Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الجمعة، 27 مارس 2020

الموقف السياسي: وترجل حامد القروي رجل الدولة الحقيقي ..


الموقف السياسي
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
حامد القروي
شمعة أضات سماء تونس
ولن تنطفئ
تونس /27/03/2020
سيبقى ذكره خالدا في التاريخ .. رجل شارك في ملحمة الكفاح الوطني ، من باريس على رأس الجامعة الدستورية في فرنسا  ، أيام كان الانتماء للحزب المحضور جريمة يعاقب عليها القانون ، زهد في السلطة مكتفيا بالعمل المحلي الذي برز فيه كرئيس لبلدية سوسة ، فجعل منها مفخرة للبلاد تعج بالحركة والنشاط  وكان وراء معجزتها الاقتصادية الاجتماعية ، و مكتفيا أيضا برئاسة النجم الساحلي الكوكب المضيء في سماء الرياضة التونسية ، وكطبيب في  اختصاص الأمراض الصدرية،  أيام كان مرض السل يفتك بالمئات كل عام،  وقامت سياسة الدولة على العلاج منه والتوقي لحد القضاء عليه.
شمعة أضاءت وستبقى مضيئة ، وهو الذي رفض  المسؤولية المركزية بإلحاح شديد من الرئيس السابق بورقيبة  بعد ابعاد ، والذي استقبله ليعرض عليه منصبا حكوميا بعد أن تناساه لمدة قرابة ثلاثة عقود ، بسبب رسالة وجهها له في سنة الاستقلال يطالب فيها بإدخال جرعة من الحرية في العمل السياسي ، وبسبب مصاهرته لأحمد بن صالح ، يذكر حامد القروي لمعارفه ، أنه لما استدعاه بورقيبة للقصر ، وقد فاح خبر تعيينه وزيرا ، وهو يسعى  لضمان تدخل بعض الرجال للإعفائه ، وكان إلحاح بورقيبة  لأنه كان من المعروفين بكفاءتهم وأيضا وخاصة بنظافة يدهم  ، رجا حامد القروي ممن سبقه يومها في لقاء الرئيس الأسيق  الحبيب بورقيبة باني الدولة التونسية الحديثة ، أي الباجي قائد السبسي أن يحدث الرئيس عن إعفائه من مسؤولية  تولي الوزارة  بسبب مرضه بالسكري ، ففاتحه في الأمر،  ولكن بورقيبة أجابه بأن " وسيلة تحمل مرض السكري من سنوات  ، وتواصل حياته الطبيعية" ، وبين بابين كما يقول الفرنسيون ، أي في اللحظة التي كان فيها الباجي قائد السبسي خارجا من مكتب بورقيبة ، وحامد القروي داخلا للمكتب ، قال له ، إنه مصمم على تعيينك .
وجد حامد القروي  نفسه رغم أنفه وزيرا ، فتحمل مسؤولياته المتنوعة بعزيمة وصدق، وانخرط وهو الطبيب الذي تمرس بالمسؤولية الادارية سواء في بلدية سوسة أو النجم الساحلي،  وهو عبارة عن ماكينة لا تتوقف عن الفعل ، في النهضة بكل المسؤوليات الحكومية والحزبية التي أنيطت بعهدته بقوة إرادة وحدس لا يخطئ ، هو الذي بقي قبل كل شيء وفي أعماق نفسه ذلك المناضل الأصيل في نضاله سواء أيام الكشافة المدرسة الأولى لصقل مواهب  القيادة ، أو في اتحاد الطلبة الذي ما زال أيامها في صدد التأسيس ، أو على رأس جامعة سوسة الدستورية ، أيام كان الحزب الحر الدستوري،  مرجلا يعج بالأفكار والرأي والرأي المخالف ، وقبل أن ينتابه مرض التعيين في كل المسؤوليات.
من إدارة الحزب الاشتراكي الدستوري قبل وبعد حركة الرئيس الأسبق   زين العابدين  بن علي  في 7 نوفمبر 1987، وبعد المؤتمر الذي استبدل فيه اسم الحزب إلى التجمع الديمقراطي الدستوري  بنية أصيلة في أن يكون جامعا لمختلف العائلات السياسية أو ما سمي لاحقا بالروافد ، وهو عكس ما كان يراه المستشار السياسي المتنفد  للرئيس وقتها منصر الرويسي ، من قيام حزب جديد حول الرئيس بن علي، يقوم على أساس من نظرة مستقبلية ، وهي فكرة سريعا ما أجهضت ، وعوض أن تسند المهمة الرئيسية بعد ذلك المؤتمر، إلى حامد القروي ، أو  كما أحب الليبيراليون إلى  الليبيرالي محمد كربول،  تم إسنادها إلى عبد الرحيم الزواري ، وهو ما اعتبره المراقبون أيامها الخطوة الأولى في طريق  الردة ، وأدت إلى ما سارت عليه الأمور فيما بعد حتى نهايتها في 14 جانفي 2011.
تولى حامد القروي وهو الطبيب وزارة العدل ، فسار على طريق الاصلاح ، ولعل من مآثره هناك أن تم إقرار قانون جديد ينظم مهنة المحاماة ، اعتبر في حينه وما زال يعتبر تقدميا ، وفي نفس الوقت مستجيبا لمطالب المحامين وهيئاتهم .
ولما جاءت ساع الحسم في سبتمبر 1989 ، بعد محاولة الوزير الأول الهادي البكوش ، الذي يقال أنه من العناصر الثلاثة الأكثر مسؤولية في حركة 7 نوفمبر ، مع زين العابدين بن علي نفسه ، والحبيب عمار ، والذي أخذت توجهاته  اليسارية تظهر للعلن بعكس التوجه السائد منذ 1969 ونهاية التجربة التجميعية،  اختار بن علي حامد القروي الذي يبدو أنه  كان حوله إجماع في الطبقة السياسية  آنذاك لتولي الوزارة الأولى ، استعان الرئيس الأسبق بن علي  وحامد القروي بمجموعة من الكفاءات العالية في مختلف الميادين ، لقيادة سياسة ليبيرالية ، استمرارا لعملية التصحيح الاقتصادي لسنوات 1986/1987 التي قادها آنذاك رشيد صفر وإسماعيل خليل،  بحيث جاءت النتائج وفق ما تم التخطيط له من رفع مستويات النمو والتنمية ، وتحقيق رفاه نسبي ، إضافة إلى محاولة الدفع نحو شيء من التحرير السياسي،عبر إدخال جرعة من النسبية في الانتخابات ، في وقت كان فيه الجو العام قاتما ، بمحاكمات سياسية وخاصة تجاه الاسلاميين ، وانغلاق في الأفق لا سابقة له ، وإن كان حامد القروي اعتبر أحد المحاولين لترطيب الأجواء ، فقد أسهم مع غيره وأنا شخصيا،  عبر صداقة غير معلنة مع حمادي الجبالي خاصة ، لمنح ترخيص بإصدار جريدة الفجر  التي صدرت قبل إيقافها لاحقا ، ثم بالتعاون مع محمد جغام  الوزير مدير الديوان ارئاسي آنذاك ،  بمنح ترخيص  للنهضة كحزب سياسي ، وهو مسعى ،ومعلوماتي أكيدة في هذا الأمر ، أجهض في آخر لحظة بإيغار صدر بن علي ، ضد الاسلاميين .
لا يمكن القول اليوم وحامد القروي بين يدي الله ، أنه كان مؤيدا للإسلاميين ولكن ما أعرفه عنه ، أنه لم يكن راضيا بما سقط على رؤوسهم هم وغيرهم من عسف ، وأعرف شخصيا أن حامد القروي وهو في مناصب المسؤولية السياسية ، تقابل مرة على الأقل مع حمادي الجبالي أمين عام حزب النهضة ، وأقوى شخصية فيه،  قبل أن يقع الزج به في السجن ، فيما كنت أدعو السيد حمادي الجبالي شخصيا من حين لآخر في مطعم تابع لفندق "لاميزون دوري "على الغداء.
ةلقد كان لي ضلع في إقناع المرحوم حامد القروي بكتابة مذكراته ، وكان يتمنع دائما ، رغم ثراء ذكرياته عن مدد طويلة من تاريخنا المعاصر ، وإذ امتنعت شخصيا عن تولي الكتابة عنه ، كما يحصل عادة فقد أشرت عليه ، بتولية هذه المهمة إلى الصديق توفيق الحبيب وهو مثقف موهوب ، ويتوفر على لوجيستية كبيرة ، ومن هنا قامت مؤسسة الأستاذ توفيق الحبيب بتسجيل تلك المذكرات بالصوت والصورة ، وجرى تفريغهاو تجري ترجمتها ، وقد كانت الوفاة أسرع من الوجود ، لمشاهدته عصارة حياته بين أيدي القراء أو في أقراص مضغوطة.
ولا يمكنني أن انهي هذه المحاولة دون أن أقول كلمة ، فقد التزمنا الصديق منصر الرويسي وأنا لمدة سنوات للإلتقاء أسبوعيا ، مع السيد حامد القروي في الحادية عشرة من صباح كل ثلثاء ، فنتبادل الآراء حول التطورات الحاصلة في البلاد وخارج البلاد ، ونعرج أحيانا على نقاش ثقافي عميق. وكان دقيقا في تحاليله ملما بالكبيرة والصغيرة بما يجري في البلاد ، وخارج البلاد ، وعى قدرة كبيرة على استقراء ما يتجمع لديه من معطيات والاستنتاج من منعطفاتها.
حتى  ما قبل شهر كنا نلتقي  ثلاثتنا ،  حتى سقط وانكسر فخذه ، ورغم نجاح العملية فإن مضاعفاتها مع السن العالية ، لم يتركا له أملا في حياة أطول ، فتوفي صبيحة الجمعة 27 مارس 2020.
fouratiab@gmail.com



الخميس، 26 مارس 2020

من الذاكرة : بعد 80 سنة

 من الذاكرة

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
يوم الفزع
تونس / الصواب / 26/03/2020
كنت في الثالثة من عمري أو تكاد ، أذكر فقط أننا كنا في بيتنا الشتوي في نهج هميلكار قرب باب القصبة وجامع سيدي إلياس الذي يقال إنه كان جامعا حنفيا ، قبل أن  يصبح جامعا مالكيا لانتقال الأحناف في مدينة صفاقس إلى المالكية ، كنا يومها نزلنا  من "رعاية " في ساقية الزيت  ( وكان يقال إللي ما عندوش جنان في رعاية يطلعوا أولادو هطاية )  بسبب مرض أخي محمد جاءته رحمة اليوم بعينيه وكان ما يزال رضيعا ، فأخذه الوالد إلى طبيب من أصل ألماني ، وصف له دواء ، ،،، جلسنا إلى المائدة الوالد الحاج البشير وخديجة يقال لها دوجة وأخي محمد وأنا ، وكانت تتنقل بين الغرفة التي كنا نستعد للأكل فيها والمطبخ ،المعينة المنزلية حليمة  التي كانت بمثابة الأخت  ، وقد وضعت أمامنا " شقالة " " القطع خميرة " ويسمونها أيضا حلالم تونس ، وهي غير الحلالم المعروفة في العاصمة ، وإذ كانت تأتي من الكوجينة بقمصار الماء ، بدأ أزيز الطائرات ثم انفجرت قنابل مدوية ، كان بيتنا بوسط غير مسقوف على عادة الديار في المدينة العتيقة ، كنا نظن أن المنزل سيسقط على رؤوسنا ، ارتفعت عقيرتي بالبكاء ، فيما أخذ الوالد يقرأ بعض سور القرآن والأدعية بصوت مرتعش ، وضمتنا الوالدة أنا وأخي محمد في حضنها كأنها تحمينا ، مما يجري ، بينما كانت حليمة في المطبخ تصيح بصوت عال ، ولم تجد في نفسها من الشجاعة ما يمكنها من قطع الأمتار القليلة لتلتحق بنا  ففي مثل الديار العربي لم تكن وسطيتها مسقوفة ، دام الأمر في ما أذكر حوالي ساعة ، أكلنا غداءنا بسرعة ، ثم خرجنا إلى الشارع  ، لنقطع المدينة في .. اتجاه باب الجبلي وأنا أتعثر في مشيتي بعد الفزع الشديد بينما استقر أخي محمد علي كتف أمي نائما وقد سقط جزء من السفساري من على رأسها ، ووراءنا حليمة ، وقد أصابتها بين الحين والآخر هبة صياح مكتومة ، لم أكن شجاعا ولكن ربما لم أكن واعيا بما يجري ، سرنا في نهج هميلكار حتى آخره ثم انعطفنا يسارا في اتجاه نهج سيدي علي الكراي المعروف بسوق الفرياني ، وبانعطافنا في منتصفه إلى نهج سيدي بلحسن الكراي بدت أمامنا ويا لهول ما رأينا بنايات على الجهة اليمنى وقد تهاوت من أثر القصف ، كانت المدينة أيامها خاوية على عروشها ، بسبب هرب سكانها إلى الضواحي أو الأجنة ( جمع جنان )  وكانت كل عائلة تقريبا تملك حدائق في ضواحي المدينة ، وتلك عادة معروفة في مدينة صفاقس ، تجاوزنا الخراب نحو زاوية سيدي بلحسن قاصدين باب الجبلي ومنه انعطفنا يسارا نحو فندق بودبوس ، جيث أسرج الوالد الكاليس وربطه بفرسنا البيضاء، وانطلقنا نحو ساقية الزيت ، يومها جاءت وفقا لما سمعته لاحقا موجة أخرى من الطائرات في طريق قرمدة وقذفت حممها، وكان من ضحاياها المرحوم قوبعة وزوجته ، وهو والد السيد نورادين قوبعة الذي كان قبل سنوات من الكوادر الكبرى في وزارة المالية ، ثم رئيسا مديرا عاما لصندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية .
وصلنا سالمين إلى جنان عمي محمد  الأخ الأكبر للوالد)( ووالد  الحبيب الفراتي   مدير ديوان وزير التخطيط والمالية ،  قبل أن يحط به الرحال كمدير عام للبنك العربي لتونس بيات)  وصلنا إلى جنان عمي إذن في آخر زنقة دمق ،  حيث أفردت لنا الغرفة الغربية نحن خمستنا، بعد أن تركنا بيتنا الصيفي على شاطئ البحر ،في السلوم بطريق سيدي منصور ، وكان الاعتقاد سائد ا فيما علمت،  ثم إنقليز وأمريكان بعد " تحرير" صفاقس.
الحقيقة أن تلك الأيام كانت أحلى أيام الطفولة فقد كانت العناية بنا أنا وأخي كبيرة جدا ، سواء من عمي أو زوجته التي كانت شقيقة إمام الجامع الأكبر ، والذي خلفه بعد موته خالي محمد الفراتي ، الذي اعتزل الإمامة والخطابة بعد الاستقلال ، رافضا أن تتدخل السلطة في خطبه ، وبعد أن ساد توجيه السلطة لأفكار عامة لاعتمادها ، والحق يقال أن بعض الأئمة  ( ولم يكن من بينهم خالي محمد)ما زالوا في ذلك الحين يخطبون باسم السلطان التركي عبد الحميد والخلافة.
لم تكن المدارس قد فتحت ، وكنا نمرح في " وسط الجنان " نجني القــــــــــرفالة ( الجلبانة) من نباتاتها  ونأكلها عسلا مصفى ، لم نكن نخرج لا كبارا ولا صغارا ، فالخضر والغلال متوفرة في الحديقة أزيار العولة تطفح بما فيها ، ومرة في الأسبوع يخرج الوالد وعمي إلى الساقية ( ساقية الزيت )  لأداء صلاة الجمعة،  وشراء لحم العلوش من عند الجزار برك الله ، ولم نكن نأكل اللحم  كل يوم وإنما مرة أو مرتين في الأسبوع.
**
 في الخريف انجلت الغمة ، ورحل الألمان مهزومين ، وجاء الفرنسيون لينتقموا من الدساترة الذين اعتبروهم من أنصار المحور ، ولنا ممن في العائلة من  قضى سنوات في السجون أو في المنفى ، حتى انبلج يوم 31 جويلية 1954 ي ، يوم جاء منديس فرانس رئيس الجكومة الفرنسية ، واعدا بالاستقلال الداخلي .
في الأثناء كان التقسيط هو السائد ففي عائلتنا بستة أفراد بعد أن انضافت إليها سريعا أختي سعاد وقبل أن يفد أخي الأصغر محسن ، كنت أذهب يومــــــــيا إلى " كوشة" دربال ، لأتناول خبزة طليان بزوز فرنك  ، ويتم تسجيل ذلك ببطاقة يصرفها لنا الشيخ الزريبي كل يوم جمعة ، فقد كان كل شيء يباع بالتقسيط ، وبنظام محكم ، وكان من يحاول الاحتكار يقبض عليه ويوضع في حبس القاضي جنب باب الجبلي ، وعلى ما أذكر ، فقد كان الانضباط كاملا ، فالسكر يباع في قوالب مخروطية الشكل ، بوزن كيلو على ما أعنقد ملفوفا في ورق صقيل ،كان يقال له لون طابع زينة ، وكان ذلك كافيا لمدة أسبوع .
ذهبنا إلى المدرسة بعد السن القانونية وبعد قضاء ثلاث سنوات في مكتب الحاج خليفة ، لحفظ القرآن وبعض قواعد اللغة ، وكنا نجلس على الأرض ونكتب السور على ألواح مطلية بالطفل ، ولعل الغريب أن الفصول كانت مختلطة جانب للأولاذ وجاجانب للبنات لا يفص بينهما إلا مقدر متر ، فقط لم يكن مسموحا تحدث الأولاد مع البنات داخل القسم ، وإن كنا نخرج للشارع معا ونتحادث ، لكن كنا صغارا ، وفيما يلي من السنوات وبعد أن غادرنا وابنات كبرن صرن يلتحفن لحفة سوداء تصل إلى ما تحت الصر والبعض منهن يضعن جوبا أسود يعل إلى نصف الساق ،  بينما الأغلبية يلبسن جوبا ملونا حتى نصف الساق ، ولم يكن التواصل أو التحادث ممنوعا هذا على الأقل فيما عشته في صفاقس ، ولعله وفي مستوى المدينة ، لم يكن موجودا التشدد الذي نراه اليوم .
أذكر هذا ونحن نعيش اليوم ، حرب الكورونا؟؟؟؟