ولا حديث لا عن الشيخ مقديش ولا عن غيره من العلماء ؟"
كان الحديث مؤثرا وأنا الذي عشت ثلاثة أرباع عمري بعيدا عن مسقط رأسي ، كم أشعر بالحنين لمدينتي ، وكم أشعر بالإحباط لإهمال العناية بها منذ الاستقلال ، ولكن ذلك الاحباط تحول عندي وعند غيري إلى شعور بالاستسلام .
وإذ راجعت نفسي ، فإني لم أتوان عن تحميل أبناء صفاقس ، من بقي منهم بها ، وعشرات الآلاف   (البعض يقول مئات الآلاف) ممن غادروها ( وصفهم البعض من الحاضرين يومها  بالدياسبورا الشتات) ، بعض المسؤولية ، وذلك اعتبارا لعدة معطيات :
** إن صفاقس تاريخيا لم تلعب دورا سياسيا لا بارزا ولا غير بارز في الحياة التونسية ، ولا حتى في الفترة التي كانت فيها تابعة للإيالة الطرابلسية ، قبل عودتها لمكانها الطبيعي ضمن العائلة التونسية ، وهي لم تكن قط مؤثرة في القرار السياسي الوطني ، مثل العاصمة تونس التي يعتبر الوطن القبلي وباجة وجـــندوبة وبنزرت من أطرافها ، ومثل الساحل ، وعلى مدى قرنين ونصفا فإن حكام تونس كانوا إما من العاصمة أو من الساحل ، إلا لفترة قصيرة بعد الاحتلال الفرنسي حيث تولى الوزارة الكبرى إثنان من أبنائها هما محمد العزيز بوعتور ثم ابن أخيه محمد بوعتور، ويبدو أنهما لم يفيدا كثيرا لا مدينتهما ولا جهتها ، وحتى آل الجلولي الذين تولوا الوزارة و القيادة  فإنهم اعتبروا أنفسهم من أبناء العاصمة ، ولم تعرفهم صفاقس إلا بالتعسف إزاءها سواء أثناء ثورة 1864 أو عند مقاومة الاستعمار الفرنسي خلا حرب ماي/ جويلية 1981 وهي حرب انتهت بدخول الجيش الفرنسي للمدينة في 16 جويلية 1881 بمساعــدة من القائد ( الوالي ) احسونة الجلولي  ( كان مفترضا دخولها يوم 14 جويلية العيد الوطني الفرنسي لكن تأخر يومين لبسالة المقاومة وامتناع الأسوار) ، وهي حرب قتل فيها ما بين 900 وألف من سكان المدينة التي كان عدد سكانها وقتها لا يزيد عن 10 آلاف ساكن.

وكان الأمر والنهي زمن البايات في الشأن الخاص بصفاقس عائدا إلى سوسة ، ومحاكمة وسجن الثوار من صفاقس في ثورة 1864 تم في سوسة علي يدي الجنرال زروق ، وتعتبر صفاقس مدينة مشاكسة ، بما في ذلك في فترة الاستعمار الفرنسي ، فهي لم تستسلم إلا بعد حرب ضروس غير متكافئة .
** إن صفاقس في اعتبار حكام تونس كانت تعتبر دوما مكتفية بذاتها ، وهي مصدر للضرائب ومن هذه الناحية فهي دوما مستسلمة ، دليل ذلك قسط ما تدفعه اليوم من أداءات سواء بالنسبة لعدد سكانها ، أو بالنسبة لمجموع الثروة فيها ، ما يسمى اليوم الناتج ، فقد كانت لها  قبل الاستعمار علاقات تجارية واسعة وبعيدا عن قرار العاصمة ، مع الاسكندرية والشام ومالطة والممالك الايطالية ، وهناك جاليات من أصل تونسي تنتسب إلى صفاقس لليوم في طرابلس ومصر والشام ، وكان بورقيبة يتزود بالمال أثناء إقامته منفيا في مصر  من عائلات من أقارب الهادي شاكر ذوي الأصول المصرية ومن عائلات من أصل صفاقسي مثل عائلات كمون والميلادي والسلامي وغربال وغيرها وبعضها وصل الوزارة في مصر. وبالتالي فهي ليست في حاجة لاستثمارات حكومية ، ولذلك بقيت في هيكلها السياسي متخلفة ، فمداخلها أي المدينة و من كل الجهات تشكو الضيق ، فيما كل المدن وحتى القرى تتمتع بمداخل ذات اتجاهين تسمح بتيسير المرور ، وهي مدينة مختنقة كامل الاختناق ولا تتوفر رغم أنها تعج بحوالي المليون نهارا إلا بمحول واحد بين متساكنين ووافدين ومجرد مارين
** لقد عوقبت صفاقس ، فمنذ الاستقلال لم تعد تعتبر من الساحل ولا من الجنوب ، وشركة صفاقس قفصة التي كانت إدارتها العامة في المدينة منذ إنشائها في أواخر  القرن التاسع عشر  ، نقلت إلى قفصة بمبرر أن تكون قريبة من  موقع الانتاج ، قبل أن تنقل إلى العاصمة ، كما إن الصناعات الكيمياوية اختارت مقرا لإداراتها لها بتونس ، وهي إذ تلوث بالأساس صفاقس وقابس فإن دخلها البلدي يذهب لغيرها.
ورغم أن ميناء صفاقس هو أكبر ميناء للتصدير في البلاد ، فإن السلطة اختارت سوسة لتكون مركزا رئيسيا للديوانة ، تتبعه صفاقس.
(يتبع)
( الحلقة الثانية بعد أسبوع )