Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

السبت، 28 سبتمبر 2013

من الذاكرة



من الذاكرة
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
بعد وفاة الأخ الصديق مصطفى المصمودي
الوحدة القاتلة
تونس / الصواب / 27/09/2011
غيب الموت أخا عزيزا وصديقا حميما هو مصطفى المصمودي.
رجل عرفته منذ الطفولة الأولى، كنا أصدقاء وبقينا أصدقاء، ثلاثة لا نفترق المرحوم شقيقي محمد الفراتي مدير إذاعة صفاقس الأسبق، ومصطفى المصمودي الذي سيجد الزائر نبذة عن حياته رفقة هذا من خلال أكمل ما كتب عنه   وقرأته عنه  في  موقع الصباح نيوز، و الثالث أنا، هل يكون "عمر الشقي بقي" على رأي المقولة المصرية،  فأبقى أكابد الحياة بعد الأخوين العزيزين محمد الذي غيبه الموت ذات يوم من شهر تموز يوليو 1988، في حادث مرور، وكنت أستغرب ليلتها بعد موته أن تستمر الحياة، وأن لا تتوقف الأرض عن الدوران ، ولكن تلك سنة الحياة، ومصطفى الذي فاجأنا برحيله وهو في عز العطاء .
بعد وفاة محمد كان مصطفى يواسيني وكان في أشد الحاجة  هو الآخر إلى المواساة.
دارت الأيام وأصيب بالمرض العضال، وكان الظن أنه شفي منه، ولكنه فاجأنا بين يوم وليلة وبعد سنوات على ما كنا نعتقد أنه  الشفاء،  وهو يغادرنا بلا استئذان، وكأن الموت يحتاج إلى استئذان، وكأننا لن نكون طعما له في يوم من الأيام ، يترك وراءنا لوعة وحرقة، ويترك للباقين ذكريات يندفع إلى السطح منها كل ما هو جميل.
كنا ثلاثة لا نكاد نفترق ، محمد ومصطفى وأنا، في طفولتنا الأولى، كان يكبرني بعامين أو تزيد وكان محمد يصغرني بعام، كان أكثرنا تجربة ، وبحكم السن كان شديد الحنو علينا، يحسب نفسه مسؤولا عنا، كان يتمتع بخصال الرئاسة، ولكن في رفق وبلا تسلط، وهو بدماثة أخلاقه لا يعرف كيف يقول لا، ولكنه يدفع إليها بكل لطف ولكن أحيانا في حزم ورغم ذلك برفق شديد، منذ الصغر كان رجل مبادئ ولكن في هدوء.
وبعكس عنادي (المرضي) كان مصطفى وشقيقي محمد ألين طبعا، وأقدر على التفاعل مع الأحداث والتطورات، وبقدر إصراري على مواقفي، كان مصطفى ومحمد أقدر على التنازل، ولذلك أعتقد أنني لم أتفاعل مع الأحداث مثلهما.
كنا نذهب معا لاختيار كتب المطالعة من جمعية الثقافة والتعاون المدرسي، وكان أمين المكتبة السيد محمد الفريخة يناولنا الكتب التي يرى فيها فائدة لنا، لا ما نطلبه منه، وكان هناك تدرج لديه بحسب السن والدرجة الدراسية، فتدرجنا من كامل كيلاني إلى محمد عطية الإبراشي (l’archevêque) حسبما قال لنا، إلى جرجي زيدان، إلى كرم ملحم كرم ، إلى غيرهم، ثم إننا لم نكن لنكتفي ثلاثتنا بما كنا نستعيره من المكتبة كل أسبوع مرة ، بل كنا ننفق فرنكاتنا على شراء الكتب من مكتبة الأديب حامد قدور، وكانت مكتبته في نهج العدول غير بعيد عن معمل أبوينا  ودكانهما ، وهي  عبارة عن منتدى يوفر (ما لذ وطاب من الكتب التي نلتهمها)، ثم بعد الليسي كنا معا نقتني الكتب الفرنسية  من مكتبة "آمري" في باب البحر.
غير أن هوايتنا  الكبرى كانت اقتناء مجلة "سندباد"  في مكتبة مختصة بتوريدها، جنب باب الديوان، كنا نشتريها بـ35 فرنكا وكانت تعتبر ثروة وقتها.
مجلة سندباد فتحتنا على العالم العربي، كانت مصر تعيش مخاضا في فترة ثورتها، بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، وكانت تتجه توجها قوميا عربيا ترك آثاره في نفوسنا، وكنا معجبين بمقولة عبد الناصر: "ارفع رأسك يا أخي".
ومجلة سندباد كانت بتوجهاتها تقف مع حركات التحرير العربي، ومنها بالخصوص الحركة التونسية، وتعلمنا معا البعد العربي للفكر، وأن تونس ليست مغلقة على نفسها، بل هي جزء من عالم متكامل.
معا كنا سباقين إلى محطة القطار لشراء جريدة الصباح من المنبع عند وصولها من العاصمة.
أيام جميلة قضيناها معا في دارنا على شاطئ البحر، وكنا نجتمع أطفالا ثم شبابا، لنسبح معا ونتحدث معا،  ونحلل معا ونتبادل الرأي معا، والمركز ثلاثتنا تقود خطواتنا توجيهات أبوين مثقفين مطلعين منفتحين.
كان سي عبد السلام والد مصطفى رجلا عمليا، كان شريكا لأبي لا يفترقان، ويعرفان كيف يتقاسمان الأدوار والأوقات في عملهما، وبالقياس إلى زمنهما في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، كانا  ملمين بتطورات الأحداث، وكانا من أول الصناعيين العرب في المدينة، وكان اهتمامهما ينتقل بهما  من الحرب الكورية، لأحداث فلسطين ، للثورة المصرية، فيما كانت زياراتهما دائمة للزعيم الهادي شاكر، وفي الأعياد كانا يصحباننا إلى الهادي شاكر في مغازته في نهج المرابطين، للتهنئة، وكان ينعم علينا نحن الأطفال الثلاثة بنياشين الحزب الدستوري، وقتها كان يقال حزب الماطري، باعتبار أن رئيسه الأول قبل بورقيبة  كان محمود الماطري.
ولقد حملنا معا  ثلاثتنا قلال الماء بعد ملئها من ماجن بيتنا للمتطوعين الذاهبين على الفلك إلى فلسطين، عبر شاطئ مدينة صفاقس، والذين كانوا يتخذون منطلقهم من فيراندا "صراية الجلولي" القريبة من دارنا على طريق سيدي منصور، ومن هنا زرعت فينا على صغر السن بذور الوطنية، وبذور القومية العربــــــــــية، وسنفخر لاحقا بأننا ننتمي إلى عائلة من المناضلين( مصطفى المصمودي ينتمي إلى عائلة الفراتي من جهة أمه)
فقد كان ابن عم لنا هو  المرحوم الحبيب الفراتي مدير ديوان وزير التخطيط والمالية لاحقا،  قد تم سجنه بسبب نشاطه السياسي زمن الاستعمار في مدينة صفاقس، وكان عز الدين الفراتي(شفاه الله وهو عميد  آل الفراتي ) قد شارك في مغامرات اغتيال أذناب الاستعمار في العاصمة ، وصدرت ضده أحكام ثقيلة وكاد يجري إعدامه، وكان عبد السلام القفال ابن المسؤول عن الأجهزة الفنية في المعمل الذي كان يملكه والدانا سي عبد السلام وسي البشير قد تم سجنه لمغامراته وللمشاركة في المظاهرات وعمليات التخريب ضد المواقع الاستعمارية، وكان خال سي مصطفى قد نال من العذاب أصنافا، بعد انخراطه في العمل الوطني رفقة الطيب سليم والحبيب ثامر والرشيد إدريس، وحسين التريكي وغيرهم ، إبان الحرب العالمية الثانية وبعدها.
في هذا الجو المشبع بالوطنية والشعور العروبي  عشنا معا على صغر سننا ثلاثتنا ، وكثيرا ما كان حديثنا ليس حديث أطفال ، واهتماماتنا ليست اهتمامات أطفال، بل حديث كبار وكنت أنا بالذات لا أكف عن الاستماع للراديو، على حشرجة صوته استقصي أخبارا من كوريا وفلسطين ومصر، وأتتبع أخبار القاهرة  والـ ب ب س وبغداد  قبل أن تنشأ إذاعة صوت العرب.
واشتهر بيننا مصطفى بأنه آخر من يتكلم منا، في هدوء ورفق، وبعيدا عن العاطفة، فنسمع كلامه ونشربه وهو أكبرنا سنا، واقدر أنه كان أشدنا حكمة، وأكثرنا قدرة على التحليل وربط الحداث ببعضها البعض، كما يحق للمحلل السياسي النابه الذي ستعرفه الساحات السياسية والإعلامية لاحقا.
وإذ فرقت بيننا الحياة، لفترة فقد عدنا لنلتقي في رحاب صاحبة الجلالة، فبعد أن كان خريج أول دفعة في مجال العلوم الاقتصادية المستحدثة رفقة مجموعة من الأصدقاء مثل المرحوم عبد السلام دمق الأستاذ الجامعي، ومحمد على الحشيشة، الذي انقصف في أول الشباب سنة 1968، وكانت تلك الدفعة قد تتلمذت على الشاذلي العياري، وريمون بار الذي قام بالتدريس في تونس، ليتولى لاحقا الوزارة الأولى في فرنسا زمن  الرئيس جيسكار ديستانغ ويلمع كرجل سياسة واقتصاد على المستوى العالمي، بعد ذلك وجد نفسه يدخل عالم الإعلام الذي كنت سبقته إليه.
دخله ولم يخرج منه قط. بل برع فيه وانطلق منه للإعلامية وعلوم الكومبيوتر والقمار الصناعية التي نال فيها شهادة دكتورا دولة من باريس.
عشنا أصدقاء على مدى قرابة 70 سنة، اتفقنا واختلفنا، اختار أن يكون غالبا في جانب الحكم، وإن كان لم يسكت عن حق أبدا، وكان بالنسبة لي دوما معلما مرشدا، وكان  كذلك شديدا في نقده لاذعا في مواقفه، وخلال توليه النيابة في مجلس النواب، كان يقول إن التعبير والإعلان عن المواقف هو فرض عين لا فرض كفاية، ولذلك كان يتدخل، وقد أعد إعدادا جيدا تدخلاته، وكان في كثير من الأحيان يرتبها مع العارفين بأحوال معينة، ممن كان يتفق معهم أو يختلف وأحسب أني كنت أحدهم.
 وكان اختلافنا شديدا عندما اختارته اليونسكو ضمن لجنة "ماك برايد"  حول النظام الإعلامي الجديد خلال السبعينيات وما بعدها، ورغم التزامه ورغم قرابتنا وصداقتنا، فقد كتبت عددا من الافتتاحيات والمقالات ضد  هذه اللجنة ، حيث كنت مؤمنا بأنه لا مجال لتقييد حرية الصحافة مطلقا، بدعوى حق البلدان في العالم الثالث في إعلام موجه( وعلى القياس).
غير أن هذا الاختلاف لم يفسد علاقة لنا، حيث كان يتقبل مواقفي بكثير من رحابة الصدر، لأنه مؤمن بحرية التعبير كما تعلمناها صغارا ومنذ طفولتنا الأولى.
تلك حياة عشناها معا، أطول من أن يحتويها مقال، وأقوى من أن يطويها موت أو فراق.


**
علاقة تضرب جذورها بعيدا بعيدا جدا..
تونس / الصواب /27/09/2013
في رسالة نيل شهادة ختم الدروس الجامعية  في الصحافة وعلوم الأخبار، كتبها الطالب ماهر عبد الجليل المذيوب بعنوان :" المقال التحليلي في الصحافة التونسية 1976/1996 : عبداللطيف الفراتي نموذجا" ، استكتب الطالب عددا من الإعلاميين للتقديم لموضوعه،  وكان من بينهم كل من الدكتور مصطفى المصمودي والأستاذ صلاح الجورشي.
ولقد وجدت الفرصة سانحة بعد وفاة الصديق الأخ والرفيق مصطفى المصمودي لأنشر هذا الذي كتبه وهو بقدر ما كان موجها لشخصي ، كانت فيه إنارات كثيرة لحياة مصطفى المصمودي في طفولته وشبابه وكهولته.
وفي ما يلي المقال مخطوطا كما نشر في رسالة الطالب:











من أفضل ما قرأت مما كتب في مصطفى المصمودي
لعل من أفضل ما قرأت فيما كتب عن مصطفى المصمودي هذه القطعة التي حبرها الكاتب والمنتج الإذاعي المبدع أنور معلى، وهو من هو  قلم حر شجاع ناله لفترة بطش الحاكم، وما زال يصدع برأيه بكل شجاعة وبدون مجاملة :

Aujourd'hui, j'ai perdu un ami très cher, et auprès de qui j'ai beaucoup appris. Co-fondateur (avec feu Béchir Salem Belkhiria) de l'Association Tunisienne de Communication (ATUCOM), Mustapha Masmoudi était d'une curiosité intellectuelle et scientifique rare. Souvent en avance, il a permis à plus d'un (dont moi-même et ce n'est pas de la fausse modestie), d'être autant que faire se peut, à jour. C'est à son initiative que s'est tenue en Tunisie en 1985 une conférence internationale d'envergure sur les satellites à réception directe. Il a longtemps animé la commission nationale de l'espace. Sur un plan plus personnel, Si Mustapha, lorsqu'il était Secrétaire d'État à l'Information, a été le responsable qui m'a confié, à 26 ans en 1977, et sous la supervision technique de Si Hamadi Riza, ma première vraie étude (État des Radios et Télévisions des Pays Non-Alignés). Il faut dire qu'à l'époque, la Tunisie jouait un rôle important dans le mouvement (grâce à l'action qu'il y menait et à la présence simultanée à des postes diplomatiques-clés de personnes comme Mahmoud Mestiri, Zouhair Chelli, Taieb Sahbani, ... et j'en passe). Aujourd'hui que Le Tout Puissant l'a rappelé à Lui, je me demande, mais c'est trop tard dans tous les cas, si je lui ai suffisamment dit toute ma gratitude. Un conseil chers amis : tant que vous en avez la possibilité, revoyez le film de votre vie et rappelez-vous d'exprimer, comme il se doit, votre reconnaissance aux personnes que vous jugerez le mériter. Adieu mon ami et... merci


الأربعاء، 25 سبتمبر 2013

اقتصاديات - على أبواب الكارثة

اقتصاديات
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
التقشف ومعانيه العميقة
تونس/ الصواب/25/09/2013
بمواربة وبدون إعلان ذلك صراحة، فإن السلطات التونسيةـ   تسرب أن سياسة تقشفية، ستتبع مستقبلا، باعتبار الأوضاع الاقتصادية المتدهورة.
ويستشف المرء ذلك سواء من تصريحات السيد الشاذلي العياري محافظ البنك المركزي، أو السيد إلياس الفخفاخ وزير المالية.
غير أن الوضع يبدو أكثر تعقيدا من بعده الاقتصادي الصرف، وهو مستعص على الحل لتداخل متشابك بين النواحي السياسية والنواحي الاقتصادية.
وإذا كان الوضع الاقتصادي في أشد مرتكزاته تدهورا: انخرام في التوازن المالي للميزانية العامة مدعو لمزيد  من التقهقر ليبلغ رسميا 7.4 في المائة وواقعا ليس أقل من 9 أو 10 في المائة(الوضع الطبيعي 3 في المائة)، انخرام في الميزان التجاري بصورة غير مسبوقة، تدهور مؤشرات توازنات ميزان المدفوعات، انهيار قيمة الدينار قياسا إلى أهم العملات التي تتعامل بها تونس ، انفجار نفقات الدعم، تجاوز حجم المديونية الحدود التي كانت تعتبر قصوى قبل ثلاث سنوات، إذا كان الوضع كذلك، فإن الأدوية المرة التي يمكن للأطباء الاقتصاديين صرفها باتت في غالبها غير مفيدة إلا إذا كانت صادمة  وغير ذات شعبية.
أولا: أن الأدوية المرة التي كان يمكن أن تكون ناجعة في بدايات 2012 وربما حتى في بدايات 2013 ، لم تعد ذات مفعول يذكر إلا على مدى طويل من جهة، وبتضحيات شعبية جسيمة من جهة أخرى، ليس مؤكدا أن يتقبلها المواطنون عن طيب خاطر.
ثانيا، إن الحكومة وهي عاجزة وتبدو غير ذات كفاءة ولا بصيرة، لا تريد أن تصارح الشعب بحقيقة وضع ، لا يمكن أن يزداد سوء إلا إذا وصلت البلاد للكارثة، وهي قاب قوسين أو أدنى منها.
ثالثا : أن الحكومة حتى إذا أخذت شجاعتها بكلتي يديها، ورغبت فعلا في هذه المصارحة المريرة، فإن هامش المناورة لديها يبقى محدودا إن لم يكن معدوما، باعتبار واقع الحال، من حيث انعدام الثقة، تجاهها بعد أن وصل وضع المواطنين ، فضلا عن وضع البلاد ، إلى ما وصل إليه من تردي، أصبح يشاهد بالعين المجردة.
ومن هنا فإن تونس تواجه نهاية سنتها الحالية ، بوضعية يتفق كل الخبراء على سوء حالها، ورغم ذلك فإنها  أي الحكومة مصممة على الذهاب إلى الأمام، في نكران حقيقة الواقع، ورفض التعامل معه بكل واقعية، بما في ذلك إيجاد أرضية للوفاق الوطني هي وحدها الكفيلة، بالخروج من المأزق. ولكن أنى للحكومة الحالية وقد فقد كل شرعية أو مشروعية أن تكون موقع وفاق.
أما بوادر العام المقبل فإنها تبدو أكثر سوء وسوادا، وستقود تونس، إلى ما لم تشهده من قبل منذ استقلالها من تدهور وضع، وإفلاس مؤسسات، وانتشار بطالة.
فانهيار الدينار وحده  بهذا الحجم والفجائية والسرعة يشكل كارثة، من حيث ما يؤدي إليه من ارتفاع كلف الإنتاج، وبالتالي مزيد تدهور القدرة على  الحفاظ على أسعار تصدير يمكن أن  تكون معقولة، فضلا عن ارتفاع لأثمان السلع المستوردة سواء كانت استهلاكية أو مندمجة في كلف الإنتاج. فضلا عن تراجع كبير في الطاقة الشرائية للمؤسسات والأفراد.
أما عجز الميزانية  العامة للدولة بهذه الأحجام التي لم نر لها مثيلا إلا في بلدان كاليونان وما شاكلها، فإنه ينذر بنذر تضخمية منفلتة، لعلها تذكر بتركيا في التسعينيات قبل أن يقف على تطبيبها وزير الاقتصاد الأسبق كمال درويش، الذي وضع أسس اقتصاد سليم للبلاد قبل قدوم أردوغان وحزبه للحكم.
وفي حال استمرار العجز المتفاقم للميزان التجاري ، وتواصل تراجع السياحة ومداخيل العمالة التونسية وغيرها من اللامرئيات ، فإن التوازنات كلها تصبح مهددة بكل الأخطار.
وأخيرا وليس آخرا فإن انفجار المديونية، ووصولها وفقا للأرقام الرسمية إلى 47 في المائة من الناتج(أرقام محايدة تصل بها إلى 50 في المائة) / واتجاهها لا لتمويل عملية التنمية بل الإنفاق الاستهلاكي المتمثل في تغطية عجز ميزانية الدولة وعجز الميزان التجاري وميزان المدفوعات، كل ذلك ينذر بأخطار وافدة ، ويتهدد الوضع العام بالويل والثبور.
ما تحتاجه البلاد للخروج من الورطة التي أدخلتها فيها حكومات بلا رؤية، ولا قدرة ولا كفاءة، هو حكومة قادرة على:
** مصارحة الناس بحقيقة وضع لا بد من القول بأنه أكثر من كارثي
** الشجاعة على اتخاذ قرارات غير شعبية ولكنها ضرورية كالدواء المر، وبعيدا عن أي حسابات انتخابية.
وطبعا فليست الحكومة القائمة هي القادرة على مصارحة الناس وهي المسؤولة عما وصل إليه الحال، ولا هي القادرة على اتخاذ القرارات الواجبة، والتي تتناقض بطبيعتها مع الحسابات الانتخابية، لعدم شعبيتها.



الاثنين، 23 سبتمبر 2013

بكل هدوء - مسؤولية تخريب البلاد

بكل هدوء
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
المسؤولية  التاريخية الخطيرة
تونس / الصواب / 23/09/2013
المأزق الخانق الذي تعيشه  البلاد في هذه الفترة الخطيرة، من المسؤول عنه، ومن المتسبب فيه.؟ وإلى أين سيؤدي من أهوال ومن آلام.
بعكس ما يعتقد الكثيرون، فإن للنهضة جانب قد يكون كبيرا من المسؤولية، ولكن  الحقيقة  الآن هي أن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق شريكيها، التابعين غير المستقلين بقرارهما أي التكتل والمؤتمر.
و من المنطلق كان الخطأ الأصلي أو القاعدي، فالنهضة معروفة بتوجهاتها المنافية لطبيعة الحكم المدني، فهي تنتسب لنمط آخر غريب عن المجتمع التونسي ونهضته الحقيقية منذ ما يقارب القرنين، ولكن حليفيها المتورطين بسبب طمع في الكراسي ، هما أصحاب المسؤولية الحقيقية ، فقد سلم الحزبان" العلمانيان حسب ما كانا يعلنان" أنفسهما، يدين ورجلين في رباط وثيق لحزب حركة النهضة، ولم يساوما كما هو الشأن عادة عند قيام الائتلافات الحاكمة، لا في المبادئ ولا في ولا خاصة في المناصب، فنالا من الغنيمة ما لا يعتد به ، فاستأثرت النهضة بالقرار وبالمواقع ، وتم رمي فتات السلطة والقرار إليهما، فتكالبا عليه دون حتى حد أدنى من شعور بالكرامة، وانحدرا من حزبين محترمين إلى كيانين متهالكين لعل أبرز ما يميزهما هو غيابهما حتى من القائمة المتأخرة في سباق سبر الآراء حاليا، وهو ما يبشرهما بسقطة مدوية في أي انتخابات مقبلة، إلا إذا جاءت النهضة لإسعافهما بما يمكنها، وهي التي تنازل أمرها من المرتبة الأولى في الانتخابات السابقة سنة 2011 إلى مرتبة ثانية متوقعة في انتخابات 2014.
وبكل هدوء للمرء أن يتساءل إن كان الحزبان شاعران بمدى الانحدار المسجل، وإن كان إصرارهما على الوقوف مع النهضة، يمكن أن يخدمهما.
قطعا لا، ولكنهما يصران على تأييد غير مبرر، والبقاء في سلطة، لم يجنيا منها سوى العلقم، والتقهقر، مع حرص وحيد على البقاء لأطول فترة ممكنة.
لعل للمرء أن يتساءل لماذا هذا الوضع؟
الجواب ببساطة هو أن جانبا هاما من المواطنين يحملون الحزبين جانبا من مسؤولية تردي أوضاع البلاد، دون أن يكون بدر منهما رد فعل، مهما كان نوعه، وحتى في فترة الأيام الأخيرة والبلاد على كف عفريت، والأخذ والرد في أوجه، بشأن احتمالات الموقف ، فإن مواقف الحزبين المؤيدة لمواقف النهضة بشأن إفشال المبادرة الرباعية، ورفضها وعدم التعامل معها يجعلهما في موقف ليس ضعيفا فقط، بل يعتبر سببا في ما عساه أن يحدث خلال الأيام المقبلة، لا من احتمالات احتقان فقط بل احتمالات انفجار، سوف لن تتحمل تبعاته النهضة وحدها بل أيضا هؤلاء الحلفاء  المتهافتين، حيث لا يمكن الحديث عن ائتلاف بل اندماج إلى حد ذوبان الشخصية، إن كانت هناك من البداية شخصية.مسؤولية المؤتمر والتكتل عظيمة، وهي مسؤولية سيحاسبهما هما وقياداتهما عليها، عاجلا، ولكن حساب التاريخ هو الذي سيكون بالنسبة لهما كحزبين وكيانين بمثابة المقصلة.
لقد اشتروا ماضيهم ونضالهم وسمعتهم بمال قليل زائل، ومناصب قليلة غير دائمة، وتركوا بصمات سوداء على جبين تاريخهم.
إنهم هم الذين برروا ما تعيشه تونس اليوم، من خراب ودمار، وفشل وإخفاق، من إرهاب ، ومن اضطراب ، ومن انحدار في المستوى المعيشي، وبالتالي فإنهم سيدفعون الثمن غاليا على ما اقترفوه.
fouratiab@gmail.com



الأحد، 22 سبتمبر 2013

سانحة - قضية وجود

سانحة
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
قضية وجود؟
تونس/ الصواب/ 21/09/2013
كان الاعتقاد السائد في تونس، هو أن إخوان تونس ( النهضة) هم أكثر ذكاء، وأقرب للواقع من أشباههم في العالمين العربي والإسلامي ، ويقوم هذا الاعتقاد على فكرة راسخة، بأن سكان المغرب العربي الذين ابتلوا بالاستعمار الفرنسي، اعتبروا دائما أكثر عقلانية، والتصاقا بمنطق الأشياء.
إلا أن الأيام بصدد تقديم الدليل وراء الدليل ، على أن إخوان تونس، كما هو شأن إخوان مصر، يتميزون بنوع من العناد، والابتعاد عن التحليل المنطقي، و عدم الوصول للاستنتاجات المنطقية مثل غيرهم من المشارقة.
فقد كان المتوقع أن لا يسقط إخوان تونس في نفس الأخطاء التي سقط فيها إخوان مصر، وانتهت لا فقط لاستبعادهم من الحكم،ولكن وبالخصوص التنكيل بهم، وهو أمر مستهجن وغير مقبول ، ويؤمل أن لا يصل إلى تونس رغم جهودهم الواعية وغير الواعية للوصول له.
ولكنهم أظهروا على مدى الأسابيع الأخيرة وخاصة في اليومين الأخيرين، ليس فقط أنهم لم يستفيدوا من الدرس، ولكنهم أمعنوا في سلوك طريقه، وأنهم بدوا أبعد أن يكونوا طلاب وفاق ، واستعداد ليكونوا على نفس الموجة ،مع الذين يختلفون معهم، اعتمادا على شرعية  انتخابية مفقودة، كم تمسك بها الرئيس السابق محمد مرسي فكررها عشرات المرات في خطابه"الوداعي"، ولكنها لم تفده شيئا، لأنها شرعية  تفتت تحت أخطاء قاتلة، كانت  أضعف  من أن تستطيع الصمود أمام الشرعية الثورية،وحتى التمردية، كما نظر (بتشديد الظاء) لها قادة الثورة الفرنسية وأوردها العهد الدولي لحقوق الإنسان في ديباجته.
ولعل الخطأ الأصلي للإخوان التونسيين، أنهم ظنوا أن ما يحصل هذه الأيام هو تحدي وجود فيما هو تحدي إرادات، كما يحصل في الحكم في الدول الديمقراطية، غير أن الإخوان خلطوا على ما يبدو بين الديمقراطية، والتمسك بالحكم على أسس غير مستقيمة، من اعتبار"الشرعية الانتخابية" هي قاعدة السلطة، فيما هي وكل نظريات العلوم السياسية تلح على غير ذلك أو ليس كل ذلك، من وجوب توافقات، وتشريك للقوى الحية في المجتمع، واللجوء للطبقات المثقفة، لا تهميشها، أو ملاحقتها بالسجون و التضييقات.
لذلك فإن هاجس الإخوان اليوم في تونس، هو المحافظة على السلطة بكل الوسائل مهما كانت، خوفا من أن تفلت منها، والسعي إلى أن تكون تلك المحافظة مستمرة متواصلة دائمة، على أساس أنها أي النهضة تعيش قضية وجود ، ومن هنا فهي أي الجماعة  رغم وعود رئيسهم ومرشدهم، تعتقد بأن في الحوار الوطني فخاخا، ينبغي تجنبها، غير أن ذلك يمثل الحسابات الخاطئة، وهو ما ستبرزه لها الأيام، وتبرز معه أنها تقود البلاد إلى ما تحمد عقباه، والله لطيف بالعباد والبلاد.

السبت، 21 سبتمبر 2013

اقتصاديات -الاقتصاد في نفق مظلم

اقتصاديات
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
النفق المظلم
تونس/ الصواب/21/09/2013
نفق مظلم في آخر الطريق، وآفاق لا تبشر بخير، وإفلاس مطل، وفقر منتشر، تلك هي الإطلالة التي تطالعنا خلال أسابيع إن لم تكن قد أطلت بعد.
منذ سنتين والعارفون ينبهون إلى قدوم الكارثة، وقد حلت بعد، وأوقعت البلاد في مأزق خطير، ووصل الأمر إلى حد أن محافظ البنك المركزي، وهو عالم اقتصادي لا يشق له بنان، قد نبه إلى أن البلاد انتهت إلى ما لا ينبغي أن تنتهي له أي بلاد في العالم، وأن الوضع هو وضع لم تعرفه البلاد منذ أواخر الستينيات، أي في نهاية التجربة التعاضدية التي قادها أحمد بن صالح، وكبت بواسطتها البلاد كبوة لم تعرف لها تونس مثالا حتى في السنوات الصعبة في منتصف الثمانينيات،
من الطبيعي أن كل ثورة تنتهي، إلى اضطراب في المعادلات الاقتصادية، ومن الطبيعي أيضا، وفي بلد مثل تونس وصل معدل دخله الفردي إلى حدود 6 آلاف دينار في العام 2010 أن تعود إليه توازناته.
غير أن ذلك يحتاج إلى تقرير وتنفيذ سياسات اقتصادية، قائمة محوكمة ورشيدة، وذات نفاذ على المستقبل.
فقد كان مفترضا أن تأخذ الحكومة الانتقالية الثانية التي تشكلت في أواخر 2011 الثور من قرونه، وتتخذ القرارات المريرة التي يحتاجها وضع لا بد له من الحكمة، ولا بد له من الشجاعة.
من هنا كان اختيار الثنائي مصطفى كمال النابلي في البنك المركزي امتدادا للفترة التي قضاها في هذا المنصب سنة 2011، وحسين الديماسي في موقع وزير المالية في محله، لتصور سياسات اقتصادية ومالية ونقدية يحتاجها وضع خرج من ثورةK بكل ما يعني ذلك من اهتزازات، وما اقتضته من انخرام.
غير أن قصرا في النظر وأسباب سياسوية لا علاقة بالحكمة، أدت إلى الاستغناء عن محافظ البنك المركزي، الذي كان أشبه بكمال   درويش صانع المعجزة الاقتصادية التركية قبل وفود الإسلاميين للحكم والوافد هو الآخر من البنك الدولي تماما كمصطفى كمال النابلي، واستقالة حسين الديماسي الذي رفض تحمل تبعات سياسات كان يراها مؤدية للكارثة وتأكدت نظرته لاحقا، وتنعدم منها إرادة السياسية الاقتصادية المتسمة بالحكمة والمسؤولية.
ومنذ ذلك الحين أخذت الحكومة النهضوية، وبدون اختصاصيين حقا في الاقتصاد الكلي، تتخبط وترتجل اقتصاديا، كما في المجالات الأخرى السياسية والأمنية وغيرها، وبات همها مجانبة اتخاذ القرارات الواجبة والضرورية ، لأسباب انتخابية حتى لا تغضب الطبقات الشعبية، فإذا بها تسقط لعدم تقدير العواقب في الأسوأ، دون إدراك أو بقصد أنها تنزلق على منحدر حاد، وأن سياساتها ستؤدي بالبلاد إلى أوضاع أسوأ فأسوأ، فانطلقت مظاهر التضخم من عقالها، وانخرمت كل التوازنات الداخلية والخارجية وانهارت العملة الوطنية،وباتت كالخرقة مذكرة بوضع الليرة التركية قبل أن يأتي كمال درويش لإنقاذها ووضعها على سكة التقويم، فيما انفلتت مديونية استهلاكية غير منتجة للثروة، وستتحمل تبعاتها الأجيال المقبلة ، بداية من الأعوام الثلاثة المقبلة.
ورغم ذلك تواصلت المكابرة واستمرت، معلنة عن نجاحات دونشيكوتية ، لا وجود لها إلا في خيال أصحابها.
ثلاثة ملاحظات يجدر بالمرء أن يتوقف عندها:
أولها ما أقدم عليه محافظ البنك المركزي وهو رجل رصين عادة، من أن مسؤولية الوضع المتردي تقع على الطبقة السياسية جميعها، حكومة ومعارضة، وهو قول غريب لأن المسؤوليات تقع على الحكومات، لأن بيدها القرار.
ثانيها أن النهضة ونقول النهضة فقط لأن توابعها من المؤتمر والتكتل لا قرار لهما ولا قول لهما، وكلاهما لا يعدو أن يكون تابعا ذنبا لا غير.
ثالثها أن البلاد تسير على خطى ثابتة للأسوأ، وأن أي حكومة مقبلة سترث تركة ملغومة، إذا اتبعت سياسات رشيدة فإنها تحتاج إلى سنوات عديدة لإصلاح ما تم إفساده خلال العامين الأخير والمتمثل في دمار شديد.



الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

بكل هدووء - مسؤولون سياسيون بدون تبعات سياسية في بلد العجائب والغرائب التي هي تونس

بكل هدوء
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
التبعات السياسية،
للأخطاء
تونس الصواب /18/09/2013
في بداية العام 1980 ، كتب الديبلوماسي التونسي في دمشق، عدنان القرقوري، مراسلة خاصة وسرية، حول معلومات بلغته بشأن تحضيرات تجري بين بيروت وطرابلس الغرب، بشأن تحضير اعتداء ما على تونس.
وإذ لم تنشر المراسلة- قط، فإن ما تسرب بشأنها وقتها يفيد بأن كومندوس، من تونسيين قادم من ليبيا عبر الجزائر سيستقر في إحدى مناطق الجنوب، ليجعل منها قاعدة انطلاق للسيطرة على تونس.
يبدو أن لا أحد اهتم بتلك المراسلة-  ولم يتحسب لها أحد، إذ لم تمر إلا أيام حتى حصلت أحداث قفصة التي كان وراءها  من الجانب الليبي العقيد القذافي نفسه، ومن الجانب الجزائري الكولونيل هوفمان، الذي قد يكون تلقى الضوء الأخضر من الرئيس الراحل بومدين قبل وفاته.
وسواء صحت تلك المعلومات عمن تورط من الأشقاء في العملية أو لم تصح ، فأسرارها بقيت محاطة بغيوم داكنة، والحكومة التونسية التي لم تكن تريد أن تفتح على نفسها واجهتين اثنتين، فضلت أن تسكت عن التورط الجزائري.
عالجت الحكومة التونسية ما سمي أيامها بالعدوان، بالحزم اللازم، وتم استعراض قوات خارجية على مشارف المياه الاقليمية التونسية وفقا لمصادر لم يتم تأكيدها قط، و قررت مصر، وكانت العلاقات الديبلوماسية مقطوعة معها وضع قواتها على ذمة تونس، كما إن المغرب الأقصى لم يكتف بالتعبير عن التضامن، بل ذهب وفقا لأقوال متطابقة إلى أبعد من ذلك.
كان رئيس الدولة آنذاك يقضي فترة استجمام في مدينة نفطة، وكان من  عادته في الإنتقال بين فيلات له في الكاف والمنستير وصفاقس ونفطة،، للراحة كما يقول، وليكون قريبا من نبض الشعب في تلك المناطق وغيرها كما "يدعي".
نصحوا بورقيبة بالعودة إلى العاصمة لتأمين حياته، من احتمالات محتملة، فالصورة لم تكن قد اتضحت بعد، وحجم التمرد لم يكن قد بدت أبعاده الحقيقية، ونفطة لا تبعد سوى بضعة عشرة كيلومترات عن قفصة، ولكنه رفض مصرا على البقاء قريبا من مسرح الأحداث.
تم القضاء على الكومندوس، وجاءت ساعة المحاسبة لا للمشاركين في الأحداث فقط فجرت محاكمتهم وأعدم من أعدم، ولكن أيضا وخاصة لمن قصروا في التبليغ، وكان آخرهم وزير الخارجية آنذاك محمد الفيتوري، القريب من الهادي نويرة الوزير الأول الذي أصيب في الأثناء بالفالج ، فقد فقد منصبه بمجرد ما جاء محمد مزالي للوزارة الأولى بعد مرض سلفه.
**
سيقال إنها قصة طويلة فما هو محلها من الاعراب الآن.
ببساطة إن الفعل السياسي، هو فعل له تبعات في كل البلدان المتقدمة. التي لا يختلف حولها أحدا، المجازاة في هذا الاتجاه أو ذاك.
من يخطئ لا بد أن يدفع الثمن، وفي السياسة فإن الثمن هو المغادرة للمنصب إن طوعا بالاستقالة وهو الموقف الأكثر حفظا للكرامة لأن فيه اعتراف بفشل ما،، أو غصبا بالاقالة، وهو الموقف الأسوأ سياسيا.
نسوق هذا بمناسبة ما يجري هذه الأيام.
وعموما ، فإن الاستقالة تأتي لفشل، وقد تكون بسبب عدم اتفاق مع السياسات المتبعة أو طرق تنفيذها.
ورجل السياسة ينبغي له أن يكون مستعدا للمغادرة من أول يوم يدخل فيه منصبا سياسيا.
ولقد أحصيت استقالات كثيرة من قبل، ففي فترة الحكم البورقيبى كانت استقالة أحمد المستيري من منصبه كوزير دفاع  سنة 1968جاءت على خلفية عدم موافقته على سياسات التعاضد المتبعة، وفي سنة 1971 من وزارة الداخلية ( باالرغم من محاولة تغليفها كإقالة) على خلفية تعيين ولاة في غيابه دون استشارته وهو الوزير الذي تهمه في المقام الأول هذه التعيينات بوصفها من صلاحياته.
وفي الفترة البورقيبية أيضا وفي ديسمبر 1978 وعلى خلفية الإقالة المهينة للطاهر بلخوجة من وزارة الداخلية، واقتحام مكتبه، وأيضا على خلفية نية التصعيد ضد اتحاد الشغل والحبيب عاشور، استقال محمد الناصر وزير الشؤون الإجتماعية  والحبيب الشطي وزير الخارجية، ومنصف بالحاج عمر الكاتب العام للحكوة ووزير الوظيفة العمومية، والمنجي الكعلي، وأحمد بنور كاتب الدولة في وزارة الدفاع.
كان منهم ذلك عملا شجاعا، كان يمكن أن يؤدي بهم إلى السجن، تماما كما حصل في مصر في 15 أيار مايو 1971 على خلفية اعتبار السادات  استقالة رئيس الحكومة علي صبري ووزير الإعلام محمد فائق ووزير الدفاع محمد فوزي عملية مؤامرة تستهدفه هو شخصيا وتستهدف أمن البلاد، ولنلاحظ دائما التوازي بين ما يجري في مصر وما يجري في تونس، بلدان هما اللذان دشنا عهد " النهضة" أي الانفتاح في تونس ومصر.
وحتى زمن بن علي فإن هناك رجلان سياسيان، يتمتعان حقا بخصال لا فقط رجال السياسة بل رجال الدولة، استقالا من منصبيهما وإن تم تغليف الأمر باعتباره إقالة ، وكان ذلك في وقت متقارب، هما محمد الشرفي، ومصطفى كمال النابلي من وزارتي التعليم والتخطيط.
**
ولا نريد هنا أن نتحدث عن الفشل المدوي في غالب مجالات الحكم، لنقص في الخبرة وحتى الكفاءة، وللعزوف عن اعتماد الشخصيات ذات التجربة، والاكتفاء بتخيير تعيين  أهــــل الثقة ( بمعنى الولاء) على أهل الكفاءة، بل سنسعى لنشرح حالتين أو ثلاثة لوزراء يعترفون بدون مواربة بأن الأمر منفلت من أيديهم، ورغم ذلك فإنهم باقون في الكراسي، على غير ما كان متوقعا منهم باعتبار ماضيهم، والدرجة العليا من الأخلاق المشهود لهم بها.
وهم وزير التعليم، وهو أستاذ جامعي لا يضيف له المنصب الوزاري شيئا للرفع من قيمته، إنه مستقيل منذ أسابيع طويلة، ولكنه باق في منصبه( للتسيير العادي للأمور) بينما الأسباب التي استقال من أجلها متواصلة ، بل إنها تحتد أكثر فأكثر، فالتعيينات في وزارة التعليم  سندها الأساسي هو الكفاءة العلمية، وليس الأمر كذلك مع الوزير المستقيل الباقي، وقد  بلغت  التعيينات على ما يبدو حدودا لا تطاق، وهو ببقائه في المنصب إنما يقدم سندا للذين يتلاعبون بمستقبل الأجيال، وهو ليس سوى" أليبي " alibi  مطية للذين يسعون لتغيير نمط المجتمع، ويسعون لاستعمال المدرسة لذلك ضمن تحركات أخرى.
**
على أن من الخطير أيضا ، ما يجري في وزارة العدل فهذا الرجل تم تقديمه على  أنه مستقل، واعتقادي الشخصي أنه كذلك، وهو جامعي ناجح في أعلى المراتب العلمية.
وإذ استغرب الكثيرون غياب الوزير بن عمو من مسرح الأحداث تماما منذ تعيينه في منصبه، رغم  التطورات الجسام التي مر بها الوضع العدلي في البلاد، بعد أن كان مؤملا أن ترفع الإدارة الإدارية يدها عن القضاء جالسا أو واقفا،.
وجاء في بلاغ نشرته وزارة العدل، ولا يمكن لشخص خبر المسالك الإدارية بمختلف اختصاتها، أن يغيب عن ذهنه أن مثل هذه البلاغات لا يمكن إن لم تصدر عن الوزير نفسه فعلى الأقل بعد اطلاعه عليها.
جاء إذن في البلاغ "تبعا لما تداولته وسائل الإعلام في خصوص التتبعات القضائية المثارة ضد الإعلامي السيد زياد الهاني( لاحظوا السيد وهو ما لا يستعمل عادة) تذكر وزارة العدل أنه لا علاقة لها بمسألة إيقافه التي تمت بمقتضى قرار قضائي ولا علاقة لها بقرار الإفراج عنه الصادر بدوره عن جهة قضائية مختصة.
كما تؤكد الوزارة أن القرارات الناتجة عن التتبعات القضائية هي من اختصاص السلطات القضائية وحدها وأن علاقة وزارة العدل بالنيابة العمومية تنظمها أحكام مجلة الاجراءات الجزائية، وخاصة منها الواردة بالفصول 22 و23 و258 و278  والتي لا تخول لوزير العدل التدخل في مسار القضايا المنشورة ،،، إلى آخره إلى آخره من بلاغ لا يقنع أحدا، " وللأسف أن يكون صادرا عن.. رجل عرف بما عرف به من نزاهة لا يتطرق لها الشك ،في هذه الأوقات الصعبة والمحاطة بكل غموض، وهو ليس في حاجة إلى صفة وزارية ليفرض لنفسه الإحترام.
** لنقل أولا إن جملة قوانيننا مستمدة غالبا من القوانين الفرنسية، وأن دور النيابة كان في فرنسا مرتبطا بالوزارة وبالوزير، حتى تولى الحكم الرئيس الأسبق ميتران، وقامت وزيرته للعدل إليزابيت قيقو بفك الإرتباط بين الوزارة، والنيابة العمومية، وحتى في مصر فإن ما حصل منذ زمن أن النيابة لم تعد خاضعة للوزارة، ولقد حاول الرئيس السابق محمد مرسي إعادة الأمور إلى ما اعتبره نصابها، عندما استعاد إشراف الوزارة على النيابة، وعزل النائب العام، وعين مكانه نائبا عاما مواليا، وجاء ما يوازي محكمة التعقيب عندنا، فأبطل قراره.
**لنقل ثانيا إن وزير العدل إذا بدا له اختلال معين، له القدرة عن طريق التفقدية العامة وهي قضائية، أن تتثبت من الأمر، خصوصا وأن ما حصل لم يفاجئ أحدا، وأن النصوص المعتمدة في توجيه الاتهام  هذه الأيام ،هي نصوص بالية تجاوزها الزمن، بل وتم إلغاؤها منذ 40 سنة أو تكاد.
ولقد رأينا اختلالات معينة مثل تلك التي حصلت مع سامي الفهري والرمي عرض الحائط بقرارات محكمة التعقيب، أو مع  وزير الشؤون الدينية الأسبق ، أو كذلك ما جرى من سجن وزير أسبق وفرض دفع كفالة بعشرات آلاف الدينارات ،  على خلفية أموال دخلت خزينة الدولة بالكامل، وكل الحجج تثبت أنها لم تخرج يوما من مكانها الطبيعي.
** ولنقل ثالثا إن حقوق الانسان تقوم على عدد من المرتكزات، ولعل أهمها الحق في الحياة، ثم الحق في الحرية، ونحن نرى اليوم تسرع في إيقاف، من لا ينبغي إيقافه. والضرب عرض الحائط بحق المرء في حريته إذا لم يكن هناك خطر يتهدد الآخرين أو يتهدده إن بقي في حالة سراح.
وللمرء أن يتساءل ، لو كان المعني موظفا أو حتى وزيرا، وتعرض إلى ما تعرض له عشرات أو مئات الذين تم إيقافهم وحتى سجنهم ومنهم زياد الهاني ، مع ما يصحب ذلك من دمار نفسي للشخص وعائلته وأصحابه ومعارفه ، ثم أطلق سراحهم، ماذا يكون موقفه؟
**
ولن نطيل أكثر مع وزير الداخلية وهو رجل هو الآخر مشهور بنظافة اليد وعفة الضمير والنزاهة لا فقط المالية ، بل وخاصة السلوكية ،، ويقول الذين تولوا القيام بالتقصي في لجنة استقصاء الحقائق وكان قاضيا في القصرين، إنهم أعجبوا بحياده ومهنيته العالية، وبشخصيته المتوازنة وأدبه الجم وهدوئه المثالي..
ولعل تلك النزاهة تتبدى كأكثر ما تتبدى بالاعتراف بوجود الوثيقة ذات المصدر الأمريكي، المسلمة للجهات التونسية في 14 تموز يوليو الماضي حول احتمالات حصول عملية اغتيال من جهات سلفية مستهدفة الحاج محمد البراهمي، والذي سيتم اغتياله لاحقا فعلا يوم 25 تموز يوليو.
الوزير لم يقع إعلامه بالوثيقة إلا بعد ذلك بمدة وبعد أن حم القضاء وحصل المحذور.
وإذ لا نريد أن نشكك في مقولة الوزير، بأنه لم يكن على علم بهذه الوثيقة، فما هو دور الوزير ، إذا لم تكن مصالحه المقربة تضعه على علم بكل المحتمل وقوعه.
وأذكر هنا أن وزير داخلية أسبق قال لي مرة: إن الوزير عندما يستلم هذه الوزارة يكتشف أن جزء منها ربما تكون له موالاة لآخرين، ولكنه عليه بسرعة وخلال أسابيع قليلة جدا أن يسيطر على مصالحه.
ولا نريد هنا أن نحمل الشخص الذي تلقى المعلومة المسؤولية بمفرده، فهذا شأن تحقيق لا أحد مؤهل غير المصالح المتخصصة أو حتى القضاء أو حتى لجنة برلمانية للتحقيق فيه، ولكن لا يغيبنا أن نقول إن الوزير يتحمل مسؤولية سياسية كبرى، وللأسف فإن تونس اليوم لا تعرف معنى للمسؤولية ولا تبعاتها.
fouratiab@gmail.com