Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأربعاء، 11 سبتمبر 2013

اقتصاديات - الاصلاح الجبائي المطلوب

اقتصاديات
يكتبها عبد الطيف الفراتي
من أجل عدالة جبائية حقيقية،
ولكن ما هو ثمنها؟
تونس- الصواب – 11- 9- 2013
كشف وزير المالية مساء الثلاثاء الستار عن بعض أسرار "الإصلاح الجبائي" الذي أعدته مصالح الوزارة الزاخرة بالكفاءات التي تستحق كل تقدير، والقادرة على تحويل الأهداف السياسية، إلى وسائل كفيلة بخدمة التوجهات المحددة لتحقيق التنمية.
وإذ يبقى لدينا تحفظ وتحفظ كبير، على مدى أهلية هذه الحكومة لاتخاذ قرارات ملزمة لمدد زمنية مقبلة، وهي حكومة مؤقتة، بوزير مالية مؤقت، ولا يبدو متسما بكفاءة كبيرة في المجال المالي بما فيه الجبائي، فإن التوجهات التي أعلن عنها جديرة بأن تكون محل نقاش مستفيض، لأن الملزم في هذه الوسائل قد يكون ذو تأثير على مدى عقود.
فالإصلاح الجبائي الجريء الذي أقدم عليه محمد الغنوشي 1989 _1990  أيام كان وزيرا للمالية، اتسم وقتها بنظرة صائبة اعتمدت على مقولة فرنسية شهيرة ( النسب العالية تقتل المحاصيل المرغوبة)
Les taux tuent les totaux
فبعد أن تم إنزال قيمة الضريبة على نقل الملكية من14  في المائة أو تزيد إلى 6 في المائة ، تم اعتماد ضريبة على الدخل، اتسمت لأول مرة بالبساطة والوضوح،والتسوية بين كل أصناف المداخيل، وإنهاء الإزدواج الضريبي، فالدخل الواحد لا يتم إخضاعه للضريبة مرتين، و اتسمت أيضا بالمساواة بين الخاضعين للأداء، وتبسيط قواعد التصفية، والنزول بعدد الشرائح المعتمدة في الحساب من عدة مئات إلى 5 أو 6 ، ولكن مع التشديد على المخالفين والمتهربين.
وكان ذلك مصحوبا  بعفو جبائي عام شمل كل الذين كانوا غير واضحين مع الإداءات، بقصد التشجيع على اعتماد منطلقات جديدة، ودفع المتلددين على تسوية وضعياتهم بأدنى التكاليف أو بدون تكاليف البتة.
وقد أسال ذلك العفو في وقتها الكثير من الحبر، بين مؤيد مدافع، وبين مضاد مهاجم.
وإذ دافع الوزير محمد الغنوشي آنذاك على إصلاحه، معتمدا  على الأرقام حيث ازداد حجم التحصيل الضريبي، رغم تخفيض النسب، فإن المعارضين اعتمدوا في معارضتهم على عنصرين اثنين:
أولهما أن هذا العفو يعتبر غير أخلاقي، حيث إن الذين  دفعوا ضرائبهم بدون تردد، يعتبرون معاقبين، على أساس ما نال من فائدة للمتلددين، فإنهم لم يدفعوا ما عليهم ، ونالوا عفوا أعفاهم من ذلك الدفع لاحقا.
وثانيهما أن ما تم إقراره من عفو جبائي يعتبر غير أخلاقي ولا وطني، من منطلق مجازاة المتلكئين المتهربين. وعقاب المخلصين النزهاء.
غير أن محمد الغنوشي اعتمد هو الآخر عنصرين اثنين في دفاعه:
أولهما أن تلك الطريقة لم تمكن فقط من زيادة مداخيل الدولة، بل مكنت من معرفة أقرب ما يمكن المطالبين، بالصورة التي تمنعهم من التهرب مستقبلا، هذا على الأقل مبدئيا بقطع النظر عن مدى صحة تصريحاتهم.
وثانيهما أن تونس لم تبدع في تقرير العفو الجبائي، بل إن هناك عدة بلدان لجأت إلى تلك الطريقة لتحقيق المصالحة بين المواطن والجباية ، ولعل أشهرها وأكثرها أثرا، تلك التي يتم الآستشهاد بها باستمرار كمثال على نجاح التجربة ، مع وزير المالية الفرنسي الذائع الصيت "بيناي" في بداية حكم الجنرال ديغول سنة 1958.
غير أن تجربة محمد الغنوشي، التي كانت في حاجة إلى تصحيحات متوالية، وإلى تعديلات تفرضها طبيعة تطور المداخيل وخاصة الأجور، توقفت بذهابه من وزارة المالية، ولم يتول رعايتها بعد أن أصبح رئيسا للحكومة.
ومن هنا فإنها أخذت تتحول عن مسارها، وباتت ممسوخة ولم تواكب الأحداث.
فمن جهة انتفت المساواة التي كانت تسعى لقيامها إصلاحات 1989-1990 ،  بعد أن تم الحط من نسبة الخضوع الضريبي إلى 30 في المائة بالنسبة للمؤسسات كحد أقصى، بينما أبقي على نفس النسبة بالنسبة  للأفراد ، ومن جهة أخرى بقيت الشرائح هي نفسها ، فيما تآكلت القدرة الشرائية، وارتفعت قيمة الأداء المطالب به المواطن (نقدا) نتيجة ارتفاع في الأجور لا يغطي ذلك التآكل.
 وفيما تجري مراجعة القيمة الفعلية لكل شريحة دوريا في البلدان المختلفة، الحريصة على عدالة أداءاتها ، بقيت الشرائح عند حدودها التي اعتمدها محمد الغنوشي  على مدى يزيد عن 20 سنة. وأدى ذلك بالطبع لعودة قوية للتهرب الضريبي ، وأثقل الأمر على الأجراء وصغار المستغلين الفلاحيين والملاكين، إذا كانوا فعلا قد باتوا يؤدون الضرائب المفروض أن تحمل على عاتقهم ، وتضررت من ذلك المالية العمومية ، فانخفضت محاصيل  الأداءات أو استقرت في أحسن الأحوال ، في وقت زادت فيها نفقات الدولة بصورة تقارب الضعف في ثلاث سنوات،
وأدى ذلك بطبيعة الحال للجوء المفرط للإستدانة ، من قبل الدولة ، لا لخلق ثروات جديدة كما هو معهود ، بل لتغطية إنفاق استهلاكي للإدارة متعاظم وغير منتج في عمومه.
ومن رأينا، وقد تولت الحكومة الإعلان عن التوجه لتخفيض النسبة العليا ،  للأداءات الموظفة على أرباح الشركات إلى 25 في المائة بدل 30 في المائة حاليا، وإخضاع المداخيل المتأتية من تصدير السلع والخدمات إلى نسبة اقتطاع بعشرة في المائة على أرباح المؤسسات المصدرة ، وهما قراران محمودان من وجهة نظرنا ، وكان مفترضا تحقيقهما منذ فترة ، ومن شأنهما دفع التحصيل الضريبي كما حصل في بداية التسعينيات ، ومن رأينا إذن التوجه نحو أمرين اثنين:
أولهما : العناية بالكف عن هذا المظهر المتخلف للإخضاع التقديري ، وذلك بالتخلي عن هذه اللمارسة المتخلفة وغير العادلة ،وفق رزنامة زمنية مضبوطة لا تتجاوز 5 سنوات ، وإيجاد حل لإخضاع كل الأنشطة لأداء  القيمة المضافة على الكراءات العقارية ، ولو بنسبة 2 أو 3 في المائة.
ثانيهما إعادة ضبط  الشرائح الموظفة عليها الأداءات في ظل ارتفاع المداخيل المنزلق نتيجة التضخم المالي وليس تطور في الطاقة الشرائية .
ومن رأينا ان الشريحة التي تقل عن 5 آلاف دينار ينبغي أن تعتبر معفاة تماما.
ويبدأ الاقتطاع من الشريحة المتراوحة بين 5 و15 ألف دينار بنسبة 10 في المائة
والشريحة ما بين 15 و25 ألف دينار بنسبة 15 في المائة
والشريحة بين 25 و35 الف دينار بنسبة 20 في المائة
والشريحة بين 35 و50 الف دينار بنسبة 25 في المائة وهي تصادف النسبة المعمول بها بالنسبة للمؤسسات.
وترتفع نسبة الإقتطاع الأعلى إلى 30 في المائة ابتداء من التصريح الصافي بمبلغ 50 الف دينار فأكثر.
وبهذه الطريقة لا يشعر أحد بالغبن أو بأن المجموعة تسحب من جهده أكثر مما يحتمل.
على أن ذلك لا بد أن يصحبه جهد حقيقي وفعلي للملاحقة الجبائية، حتى يساهم الفرد حسب دخله في الجهد الوطني، للمساهمة ودفع   تكاليف أجهزة الدولة ومنشآتها  وذلك بعد العمل الجدي على ترشيدها ، ولكن أيضا في مجهودها التنموي لخلق الثروة ، حيث لا بد أن تبقى المجموعة الوطنية صاحبة جهد استثماري لا يقل عن ثلث الاستثمارات في البلاد ، كما يجدر ببلد يدعي الليبرالية الاقتصادية .
ولقد توفرت اليوم الكفاءات اللازمة والتجهيزات الإعلامية الكفيلة بالملاحقة  الحاسمة للمتلددين ، خصوصا إذا ساد الشعور بأن لا احد مفلت من أداء واجبه الجبائي ، لا بسبب محسوبية أو لأي سبب آخر.
وتبقى القضية مطروحة، حول ما إذا كان ينبغي أن يكون الإصلاح الجبائي ، مرفوقا بعفو ضريبي عام أم لا ، تلك قضية فلسفية أخلاقية ، ولكن ايضا قضية نجاعة لانطلاق الإصلاح من عدمه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق