Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الثلاثاء، 25 أبريل 2017

اقتصاديات : اهتراء الدينار .. من المسؤول وماهو المصير ؟

اقتصاديات                                  
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
وحصل المحظور ،،
 وصعدنا كما كان متوقعا
 للهاوية السحيقة
تونس / الصواب / 22/04/2017
ماذا يعني انهيار الدينار التونسي ؟ والمرشح لمزيد الانهيار.
سنتوقف عند ثلاث محطات في محاولة فهم ما جرى ومحاولة استشفاف كيفية الخروج من عنق الزجاجة.
**
إحداث عملة وطنية تم اختيار اسم الدينار لها في سنة 1958 ، كان بهدف استكمال السيادة الوطنية ، وعندما أقدم الجنرال ديغول في نفس السنة على تخفيض قيمة الفرنك الفرنسي بنصيحة من وزير ماليته بيناي ، في السنة الموالية أبقت تونس على قيمة عملتها الوليدة التي كان وراء بعثها رجلان هما الهادي نويرة و منصور معلى.
في سنة 1965 وأمام أزمة اقتصادية خانقة ، اضطر الوزير المتعدد الحقائب أحمد بن صالح  إلى تخفيض في قيمة العملة التونسية بنسبة 25 في المائة ، وذلك بقصد دفع الصادرات وتنشيط السياحة الوليدة ، ورفع ثمن الواردات لتحقيق توازن الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
أعقب ذلك أزمة سياسية حادة ، فقد أصدر اتحاد الشغل وكان أيامها بزعامة الحبيب عاشور ، الذي كان رفقة فرحات حشاد وعبد العزيز بوراوي ومحمد كريم وغيرهم المؤسسين الاوائل لنقابة وطنية ، أصدر بيانا يندد فيه بهذا التخفيض ويطالب بالتعويض للطبقة الشغيلة عن ما أصاب طاقتها الشرائية من تدهور نتيجة هذا التخفيض ، كنت أيامها أشتغل كسكرتير تحرير ليلي في جريدة الصباح ، أي أني أتمتع بحرية مطلقة في النشر من عدمه ، عندما جاءني الصادق بسباس الموظف آنذاك في الاتحاد بعد أن اشتغل لمدة سنوات في جريدة الصباح ، تلقفت منه البيان ونشرته واختصت به الجريدة دون غيرها فلم يكن أحد يجرؤ أيامها ، قامت زوبعة أولا لمضمون البيان وثانيا لنشره ، وكان مفترضا أن أطرد من عملي ، لولا الوقفة الشجاعة للحبيب شيخ روحه مدير الجريدة ، وعبد الجليل دمق نائب رئيس التحرير.
بعدها تم افتعال قضية للحبيب عاشور ووضع في السجن بتهم واهية ، وكان لنا أن نقف إلى جانبه ، في المحاكمات التي اتهم فيها ، في تحد للسلطة ، ومن كان يستطيع وقتها أطرد الجانب الأعظم من القيادة النقابية ، وأسندت الأمانة العامة للنقابي العريق النوري البودالي في انتظار انعقاد مؤتمر لا شرعي انتخب البشير بللاغة وكان واليا لا علاقة له بالعمل النقابي في منصب الأمين العام .
في سنة 1966 كانت زيارتي الأولى للولايات المتحدة ، كان الدينار التونسي يساوي 2 دولار ونصفا ، وأذكر أننا في مدينة سيدر رابيدس البشير طوال  من جريدة العمل في ذلك الحين ، وأنا تمت استضافتنا على عجل من طرف عزالدين الشريف (آزي) بالنسبة للأمريكان ، وهو الشقيق الأصغر لصالح المهدي الفنان المبدع ، وآزي سيصبح لاحقا عمدة مدينة سيدر رابيدس ، ولما لم يكن أخطر مسبقا زوجته اللبنانية ،  فإنه مر على دكان يبيع الفراخ المحمرة واشترى واحدة وضعت في ما يشبه الطربوش الورقي،  ودفع فيها دولارا واحدا ورحنا إلى البيت ، حيث قضينا أمسية لا تنسى مع آزي وزوجته وابنيه الصغيرين.
إذن وفي سنة 1966 كان الدينار الواحد يساوي 2.5 دولارا.
ولكن وفي سنة 1975 كنت وزوجتي في زيارة إلى باريس، وكانت العشر فرنكات الفرنسية لا تكاد تساوي دينارا واحدا  بل فقط 750 مليما.
في سنة 1994 كنت ضيفا على وزارة الخارجية الأمريكية ، فيما يسمى "الزائرون سنيور"، وكانت صرفت لي منحة مجزية كما يتم مع الضيوف الأجانب الكبار المدعوين ، وكان علي أن أدفع من تلك المنحة كل نفقاتي  بما فيها الاقامة والأكل والتنقل  وشراء الكتب ، وإذا كان الفندق محددا لضمان مستوى معين ، فإن المأكل والتنقل حر ، ولذلك ولتجنب الأكل في مطعم الفندق المرتفع الثمن ، كنت أنزل إلى مكان قريب صباحا  فأتناول فطورا صباحيا من كأس كبير بالحليب والقهوة مع كرواسان بدولار واحد ، وكان يساوي بالتمام والكمال دينارا بلا زيادة أو نقصان. وكثيرا ما كان يأتيني سائق السفارة ليأخذني لصديقي إسماعيل خليل ، السفير الذي بعد أن أطرد شر طردة من منصب وزير الخارجية في 28 أوت 1990 ، تم اللجوء إليه ، لتسوية العلاقات مع الولايات المتحدة ، بعد أن ساءت على إثر الموقف الرسمي التونسي الذي اتخذه بن علي بشأن أزمة اجتياح الكويت ، كما تم اللجوء إلى قاسم بوسنينة لتسوية العلاقات مع المملكة العربية السعودية لنفس السبب.
وكنت أيامها ألتقي كذلك بفيصل قويعة وأتسوق معه وسيعين لاحقا كاتب دولة للخارجية ، ويشغل حاليا منصب السفير في واشنطن.
عندما أحدث اليورو استبدلت الوحدة النقدية الجديدة في بداية سنوات الألفين بدينار و250 مليما.
من كل هذا أستخلص أن الدينار فقد من قيمته بالنسبة للدولار  في 1966 ، 75 في المائة وبالنسبة لسنة 1994 ، 60 في المائة من قيمته ،و بالنسبة لليورو عند إحداثه في بداية القرن الحالي   55 أو على الأصح 58  في المائة من قيمته.
معنى هذا بالنسبة لأي عملة، التي هي رمز من رموز السيادة الوطنية  للدولة ، انهيار فظيع ، وضربات متوالية للاقتصاد الكلي ، وتهاو للطاقة الشرائية للفرد.
وإذ كان ذلك مستمرا بمرور الزمن ، فإن الأمر احتد منذ 2011 ، وانتهت بذلك سنوات الرخاء النسبي رغم تآكله التدريجي حتى قبل ذلك.
**
ماذا يعني هذا بالنسبة للمجموعة  الوطنية ، وماذا يعني بالنسبة للأسرة وللفرد.
المفروض أن انزلاق عملة ما يستهدف أمرين اثنين :
أولهما
دفع الصادرات ، بتهاود أثمان السلع والخدمات داخليا بما يجعلها أقدر على المنافسة في السوق العالية ، فيقع الاقبال عليها ، ويكون هذا عادة عندما تكون السلع أو الخدمات مثل السياحة متوفرة ، ولكن قدرتها التنافسية محدودة ، بحيث يعطيها صدمة شبه كهربائية ، تجعل الاقبال عليها أكبر.
غير أن الواقع هو أنه لا يتوفر لدى البلاد فائض إنتاجي يمكن أن يكون مدعاة لإقبال الموردين الأجانب عليها ، أما بالنسبة للسياحة والتصدير على عين المكان ، فإنه وإضافة إلى العجز الهيكلي للسياحة التونسية مقارنة بالمغرب ومصر وتركيا التي تشابه السياحة التونسية ، فإن أزمة السياحة متأتية من أسباب سياسية مثل الارهاب ،  وعدم وضوح الرؤية وضعف الاستقرار الداخلي  وغياب الدولة ، بين إضرابات واعتصامات وقطع طرق والمنع من العمل بما يفقد البلاد كل مصداقية.
وثانيهما  
 ردع التوريد بالنظر لأن انخفاض قيمة الدينار ، تؤدي أوتوماتيكيا إلى ارتفاع أسعار المواد المستوردة ، إذ ينبغي توفير دينارات أكثر لاستجلاب السلع والخدمات الواقع الحاجة إليها ، ولما كانت البلاد تأكل ما لا تنتج أو ما ينبغي أن يعوض ما لا تنتج ، فإنه بدون سياسة حازمة لردع توريد الكماليات من " القليبات" التركية إلى مواد التجميل إلى الملابس الفاخرة ، إلى السيارات الفارهة أو حتى البسيطة .
لكن هل إن للحكومة الحالية عزم على اتخاذ مثل هذه القرارات ، التي قد تغضب طبقة من المواطنين همها التفاخر. أو تقلل من أرباح الفئات المقربة والتي تحرص سلطة ما بعد 2011 كما التي كانت قبل 2011 ، أوتغضبها .
غير أن الانزلاق المتواصل للدينار  وخاصة منذ أيام والواضح أنه سيستمر ، ليس له فقط ، أن يردع التوريد غير الضروري ، بل من شأنه أن يرفع أسعار المواد المصنعة ونصف المصنعة التي تحتاجها الصناعة والسياحة والفلاحة والتجارة وغيرها ، وهو ما يؤدي أوتوماتيكيا إلى ارتفاع  أسعار المنتجات سواء المخصصة للسوق المحلية أو للتصدير للسوق الخارجية ، بحيث يقع ضرب القدرة التنافسية خارجيا و يتم ارتفاع الأسعار واستيراد التضخم داخليا.
هذا فضلا على ارتفاع بلا ضوابط لحجم المديونية الخارجية ، المحررة إما باليورو أو الدولار وبدرجة أقل باليان الياباني، وإذ تبقى تلك الديون على قيمتها الأصلية بعملتها  ، فإن البلاد تحتاج إلى دينارات أكثر لسدادها ، ومن هنا فهناك من يقول إن انزلاق الدينار في الأيام الأخيرة فضلا عما سيحدث في الأيام والأسابيع المقبلة سيرفع حجم المديونية المرتفع أصلا والبالغ ما بين 60 و62 في المائة إلى ما بين 70 و75 في المائة من الناتج الداخلي الخام  (40 في المائة سنة 2010)، وهي مديونية مطالب بدفعها الفرد التونسي ، وستثقل كاهل الأجيال المقبلة ، وإذا كانت المديونية ضرورية ، فإنها إذا بلغت حجما عاليا تصبح عبئا على الاقتصاد الكلي وعلى الفرد حاضرا ومستقبلا.
وإذا كان الناتج الداخلي الخام للفرد  ارتفع إلى 7 آلاف دينار ، فإنه بالدينار القار انخفض إلى ما هو أدنى مما كان عليه سنة 2010 ، فيما وبالدولار وهي العملة المعتمدة دوليا لقياس قوة اقتصاد ما فإنه انهار انهيارا كبيرا.
ولكن وعلى المستقبل المنظور والقريب فإن كل الطبقات في المجتمع ستشعر بعبء الحياة كما لم يسبق لها منذ الاستقلال ، وستولي  وتودع لسنوات قد تطول سهولة الحياة التي سبق أن عرفها التونسيون ، وبعد أن كان الفرد ينتظر لأبنائه مستقبلا أفضل من الذي عاشه ، فإن صعوبة الحياة المقبلة ، ستجعله لا يفكر في أبنائه ، بل في الكيفية التي سيواجه بها شظف العيش ، ومن تعود ركوب سيارته الخاصة من أبناء الطبقة الوسطى الوسطية والدنيا فإن عليه أن يودع حلم السيارة الخاصة ، وعليه أن يتعود على نقل عمومي هو في أسوإ حالاته ، حتى بالمقارنة مع البلدان المجاورة ، وعليه أن يكتفي بما يذكر بحال الروسيين بعد ثورة 1989/1990 التي لم تنقذهم منها إلا اكتشافات بترولية ضخمة ، ليست متاحة لتونس ، لا بسبب شح باطن أرضها فقط ، بل كذلك بسبب سياسات معينة واتهامات خطيرة بالنهب ،  ليس من شأنها أن تشجع الشركات المنقبة الدولية للقدوم إلى بلادنا أو الاستثمار فيها وتحقيق اكتشافات بترولية أو غازية قد تكون كامنة  ، ولعل المطمح الوحيد للتونسي اليوم هو الهروب من "جحيم " هذه البلاد ، للاسترزاق في دنيا الله الواسعة ، سواء بالطرق القانونية لمن يحملون كفاءات مطلوبة ، أو باعتماد الهجرة غير القانونية.
هذا فضلا عن ترك الجانب الأهم والمتمثل في أن التونسي ليس من الطبقة الدنيا بل حتى من الطبقة الوسطى بدرجاتها الثلاثة وغالبها من الأجراء ، سيرى مستوى حياته ينحط ، وخاصة من الأبناء العاطلين ومن متقاعدي القطاع الخاص.
**
كيف وصلنا إلى هذه الحال وهل  هذا هو قدرنا ؟
الثورة أو الانتفاضة ليست هي السبب ، فلقد كانت فرصة رغم أنها لم تكن تحمل السمات التقليدية لطبيعة الثورات من فكر مسبق ومن قيادة مهيأة ، فالثورة قدمت للشعب التونسي مقومات الحرية وإقرار الحقوق الفردية والعامة للإنسان ، ولكن التونسي عموما وطبقته السياسية الحاكمة لم تعرف كيف تتصرف في منة صنعها الشعب ، بقطع النظر عن الأسباب والظروف ، وما إذا كانت أيد خارجية  وراءها أو لا .
فالحكومة التي تولت السلطة بداية في 2012 كان عليها أن تصارح الشعب بحقيقة الأوضاع ، وتأخذ الثور من قرونه وتقدم على إصلاحات يتطلبها كل تغيير ثوري ، ولكنها فوتت على البلاد فرصتها ، ما اضطر الرجل الوحيد الذي كان له تشخيص وحل واضح أي وزير المالية حسين الديماسي للاستقالة  بعد 6 أشهر من تشكيل حكومة الترويكا ( النهضة)، فتابعت الحكومات الموالية نفس النهج اللامسؤول محاولة ربح الوقت ، والتقرب من عواطف الناس ، عبر زيادات سخية في الأجور ، وإثقال كاهل الإدارة العمومية بالمزيد من الموظفين والمسخدمين فوق الحاجة والطاقة ،  ووصول العدوى للقطاع الخاص حيث حلت قلة الانضباط محل الحزم في التسيير ،وترك مختلف الإختلالات في التوازنات الداخلية والخارجية تحل محل التصريف السليم للعوامل الاقتصادية التي تتسم بعناد علمي ، ترك جانبا ، فضلا عن التسيب الكامل ، فانهار الانتاج ، وتراجعت الانتاجية ، وزاد الاستهلاك بدون مقابل إنتاجي ، وتم اللجوء إلى مديونية عالية ، ليس وراءها مشروعات ذات مردودية ، وما زالت السلطات القائمة تواصل إطراء العواطف الشعبية التي ارتفع مقدار مطلبيتها بقدر تراجع ثروة البلاد ، وأمام كل هذه العوامل مجتمعة ، كان لا بد للعملة الوطنية أن تتراجع قيمتها الابرائية ، مضافا إلى ذلك رفع مقدار السيولة المالية دون أي مقابل إنتاجي بل فقط لعدم اختناق سوق ، ما زالت سائرة على نفس طريق سنوات الرخاء النسبي .
ما هو الحل ، في مثل هذه الظروف ، التي لا تعد بدعة ، بل مرت بها شعوب كثيرة قبل أن تسترجع وعيها ، وتقدم على إصلاحات موجعة ، كانت تكون أقل وجيعة لو اتخذت منذ 2012 ، ولكننا اليون وفي سنة 2017 ، في مواجهة الكارثة التي لم يقع تفاديها في الوقت المناسب.
السؤال : هل بالإمكان القيام بإصلاحات مؤلمة اليوم ، وقد تعود الشعب على التراخي والإرتخاء.
هذه الحكومة أو حكومة غيرها ـ ليس مهما ـ برجال ذوي عزيمة ، يمكنهم أن يقوموا ما اعوج خلال سنوات قليلة ، ولكن بقرارات حازمة وشعب واع ، ومنظمات نقابية مسؤولة.
لقد عشنا 5 سنوات أو ست ، فوق مستوى إمكانياتنا الفعلية ، وها نحن ندفع الثمن رغم إرادتنا ، نتيجة سوء تصرف حكومات لا مسؤولة عرفناها بعد الثورة .
تحرير صرف الدينار كان مقررا منذ 2008 لسنة 2014 ، ولكن لم يكن ذلك ليحصل تحت ضغط الأحداث والإفلاس ، وبتضحيات كبيرة من الشعب ، ولكن غياب البصيرة ، وشراء الوقت ، وانعدام الشجاعة هو الذي جعل البلاد تقدم على هذه الخطوة ليس بإرادتها وبثمن باهظ سيدفعه المواطن .
ليست الثورة هي المسؤولة ، ولكن الحكام الذين جاؤوا بعدها هم الذين وضعوا البلاد في هذه الحال السيئة.





الاثنين، 17 أبريل 2017

بكل هدوء : هل من طريقة للخروج من الأزمة الخانقة؟

بكل هدوء
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
الصعود إلى الهاوية
تونس / الصواب / 12/04/2017
مع الأيام الثقيلة الظل تتوالى التطورات التي لا  تنبئ بأي خير ، فالسيولة السخية جدا التي يدفعها البنك المركزي إلى الاقتصاد ، بدون أي مقاومة لرغبات حكومة فقدت بوصلتها ، لا تعني سوى مزيد ارتفاع سريع في الأسعار والتضخم المالي ، بدل الهدف المعلن أي تجنب اختناق الاقتصاد ، وإذا أضفنا إلى ذلك هذا التراجع السريع والمستمر وغير المنضبط لقيمة الدينار ، وأثره الخطير على توازنات  البلاد الاقتصادية ، واعتبارا لآثاره المدمرة على الطاقة الشرائية ، فإن للمرء أن يتوقع أسوأ النتائج ،، إضافة إلى العجز المتفاقم سواء للموازنات المالية أو لميزان المدفوعات .
إن رفع حجم الكتلة النقدية ، بدون لا إنتاج ولا إنتاجية ، واستمرار تهاوي قيمة العملة الوطنية ، في غياب أي فائض إنتاجي كفيل برفع حجم  الصادرات ، مضافا إليه عوامل مدمرة منها بالخصوص ، سداد دين ثقيل بجانبيه الأصل والفوائد بدينارات أكثر بكثير ، باعتبار انهيار قيمة الدينار التونسي الذي سيشارف في مستقبل منظور 3 دينارات لشراء يورو واحد أو دولار واحد لا يعني سوى ارتفاع مستمر في الاسعار الداخلية ، من جهة وارتفاع كلفة السلع والخدمات المنتجة باعتبار اعتماد كبير أو صغير في الأسعار العالية المستوردة  للخامات أو المواد نصف المصنعة التي تحتاجها الصناعة والفلاحة والسياحة التونسية ، هذا فضلا عن الواردات المختلفة سواء للمواد الاستهلاكية أو الخدمات .
إن تونس برفع حجم الكتلة النقدية ، بدون سند إنتاجي ، وبترك الدينار يتراجع بسرعة وبدون حدود  إنما تسير لتأزم  أو زيادة  تأزم أوضاعها الاقتصادية ، وبالتالي الاجتماعية ، التي هي بصدد مشاهدة تدهور في الطاقة الشرائية للمواطنين  ، كل المواطنين وخاصة العاطلين عن العمل والعاملين في القطاعات غير المنظمة  والمتقاعدين من القطاع الخاص ، وحتى تكون المقارنة واضحة فإن نفس العملية الجراحية مع إقامة 5 أيام في المصحة والتي تكلفت سنة 2008  خمسة آلاف دينار كلفت منذ أيام 12 ألف دينار ، هذا فضلا على أن أتعاب الطبيب مرت في 6 أو 7 سنوات غالبا من 35/40 دينارا إلى 55 أو 60 دينارا عن العيادة.
أما الحكومة القائمة فهي مثل سابقاتها لا تريد أن تعترف للشعب بحقيقة الأوضاع الاقتصادية في البلاد ، حتى اليوم الذي تصبح فيه في وضع شبيه بوضع اليونان منذ 2008 وحتى الآن ، بدون المدد الذي تمتعت به أثينا من قبل الاتحاد الأوروبي بوصفها عضو فيه ، فيما إن تونس لا سند لها ، وحتى صندوق النقد الدولي الذي نكص على أعقابه ، لأن الحكومة التونسية الحالية تراجعت عن التزاماتها ولم توف بها ، وتواصل تسيير الاقتصاد الوطني بصورة ليس فقط مرتجلة بل أكثر من ذلك دون الأخذ بعين الاعتبار حقيقة وضع وصل للقاع ولا تريد أن تصارح الشعب بحقيقته ، وتواصل بين الرياح العاصفة قيادة  بنظرة أقل ما يقال فيها إنها عمياء.
وإذ درجت البلاد على ذلك منذ 2012 ، فإن الأمر لم يعد قابلا للاحتمال ، والبلاد تسير نحو كارثة ، كم وقع التنبيه لها ، ولكنها وصلت ، وسيشهد المواطن أثرها  في حياته.
في نفس الوقت تشهد الساحة تحركات اجتماعية تبدو مشروعة ، بلغت الأوج في ولايتي تطاوين والكاف ، ولكنها تهدد غالب الولايات ، حيث تتعمق حالة البطالة  ولا يوجد أفق أمام الناس ، فالكبار الذين كانوا يأملون وضعا أفضل لأبناهم صرفوا النظر عن المستقبل المعقول ، وبات منهم من يشجع من يستطيع من أبنائهم  على الهجرة إلى عوالم أفضل ، وتشهد البلاد بذلك نزيفا بين الاطباء والمهندسين في الفروع الفنية والفروع المالية ، وفي الاعلامية  والمواصلات وهو ما يهدد القدرة على توفير الكفاءات اللازمة لتسيير الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، وقد بات توفير عمل بالخارج أمل اشباب ، وما لا يتوفر بالطرق المشروعة ، تقع المحاولة لنيله بالمغامرة التي قد تودي بالحياة ، والوصول لهذا الحل يبرز مدى اليأس الذي أصاب الشباب .
في نفس الوقت تواصل الحكومات المتعاقبة بذل الوعود التي هي أول من يعرف أنها ليست قادرة على تحقيقها ، كما حصل في الأيام الأخيرة في تطاوين والكاف ، وأما تزايد تعفن وضع لم يعد تحت السيطرة ، تبدو الجهات السياسية حاكمة ومعارضة ، في وضع من لا حل أمامه سوى ترك الحبل على الغارب ، في انتظار أيام أحسن لا تأتي ولن تأتي ، فيما يزداد الوضع السياسي هو الآخر تعفنا  ، وعدم اتضاح الصورة والتهديد بعودة الاسلاميين للسلطة ، ما لم يكن أسوأ بكثير ممن جاؤوا بعدهم  ، لا يسهم بخلق الطمأنينة ، الضرورية لعودة الاستثمار الخاص الوطني قبل الخارجي ، وبدون تحرك استثماري كبير ، لا أمل لا في نمو ولا زيادة إنتاج ثروة ولا تحريك ماكينة التشغيل .


الخميس، 6 أبريل 2017

بكل هدوء : بورقيبة وبن يوسف ، رجلان بين العظمة والاسفاف

بكل هدوء
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
بورقيبة وبن يوسف
الصواب/04/04/2017
منذ مدة ليست بالقصيرة وأنا أمني النفس بالكتابة حول الخلاف اليوسفي البورقيبي، وكنت أفضل التناول في راحة من العقل بعيدا عن أي تشنج أو تصفية حسابات على أساس من أن كلا الرجلين الزعيمين طواهما الزمن ولم يبق من ذكرهما إلا أحداث تاريخية هناك اختلاف كبير في تقييمها.
غير أن التطورات الآنية فرضت على الجميع استعادة الماضي بكل جراحه ، وفرضت السيدة سهام بن سدرين من موقعها كرئيسة هيئة الحقيقة والكرامة ، نكأ جراح قديمة باستقدام أشخاص من أعماق الماضي للإدلاء بشهادات تشتم منها رائحة الاعداد المسبق ، في سيناريو محبوك تنقصه التلقائية  ويبدو من جوانبه الاخراج المسرحي ، يدين بورقيبة علما وأن موقف المرأة من الرجل يتسم بالعدائية  ، وقد تصدى الكثيرون  لهذا الأمر وبرز بالذات رجلان لا يرقى الشك إلى موضوعيتهما ، ومعرفتهما بأعماق التاريخ القريب ، إضافة إلى اختصاصهما : هما رجاء فرحات الذي مات والده في سجون بورقيبة ، وخالد عبيد ابن المهدية الذي سبق أن كشف في محاضرة في عقر داره ، أي في مدينته أن الطاهر صفر الزعيم الخالد والذي اختلف هو الآخر مع بورقيبة ،  لم يسر في جنازته ببلده سواء أنفار قليلين ، وهو يرى أن التاريخ يبقى فوق التوظيف السياسي.
وبورقيبة وبن يوسف دخلا كل من باب عالم التاريخ.
**
ماذا يمكن للمرء أن يقول ، وأنا من عايشت صغيرا كما عاش من جيلي ، من كان يلاحق أحداث وطنه في تلك السنوات الحبلى بالأحداث (1952/1956) ، كان الكثيرون منا وقتها يعتقدون أن الخلاف البورقيبي / اليوسفي ، هو مسرحية محبوكة لابتزاز فرنسا ، ونيل الأقصى على درب التحرر وفرض الاستقلال، كانت حركة المقاومة المسلحة قد تراجعت تحت ضربات عشرات آلاف الجنود الفرنسيين والسينغاليين ( الوافدين في صفوف الجيش الفرنسي من إفريقيا السوداء).
كان رأي سائد أن بورقيبة وبن يوسف متعاضدان ، متفقان  وأن كل ما في المسألة هو توزيع أدوار ، ولكن سقوط القتلى الأوائل من هذا الجانب وذاك ، فند وقتها هذا الرأي ، وكان من أشق ما حاق بالنفس ، أن يختلف "المجاهد الأكبر" أو " الرئيس الجليل "  الحبيب بورقيبة  ، مع عضده المقرب "الزعيم الكبير" صالح بن يوسف ، فقد كان كلاهما من كبار الوطنيين الذين واجهوا الاستعمار ، وإذا كان بورقيبة قد عرف شظف حياة المنافي منذ 1934 ، فإن صالح بن يوسف قد شاطره تلك المحنة  في  في برج لوبوف سنة 1935  ، كذلك في أعقاب أحداث 9 أفريل 1938 التي انتهت بهما للسجن ثم للمنفى في حصن سان  نيكولا  القاسي رفقة مجموعة من الوطنيين من بينهم الهادي نويرة والهادي شاكر وغيرهما، وكان بارزا منذ ذلك الحين أن صالح بن يوسف بذكائه المفرط الذي لا يقل عن ذكاء بورقيبة قد اختط لنفسه طريقا موازيا " للمجاهد الأكبر" كـ" الزعيم الكبير" ، فيما تبرز شهادات كثيرة  أوردها الطاهر بلخوجة في مذكراته ، أن بورقيبة اختار منذ ذلك الوقت في بداية الأربعينات الهادي نويرة ابن بلده المنستير ، والمتمتع بهدوء وراءه عزم حديدي ، على أن يكون مساعده الأول وخليفته ،
 هاجر بورقيبة للشرق. وكان في توديعه في محطة القطار  إلى صفاقس  صالح بن يوسف ، وكانا متنكرين .
**

في هذه الأجواء من التنكر للمبادئ المعلنة, أخذت الحركة الوطنية في إعادة ترتيب أوراقها, وبلورة أهدافها, إزاء وضع سياسي داخلي متدهور وفي ضوء تداعيات المحنة  الأولى لسنة 1934, والمواجهة الثانية لسنة 1938, وتبين للحبيب بورقيبة,أن لا خير يرجى من السلطات الفرنسية, وأن كل محاولة للحوار المباشر في ضوء موازين القوى القائمة مآله الفشل.
ولأجل ذلك قرر , أن ينطلق الجهادـ هذه المرة من الخارج , وذلك بغرض فك أسر الطوق الذي ضربه الإستعمار حول تونس, والتعريف بالقضية التونسية, وكسب التأييد والدعم لها.
ولكن كيف يتمكن من السفر وقد ضربت عليه السلطات الإستعمارية مراقبة متشددة وحصارا قويا على كل حركاته وسكناته؟
واتخذ قراره بمغادرة تونس خلسة في اتجاه مصر, وذلك بعد أيام معدودة من نشأة الجامعة العربية , على أساس أن تلك الجامعة ستشد إزر الشعوب العربية المكافحة وتساعدها على التحرر والإنعتاق.
وقد تداول القياديون الدستوريون الأمر على نطاق ضيق جدا لكي لا يتسرب شيء منه إلى خارج الحلقة الضيقة, وأبدى الهادي شاكر اعتراضا مبدئيا على مشروع الحبيب بورقيبة , على أساس أن خوض غمار البحر في قارب صغير ليس عملا مأمون العواقب, كما أن اجتياز الصحراء بين ليبيا ومصر ليس أمرا هينا ولا سهلا, وثالثا لأن دخول مصر بدون جواز سفر يشكل مغامرة لا يعرف أحد عواقبها".
ومن شهادات عديدة فإن الهادي شاكر طرح سؤالا:" في حالة إذا ما حصل مكروه أو ما لا تحمد عقباه فمن سيكون مسؤولا؟".
وتابع الهادي شاكر كلامه :"إن مكان الحبيب بورقيبة الطبيعي في تونس وليس في القاهرة".
ثم في لهجة التساؤل: " في غياب الحبيب بورقيبة من سيجوب البلاد التونسية طولا وعرضا, ومن سيحرك السواكن , ومن سيوقظ الضمائر , ومن سيواصل تحدي السلطات الإستعمارية ؟
 .بينما ."  والكلام دائما للهادي شاكر:" الحزب يزخر بالشخصيات التي تجمع بين الثقافة والنضال , والقادرة على القيام بأعباء هذه المهمة على أحسن وجه".
غير أن إصرار بورقيبة كان أكبر من كل التحفظات .. ومن طبعه أنه إذا عزم على أمر كان يرى فيه فائدة لتونس فإنه لا يتأخر عن تنفيذه معتزا برأيه دون غيره.
وكلف  "الحبيب عاشور" أصيل جزيرة "قرقنة" بالإعداد المادي لهذه الرحلة, واختيار مركب و"رايس" من أهل الثقة والكفاءة ممن يمكن الاطمئنان إليه ليتولى السفر ببورقيبة من "صفاقس" إلى شواطئ "ليبيا" عبر جزيرة " قرقنة".(1)
**
أودع بورقيبة الحزب في يد النجم الصاعد صالح بن يوسف الذي ارتقى إلى الموقع الثاني أمينا عاما أو كاتبا عاما ، أخذ بورقيبة من الخارج ينظم دعوة نشيطة لضمان حق تونس في الاستقلال ، وأخذ بن يوسف بيده تسيير حزب ، كان قد تحلل بعد الحرب العالمية الثانية ، أخذ  أمر الحزب الحر الدستوري من الداخل ، وارتأى بنظرة الرجل العملي ثاقب النظر ، أن الحزب لا بد أن يكون له مداخل في المجتمع عبر التنظيمات الاجتماعية التي تؤطر مختلف الفئات ، من صفاقس دفع لنشوء النقابات المستقلة على يد فرحات حشاد ، التي تحولت للعاصمة وتم انطلاقا منها إنشاء  الاتحاد العام التونسي للشغل ، ثم اتحاد الصناعة والتجارة على يدي محمد شمام ومحمد  بن عبد القادر والفرجاني بالحاج عمار ، واتحاد الفلاحين على  يدي إبراهيم عبدالله  والحبيب المولهي ومحسن الفراتي .
 وفيما كان صالح بن يوسف يحكم قبضته على حزب الدستور الجديد وكواكبه المتمثلة في المنظمات النقابية  الجماهيرية ، كان بورقيبة يسعى لتأليب العوالم الخارجية لفائدة استقلال تونس ، وكانت معاضدته تقوى شيئا فشيئا وبعكس ما كان يقول ، فإن عدة دول عربية وغير عربية مستقلة ، وقفت لجانب القضية التونسية وساندتها ، ومنها مصر والعراق وباكستان خاصة ، وكان كل من مصطفى النحاس باشا  و محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر والدكتور فاضل الجمالي وزير خارجية العراق وظفر الله خان وزير خارجية باكستان وعبد الرحمان عزام باشا أمين عام الجامعة العربية دون مدد من السلاح  الذي لم يكن مطلوبا في تلك المرحلة كانوا  يقفون إلى جانب القضية التونسية ويدفعونها  تحت الضوء في المحافل الدولية.
أشعر أنصار بورقيبة " المجاهد الاكبر " بالخطر الذي يتهدد مكانته وموقعه  في تونس ، وأن هناك من أخذ يسيطر على الساحة متمثلا في صالح بن يوسف ،وربما المنجي سليم  والهادي شاكر وغيرهم ، وتأكدت مخاوفه بعد انعقاد مؤتمر دار سليم  الذي كف يده ( أي بورقيبة )عن تصريف الشؤون المالية في المهجر، وأحالها إلى الحبيب ثامر وهو قريب من أقرباء  المنجي سليم ،  بعد أن ضج الهادي شاكر من كثرة نفقات بورقيبة من أموال كان يأخذها باسم الحزب في القاهرة والاسكندرية  على حسابه من أقرباء شاكر ، وتحمل على حساب الأخير، ورغم المظاهر فإنه  أي بورقيبة سيصب جام غضبه على المنجي سليم الذي كان منزل والديه موقعا لعقد المؤتمر والهادي شاكر الذي  كان الداعية لسحب حق الانفاق من بورقيبة ، وهو مؤتمر وصفه  بورقيبة بمؤتمر الغدر والخيانة ،
قرر بورقيبة استعجال العودة للمسك بمقاليد الأمور من جديد في "حزبه " قبل أن تفلت منه.
من هنا يمكن القول أن السباق لزعامة الحزب الحر الدستوري ، ليس وليد أحداث 1954/1955  ، بل لعلها تعود إلى فترة تشجيع بن يوسف لبورقيبة للسفر للخارج و للدعوة للقضية التونسية ، منذ مرافقته  لركوب القطار نحو صفاقس التي انطلق منها نحو المشرق على قارب صغير بتخطيط من الحبيب عاشور.
هل تكون نية صالح بن يوسف الجلوس في مقعد بورقيبة منذ ذلك الحين ؟ هل تفطن بورقيبة لطموح بن يوسف في وقت مبكر.؟
**
عاد بورقيبة إلى تونس على عجل ، رغم ما تقوله الرواية الرسمية من أن بن يوسف نصح بورقيبة بالتريث ، هنا يطرح سؤال : لماذا لم تقبض السلطات الاستعمارية على بورقيبة وكان غادر البلاد خلسة ، وليس عن  طريق المنافذ الرسمية ؟ هناك من يقول إن هذه العودة مرتبة من سفارة فرنسا بالقاهرة.
شرع  بورقيبة في القيام باجتماعات عامة في مختلف مدن وقرى البلاد ، لاسترجاع مواقعه الأصلية  وافتك زمام المبادرة ، وبدا له أنه ما زال يتمتع بالشعبية الكبيرة التي دأبت الجماهير على خصها به ، فانعقدت اجتماعات كبيرة في تونس العاصمة وسوسة والمنستير وصفاقس ، وفي هذه المدينة ، كان لنا المرحوم مصطفى المصمودي كاتب الدولة الأسبق للإعلام و شقيقي المرحوم الصحفي ومدير إذاعة صفاقس محمد الفراتي وأنا ، وعلى صغر سننا  أن نلاحق الركب ، حتى جمعية الثقافة والتعاون المدرسي التي كان يرتادها الكبار والصغار لاستعارة الكتب ، أو المشاركة في أنشطتها الثقافية من مسرح وموسيقى  ورياضة  حيث كان في استقبال " المجاهد الأكبر رئيس الهيئة  الماتر ( كما كان يقال آنذاك) امحمد مقني الذي سيكون عضو في المجلس التأسيسي بعد الاستقلال.
**
في تلك الفترة وعلى قدراته الخطابية الكبيرة ، وقدراته على الاستقطاب وشد الانتباه ، لم يكن صالح بن يوسف وفقا لما أذكر ، كثير الانتقال ، ولعله بسبب نشأته في الأوساط البورجوازية التي ينحدر منها ، كان يأنف من الاختلاط بالأوساط الشعبية ، وستظهر قدراته الخطابية الكبيرة بعد استفحال الخلاف مع بورقيبة ، وخاصة ذلك الخطاب الحماسي  الذي ألقاه على المدرج الخارجي لجامع الزيتونة في خريف سنة 1955 ،والذي شكل في حينه قطعة رائعة ، لعل أحدا احتفظ بتسجيل منها ، وإن كان نشر بالكامل في جريدة الصباح ، ربما عن طريق الصحفي القدير الصادق بسباس أطال الله عمره.
**
لما تشكلت حكومة محمد شنيق ( كبير وزراء محمد المنصف باي  ثم بعد سبع سنوات مع محمد الأمين باي )  التفاوضية ضمنت صالح بن يوسف في  صفوفها كوزير للعدل ، وكان المعروض على تونس ما هو أقل بكثير مما تحقق لاحقا بعد خطاب منديس فرانس في 31 جويلية  قبل أن تفشل مفاوضات الفرصة الأخير وتأتي مذكرة وزارة الخارجية الفرنسية في 15 ديسمبر 1951 التي أغلقت الأبواب  أمام حل الاستقلال ، ما دفع بورقيبة للتصريح : إنهم يريدون المواجهة نحن لها".
 افترقت الطرق مجددا بين بورقيبة ، فقد ذهب رئيس الحزب للمنفى في طبرقة   وما تلاها بعد اندلاع ثورة 18 جانفي 1952 ، فيما كان طريق صالح بن يوسف مختلفا حيث بمناسبة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في قصر شايو في باريس  وكان موفدا من حكومة الباي محمد الأمين للدفاع عن القضية التونسية ، فالتجأ إلى بلجيكا ومنها للقاهرة.
ابتعد الرجلان عن تونس ولكن بورقيبة كان أنشط مع الداخل ، فيما اختص بن يوسف بالعمل الخارجي من القاهرة.
لا يبدو أن الخلاف القديم على الموقع الأول قد طفا على السطح في تلك الفترة التي استمرت سنتين، ولكن الأعماق كانت متشبثة بالمواقع .
قال بورقيبة صراحة بعد عودة بن يوسف من القاهرة في 13 سبتمبر   1955 ما معناه هناك موقع أول من الطبيعي أن  يكون لي ، وأنت ستكون في الموقع الثاني ، وقال بن يوسف قبل عودته تلك لأحد المبعوثين الكثيرين الذين استحثوا عودته لأحضان البلاد ، لا مكان لاثنين على كرسي واحد ،  وكان يقصد أنه هو أحد الاثنين وأن الكرسي له هو دون غيره.
"وكان لذلك معنى خاص آخر حيث ظهر أن الحبيب بورقيبة وإن لم يكن معروضا عليه لا منصب رئيس الوزراء ولا منصب الوزارة فإنه سيكون  المفاوض الرئيسي من وراء ستار , وسيكون المخاطب الكفء الأوحد أمام السلطات الفرنسية , وهو ما أثار حفيظة البعض وخاصة صالح بن يوسف  الذي كان يطمح للزعامة التي إن لم تكن منفردة فعلى الأقل بمعية الرجل الأول الذي اختارت فرنسا أن تتفاوض معه استعدادا لأن تسلم له مقاليد البلاد والسلطة فيها .
 في كل ذلك لم تكن فرنسا وقد اختارت الرجل الذي تعتمد عليه قد جانبت المنطق على اعتبار أن بورقيبة هو رئيس الحزب الذي قاد الحركة التحريرية .
ولكن ومن وجهة نظر بن يوسف والذين سيؤيدونه لاحقا فإن الزعيم الحقيقي في السنوات الطويلة التي قضاها بورقيبة في المنافي لا صلة له لا بالكفاح ولا بالمكافحين ، كان بن يوسف من القاهرة ومن أوروبا يقود الحركة التحريرية , ولذلك فإنه كان يعتقد بأنه  يتمتع بشرعية أقوى وأكبر من تلك التي حازها بورقيبة بفعل رئاسته لحزب الدستور الجديد .
غير أن لا هذا الإتجاه ولا ذاك بريء , فاختيار التعامل مع بورقيبة جاء من قناعة لدى القادة والمسؤولين الفرنسيين بأن رئيس الحزب الدستوري زيادة على صفته تلك هو أقرب فكريا لفرنسا والفكر الفرنسي من بن يوسف الذي وإن نال دراسته الجامعية في باريس فإنه بحكم عدة عناصر أكثر شعبية من جهة وأقرب إلى الفكر المشرقي بحكم إقامته الحديثة في مصر بعد  ثورة عبد الناصر ر وما دفعت به إلى قلوب العرب من آمال في التحرر.
ويعتقد مراقبون  آخرون عايشوا تلك الحقبة أن جانبا من الجهات الفرنسية كانت على  قناعة  بأن بن يوسف أكثر قابلية للتفاهم من بورقيبة وأكثر اعتدالا تشهد على ذلك فترة مروره من الحكم في وزارة محمد شنيق وما أبداه من اعتدال قطع مع تشدد بورقيبة في تلك الفترة" ( ) 1
**
من هنا يبدو واضحا أن الخلاف البورقيبي اليوسفي من وجهة نظرنا يبقى خلافا تقليديا على السلطة ، فلا مكان لأكثر من واحد على كرسي واحد ، ولذلك اتسم الخلاف بحدة وصلت حد الدموية ، وبقدر ما حاول صالح بن يوسف اغتيال بورقيبة ولم ينجح ، بقدر ما حاول بورقيبة قتل بن يوسف ونجح في ذلك ، معتقدا أنه بذلك يتقي شره للأبد ، ولكن ها هو شبح بن يوسف يلاحقه حتى بعد 17 سنة من وفاته ، ولكن دون أن يقلل من شأن بورقيبة .
وقد علمتنا التجارب ، أن من ينتصر هو الذي يفرض لونه ، وبورقيبة انتصر في خلافه مع بن يوسف وتربع على عرش السلطة في تونس ، وبالتالي  لم يكتف بالحكم فقط ، بل صنع وصاغ التاريخ كما فعل الكبار دوما ، وهو ما لا يمكن أن يعيد كتابته أحد أو يقلل من أثره ، ( ربما في التفاصيل أما الجوهر فلا) ، حكم البلاد وأدخل عليها إصلاحات ، وبدا أنه حقق الاستقلال وأسس الدولة ، ونشر التعليم على أوسع نطاق ،  وأنجز صحة للتونسيين ( مؤمل الحياة 76 عاما مقابل 46 أو 47 سنة عاما عند  الاستقلال) و فوق هذا فرض نمطا مجتمعيا ينعم به اليوم حتى الذين ينكرون عليه  كل شيء ، والسيدة سهام بن سدرين نفسها تعيش في بلد لا يستطيع لها زوجا أن يطلقها فيه  بجرة قلم أو يتخذ عليها زوجة أخرى ، بعكس حال المرأة في غالب البلدان العربية والإسلامية  ولا ينافسها في إرث أبويها عاصب .
ومن السفسطة القول : من يدري إن كان صالح بن يوسف  يمكنه أن يحقق ذلك ، ولعل تحالفاته  ، مع الشاذلي باي ومع المشائخ الزيتونيين الأكثر تعصبا رغم ثقافته المدرسية الجامعية الفرنسية المستنيرة كانت تضعه رهينة بين أيديهم ، ما كانت تمكنه من ذلك المسار.
ذلك تاريخنا كتبه بورقيبة بنا ومعنا ، لا يستطيع أحد له تبديلا ، بحلوه ومره ،  وبنواحيه الناصعة والأخرى القاتمة ، ولعله لم تعد من فائدة لمحاولة إحياء بن يوسف ، فقد لعب لعبة سياسية خسرها ، والتاريخ في النهاية لا يعترف إلا بالمنتصرين.
**
إذا كان لصالح بن يوسف سقطات ومنها إرساله من يحاولون اغتيال بورقيبة ، والرسائل التي بخط يده ، وفيها تحريض على من كان يسميه ، ومن بادر هو نفسه لتسميته بالمجاهد الأكبر، فهو لم يمارس قط الحكم إلا إذا اعتبرنا مروره من وزارة العدل 1950/1951/1952 ، وكان حضوره باهتا ، فإن سقطة بورقيبة كانت أكبر ، عندما أوحى إن لم يكن وراء اغتيال رفيقه في فرانكفورت في سبتمبر 1961، ثم خاصة لما أشاد بالذين اغتالوه بالوكالة  بصورة علنية وفي محاضرة مشهودة ، وكأن ذلك لم يكن كافيا فقد وشح صدورهم بنياشين ما كان لهم أن يحملوها لأنها ترمز لشرف البلاد ، ولا يبرر شيئا أن رؤساء آخرين قد أقدموا على القتل ، فالرئيس ديغول دفع برئيس حكومة سابق ـ صحيح في رئاسة الماريشال بيتان ـ هو لافال إلى المقصلة بعد محاكمة لم تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة ، فيما إن الإعدام في الجرائم السياسية منبوذ ومكروه ، أما ميتران ، فكان في سنة 1956 وهو وزير للداخلية في حكومة غي موللي  قد ترك الحبل على الغارب ( وبمعرفة منه إن لم يكن أكثر من المعرفة) لجنرالات الجزائر بقتل العربي المهيدي بطل المقاومة في القصبة بدم بارد، هذا لا يبرر ذاك ، ولكن لعل رجال السياسة وخاصة الحكام منهم يتجردون من إنسانيتهم في سبيل تحقيق مآربهم في الحكم ،  أو الوصول إليه أوالبقاء فيه.
(1)               من كتاب عبد المجيد شاكر" الهادي شاكر .. جهاد واستشهاد"