Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الخميس، 30 أبريل 2020

من الداكرة : ثاني ثورة في تونس خلال 60 سنة

من الذاكرة

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
ثورة 10/11 ووضع البلاد
تحت طائلة حظر الجولان
تونس / الصواب / 27/04/2020
ثورة 17 ديسمبر 2010-  14/جانفي 2011، تعتبر ثورة متفردة من عدة نواح :
أولها أنها ثورة بلا قيادة ولا فكر سابق ، ومن هنا ينزع عنها البعض صفة الثورية مقارنة بالثورة الفرنسية ،أو الثورة البلشفية في روسيا ، أو حتى الثورة الخمينية في إيران، غير أن رئيس الجمهورية الحالي  قيس سعيد يعتبرها ثورة تخرج عن المألوف atypique   باعتبارها أول ثورة قامت في  ظل ثورة رقمية وإعلامية، نفخت في تحرك شعبي،  اتسع بفضل الفايسبوك وبعض القنوات العابرة للقارات ، كان ذلك في خلال نقاش جمعنا معه بحضور عميدة كلية العلوم القانونية الدكتورة .نائلة بن شعبان ، و الأستاذ الصديق الأزهر القروي الشابي العميد الأسبق للمحامين وأنا شخصيا ، في رحاب مكتب الأساتذة في الكلية .
ثانيها أنها ثورة ندلعت دون أن تنقل السلطة،  لا بصورة عنيفة ولا حتى هادئة ، فغاب رئيس الجمهورية  بن علي ، وبقي الإطار الرسمي الإداري في مكانه ، وإن صاحب كل ذلك،  تمظهران أو ثلاثة تمثلا في تحركين اثنين،  في القصبة قيما فشل الثالث ، وفي تحرك أجهض في محيط قبة المنزه ، حاولت أن تقيمه مجموعات من المثقفين ورجال الأعمال، وانتهت القصبة 1 و2 بانسحاب حكومة محمد الغنوشي ، وقدوم حكومة الباجي قائد السبسي ، وهو من الحرس القديم المخضرم بين عهدي بورقيبة وبن علي ، والوعد بإجراء انتخابات تأسيسية ، وقيام ما يمكن أن يسمى  بالجمعية العمومية وهي ترجمة سيئة من وجهة نظري لعبارة les états généraux   ضمت لجنة ، كان شكلها الوزير الأول محمد الغنوشي برئاسة عياض بن عاشور رجل القانون البارز ،استجابة لدعوة الرابطة التونسية لحقوق الانسان قبل سقوط بن علي وهربه ، وضمت عدة عشرات من المثقفين والمعارضين .
وثالتها أنها ثورة ، أطلقت في العالم العربي ثورات مماثلة دون فكر أو قيادة أو تأطير،  في مصر وسوريا وليبيا واليمن ، عدا ثورات مماثلة أجهضت من البداية في المغرب والجزائر والعراق.
**
لعل الثورة الوحيدة التي نجحت نسبيا  من بين كل هذه الثورات العربية ، وأقامت مؤسسات جديدة ، يمكن الاختلاف في تقييمها ، ولكنها تشتغل ، هي الثورة التونسية،  وإن كانت لم تحقق الهدف الأصلي لكل ثورة ،  أي رفع المستوى المعيشي للشعب ، كما حدث في ثورات أوروبا الشرقية ، بل شهدت تدهورا في المستوى المعيشي للشعب .
ففي مصر التي قال رئيسها آنذاك حسني مبارك ، أن مصر ليست تونس ، ولن تشهد ما شهدته تونس، ولكن جرفه المد الشعبي بعد أسابيع قليلة، وأن كانت تلك الثورة انتكست ، فقد تم انتخاب رئيس للدولة من الإخوان المسلمين ، لم يعرف كيف يسير بلاده ، فخرج ضده تمرد شعبي استقطب عشرات الملايين ، ولكن جاء العسكر فقطعوا الطريق على الثورة والتمرد ، علما وأن التمرد يعتبر مشروعا في القانون الدولي ، وفقا لما جاء في دستور الثورة الفرنسية ، والعهد الدولي لحقوق الانسان ،  وفي ليبيا التي كان معمر القذافي  الذي ادعى بأنه أقام ثورة ستصمد أمام محاولات الزعزعة الطفولية ، قتل بعد ذلك بأشهر عديدة، لتسقط بلاده في فوضى عارمة ، بعد أن استولت ميليشيات إخوانية على السلطة في طرابلس ، فهرب البرلمان المنتخب إ شرعيا إلى طبرق ، قبل أن يستولي على المقاليد المشير حفتر،  ويشن بفضل تأييد مصري إماراتي على جانب كبير من التراب الليبي ، و قبل أن تتدخل تركيا بمجموعات من المرتزقة السووريين  للانقلاب على ما حققه المشير ، بمعاضدة الأسطول التركي الغازي  لحكومة السراج وميليشياتها ، أما الثورة السورية المبدئية والطفولية ، والتي واجهها نظام الأسد بحمام دم ، فقد انتهت بتدخل قطري تركي ، استعمل في العراق وسوريا ظاهرة جديدة متطرفة هي داعش ، وقد عاضدت روسيا نظام الأسد ، بينما تواصل التدخل التركي بتمويل قطري ما أحال سوريا إلى بلد مدمر ، وفي اليمن انتهت الثورة إلى تقسيم البلاد ، بين شيعة وراءهم طهران وسنة الذين عاضدتهم السعودية والامارات بحرب تبدو بلا نهاية.
**
تونس إذن هي الوحيدة التي استمرت  ثورتها ، بفضل أمرين اثنين : أولهما ذكاء التنظيم الاسلامي ، فيها باعتماد سياسة سياسية مرحلية ، تعتمد التمكين التدريجي، بدل السيطرة الكاملة على السلطة كما فعل الإخوان في مصر ، فقام تمرد شعبي ضد حكمهم قوامه عدة ملايين ، والبعض يقول عشرات الملايين ، سريعا ما سرقه العسكر، وثانيهما مقاومة مجتمع مدني متمكن انتهى إلى تعبئة عامة في صيف 2013 ، عرف راشد الغنوشي كيف يتعامل معها بدهاء، ولو بالتنازل المرحلي.
قبل نجاح الثورة متمثلا بهروب بن علي ، بقطع النظر عما إذا كانت سيدي بوزيد هي التي أنجحت الثور ، أو القصرين وخاصة تالة ، أو مظاهرة صفاقس الي يقال أنها زعزعت أركان الحكم التونسي ، أو مظاهرة 14 جانفي في العاصمة التي انفضت قبل حلول موعد منع الجولان ، أو عوامل خارجية أمريكية بالذات ، وجدت لها روافد تونسية في أعلى درجات الحكم ، المهم أن الثورة نجحت سواء بدعم الجزيرة أو قطر، وبدعم الفايس بوك أو بدون ذلك.
**
مساء 14 جانفي كان حظر الجولان محترما ، ولولا ذلك الرجل الذي خرج في شارع الحبيب بورقيبة صائحا "بن علي هرب " ، والذي يقال إنه كان مكلفا بمهمة ولم يمنعه أحد في زمن منع الجولان .
يوم 14 وعلى عكس المتوقع لزمت البيت تحت وطأة أزمة حساسية حادة ، وكنت أصاب بالعطس مئات المرات في الساعة الواحدة ، وكنت أتابع عبر التلفزيون ، فعاليات المظاهرة ، عندما نبهتني زوجتي ، إلى أن ابننا التقطته صور التلفزيون مع المتظاهرين.
مر يوم السبت والأحد بين  جدل قانوني ، من يخلف الرئيس زين العابدين ، وبين عشية وضحاها أصبحنا وبتنا بين ثلاثة رؤساء، زين العابدين بن علي ، ومحمد الغنوشي ، وفؤاد المبزع.
بقي الأمر على حاله ، وعدا فرض منع الجولان وإعلان حالة الطوارئ ، لم يتغير شيء ، ولم يأت كثيرا ذكر للثورة ، وأخذت الأشياء طريقها حتى جاءت القصبة 1 والقصبة 2 ، بينما فشلت القصبة 3 ، وتبين أن وراء ذلك فروع الاتحاد العام التونسي للشغل الأفقية  والعمودية ، بدفع من حزب العمال  وحمة الهمامي ، ولم تظهر حركة النهضة على السطح مطلقا ، وستكون هي المستفيد الأكبر من تلك الثورة ، وما يقال اليوم هو أن التوجه الاسلامي ، وإن لم يشارك في الثورة في تلك الايام ربما حذرا ، فإن ما عاناه  بين 1980 و2010 كان خميرة مناسبة للإستيلاء على الثورة ، ولم يكن اليسار واليسار المتطرف  والطفولي ، الذي لم تقل تضحياته عن النهضة ، ليستفيد بسبب انقساماته وتذرره.
من هنا جاء السؤال ، هل كانت ثورة ، ومن وجهة نظري مثل وجهة نظر السيد قيس سعيد  كما رأينا أعلاه ، لعلها ثورة بمكونات غير مألوفة ،  في عصر جديد بمقومات جديدة، ولذلك فإن من ينكر الثورة ، وبقطع النظر عن تقييم نتائجها ، يمكن اتهامه بقصر النظر ، على أساس أن الثورة أمر واقع لا سبيل إلى نكرانه.
**
صباح الإثنين  السابع عشر من جانفي ، في حدود الثامنة والنصف صباحا كنت في بيت الصديق السيد إسماعيل بولحية ، وكنت إذاك ، عنده لاستعراض محتويات العدد الجديد لشهر جانفي من "مجلة المغرب الموحد" التي كان هو صاحب امتيازها ومديرها  وكنت رئيس تحريرها غير المعلن تجنبا لرد فعل سلطة كانت تناصبني العداؤ ، كنت أبغي الحصول منه على توقيعه لبدء سحب المجلة ، في مطبعة قرطاج ، وصاحبها السيد التيجاني الحداد ،  زميلي في الدراسة والوزير الأسبق، وفيما كنا نطلع معا على صفحات المجلة الأستاذ إسماعيل بولحية وأنا ، رن جرس تليفوني برنته المحببة ، المأخوذة عن سنفونية موزار الأربعين ، نظرت في شاشة التليفون كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف ، وكان الطالب الهادي البكوش ، قبلت المكالمة ، بادرني صباح الخير عبد اللطيف ، كانت الكلفة مرفوعة بيننا ، وإذ كنت أقول له دوما السيد الوزير الأول ، فكان هو من جهته يناديني باسمي مجردا ، قال لي سي محمد يسلم عليك، سألته : " شكون محمد ، أجابني سي محمد الغنوشي الوزير الأول ، كنت وما زلت أكن احتراما شديدا للسيد محمد الغنوشي ، منذ بداية السبعينيات ، حيث تعرفت عليه كأحد أهم المساعدين للسيد منصور معلى.
قال لي السيد الهادي البكوش وكان التليفون مرفوع الصوت : لقد عيناك رئيسا مديرا عاما للتلفزيون ، أخذت بعض الوقت لأستفيق من المفاجأة ، قبل أن أجيب بأني لا أقبل هذه الخطة ، ألح علي ولكني رفضت إطلاقا ، طلب مني مزيد التفكير على أن يعاود مخاطبتي بعد نصف ساعة ، فعلا جاءت مكالمته بعد نصف ساعة ، وأجبته في إصرار لم أغير موقفي ، لم أكن أبدا رجل مسؤولية رسمية ، ثم إنه لا عهد لي بالتلفزيون ، واصل السيد الهادي البكوش : نطلب منك إذن أن تشارك هذا المساء في برنامج عن الثورة  غي التلفزيون ، وللواقع كنت متحمسا لها ، كما سبق أن تحمست لتغيير السابع من نوفمبر قبل ذلك بثلاث وعشرين سنة ، وقبل أن أصاب بخيبة أمل مرة ، وأسقط أحد ضحاياها،  فعلا قبلت ، وشاركت كان على البلاتو بالخصوص السيد البريقي الوزير لاحقا ووزير الشباب والرياضة،  في الحكومة التي شكلها قبل يوم أو يومين السيد محمد الغنوشي.
كنت ما زلت أجر إصابتي الشديدة بالحساسية ، وحرارتي مرتفعة ، ولكن أحسست بشيء من الراحة في مناسبتين اثنتين يومها ، ففي مشاركة خارجية أولى : أشاد بوجودي على البلاتو  الدكتور خالد شوكات،  ووصفني بأستاذه الذي تعلم عنه الصحافة ، وفي مناسبة ثانية ،وبمشاركة خارجية أيضا جاء الدور على الدكتور الهاشمي الحامدي ، الذي أطال بمدحي معتبرا إياي الصحفي النزيه المحايد ، وكنا تعاملنا معا ، عندما انتدبته لتنشيط صفحة طالبية نيابة عن الاسلاميين ، فيما تولى سليم الكراي تنشيط صفحة طالبية أسبوعية عن اليسار.
غادرنا البلاتو وفي نيتي التوجه إلى الشخص المكلف بتسليم رخص حرية الجولان في مبنى التلفزيون بميتيال فيل ، ولكني وجدت في انتظاري شخصا قدم نفسه على أنه السيد "الهاني "، قال : إن المدير العام السيد  شوقي العلوي في انظارك في مكتبه ، قادني للمكتب : كان بحق مكتبا فخما ، هل كان المدير العام على علم بترشيحي مكانه ذلك الصباح ، أم لا ... لا أدري ، المهم رحب بي وجلست أتحدث معه وأنا على أحر من الجمر ، فكنت أود المغادرة لأن الليل قد أرخى سدوله منذ حين ، وأنا أعرف بالتجربة أن المرور زمن حظر التجوال مغامرة كنت أتخيلها غير مأمونة ، حتى شاهدت ما شاهدت في هذه الأيام الأخيرة التي نعيشها، أطلقني  المدير العام أو الرئيس المدير العام ، وعند الباب تلقفني السيد " الهاني " قال لي : كان يمكن أن يكون غدا هذا المكتب الفخم مكتبك ، ثم مررنا على مربض السيارات ، فأراني سيارة فخمة ، ليضيف كان يمكن أن تكون هذه السايرة تحت ذمتك لو قبلت المسؤولية ، وبدا لي أن العرض الذي لم أقبله ، سرى خبره  كسيران النار في الهشيم ، لم يحرك في ذلك ساكنا ,
المهم طلبت من مرافقي أن يدلني على حيث أستطيع أن أستخرج رخصة وقتية للعبور ، فوجدت باب المكتب مغلقا ، وقيل لي إن الموظف قد غادر اعتقادا منه أن المشاركين في البرامج قد غادروا كلهم ، ولم ينبهه أحد إلى أني بقيت لمقابلة المدير العام.
كان علي أحد أمرين : أن أبقى على كرسي حتى الصباح ، أو أن أغامر بالذهاب بدون ترخيص ، من مبنى التلفزيون إلى بيتي في أعالي النصر ، وكنت عدت إلى العطس الشديد ، وكان علي أن أتناول دوائي لتخفيف الحالة ، غامرت وغادرت دون ترخيص ، كانت الشرطة قد اختفت تماما، ولذلك لم تعترضني ولو دورية واحدة ووصلت إلى البيت وأنا أتصبب عرقا فما الذي كان يحدث لي لو أمسكوني .
ولكن ستأتي الايام بما لم يكن في الحسبان ، فقد قضيت ليلتين في مقر قناة نسمة في مجاهل رادس ،  بدعوة من إلياس الغربي ، للمشاركة في برامج تلفزيونية ،  كان يديرها بجدارة ومهنية ، وكان علينا شوقي الطبيب ومحمد التريكي وسفيان بن فرحات وهيثم المكي،  وغيرهم ممن كانوا يؤثثون حصص متلاحقة حول الثورة  أن نبيت حتى الصباح على كراسي في غرفة الاستقبال .





الجمعة، 24 أبريل 2020

من الذاكرة : ثورة الخبز وذيولها السياسية

من الذاكرة

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
ثورة الخبز
تونس / الصواب / 20/04/20202
في  إطار الحكومة الجديدة التي شكلها محمد مزالي ، بعد مرض الوزير الأول الهادي نويرة ، الذي أصيب بالفالج ،( يبدو على خلفية الهجوم الليبي الجزائري على تونس في قفصة ، بقصد تفكيك الوطن التونسي ، وإقامة جماهيرية شعبية انطلاقا من مدينة قفصة بتواطئ بين جزائر هواري بومدين ، الذي كان عبد العزيز بوتفليقة ،  أقرب المقربين إليه  ، ومعمر القذافي ، باعتماد عدد من التونسيين  الموتورين ، وهو حلم لم يتحقق بفضل وقوف التونسيين ضد هذا المشروع الذي لم تتحدد ملامحه بوضوح آنذاك ، وتضامن  عربي دولي ، فرنسي أمريكي مغربي مصري ، رغم أن العلاقات كانت مقطوعة مع مصر السادات أيامها ) ، في ذلك الاطار جاءت حكومة محمد مزالي ، بخلفية تحرير الحياة السياسية ، معاضدة " لتحرير" الحياة الاقتصادية ،  التي كان يقال إن الهادي نويرة نفذها منذ جاء للحكم في بداية السبعينيات.
ومن هنا تشكلت حكومة مزالي بأسماء كبيرة ، وخاصة ممن وضعهم على الرف الوزير الأول نويرة ، تولى منصور معلى وزارة التخطيط والمالية ، وأشرف على إعداد المخطط الجديد ، بعد أن كان أشرف على إعداد مخطط 1972/1976 ، وعبد العزيز الأصرم في الاقتصاد ، وحسان بلخوجة في الخارجية ، والطاهر بلخوجة في الاعلام ، وإدريس قيقة في الداخلية ،  وغيرهم من القامات الكبيرة التي تشكلت منها حكومة قوية ، قادرة على الفعل.
هنا سنتحدث عن الاعلام الذي أراد محمد مزالي في البداية أن يكون سهمه الأول في إطار تحرير الحياة السياسية ، وكان الاختيار من قبله للطاهر بالخوجة موفقا  لتنفيذ سياسات تحررية ، وهو الرجل الذي أبدى فيما سبق إصرارا على اتباع سياسة متحررة ، وهو على رأس وزارة الداخلية  المفترض أن تكون اليد المتصلبة للحكومة.
ولي مع الطاهر بلخوجة قصة طويلة ، لم أكن أعرفه بقدر ما يعرفه مواطن عادي، وأقدر أنه لم يكن يعرفني البتة ، فمن أنا ليعرفني رجل وصل إلى أعلى المراتب ،
كان ذلك في بداية السبعينيات ، وبمناسبة انعقاد مؤتمرات لجان التنسيق  للحزب الاشتراكي الدستوري ، تم التقدير في رئاسة تحرير ، بأنها فرصة لمعرفة النبض الحقيقي للشعب، فقد ساد الشعور آنذاك أن النقاش داخل الحزب الحاكم يتسم بالصراحة  أكثر مما هو الأمر خارجه ، ولم تكن  تلك الصراحة تخرج للشعب ، وفعلا قامت رئاسة التحرير بتخصسص فريق من المحررين لتغطية كل تلك المؤتمرات ، مع التوصية بعدم وضع أي رقابة ذاتية ، على ما يصدر عن المؤتمرين ، وفعلا قامت الصباح وقتها بتعرية أشياء كثيرة سلبية مما يعتمل في ضمائر الدستوريين ( سواء مناضلين أو متسلقين)  ، وللواقع فإننا لم نجد أي ممانعة من السلطة ، ربما لم يكن في تقديرها أن الأمر لم يكن مهما جدا،،،، بعد تغطية كل المؤتمرات ، توليت شخصيا القيام بعمل تأليفي لاستنتاج ما يمكن استنتاجه ، وعلى ثلاث حلقات طويلة ومركزة ، توليت إبراز أشياء لم يكن متوقعا إبرازها ، وإذ كان الأمر غير ملفت للإنتباه في بداية الأمر ، فقد أفادت جهات التوزيع  في الجريدة ، أن أعدادا من المواطنين ممن فاتتهم تلك الحلقات توافدوا على الجريدة بكثافة لطلب نسخ منها ، لكن المفاجأة كانت عندما دعاني الرئيس المدير العام المرحوم الحبيب شيخ روحه إلى مكتبه ، حيث وجدته في غاية الاغتباط  ضاحكا، وأبلغني أن وزير الداخلية الطاهر بلخوجة وهو صديقه منذ زمن طويل ، قد خاطبه بالهاتف مهنئا سواء بتغطية مؤتمرات لجان التنسيق ، أو خاصة بالتحليل السياسي الذي تولاه الصحفي عبد اللطيف الفراتي ، ورجاه إعلامي بذلك ، كنت للحقيقة مغتبطا بذلك التقييم ، ففي صحافتنا التونسية لم نكن متعودين على التحليل السياسي ، وكنت شغوفا بالتحاليل في جريدة لوموند ، وفي الإكسبريس ولونوفال أوبسارفاتو، وأيضا ما يأتينا من الشرق ، مثل النهار والأسبوع العربي ، والأهرام، وطفقت أبحث عن كتب الصحافة وأغراضها ، ابتداء من صنوف كتابة الخبر إلى الأغراض الأخرى ومنها الريبورتاج والحديث الصحفي ، والحملة ، وخاصة التحليل الصحفي أو التحليل السياسي ، وقد كتب ماهر المذيوب رسالة التخرج  في علوم الصحافة  ، بشأن التحليل السياسي الصحفي في تونس ، مبرزا أني شخصيا من السابقين فيه.
لم أكن قد قابلت الطاهر بلخوجة ، رغم ما كان يصلني من أصداء عن إعجابه بكتاباتي  عن طريق مديره للشؤون السياسية عبد الكريم موسى ، وهو الصحفي الذي رافق عددا من كبار السياسيين كمستشار مسموع الكلمة.
في أحد أيام صيف 1978 ، دعاني عبد الكريم موسى إلى مكتبه ، وهي سابقة ، وكانت تلك أول مرة أدخل فيها إلى الوزارة ، عدا مرة سابقة استدعيت فيها لمحاسبتي على وضع توقيعي على بيان لفائدة أحمد بن صالح الوزير القوي الأسبق بعد إقالته.
باختصار ، قال لي عبد الكريم موسى ، قد لا تعرف أن السيد الطاهر بلخوجة عندما كان سفيرا معتمدا في دول كل إفريقيا الغربية مع الاقامة في داكار ، ارتبط بصداقة عميقة ، مع السيد محمد علي حمادة، الذي أصبح رئيسا لمجلس إدارة مجموعة جريدة النهار التي يملكها غسان تويني ، ممثل لبنان آنذاك في الأمم المتحدة ، والسيدمحمد علي حمادة من القيادات الدرزية في لبنان ، وهو أب لمروان حمادة الوزير آنذاك ، ونادية حمادة زوجة غسان تويني وعرفت بأنها شاعرة مفوهة باللغة الفرنسية ، ونالت عدة جوائز، لم أكن أعرف ذلك ، جمعتنا جلسة أولى  محمد علي حمادة ، وكان قد تجاوز سن التقاعد في الوظيفة بعد أن كان سفيرا ، وهو يجمع بين كياسة الرجل الذي قضى حياته في الديبلوماسية  من أول سلمها إلى مستوى السفير ، وعبد الكريم موسى الصحفي رئيس التحرير الأسبق في جريدة العمل ،  قبل أن يتولى السفارة في عدد من البلدان ، ثم يتولى الادارة العامة السياسية في وزارة الداخلية مع الطاهر بلخوجة ، والخارجية ، ثم  في رئاسة الحكومة مع محمد مزالي ، ويتسم بحس فني مرهف ، كيف لا وزوحته إلى جانب قيادة عدد من المؤسسات ، كانت رسامة بارعة ، وكانت تنظم معارض لرسومها بصورة دورية ، وكنت ثالثهما ، وجاء العرض الرسمي بتولي مراسلة جريدة النهار العربي والدولي التي تصدر من باريس ، كان محمد علي حمادة يتحدث وبين يديه قصاصات من مقالاتي وافتتاحياتي  بعضها قديم جدا يعود لسنوات، ، وكان يشير من طرف خفي إلى أن الكتابة في جريدة دولية تتطلب حيادية أكثر والانفصال عن كل ذاتية .
انطلقت في التجربة مباشرة ، وكنت أرسل مقالاتي غير الحينية بالبريد ، بكلفة عن كل إرسالية بـ25 دينارا عن كل رسالة ، أما المقالات أو الأخبار العاجلة وعادة في اليوم الأخير أو الساعات الأخيرة قبا  القفل ، فكنت أمليها بالتلفون ، وكنت أسجلها على الريكوردر الذي مدوني به من باريس ، وكنت أسجل ذلك ثم عند الإرسال أستعمل سرعة كبرى ، وفي رئاسة التحرير يعيدونه إلى السرعة العادية قبل التفريغ.
كانت تلك هي الخطوات الأولى في التعامل مع صحافة غير تونسية ، ولقد تعلمت كثيرا من هذا الاحتكاك مع عمالقة عرب ودوليين ، فقد تزاملت مع عبد الكريم أبو النصر وهو دائرة معارف واسعة ، ومقتنص أخبار لما يملكه من كنش أسماء وتليفونات عبر العالم ، وإلياس الديري الأديب الصحفي ، وأمين معلوف وهو أحد الكتاب الكبار في فرنسا ونال أكثر من جائزة عالمية ، والشهير مصطفى أمين رئيس تحرير الأخبار المصرية ، الذي كان بمثابة الشخص الملهم لمؤسسي الشرق الأوسط والعرب نيوز ومجلة المجلة وسيدتي ،  وجهاد الخازن ، و محمد جاسم الصقر رئيس تحرير القبس ، ومجلة الوسط وخاصة غابريال طبراني وغسان شربل وجريدة الراية القطرية مع أحمد العلي والشرق . وكذلك بيزنيس ويك الأمريكية والمختار الأمريكية أيضا.
وإذ كانت استفادتي كبيرة من مجاورة عمالقة في الصحافة العربية ، والدولية مثل باترك سيل ، فقد لمست الفارق بين التناول الصحفي في المدرستين الكبيرتين المصرية واللبنانية ، والتنافس بينهما خاصة أيام اشتغلت في الشرق الأوسط ، فالصحفيون اللبنانيون يعتمدون التقطيع وترتيب المقالات على أساس 1 و2 و 3 إلخ لسرد الأحبار والتحاليل وتطورها،  بينما كان الزملاء المصريون يفضلون السردية المتدفقة على الطريقة الأنقوسكسونية. وقد اخترت منذ ذلك الوقت التعامل الصحفي وخاصة في التحاليل بالطريقة اللبنانية .
**
إذن حصل توجه في اتجاه التحرر السياسي بمبادرة من المثقف محمد مزالي ، فحصل انفتاح حقيقي في التناول الصحفي ، من ذلك أن الطاهر بلخوجة بوصفه وزير الاعلام ، عمد إلى تنظيم بلاتو مباشر ، حول التوجات الاقتصادية المقبلة ، تولى قيادة فعالياته واحد من أفضل الصحفيين التلفزيونيين  الحبيب حريز ، وهو يتميز بالجرأة بمقاييس ذلك الوقت ، وكان مسنودا من حسان بلخوجة وزير الخارجية ، والمسوع الكلمة لدى الرئيس الحبيب بورقيبة ، بسرعة تطرق الحديث بمبادرة مني إلى موضوع التعويض والدعم ، الذي كنت وما زلت أرى  أنه غير عادل ، ويتوجه لمن يستحقونه ومن لا يستحقونه ، وأجاب منصور معلى بكل أريحية ، بأن الموضوع يستحق الدرس ، وينبغي العمل على إدراجه مستقبلا وتحديد الذين يستحقون الدعم وكيف يصرف إليهم ، مع تعديل تدريحي بعد ذلك  في أسعار المواد المدعومة ، ما إن انتهى الوزير معلى من حديثه وربما حتى قبل إكماله ، حتى تدخل الوزير الأول محمد مزالي  تليفونيا ومباشرة في البرنامح  ، وفي تقديري  أن محمد مزالي  كان إلمامه الاقتصادي محدودا في أحسن الأحوال ليقول ، بانه لن تقع مراجعة أسعار المواد الأساسية بما فيها الخبز ، سكت منصورمعلى ، ولم يدخل في سجال مع الوزير الأول ، وفي قرارة نفسي لم أكن أشعر ، بأن ما حصل من الوزير الأول على المباشر ، ليس لائقا على الأقل ، ولا يمكن أن يصدر عن رجل دولة.
في الأثناء اشتد الخلاف بين منصور معلى والطاهر بالخوجة وبشكل أقل مع وزير الاقتصاد عبد العزيز الأصرم ، وبين محمد مزالي ، واعتبر مزالي أنه حقق انتصارا عندما أقنع الرئيس بورقيبة بإقالة معلى وبلخوجة ، في انتظار استقالة عبد العزيز الأصرم ، الذي كان معارضا وهو وزير لمضاعفة أسعار الرغيف والمواد الأساسية ،  وكان اعتقاده أنه لن يمر كبير وقت و يخلق للحكومة مشكلا مجتمعيا لا قبل لها به، انقاد محمد مزالي  في تناقض كبير بينه وبين نفسه ، عندما تحول من معارض شديد كما حصل على التلفزيون ،  لأي تغيير تدريجي في أسعار المواد الأساسية  ، إلى متحمس شديد لمضاعفة أسعار الرغيف ومشتقات الحبوب، ورغم ما نبهه له البعض مثل عزوز الأصرم ، فإنه أصر على رأيه ، مقتنعا بأنه بذلك سيرضي الرئيس بورقيبة الذي زين له زكرياء بن مصطفى رئيس بلدية تونس ، أن هناك تبذيرا كبيرا في الخبز لتهاود ثمنه، وكان السباق على أشده على الخلافة ، وقد اشتد المرض بالرئيس بورقيبة ، وتكاثر التكالب لإرضائه بأي ثمن ، ولم يلعب محمد مزالي دوره في تخفيف غلواء الرئيس ، الذي كانوا يزينن  له كل يوم أنه وجب ترفيع أسعار المواد الأساسية للضعف بعيدا عن أي منطق ، ولما كان البرلمان مجرد غرفة تسجيل مر الأمر بأغلبية كاسحة ، رغم معاضة الأعضاء من النقابيين، كما كانت معارضة اتحاد الشغل بزعامة  الحبيب عاشور في قمة اللين، وأذكر أني ذهبت إلى منصور معلى في مقر البنك الذي كان يرأسه ، والذي تم إخراجه منه زمن  الرئيس بن علي لرأي اعتبره معاكسا لما يراه ، وسألته مستفزا، ها هو مزالي الذي تدخل في التلفزيون ضد ما اقترحته من الزيادة في أسعار المواد الأساسية ، يعود إلى رأيك ، أجابني بشيء من الانفعال : ليس هذا رأيي ما كنت أرغب فيه هو أن نعوض لأصحاب الحاجة للدعم ، وبالتدريج ، ما تفعله الحكومة من قرار مضاعفة سعر الرغيف أو الدقيق والسميد والكسكسي والمكرونة وكل المشتقات ، هو قرارسيثير الناس ، ولن يمر بسلام.
بعد أيام قليلة وفي مفتتح شهر جانفي 1984 ، دخل رئيس شعبة من شعب ولاية قبلي ، إلى عطار الحومة لشراء شيء من الدقيق أو السميد لا أذكر ، وعند الدفع فوجئ بأن الثمن هو ضعف ما كان يدفعه  من،  وساروا في مظاهرة عفوية منددين بالزيادة التي كان بدأ تطبيقها ، وقطرة بعد قطرة انتظمت المظاهرات في كل مكان ، ولعلع الرصاص وسقط  من التونسيين عدد  لست قادرا لليوم على إعطاء إحصائية عنهم.
أعلنت حالة الطوارئ ، وفرض منع الجولان ، وتعرض موكب رئيس الدولة ، عند عودته من قصر هلال إلى المضايقة ، وهي أول مرة منذ الاستقلال ، وهتف الناس بسقوط بورقيبة ، وهو ما لم يكونوا يجرؤون عليه منذ سنوات طويلة.
في اليوم الموالي أعلن بورقيبة بنفسه ، عن إسقاط القرارات حتى قبل العودة لمجلس النواب الذي صادق عليها ، ويقول العارفون إنه لو كان أخذ العصا من وسطها فقرر خفض الزيادة للنصف لبلع الشعب  " الحربوشة " ، وكان يكون مسرورا ، ولكن غاب القرار السياسي المعقلن.
يومها تم تثبيت محمد مزالي في موقعه كوزير أول ، وسقطت مطرقة ثقيلة ، على رأس وزير الداخلية ، إدريس قيقة، ومعاونيه ، تم التسريب فركب وزير الداخلية إدريس قيقة وطار إلى باريس ، بعد ساعات من صدور جريدة تبشر به معوضا لمحمد مزالي ، و تم سحبها قبل الوضع في السوق .
ليلتها بعكس ما كان في 1978 كان الدور علي لمرافقة إصدار الصباح ليلا ، تسلحت بكمية من الفواكه وزجاجات المشروبات الغازية بما يكفي للعاملين ليلتها من مطبعيين وصحفيين ،،،
خلال العودة للبيت  ما بعد منتصف الليل ، لاحظت مدى جدية الحراسة المشتركة بين الأمن والجيش ، فقد تعددت نقط المراقبة وكانت أشدها في ساحة باستور ، حيث لم تكتف الدورية ، بمدها بترخيص الجولان ، بل كذلك بأوراقي الشخصية وأوراق السيارة ، وفي مستوى حي المهرجان ، انعطفت ألى اليسار مقدرا أن الدوريات سيكون عددها أقل ، وأنني سوف لن أضطر للوقوف مرتين أو ثلاثة قبل الوصول إلى بيتي في المنزه الأول ، وفعلا لم تعترضني دورية إلا في نقطة الالتقاء بين الطريق الرابطة بين الصيدلية المركزية ، والمنزه الأول ، وقررت من ليلتها أن أبيت على عين مكان الشغل ، في الليلة الموالية تسلحت بالمكسرات والمشروبات الغازية وترموس كبير من القهوة والآخر من الشاي،  مع كامل العدة من فناجين وكؤوس ، ولم يكن قد درج بعد الماء المعدني على نطاق واسع ، كما تسلحت بمجموعات من أوراق اللعب رامي وبيلوت وشكبة،  وأيضا قطع الدومينو، وقد لاحظت أهمية عدد الباقين مثلي في مكان العمل ، والذين فضلوا  مثلي البقاء ، على ركوب مغامرة الدخول إلى بيوتهم، نام الكثيرون منا على كراسيهم ، فيما تكونت مجموعات للعب ، ارتفعت أصواتها وخلافاتها كما هي عادة اللاعبين ، وإذ كنت مشهورا بالقدرة على مقاومة النوم ، فقد لاحظت أنه لم يبق الكثيرون ساهرين ، وانفضت مجموعات اللاعبين و"المكندرين " منهم من نام على كرسي ومنهم من افترش مكتبا ، انتهى مفعول القهوة والشاي ، وقاومت النوم حتى جاء وقت رفع حظر التجوال في السادسة صباحا إن لم تخني الذاكرة ، في الحادية عشرة كنت في مكتبي لمشاركة صديقي المرحوم عبد الجليل دمق في الاشراف على إعداد الدفعة اليومية من جريدة الصباح ، التي كانت أيامها الأوسع انتشارا بين الصحف التونسية ، وكانت امتازت وقتها ،سواء بتنوع وصدقية أخبارها ، وبتعدد  تحاليلها ، وأذكر لليوم وكان يوم أحد كتبت فيها افتتاحية تلقيت عنها عشرات إن لم يكن أكثر من المكالمات ، مقدرة شاكرة ، وبقدر وفق ما أذكر كانت تلك الافتتاحية متزنة  ، فإنها كانت جريئة ، ولما بقيت في البيت يومها على اعتبار أن الصحيفة لا تصدر يوم الإثنين ، فوجئت بمكالمة متأخرة وقتا ، ولكنها أسعدتني  كانت صادرة عن  الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي ، لأاأذكر إن كان يومها عميدا لكلية الآداب أم لا ، غير أني سعدت بها وبما جاء فيها، وعبد المجيد الشرفي هو اليوم رئيس بيت الحكمة ، أعطاها من علمه ، وقدراته  وحكمته ما جعلها مؤسسة علمية عالية الشأن ، تتمتع بسمعة عربية ودولية غير مسبوقة .
هنا أيضا لم يعرف لحد الآن عدد ضحايا تلك المجزرة ، مجزرة ثورة الخبز ، غير أن ما أعرف أنه صدرت أحكام بالإعدام قاسية ، وما كنت أتابعه عن طريق رابطة حقوق الانسان الفتية أيامها ، أن مقابلة حاسمة جرت عن طريق باب موارب بين محمد الشرفي ( مرة أخرى شرفي ) الذي لم يكن وقتها قد أصبح رئيسا للرابطة ، " والماجدة " وسيلة بورقيبة ، على كره منه ، لأنه لم يكن يؤمن إلا بالتعامل مع من في يدهم شرعية القرار، وهي مقابلة أثمرت قرارا من الرئيس بورقيبة بالعفو عن أولئك الشبان ، الذين اتهموا بتأجيج الوضع " والتسبب " في قتل من قتل.
ولعله جاء الوقت لاماطة اللثام عن أسرار ما حصل يوم 26 جانفي 1978 ، وجانفي  1984 وربما أيضا ، أسرار مجزرة جويلية 1961  من أحداث في بنزرت ، أورد جانبا منها الطاهر بلخوجة في مذكراته.
والأحداث الثلاثة كان لها رجع صدى في مسار الأحداث في السياسة التونسية ، محمد مزالي نجح في إزاحة إدريس قيقة ، الأخير صاحب الوزن السياسي في حكومته ، وسفه أحلام من رجحوا صرفه من الوزارة الأولى ، فعادة بورقيبة كان ينتصر دائما لعضده الأعلى  رتبة على حساب من يعتبره منافسا  في انتظار الوقت المناسب للإجهاز عليه كفريسة بلا دفاع ، وكانت تلك الأحداث في جانفي 1984 ، مقدمة لسحب الثقة من مزالي ، فقد استعاد بورقيبة صلاحية ترؤس اجتماعات مجلس الوزراء ، قبل أن يقضي بعد عامين ونيف على مزالي ، ويدفع به للمحاكمة ولو غيابيا ، ويحاول القضاء عليه سياسيا ، ذلك هو بورقيبة في كما تعلم من فلسفة ميكيافيللي ، ونفذها طيلة حياته أحسن تنفيذ.



الاثنين، 13 أبريل 2020

الموقف السياسي : اليوم الأسود ما قبله وما بعده

من الذاكرة  (تصحيح )

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
الخميس الأسود..
ما قبله وما بعده ؟؟؟
تونس/الصواب / 10/04/2020
كانت عشية كئيبة في ذلك اليوم الأربعاء 25  جانفي 1978 ، من مكتبي بالجريدة  في نهج باش حانبة ، انتقلت إلى مقر الاتحاد في ساحة محمد علي ، دخلت مباشرة إلى مكتب صالح برور،  وكان بمثابة الكاتب الخاص للحبيب عاشور، كنت آمل أن أدلف منه  إلى الأمين العام العام ، كما كانت عادتي في تلك الأيام ، ولكن طال الانتظار والأمين العام مشغول ، وأنا في عجلة من أمري ، تذكرت ما سبق لي أن جلست معه قبل أيام قليلة وكنا ثلاثة الطيب البكوش ، وكان له رأي مسموع في القيادة النقابية ، وهو الذي يمثل بصفته الجامعية العقل المدبر ، وعبد الحميد شماخية وهو بمثابة المدير الإداري والمالي في الاتحاد ، وأنا ، دار الحديث عن ضرورة إيقاف التصعيد وربما تأجيل الاضراب العام ، وكان الجو العام منذرا بأسوإ العواقب ، دخل علينا صالح برور في مكتب الأمين العام كالعاصفة ، وإذ استمع إلى جانب من الحديث أرغى وأزبد وقال ،، لا تراجع ، وكان وهو من أقارب الحبيب عاشور مسموع الكلمة ،، خرجت من مكتب الحبيب عاشور تاركا الأمر في اعتقادي بين يدي الطيب البكوش ، كنت من رأيه  وأيضا عبد الحميد شماخية ، من نهج محمد علي اتجهت نحو المطبعة بشارع مرسيليا ، ولكني في شارع باريس انعطفت نحو الباساج ومن هناك إلى شارع الحرية ، إلى يسار الشارع وبعد 50 مترا ، دلفت إلى العمارة التي يوجد بها مكتب الدكتور حمودة بن سلامة وهو من أشد المتحمسين والعاملين من أجل تحرير البلاد وإطلاق الديموقراطية وكان أمينا عاما لرابطة حقوق الانسان  ، بقيت قليلا في غرفة الانتظار قبل أن أدخل عليه ، ومن الشرفة لاحظنا خلو الشارع من السيارات وحتى من المارة ، كنا متفقين أنه لا بد من خفض التوتر وإلا فإن الكارثة ستحل ، من هناك ذهبت إلى مطبعة دار الصباح في شارع مرسليا ، بقيت في مكتب الطابق الأرضي ، وجاءتني سريعا الأصداء من الداخل حيث آلة السحب الضخمة، وحيث كان الصحفيون والعمال مجتمعين ، وتقرر أن يكون يوم الغد بمشاركة كل أعوان دار الصباح داخل تحرك الإضراب العام ، كانت الجريدة جاهزة للطبع ، ولم يعد لي من مهمة ذلك اليوم ، تحفطت على وثائقي الشخصية القليلة ، واتجهت نحو باب الخروج من جهة نهج جان جوريس ، حيث كانت سيارتي رابضة هناك منذ الصباح ، ناداني الحارس يطلبونك ، أخذت السماعة وعلى الخط كان صالح برور ، كان هناك صياحا وضجة قال لي : لقد هجموا علينا ، سألته ، من؟ قال :  البوليس ، قلت له ، هل سي الحبيب هنا قال لي لا خرج وانقطع الخط ، كان الاتحاد قد أصبح في عزلة ، رن تليفون آخر ، كان على الخط الميداني بن صالح ، لست أدري كيف مرت مكالمته من داخل الاتحاد ، وصف الوضع قائلا : هاجمونا من كل مكان وأخذوا يجلوننا في "باقات " الشرطة ، مرة أخرى انقطع الخط ، وأطبق صمت رهيب،  الميداني بن صالح لم يبق طويلا في الايقاف ، فقد توسط له وزير التعليم  محمد مزالي وكان رفيقا له في اتحاد الكتاب ،،،، عدت إلى ديسك التحرير في الطابق الأول  في نهج مرسيليا ، حررت خبرا بما توفر من أخبار حول محاصرة مقر الاتحاد ، وإلقاء القبض على كل من كان فيه، فكرت هنيهة ، ثم غلبني فضولي فاتجهت نحو نهج محمد علي ، من شارع باريس بدا لي أن المدينة محاصرة ، لعلها منطقة نهج محمد علي ، دفعوني  بغلظة  عندما اقتربت ،وعدت أدراجي ، ركبت السيارة واتجهت نحو بيتي في المنزه ، واعتقادي راسخ أنه حم القضاء ، وأننا مقدمون على أيام صعبة ، ولكن لم يدر بخلدي أننا في مواجهة حمام دم.
اتجهت إلى بيت جاري الصادق بسباس  الأمين العام المساعد ، ولكني لم أجده في بيته ، كان بيت الحبيب عاشور في المنزه محاصرا هو الآخر ، أما بيت الصادق بسباس فلم يكن يبدو أنه تحت رقابة واضحة، بعد قليل كان الصادق بسباس في بيته.
يوم الخميس26 جانفي  ، وكان يوم الاضراب العام تملكت أعصابي ، وبقيت أتنسم الأخبار ، فمقر الجريدة ومقر المطبعة مغلقان ، لطبيعة الاضراب العام الذي كان الموقف إجماعيا بشأنهما ، تلفن الحبيب شيخ روحه في الصباح الباكر ،وفقا لروايته التي أعلمنا بها  لاحقا ، تلفن  إلى "صديقه" الحبيب عاشور ، داعيا إياه إلى التوجه وقتها عبر الإذاغة ، بنداء يتراجع فيه عن الإضراب العام ، ويدعو لتهدئة الأمور ،  ووفقا لما قاله لنا الحبيب شيخ روحه ، فإن عاشور رفض ذلك ، هل تكون بادرة الحبيب شيخ روحة شخصية نابعة منه شخصيا ، أم إنها كانت بإيحاء من  صديقه  الآخر الهادي نويرة الوزير الأول ، الذي كان يقضي كل ليلة في صالون الحبيب شيخ روحه  كل السهرة ،  صحبة الشاذلي القليبي شفاه الله ومحمود بلحسين  ، وكان  محمود بلحسين بمثابة أحد الكتاب الخاصين للرئيس بورقيبة  وكان مكلفا لديه بقراءة الصحف ، أما الشاذلي القليبي فكان في ذلك الحين وزيرا مديرا للديوان الرئاسي ، وذلك قبل أن يتم انتخابه أمينا عاما للجامعة العربية بعد نقلها لتونس،  لا أحد يدري  كيف جاءت المبادرة ؟ ولقد حصل ورأيت الجمع في بيت الحبيب شيخ روحه ، أو على الأصح خمنت ذلك بمناسبة استشارة في أمر ما مع مدير الصباح، لا ينبغي أن تمر عبر الهاتف ، ما كان يفرض علي الانتقال إلى قرطاج.
**
مر يوم 26 جانفي سيسمى الخميس الأسود ، في اليوم الموالي تم إلقاء القبض على القيادة العليا للإتحاد بمن فيهم الحبيب عاشور ، ومن جملة من جمعتهم الشبكة ، جاري الصادق بسباس الأمين العام المساعد ، عندما ذهبنا إلى زوجته كانت في قمة الشجاعة ، لا انهيار ولا هم يحزنون ، وقد ضربت عائلات النقابيين  من السجناء أيامها مثلا في الجلد والشجاعة ، وقد رفضت العائلات على ما يبدو استلام مساعدات من المعارف ، وقد تكفلت على ما يبدو الجامعة العالمية للنقابات الحرة من بروكسيل،  بأمر العائلات المتضررة.
في ذلك اليوم نفسه أدلى الهادي نويرة لإحدى وسائل الإعلام الأجنبية ( هل كان بطلب منه لتبليغ رسالة معينة ) طبعا فرنسية بتصريح قصير تناقلته التلفزة التونسية ، وجوابا على سؤال طرح عليه ، عما إذا كان سيجلس مع النقابات لإيجاد حل ، أجاب بنبرة قاسية ، لم يعد بيننا وبينهم إلا القضاء وأحكامه.
سقطت على تونس سحابة ضغط شديد.
  يوم 27 جانفي صباحا دعي مدير التحرير في دار الصباح عبد الجليل دمق ، وكنت برفقته ، لمقابلة عاجلة مع كاتب الدولة للإعلام مصطفى المصمودي الذي كانت تربطنا معه صداقة حميمية ، وكانت تجمعني به قرابة عائلية وغير عائلية، وقد بدا عليه حرج شديد وهو يبلغنا ما معناه أن الاستراحة انتهت ، وأن على جريدة الصباح وأخواتها أن تلتزم " الصف" ، وما عجز عن تبليغه مما علمته لاحقا أنه كان هناك تهديد مبطن أوصريح ، عجز عن تبليغه.
بعد قليل كنت في مجلس الأمة ، لتغطية خطاب الوزير الأول السيد الهادي نويرة ، وكنت حديث عهد بمراسلة صحيفة النهار العربي الدولي ، في باريس ، وكان يرأس تحريرها أيامها عبد الكريم أبو النصر ، وهو صحفي كبير لا تفوته فائتة ، ويتمتع بمداخل في وزارة الخارجية الفرنسية  والبريطانية ، تجعله نافدا جدا في كل الدوائر السياسية في بلدان كانت تحت الاستعمار الفرنسي والإنقليزي ، وكان مطلوبا مني  تغطية اجتماع مجلس الأمة ، لا فقط للصباح ولكن أيضا للنهار العربي والدولي ، وكانت فرعا لصحيفة النهار في بيروت ذات الشهرة العالمية، يومها كان موعد القفل  في النهار العربي والدولي أي إنهاء الكتابة الصحفية في تمام الواحدة ظهرا، للإرسال للسحب ، كنت مطمئنا إلى أنه عندي متسع من الوقت ، ولكن طال خطاب رءيس الوزراء ، وخفت أن يفوتني الوقت بينما رئيس التحرير يلح على أن أكون في الموعد ، فتونس كانت في عين الاعصار بالنسبة للصحافة العالمية ، ولكن عندما اتجهت إلى باب الخروج من المجلس وجدته مغلقا ومحروسا ، سألت إن كان هناك منفذ آخر ، قيل لا كل المنافذ مغلقة حتى  رفع الجلسة ، عدت للسؤال من المسؤول ، قيل لي إنه صلاح الفراتي ، وهو أحد أبناء عمومتي ، اعتقدت أنها فرجت ، ولكن ، استحالت مقابلته ، فضلا عن أني علمت لاحقا أن فتح أبواب المجلس ليس بيده.
عندما خرجت وكنت قد قمت بإعداد مقالي وكان وفقا للطلب مركزا، التحقت بأقرب مركز بريد فوجدته مغلقا لفترة راحة منتصف النهار ، تذكرت قريبا لي في باردو ، لم أكن أعرف عنوان البيت ، ولكن دلوني عليه ، وهناك تكرم فمكنني من تليفون بيته ، وأمليت مقالي ، لم يكن آنذاك قد توفر الفاكس ولا الانترنت ، وكان يمكن لقريبي أن يمتنع لأن المكالمة مع الخارج باهضة الثمن ، ثم من يدري لعله تقع محاسبته سياسيا، في آخر المكالمة تنفست الصعداء ، وانطلقت لا ألوي على شيء مباشرة إلى المطبعة في شارع مرسيليا ، لم تكن حركة المرور بالكثافة التي نعرفها حاليا ، سريعا ما وصلت لأجد مكالمة في انتظاري ، استلمت السماعة ،  ووجدت محررا من النهار العربي والدولي ، يسألني عن معنى في حالة تلبس ، وهي الحالة التي اعتمدت في إلقاء القبض على الحبيب عاشور وغيره من النقابيين النواب في البرلمان ، وبالشرح تعرفت على العبارة المستعملة في الشرق ، وهي حالة الجرم المشهود ، وسأتعلم أسماء الأشهر،  وكذلك عبارات مستعملة عندنا ولكن لا يفهمها الإخوة العرب ، مثل ماء الفرق ، ويسمى عندهم ماء النار ،وغيرها كثير من العبارات.
أطبقت على البلاد حالة ثقيلة من الضغط غير المسبوق ، وإن لم تكن تونس تتمتع بحريات صحفية وغير صحفية كبيرة ، فقد كانت جريدة الصباح تتمتع بهامش ، كان يحسدنا عليه اازملاء في الصحف الأخرى ، غير أن تلك الفترة كانت لاحقة للإعتراف بالرابطة التونسية لحقوق الانسان ، ولظهور صحيفة الرأي المتحررة والتي شهدت عدة مرات من الحجز.
وفي ظل تلك الأنوار أمكن لنا أن نشق طريقا ضيقا ، واليد على القلب ،لأن احتحاز جريدة مثل الصباح،  يعني قطع رغيف حوالي 200 إلى 250 من الصحفيين والإداريين والعمال ، والعرضيين  ومئات بل ألوف من الباعة. وكانت الصباح قد مرت من التجربة عندما تم إيقافها لمدة 7 أشهر ، كان ذلك قبل أن أنتسب إليها.
يوم 27 جانفي كان علينا أن ننظم ظروف صدور الجرائد غي دار اصباح  ، وكانت السلطة حريصة على صدورها حتى لا يقال في العالم أنها منعتها من الصدور ، وكان الخوف من العالم أقوى من الخوف من الرأي العام الداخلي .
أعددنا قائمات الأعوان الضروريين لإصار الجريدة ، والعاملين ليلا ، وتم استثناء الاداريين ما عدا قسم التوزيع ، وجهناها إلى إدارة الأمن وسريعا ما جاءت أذون التنقل ليلا ، لكن بقيت مشكلتي الشخصية ، وهي أن زوجتي كانت حاملا بابنتي إيمان وفي شهرها التاسع ، طلبت إذنا لها بالتنقل في ساعات منع الجولان ، فطلبت مني إدارة الأمن شهادة طبية تثبت الحمل ، وسرعان ما استخرجتها ، وذهبت بها إلى مكتب الشرطة المركزية في نهج عبد الرزاق الشرايبي ، ولكن ذلك لم يكن كافيا ، فقد قدموا طلبا آخر ، وهو أن تحضر لديهم ، لمعاينة الحمل ، أخذت طريقي إلى البيت ، فلم أجدها لأنها كانت تدرس في ذلك الوقت ، لم تكن هناك إجازة حمل مثلما هو الأمر الآن ، طلبت من المديرة أن تسمح لها بالخروج ، فسمحت وأخذتها إلى الشرطة المركزية حيث تمت المعاينة ، بعد الاستظهار ببطاقة التعريف ، وتم تسليم بطاقة الجولان  ليلا ولكن ليوم واحد ، وإذ كنت من جهتي أملك بطاقة غير محدودة المدة على طول فترة منع الجولان ، فقد كان علي أن أذهب يوميا لنهج عبد الرزاق الشرايبي لاستخراج بطاقة صالحة لليلة واحدة لزوجتي .
عدت بها إلى البيت  في المنزه ، وتركتها دون أن أتفطن إلى أني تركت عندها أوراق السيارة وأوراقي الشخصية  ، مع أوراقها التي استظهرت بها لدى الشرطة.
مباشرة عدت للعمل في شارع مرسيليا ، وكان علي أن أعود إلى البيت لمرافقتها في حال ما ،  فمن يعلم متى تنطلق علامات الولادة ، وجدتها في النافذة وكاد أن يقتلها القلق ، لم أكن أحمل معي لا أوراق السيارة ولا أوراقي الشخصية  ولا إذن الخروج  ليلا ، ولكن الله سلم ، فلم يستوقفني أحد  . لا ليلتها ولا بعد تلك الليلة فقد أعفاني مدير التحرير  عبد الجليل دمق  رحمه الله من العمل ليلا  ، وفقا لتداول بين مسؤولي التحرير أيامها .
 وقد تمت الولادة بسلام بعد نهاية فترة منع الجولان.
كم كانت أيام عصيبة.
fouratiab@gmail.com


من الذاكرة : استمرارا لذكريات منع الجولان ،، الخميس الأسود

من الذاكرة

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
الخميس الأسود..
ما قبله وما بعده ؟؟؟
تونس/الصواب / 10/04/2020
كانت عشية كئيبة في ذلك اليوم الأربعاء 25 ديسمبر 1978 ، من مكتبي بالجريدة  في نهج باش حانبة ، انتقلت إلى مقر الاتحاد في ساحة محمد علي ، دخلت مباشرة إلى مكتب صالح برور،  وكان بمثابة الكاتب الخاص للحبيب عاشور، كنت آمل أن أدلف منه  إلى الأمين العام العام ، كما كانت عادتي في تلك الأيام ، ولكن طال الانتظار والأمين العام مشغول ، وأنا في عجلة من أمري ، تذكرت ما سبق لي أن جلست معه قبل أيام قليلة وكنا ثلاثة الطيب البكوش ، وكان له رأي مسموع في القيادة النقابية ، وهو الذي يمثل بصفته الجامعية العقل المدبر ، وعبد الحميد شماخية وهو بمثابة المدير الإداري والمالي في الاتحاد ، وأنا ، دار الحديث عن ضرورة إيقاف التصعيد وربما تأجيل الاضراب العام ، وكان الجو العام منذرا بأسوإ العواقب ، دخل علينا صالح برور في مكتب الأمين العام كالعاصفة ، وإذ استمع إلى جانب من الحديث أرغى وأزبد وقال ،، لا تراجع ، وكان وهو من أقارب الحبيب عاشور مسموع الكلمة ،، خرجت من مكتب الحبيب عاشور تاركا الأمر في اعتقادي بين يدي الطيب البكوش ، كنت من رأيه  وأيضا عبد الحميد شماخية ، من نهج محمد علي اتجهت نحو المطبعة بشارع مرسيليا ، ولكني في شارع باريس انعطفت نحو الباساج ومن هناك إلى شارع الحرية ، إلى يسار الشارع وبعد 50 مترا ، دلفت إلى العمارة التي يوجد بها مكتب الدكتور حمودة بن سلامة وهو من أشد المتحمسين والعاملين من أجل تحرير البلاد وإطلاق الديموقراطية وكان أمينا عاما لرابطة حقوق الانسان  ، بقيت قليلا في غرفة الانتظار قبل أن أدخل عليه ، ومن الشرفة لاحظنا خلو الشارع من السيارات وحتى من المارة ، كنا متفقين أنه لا بد من خفض التوتر وإلا فإن الكارثة ستحل ، من هناك ذهبت إلى مطبعة دار الصباح في شارع مرسليا ، بقيت في مكتب الطابق الأرضي ، وجاءتني سريعا الأصداء من الداخل حيث آلة السحب الضخمة، وحيث كان الصحفيون والعمال مجتمعين ، وتقرر أن يكون يوم الغد بمشاركة كل أعوان دار الصباح داخل تحرك الإضراب العام ، كانت الجريدة جاهزة للطبع ، ولم يعد لي من مهمة ذلك اليوم ، تحفطت على وثائقي الشخصية القليلة ، واتجهت نحو باب الخروج من جهة نهج جان جوريس ، حيث كانت سيارتي رابضة هناك منذ الصباح ، ناداني الحارس يطلبونك ، أخذت السماعة وعلى الخط كان صالح برور ، كان هناك صياحا وضجة قال لي : لقد هجموا علينا ، سألته ، من؟ قال :  البوليس ، قلت له ، هل سي الحبيب هنا قال لي لا خرج وانقطع الخط ، كان الاتحاد قد أصبح في عزلة ، رن تليفون آخر ، كان على الخط الميداني بن صالح ، لست أدري كيف مرت مكالمته من داخل الاتحاد ، وصف الوضع قائلا : هاجمونا من كل مكان وأخذوا يجلوننا في "باقات " الشرطة ، مرة أخرى انقطع الخط ، وأطبق صمت رهيب،  الميداني بن صالح لم يبق طويلا في الايقاف ، فقد توسط له وزير التعليم  محمد مزالي وكان رفيقا له في اتحاد الكتاب ،،،، عدت إلى ديسك التحرير في الطابق الأول  في نهج مرسيليا ، حررت خبرا بما توفر من أخبار حول محاصرة مقر الاتحاد ، وإلقاء القبض على كل من كان فيه، فكرت هنيهة ، ثم غلبني فضولي فاتجهت نحو نهج محمد علي ، من شارع باريس بدا لي أن المدينة محاصرة ، لعلها منطقة نهج محمد علي ، دفعوني  بغلظة  عندما اقتربت ،وعدت أدراجي ، ركبت السيارة واتجهت نحو بيتي في المنزه ، واعتقادي راسخ أنه حم القضاء ، وأننا مقدمون على أيام صعبة ، ولكن لم يدر بخلدي أننا في مواجهة حمام دم.
اتجهت إلى بيت جاري الصادق بسباس  الأمين العام المساعد ، ولكني لم أجده في بيته ، كان بيت الحبيب عاشور في المنزه محاصرا هو الآخر ، أما بيت الصادق بسباس فلم يكن يبدو أنه تحت رقابة واضحة، بعد قليل كان الصادق بسباس في بيته.
يوم الخميس 26 ديسمبر ، وكان يوم الاضراب العام تملكت أعصابي ، وبقيت أتنسم الأخبار ، فمقر الجريدة ومقر المطبعة مغلقين ، لطبيعة الاضراب العام الذي كان الموقف إجماعيا بشأنهما ، تلفن الحبيب شيخ روحه في الصباح الباكر ،وفقا لروايته التي أعلمنا بها  لاحقا ، تلفن  إلى "صديقه" الحبيب عاشور ، داعيا إياه إلى التوجه وقتها عبر الإذاغة ، بنداء يتراجع فيه عن الإضراب العام ، ويدعو لتهدئة الأمور ،  ووفقا لما قاله لنا الحبيب شيخ روحه ، فإن عاشور رفض ذلك ، هل تكون بادرة الحبيب شيخ روحة شخصية نابعة منه شخصيا ، أم إنها كانت بإيحاء من  صديقه  الآخر الهادي نويرة الوزير الأول ، الذي كان يقضي كل ليلة في صالون الحبيب شيخ روحه  كل السهرة ،  صحبة الشاذلي القليبي شفاه الله ومحمود بلحسين  ، وكان  محمود بلحسين بمثابة أحد الكتاب الخاصين للرئيس بورقيبة  وكان مكلفا لديه بقراءة الصحف ، أما الشاذلي القليبي فكان في ذلك الحين وزيرا مديرا للديوان الرئاسي ، وذلك قبل أن يتم انتخابه أمينا عاما للجامعة العربية بعد نقلها لتونس،  لا أحد يدري  كيف جاءت المبادرة ؟ ولقد حصل ورأيت الجمع في بيت الحبيب شيخ روحه ، أو على الأصح خمنت ذلك بمناسبة استشارة في أمر ما مع مدير الصباح، لا ينبغي أن تمر عبر الهاتف ، ما كان يفرض علي الانتقال إلى قرطاج.
**
مر يوم 26 ديسمبر 1978 سيسمى الخميس الأسود ، في اليوم الموالي تم إلقاء القبض على القيادة العليا للإتحاد بمن فيهم الحبيب عاشور ، ومن جملة من جمعتهم الشبكة ، جاري الصادق بسباس الأمين العام المساعد ، عندما ذهبنا إلى زوجته كانت في قمة الشجاعة ، لا انهيار ولا هم يحزنون ، وقد ضربت عائلات النقابيين  من السجناء أيامها مثلا في الجلد والشجاعة ، وقد رفضت العائلات على ما يبدو استلام مساعدات من المعارف ، وقد تكفلت على ما يبدو الجامعة العالمية للنقابات الحرة من بروكسيل،  بأمر العائلات المتضررة.
في ذلك اليوم نفسه أدلى الهادي نويرة لإحدى وسائل الإعلام الأجنبية ( هل كان بطلب منه لتبليغ رسالة معينة ) طبعا فرنسية بتصريح قصير تناقلته التلفزة التونسية ، وجوابا على سؤال طرح عليه ، عما إذا كان سيجلس مع النقابات لإيجاد حل ، أجاب بنبرة قاسية ، لم يعد بيننا وبينهم إلا القضاء وأحكامه.
سقطت على تونس سحابة ضغط شديد.
 يوم 27 ديسمبر صباحا دعي مدير التحرير في دار الصباح عبد الجليل دمق ، وكنت برفقته ، لمقابلة عاجلة مع كاتب الدولة للإعلام مصطفى المصمودي الذي كانت تربطنا معه صداقة حميمية ، وكانت تجمعني به قرابة عائلية وغير عائلية، وقد بدا عليه حرج شديد وهو يبلغنا ما معناه أن الاستراحة انتهت ، وأن على جريدة الصباح وأخواتها أن تلتزم " الصف" ، وما عجز عن تبليغه مما علمته لاحقا أنه كان هناك تهديد مبطن أوصريح ، عجز عن تبليغه.
بعد قليل كنت في مجلس الأمة ، لتغطية خطاب الوزير الأول السيد الهادي نويرة ، وكنت حديث عهد بمراسلة صحيفة النهار العربي الدولي ، في باريس ، وكان يرأس تحريرها أيامها عبد الكريم أبو النصر ، وهو صحفي كبير لا تفوته فائتة ، ويتمتع بمداخل في وزارة الخارجية الفرنسية  والبريطانية ، تجعله نافدا جدا في كل الدوائر السياسية في بلدان كانت تحت الاستعمار الفرنسي والإنقليزي ، وكان مطلوبا مني  تغطية اجتماع مجلس الأمة ، لا فقط للصباح ولكن أيضا للنهار العربي والدولي ، وكانت فرعا لصحيفة النهار في بيروت ذات الشهرة العالمية، يومها كان موعد القفل  في النهار العربي والدولي أي إنهاء الكتابة الصحفية في تمام الواحدة ظهرا، للإرسال للسحب ، كنت مطمئنا إلى أنه عندي متسع من الوقت ، ولكن طال خطاب رءيس الوزراء ، وخفت أن يفوتني الوقت بينما رئيس التحرير يلح على أن أكون في الموعد ، فتونس كانت في عين الاعصار بالنسبة للصحافة العالمية ، ولكن عندما اتجهت إلى باب الخروج من المجلس وجدته مغلقا ومحروسا ، سألت إن كان هناك منفذ آخر ، قيل لا كل المنافذ مغلقة حتى  رفع الجلسة ، عدت للسؤال من المسؤول ، قيل لي إنه صلاح الفراتي ، وهو أحد أبناء عمومتي ، اعتقدت أنها فرجت ، ولكن ، استحالت مقابلته ، فضلا عن أني علمت لاحقا أن فتح أبواب المجلس ليس بيده.
عندما خرجت وكنت قد قمت بإعداد مقالي وكان وفقا للطلب مركزا، التحقت بأقرب مركز بريد فوجدته مغلقا لفترة راحة منتصف النهار ، تذكرت قريبا لي في باردو ، لم أكن أعرف عنوان البيت ، ولكن دلوني عليه ، وهناك تكرم فمكنني من تليفون بيته ، وأمليت مقالي ، لم يكن آنذاك قد توفر الفاكس ولا الانترنت ، وكان يمكن لقريبي أن يمتنع لأن المكالمة مع الخارج باهضة الثمن ، ثم من يدري لعله تقع محاسبته سياسيا، في آخر المكالمة تنفست الصعداء ، وانطلقت لا ألوي على شيء مباشرة إلى المطبعة في شارع مرسيليا ، لم تكن حركة المرور بالكثافة التي نعرفها حاليا ، سريعا ما وصلت لأجد مكالمة في انتظاري ، استلمت السماعة ،  ووجدت محررا من النهار العربي والدولي ، يسألني عن معنى في حالة تلبس ، وهي الحالة التي اعتمدت في إلقاء القبض على الحبيب عاشور وغيره من النقابيين النواب في البرلمان ، وبالشرح تعرفت على العبارة المستعملة في الشرق ، وهي حالة الجرم المشهود ، وسأتعلم أسماء الأشهر،  وكذلك عبارات مستعملة عندنا ولكن لا يفهمها الإخوة العرب ، مثل ماء الفرق ، ويسمى عندهم ماء النار ،وغيرها كثير من العبارات.
أطبقت على البلاد حالة ثقيلة من الضغط غير المسبوق ، وإن لم تكن تونس تتمتع بحريات صحفية وغير صحفية كبيرة ، فقد كانت جريدة الصباح تتمتع بهامش ، كان يحسدنا عليه اازملاء في الصحف الأخرى ، غير أن تلك الفترة كانت لاحقة للإعتراف بالرابطة التونسية لحقوق الانسان ، ولظهور صحيفة الرأي المتحررة والتي شهدت عدة مرات من الحجز.
وفي ظل تلك الأنوار أمكن لنا أن نشق طريقا ضيقا ، واليد على القلب ،لأن احتحاز جريدة مثل الصباح،  يعني قطع رغيف حوالي 200 إلى 250 من الصحفيين والإداريين والعمال ، والعرضيين  ومئات بل ألوف من الباعة. وكانت الصباح قد مرت من التجربة عندما تم إيقافها لمدة 7 أشهر ، كان ذلك قبل أن أنتسب إليها.
يوم 27 جانفي كان علينا أن ننظم ظروف صدور الجرائد غي دار اصباح  ، وكانت السلطة حريصة على صدورها حتى لا يقال في العالم أنها منعتها من الصدور ، وكان الخوف من العالم أقوى من الخوف من الرأي العام الداخلي .
أعددنا قائمات الأعوان الضروريين لإصار الجريدة ، والعاملين ليلا ، وتم استثناء الاداريين ما عدا قسم التوزيع ، وجهناها إلى إدارة الأمن وسريعا ما جاءت أذون التنقل ليلا ، لكن بقيت مشكلتي الشخصية ، وهي أن زوجتي كانت حاملا بابنتي إيمان وفي شهرها التاسع ، طلبت إذنا لها بالتنقل في ساعات منع الجولان ، فطلبت مني إدارة الأمن شهادة طبية تثبت الحمل ، وسرعان ما استخرجتها ، وذهبت بها إلى مكتب الشرطة المركزية في نهج عبد الرزاق الشرايبي ، ولكن ذلك لم يكن كافيا ، فقد قدموا طلبا آخر ، وهو أن تحضر لديهم ، لمعاينة الحمل ، أخذت طريقي إلى البيت ، فلم أجدها لأنها كانت تدرس في ذلك الوقت ، لم تكن هناك إجازة حمل مثلما هو الأمر الآن ، طلبت من المديرة أن تسمح لها بالخروج ، فسمحت وأخذتها إلى الشرطة المركزية حيث تمت المعاينة ، بعد الاستظهار ببطاقة التعريف ، وتم تسليم بطاقة الجولان  ليلا ولكن ليوم واحد ، وإذ كنت من جهتي أملك بطاقة غير محدودة المدة على طول فترة منع الجولان ، فقد كان علي أن أذهب يوميا لنهج عبد الرزاق الشرايبي لاستخراج بطاقة صالحة لليلة واحدة لزوجتي .
عدت بها إلى البيت  في المنزه ، وتركتها دون أن أتفطن إلى أني تركت عندها أوراق السيارة وأوراقي الشخصية  ، مع أوراقها التي استظهرت بها لدى الشرطة.
مباشرة عدت للعمل في شارع مرسيليا ، وكان علي أن أعود إلى البيت لمرافقتها في حال ما ،  فمن يعلم متى تنطلق علامات الولادة ، وجدتها في النافذة وكاد أن يقتلها القلق ، لم أكن أحمل معي لا أوراق السيارة ولا أوراقي الشخصية  ولا إذن الخروج  ليلا ، ولكن الله سلم ، فلم يستوقفني أحد  . لا ليلتها ولا بعد تلك الليلة فقد أعفاني مدير التحرير  عبد الجليل دمق  رحمه الله من العمل ليلا  ، وفقا لتداول بين مسؤولي التحرير أيامها .
 وقد تمت الولادة بسلام بعد نهاية فترة منع الجولان.
كم كانت أيام عصيبة.
fouratiab@gmail.com