Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأربعاء، 5 يوليو 2017

صفاقسيات : الإهمال المقصود

صفاقسيات
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
بمناسبة زيارة رئيس الحكومة الثانية إليها خلال بضعة أسابيع  
صفاقس .. هل يعود الاعتبار؟ (1)
في جوان 2011 كنت في زيارة للعائلة وأصدقاء الطفولة ، وحتى الكهولة في " مدينة " صفاقس ، التي تحولت رغم الانفجار العمراني إلى ريف ،، ممتد ، قائم على تكاثر سرطاني المظهر، عندما اتصل بي بعض من الأصدقاء ودعوني على قهوة في فندق الزيتونة ، أقدم وأشهر وأفخم فنادق صفاقس ، خاصة بعد اللمسات التي أدخلها عليه رجل الأعمال عادل بوصرصار ، وفاء لمدينته لا توقعا لنيل مكسب من هذا الاستثمار الضخم.
في الموعد المعين كنت جالسا ومن حولي مجموعة من مثقفي صفاقس ، ومن رجالاتها ، وبدا لي وكأني موضع اتهام ، فقد لاموا بأننا نحن أبناء صفاقس الذين رمت بهم أمواج الحياة على شواطئ العاصمة ، أهملنا مدينتنا مسقط رأسنا ، ولم نهتم بها ، وتركناها تتحول إلى قرية شاسعة ، ليس فيها مقومات حياة اقتصادية أو ثقافية جديرة بمدينة بهذا الحجم والتاريخ  .. بلا اهتمام من حكومات متعاقبة ، وبلا استثمارات منتجة عمومية ، بل " بتقصيب" ( هكذا الكلمة ) لأجنحتها التي نبتت لها زمن الاستعمار  وقبله ، كانت لهجة فيها لوم ، وفيها عتاب ، وأحيانا فيها هجوم لم أر له المبرر.
أحدهم ممن كان أستاذ تاريخ قال لي .. " كانت صفاقس قطبا مهما سنوات الخمسين ، وكانت معدة لتكون قاطرة للبلاد كلها ، وكان المطار الدولي على وشك التنفيذ ، وكان ميناء المياه العميقة على أهبة للانجاز ، ولكن لم تتحقق إلا كارثة سياب التي سممت الأجواء فتحولت جنائن طريق قابس إلى قاع صفصفا ، وأردفت سياب بـ أ ن ب ك فقتلت شواطئ كانت تعج بالمصطافين وحولتها إلى جبال من الفوسفوجيبس ، ومنعت على السكان حقهم في "الرفاه" .
وأضاف المتحدث بحماس : " يبدو الأمر وكأنه مؤامرة ضد المدينة ، التي تعتبر كلها متحفا مفتوحا بسور دائري هو الأقدم والأكبر في العالم العربي ، ودور فاخرة كان يمكن استغلالها بعد أن هجرها سكانها "  إلى المديـنة " الأوروبية " والضواحي وسألني :     " هل تعرف أن أول إذاعة في البلاد انطلق صوتها من مدينة صفاقس ، قبل تونس العاصمة ، على يدي خواص ، وكانت تبث من فوق صومعة السوق المركزية ، وأن أول مسابقات ملكات الجمال كانت في صفاقس ، وأن حياة ثقافية مزدهرة بأكثر من عشر جمعيات نشيطة كانت فيها مكتبات زاخرة ، وحركة مسرحية لا تهدأ  ، ومسرح في غاية الجمال هدمته الحرب العالمية الثانية ، وحركة لنوادي السينما بقيادة الطاهر شريعة الأب الفعلي لمهرجان قرطاج السينمائي ، كل هذا ذهب إلى غير رجعة ، بعد تأميم الثقافة بإنشاء اللجان الثقافية الحكومية منذ منتصف الستينيات ، وحل كل تلك الجمعيات التي كانت سندا ثقافيا قويا مشعا على كامل البلاد ، وتساءل أين هي عشرات ألوف الكتب التي كانت تملأ رفوف جمعية الثقافة والتعاون المدرسي وجمعية الاتحاد الصفاقسي الزيتوني ، واللخمية ، والمكتبة العمومية ، أين ذلك النشاط الجم الذي اختفى ، واختفى معه الدور الرائد لمدينة كانت على مر القرون مصدرا للعلم ومنارة للثقافة عن طريق سيدي إسحاق الجبنياني ومحمد الشرفي الكبير عالم الرياضيات والخرائط وابنه الذي ما زالت نظرياته الرياضية تدرس في الجامعات العالمية بعد مرور 500 سنة على وفاتهما ، أين أثر سيدي علي النوري شطورو عالم البحار ، أين أثر عبد العزيز الفراتي الكبير بين القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ولا حديث لا عن الشيخ مقديش ولا عن غيره من العلماء ؟"
كان الحديث مؤثرا وأنا الذي عشت ثلاثة أرباع عمري بعيدا عن مسقط رأسي ، كم أشعر بالحنين لمدينتي ، وكم أشعر بالإحباط لإهمال العناية بها منذ الاستقلال ، ولكن ذلك الاحباط تحول عندي وعند غيري إلى شعور بالاستسلام .
وإذ راجعت نفسي ، فإني لم أتوان عن تحميل أبناء صفاقس ، من بقي منهم بها ، وعشرات الآلاف   (البعض يقول مئات الآلاف) ممن غادروها ( وصفهم البعض من الحاضرين يومها  بالدياسبورا الشتات) ، بعض المسؤولية ، وذلك اعتبارا لعدة معطيات :
** إن صفاقس تاريخيا لم تلعب دورا سياسيا لا بارزا ولا غير بارز في الحياة التونسية ، ولا حتى في الفترة التي كانت فيها تابعة للإيالة الطرابلسية ، قبل عودتها لمكانها الطبيعي ضمن العائلة التونسية ، وهي لم تكن قط مؤثرة في القرار السياسي الوطني ، مثل العاصمة تونس التي يعتبر الوطن القبلي وباجة وجـــندوبة وبنزرت من أطرافها ، ومثل الساحل ، وعلى مدى قرنين ونصفا فإن حكام تونس كانوا إما من العاصمة أو من الساحل ، إلا لفترة قصيرة بعد الاحتلال الفرنسي حيث تولى الوزارة الكبرى إثنان من أبنائها هما محمد العزيز بوعتور ثم ابن أخيه محمد بوعتور، ويبدو أنهما لم يفيدا كثيرا لا مدينتهما ولا جهتها ، وحتى آل الجلولي الذين تولوا الوزارة و القيادة  فإنهم اعتبروا أنفسهم من أبناء العاصمة ، ولم تعرفهم صفاقس إلا بالتعسف إزاءها سواء أثناء ثورة 1864 أو عند مقاومة الاستعمار الفرنسي خلا حرب ماي/ جويلية 1981 وهي حرب انتهت بدخول الجيش الفرنسي للمدينة في 16 جويلية 1881 بمساعــدة من القائد ( الوالي ) احسونة الجلولي  ( كان مفترضا دخولها يوم 14 جويلية العيد الوطني الفرنسي لكن تأخر يومين لبسالة المقاومة وامتناع الأسوار) ، وهي حرب قتل فيها ما بين 900 وألف من سكان المدينة التي كان عدد سكانها وقتها لا يزيد عن 10 آلاف ساكن.

وكان الأمر والنهي زمن البايات في الشأن الخاص بصفاقس عائدا إلى سوسة ، ومحاكمة وسجن الثوار من صفاقس في ثورة 1864 تم في سوسة علي يدي الجنرال زروق ، وتعتبر صفاقس مدينة مشاكسة ، بما في ذلك في فترة الاستعمار الفرنسي ، فهي لم تستسلم إلا بعد حرب ضروس غير متكافئة .
** إن صفاقس في اعتبار حكام تونس كانت تعتبر دوما مكتفية بذاتها ، وهي مصدر للضرائب ومن هذه الناحية فهي دوما مستسلمة ، دليل ذلك قسط ما تدفعه اليوم من أداءات سواء بالنسبة لعدد سكانها ، أو بالنسبة لمجموع الثروة فيها ، ما يسمى اليوم الناتج ، فقد كانت لها  قبل الاستعمار علاقات تجارية واسعة وبعيدا عن قرار العاصمة ، مع الاسكندرية والشام ومالطة والممالك الايطالية ، وهناك جاليات من أصل تونسي تنتسب إلى صفاقس لليوم في طرابلس ومصر والشام ، وكان بورقيبة يتزود بالمال أثناء إقامته منفيا في مصر  من عائلات من أقارب الهادي شاكر ذوي الأصول المصرية ومن عائلات من أصل صفاقسي مثل عائلات كمون والميلادي والسلامي وغربال وغيرها وبعضها وصل الوزارة في مصر. وبالتالي فهي ليست في حاجة لاستثمارات حكومية ، ولذلك بقيت في هيكلها السياسي متخلفة ، فمداخلها أي المدينة و من كل الجهات تشكو الضيق ، فيما كل المدن وحتى القرى تتمتع بمداخل ذات اتجاهين تسمح بتيسير المرور ، وهي مدينة مختنقة كامل الاختناق ولا تتوفر رغم أنها تعج بحوالي المليون نهارا إلا بمحول واحد بين متساكنين ووافدين ومجرد مارين
** لقد عوقبت صفاقس ، فمنذ الاستقلال لم تعد تعتبر من الساحل ولا من الجنوب ، وشركة صفاقس قفصة التي كانت إدارتها العامة في المدينة منذ إنشائها في أواخر  القرن التاسع عشر  ، نقلت إلى قفصة بمبرر أن تكون قريبة من  موقع الانتاج ، قبل أن تنقل إلى العاصمة ، كما إن الصناعات الكيمياوية اختارت مقرا لإداراتها لها بتونس ، وهي إذ تلوث بالأساس صفاقس وقابس فإن دخلها البلدي يذهب لغيرها.
ورغم أن ميناء صفاقس هو أكبر ميناء للتصدير في البلاد ، فإن السلطة اختارت سوسة لتكون مركزا رئيسيا للديوانة ، تتبعه صفاقس.
(يتبع)
( الحلقة الثانية بعد أسبوع )



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق