من الذاكرة
|
يكتبها عبد
اللطيف الفراتي
ثورة الخبز
تونس /
الصواب / 20/04/20202
في إطار الحكومة الجديدة التي شكلها محمد مزالي ،
بعد مرض الوزير الأول الهادي نويرة ، الذي أصيب بالفالج ،( يبدو على خلفية الهجوم
الليبي الجزائري على تونس في قفصة ، بقصد تفكيك الوطن التونسي ، وإقامة جماهيرية
شعبية انطلاقا من مدينة قفصة بتواطئ بين جزائر هواري بومدين ، الذي كان عبد العزيز
بوتفليقة ، أقرب المقربين إليه ، ومعمر القذافي ، باعتماد عدد من التونسيين الموتورين ، وهو حلم لم يتحقق بفضل وقوف
التونسيين ضد هذا المشروع الذي لم تتحدد ملامحه بوضوح آنذاك ، وتضامن عربي دولي ، فرنسي أمريكي مغربي مصري ، رغم أن
العلاقات كانت مقطوعة مع مصر السادات أيامها ) ، في ذلك الاطار جاءت حكومة محمد
مزالي ، بخلفية تحرير الحياة السياسية ، معاضدة " لتحرير" الحياة
الاقتصادية ، التي كان يقال إن الهادي
نويرة نفذها منذ جاء للحكم في بداية السبعينيات.
ومن هنا
تشكلت حكومة مزالي بأسماء كبيرة ، وخاصة ممن وضعهم على الرف الوزير الأول نويرة ،
تولى منصور معلى وزارة التخطيط والمالية ، وأشرف على إعداد المخطط الجديد ، بعد أن
كان أشرف على إعداد مخطط 1972/1976 ، وعبد العزيز الأصرم في الاقتصاد ، وحسان
بلخوجة في الخارجية ، والطاهر بلخوجة في الاعلام ، وإدريس قيقة في الداخلية ، وغيرهم من القامات الكبيرة التي تشكلت منها
حكومة قوية ، قادرة على الفعل.
هنا سنتحدث
عن الاعلام الذي أراد محمد مزالي في البداية أن يكون سهمه الأول في إطار تحرير
الحياة السياسية ، وكان الاختيار من قبله للطاهر بالخوجة موفقا لتنفيذ سياسات تحررية ، وهو الرجل الذي أبدى
فيما سبق إصرارا على اتباع سياسة متحررة ، وهو على رأس وزارة الداخلية المفترض أن تكون اليد المتصلبة للحكومة.
ولي مع
الطاهر بلخوجة قصة طويلة ، لم أكن أعرفه بقدر ما يعرفه مواطن عادي، وأقدر أنه لم
يكن يعرفني البتة ، فمن أنا ليعرفني رجل وصل إلى أعلى المراتب ،
كان ذلك في
بداية السبعينيات ، وبمناسبة انعقاد مؤتمرات لجان التنسيق للحزب الاشتراكي الدستوري ، تم التقدير في رئاسة
تحرير ، بأنها فرصة لمعرفة النبض الحقيقي للشعب، فقد ساد الشعور آنذاك أن النقاش
داخل الحزب الحاكم يتسم بالصراحة أكثر مما
هو الأمر خارجه ، ولم تكن تلك الصراحة تخرج
للشعب ، وفعلا قامت رئاسة التحرير بتخصسص فريق من المحررين لتغطية كل تلك
المؤتمرات ، مع التوصية بعدم وضع أي رقابة ذاتية ، على ما يصدر عن المؤتمرين ،
وفعلا قامت الصباح وقتها بتعرية أشياء كثيرة سلبية مما يعتمل في ضمائر الدستوريين
( سواء مناضلين أو متسلقين) ، وللواقع
فإننا لم نجد أي ممانعة من السلطة ، ربما لم يكن في تقديرها أن الأمر لم يكن مهما
جدا،،،، بعد تغطية كل المؤتمرات ، توليت شخصيا القيام بعمل تأليفي لاستنتاج ما
يمكن استنتاجه ، وعلى ثلاث حلقات طويلة ومركزة ، توليت إبراز أشياء لم يكن متوقعا
إبرازها ، وإذ كان الأمر غير ملفت للإنتباه في بداية الأمر ، فقد أفادت جهات
التوزيع في الجريدة ، أن أعدادا من
المواطنين ممن فاتتهم تلك الحلقات توافدوا على الجريدة بكثافة لطلب نسخ منها ، لكن
المفاجأة كانت عندما دعاني الرئيس المدير العام المرحوم الحبيب شيخ روحه إلى مكتبه
، حيث وجدته في غاية الاغتباط ضاحكا، وأبلغني
أن وزير الداخلية الطاهر بلخوجة وهو صديقه منذ زمن طويل ، قد خاطبه بالهاتف مهنئا
سواء بتغطية مؤتمرات لجان التنسيق ، أو خاصة بالتحليل السياسي الذي تولاه الصحفي
عبد اللطيف الفراتي ، ورجاه إعلامي بذلك ، كنت للحقيقة مغتبطا بذلك التقييم ، ففي
صحافتنا التونسية لم نكن متعودين على التحليل السياسي ، وكنت شغوفا بالتحاليل في
جريدة لوموند ، وفي الإكسبريس ولونوفال أوبسارفاتو، وأيضا ما يأتينا من الشرق ،
مثل النهار والأسبوع العربي ، والأهرام، وطفقت أبحث عن كتب الصحافة وأغراضها ،
ابتداء من صنوف كتابة الخبر إلى الأغراض الأخرى ومنها الريبورتاج والحديث الصحفي ،
والحملة ، وخاصة التحليل الصحفي أو التحليل السياسي ، وقد كتب ماهر المذيوب رسالة
التخرج في علوم الصحافة ، بشأن التحليل السياسي الصحفي في تونس ، مبرزا
أني شخصيا من السابقين فيه.
لم أكن قد
قابلت الطاهر بلخوجة ، رغم ما كان يصلني من أصداء عن إعجابه بكتاباتي عن طريق مديره للشؤون السياسية عبد الكريم موسى
، وهو الصحفي الذي رافق عددا من كبار السياسيين كمستشار مسموع الكلمة.
في أحد أيام
صيف 1978 ، دعاني عبد الكريم موسى إلى مكتبه ، وهي سابقة ، وكانت تلك أول مرة أدخل
فيها إلى الوزارة ، عدا مرة سابقة استدعيت فيها لمحاسبتي على وضع توقيعي على بيان
لفائدة أحمد بن صالح الوزير القوي الأسبق بعد إقالته.
باختصار ،
قال لي عبد الكريم موسى ، قد لا تعرف أن السيد الطاهر بلخوجة عندما كان سفيرا
معتمدا في دول كل إفريقيا الغربية مع الاقامة في داكار ، ارتبط بصداقة عميقة ، مع
السيد محمد علي حمادة، الذي أصبح رئيسا لمجلس إدارة مجموعة جريدة النهار التي
يملكها غسان تويني ، ممثل لبنان آنذاك في الأمم المتحدة ، والسيدمحمد علي حمادة من
القيادات الدرزية في لبنان ، وهو أب لمروان حمادة الوزير آنذاك ، ونادية حمادة
زوجة غسان تويني وعرفت بأنها شاعرة مفوهة باللغة الفرنسية ، ونالت عدة جوائز، لم
أكن أعرف ذلك ، جمعتنا جلسة أولى محمد علي
حمادة ، وكان قد تجاوز سن التقاعد في الوظيفة بعد أن كان سفيرا ، وهو يجمع بين
كياسة الرجل الذي قضى حياته في الديبلوماسية
من أول سلمها إلى مستوى السفير ، وعبد الكريم موسى الصحفي رئيس التحرير
الأسبق في جريدة العمل ، قبل أن يتولى
السفارة في عدد من البلدان ، ثم يتولى الادارة العامة السياسية في وزارة الداخلية
مع الطاهر بلخوجة ، والخارجية ، ثم في رئاسة
الحكومة مع محمد مزالي ، ويتسم بحس فني مرهف ، كيف لا وزوحته إلى جانب قيادة عدد
من المؤسسات ، كانت رسامة بارعة ، وكانت تنظم معارض لرسومها بصورة دورية ، وكنت
ثالثهما ، وجاء العرض الرسمي بتولي مراسلة جريدة النهار العربي والدولي التي تصدر
من باريس ، كان محمد علي حمادة يتحدث وبين يديه قصاصات من مقالاتي
وافتتاحياتي بعضها قديم جدا يعود لسنوات،
، وكان يشير من طرف خفي إلى أن الكتابة في جريدة دولية تتطلب حيادية أكثر
والانفصال عن كل ذاتية .
انطلقت في
التجربة مباشرة ، وكنت أرسل مقالاتي غير الحينية بالبريد ، بكلفة عن كل إرسالية
بـ25 دينارا عن كل رسالة ، أما المقالات أو الأخبار العاجلة وعادة في اليوم الأخير
أو الساعات الأخيرة قبا القفل ، فكنت
أمليها بالتلفون ، وكنت أسجلها على الريكوردر الذي مدوني به من باريس ، وكنت أسجل
ذلك ثم عند الإرسال أستعمل سرعة كبرى ، وفي رئاسة التحرير يعيدونه إلى السرعة
العادية قبل التفريغ.
كانت تلك هي
الخطوات الأولى في التعامل مع صحافة غير تونسية ، ولقد تعلمت كثيرا من هذا
الاحتكاك مع عمالقة عرب ودوليين ، فقد تزاملت مع عبد الكريم أبو النصر وهو دائرة
معارف واسعة ، ومقتنص أخبار لما يملكه من كنش أسماء وتليفونات عبر العالم ، وإلياس
الديري الأديب الصحفي ، وأمين معلوف وهو أحد الكتاب الكبار في فرنسا ونال أكثر من
جائزة عالمية ، والشهير مصطفى أمين رئيس تحرير الأخبار المصرية ، الذي كان بمثابة
الشخص الملهم لمؤسسي الشرق الأوسط والعرب نيوز ومجلة المجلة وسيدتي ، وجهاد الخازن ، و محمد جاسم الصقر رئيس تحرير
القبس ، ومجلة الوسط وخاصة غابريال طبراني وغسان شربل وجريدة الراية القطرية مع
أحمد العلي والشرق . وكذلك بيزنيس ويك الأمريكية والمختار الأمريكية أيضا.
وإذ كانت
استفادتي كبيرة من مجاورة عمالقة في الصحافة العربية ، والدولية مثل باترك سيل ،
فقد لمست الفارق بين التناول الصحفي في المدرستين الكبيرتين المصرية واللبنانية ،
والتنافس بينهما خاصة أيام اشتغلت في الشرق الأوسط ، فالصحفيون اللبنانيون يعتمدون
التقطيع وترتيب المقالات على أساس 1 و2 و 3 إلخ لسرد الأحبار والتحاليل وتطورها، بينما كان الزملاء المصريون يفضلون السردية
المتدفقة على الطريقة الأنقوسكسونية. وقد اخترت منذ ذلك الوقت التعامل الصحفي
وخاصة في التحاليل بالطريقة اللبنانية .
**
إذن حصل توجه
في اتجاه التحرر السياسي بمبادرة من المثقف محمد مزالي ، فحصل انفتاح حقيقي في
التناول الصحفي ، من ذلك أن الطاهر بلخوجة بوصفه وزير الاعلام ، عمد إلى تنظيم
بلاتو مباشر ، حول التوجات الاقتصادية المقبلة ، تولى قيادة فعالياته واحد من أفضل
الصحفيين التلفزيونيين الحبيب حريز ، وهو
يتميز بالجرأة بمقاييس ذلك الوقت ، وكان مسنودا من حسان بلخوجة وزير الخارجية ،
والمسوع الكلمة لدى الرئيس الحبيب بورقيبة ، بسرعة تطرق الحديث بمبادرة مني إلى
موضوع التعويض والدعم ، الذي كنت وما زلت أرى أنه غير عادل ، ويتوجه لمن يستحقونه ومن لا
يستحقونه ، وأجاب منصور معلى بكل أريحية ، بأن الموضوع يستحق الدرس ، وينبغي العمل
على إدراجه مستقبلا وتحديد الذين يستحقون الدعم وكيف يصرف إليهم ، مع تعديل تدريحي
بعد ذلك في أسعار المواد المدعومة ، ما إن
انتهى الوزير معلى من حديثه وربما حتى قبل إكماله ، حتى تدخل الوزير الأول محمد
مزالي تليفونيا ومباشرة في البرنامح ، وفي تقديري
أن محمد مزالي كان إلمامه
الاقتصادي محدودا في أحسن الأحوال ليقول ، بانه لن تقع مراجعة أسعار المواد
الأساسية بما فيها الخبز ، سكت منصورمعلى ، ولم يدخل في سجال مع الوزير الأول ،
وفي قرارة نفسي لم أكن أشعر ، بأن ما حصل من الوزير الأول على المباشر ، ليس لائقا
على الأقل ، ولا يمكن أن يصدر عن رجل دولة.
في الأثناء
اشتد الخلاف بين منصور معلى والطاهر بالخوجة وبشكل أقل مع وزير الاقتصاد عبد
العزيز الأصرم ، وبين محمد مزالي ، واعتبر مزالي أنه حقق انتصارا عندما أقنع
الرئيس بورقيبة بإقالة معلى وبلخوجة ، في انتظار استقالة عبد العزيز الأصرم ، الذي
كان معارضا وهو وزير لمضاعفة أسعار الرغيف والمواد الأساسية ، وكان اعتقاده أنه لن يمر كبير وقت و يخلق
للحكومة مشكلا مجتمعيا لا قبل لها به، انقاد محمد مزالي في تناقض كبير بينه وبين نفسه ، عندما تحول من
معارض شديد كما حصل على التلفزيون ، لأي
تغيير تدريجي في أسعار المواد الأساسية ،
إلى متحمس شديد لمضاعفة أسعار الرغيف ومشتقات الحبوب، ورغم ما نبهه له البعض مثل
عزوز الأصرم ، فإنه أصر على رأيه ، مقتنعا بأنه بذلك سيرضي الرئيس بورقيبة الذي
زين له زكرياء بن مصطفى رئيس بلدية تونس ، أن هناك تبذيرا كبيرا في الخبز لتهاود
ثمنه، وكان السباق على أشده على الخلافة ، وقد اشتد المرض بالرئيس بورقيبة ،
وتكاثر التكالب لإرضائه بأي ثمن ، ولم يلعب محمد مزالي دوره في تخفيف غلواء الرئيس
، الذي كانوا يزينن له كل يوم أنه وجب
ترفيع أسعار المواد الأساسية للضعف بعيدا عن أي منطق ، ولما كان البرلمان مجرد
غرفة تسجيل مر الأمر بأغلبية كاسحة ، رغم معاضة الأعضاء من النقابيين، كما كانت معارضة
اتحاد الشغل بزعامة الحبيب عاشور في قمة
اللين، وأذكر أني ذهبت إلى منصور معلى في مقر البنك الذي كان يرأسه ، والذي تم إخراجه
منه زمن الرئيس بن علي لرأي اعتبره معاكسا
لما يراه ، وسألته مستفزا، ها هو مزالي الذي تدخل في التلفزيون ضد ما اقترحته من
الزيادة في أسعار المواد الأساسية ، يعود إلى رأيك ، أجابني بشيء من الانفعال :
ليس هذا رأيي ما كنت أرغب فيه هو أن نعوض لأصحاب الحاجة للدعم ، وبالتدريج ، ما
تفعله الحكومة من قرار مضاعفة سعر الرغيف أو الدقيق والسميد والكسكسي والمكرونة
وكل المشتقات ، هو قرارسيثير الناس ، ولن يمر بسلام.
بعد أيام
قليلة وفي مفتتح شهر جانفي 1984 ، دخل رئيس شعبة من شعب ولاية قبلي ، إلى عطار
الحومة لشراء شيء من الدقيق أو السميد لا أذكر ، وعند الدفع فوجئ بأن الثمن هو ضعف
ما كان يدفعه من، وساروا في مظاهرة عفوية منددين بالزيادة التي
كان بدأ تطبيقها ، وقطرة بعد قطرة انتظمت المظاهرات في كل مكان ، ولعلع الرصاص
وسقط من التونسيين عدد لست قادرا لليوم على إعطاء إحصائية عنهم.
أعلنت حالة
الطوارئ ، وفرض منع الجولان ، وتعرض موكب رئيس الدولة ، عند عودته من قصر هلال إلى
المضايقة ، وهي أول مرة منذ الاستقلال ، وهتف الناس بسقوط بورقيبة ، وهو ما لم
يكونوا يجرؤون عليه منذ سنوات طويلة.
في اليوم
الموالي أعلن بورقيبة بنفسه ، عن إسقاط القرارات حتى قبل العودة لمجلس النواب الذي
صادق عليها ، ويقول العارفون إنه لو كان أخذ العصا من وسطها فقرر خفض الزيادة
للنصف لبلع الشعب " الحربوشة " ،
وكان يكون مسرورا ، ولكن غاب القرار السياسي المعقلن.
يومها تم تثبيت
محمد مزالي في موقعه كوزير أول ، وسقطت مطرقة ثقيلة ، على رأس وزير الداخلية ،
إدريس قيقة، ومعاونيه ، تم التسريب فركب وزير الداخلية إدريس قيقة وطار إلى باريس
، بعد ساعات من صدور جريدة تبشر به معوضا لمحمد مزالي ، و تم سحبها قبل الوضع في
السوق .
ليلتها بعكس
ما كان في 1978 كان الدور علي لمرافقة إصدار الصباح ليلا ، تسلحت بكمية من الفواكه
وزجاجات المشروبات الغازية بما يكفي للعاملين ليلتها من مطبعيين وصحفيين ،،،
خلال العودة
للبيت ما بعد منتصف الليل ، لاحظت مدى
جدية الحراسة المشتركة بين الأمن والجيش ، فقد تعددت نقط المراقبة وكانت أشدها في
ساحة باستور ، حيث لم تكتف الدورية ، بمدها بترخيص الجولان ، بل كذلك بأوراقي
الشخصية وأوراق السيارة ، وفي مستوى حي المهرجان ، انعطفت ألى اليسار مقدرا أن
الدوريات سيكون عددها أقل ، وأنني سوف لن أضطر للوقوف مرتين أو ثلاثة قبل الوصول
إلى بيتي في المنزه الأول ، وفعلا لم تعترضني دورية إلا في نقطة الالتقاء بين
الطريق الرابطة بين الصيدلية المركزية ، والمنزه الأول ، وقررت من ليلتها أن أبيت
على عين مكان الشغل ، في الليلة الموالية تسلحت بالمكسرات والمشروبات الغازية
وترموس كبير من القهوة والآخر من الشاي، مع كامل العدة من فناجين وكؤوس ، ولم يكن قد درج
بعد الماء المعدني على نطاق واسع ، كما تسلحت بمجموعات من أوراق اللعب رامي وبيلوت
وشكبة، وأيضا قطع الدومينو، وقد لاحظت
أهمية عدد الباقين مثلي في مكان العمل ، والذين فضلوا مثلي البقاء ، على ركوب مغامرة الدخول إلى
بيوتهم، نام الكثيرون منا على كراسيهم ، فيما تكونت مجموعات للعب ، ارتفعت أصواتها
وخلافاتها كما هي عادة اللاعبين ، وإذ كنت مشهورا بالقدرة على مقاومة النوم ، فقد
لاحظت أنه لم يبق الكثيرون ساهرين ، وانفضت مجموعات اللاعبين و"المكندرين
" منهم من نام على كرسي ومنهم من افترش مكتبا ، انتهى مفعول القهوة والشاي ،
وقاومت النوم حتى جاء وقت رفع حظر التجوال في السادسة صباحا إن لم تخني الذاكرة ،
في الحادية عشرة كنت في مكتبي لمشاركة صديقي المرحوم عبد الجليل دمق في الاشراف
على إعداد الدفعة اليومية من جريدة الصباح ، التي كانت أيامها الأوسع انتشارا بين
الصحف التونسية ، وكانت امتازت وقتها ،سواء بتنوع وصدقية أخبارها ، وبتعدد تحاليلها ، وأذكر لليوم وكان يوم أحد كتبت فيها
افتتاحية تلقيت عنها عشرات إن لم يكن أكثر من المكالمات ، مقدرة شاكرة ، وبقدر وفق
ما أذكر كانت تلك الافتتاحية متزنة ،
فإنها كانت جريئة ، ولما بقيت في البيت يومها على اعتبار أن الصحيفة لا تصدر يوم
الإثنين ، فوجئت بمكالمة متأخرة وقتا ، ولكنها أسعدتني كانت صادرة عن
الأستاذ الدكتور عبد المجيد الشرفي ، لأاأذكر إن كان يومها عميدا لكلية
الآداب أم لا ، غير أني سعدت بها وبما جاء فيها، وعبد المجيد الشرفي هو اليوم رئيس
بيت الحكمة ، أعطاها من علمه ، وقدراته
وحكمته ما جعلها مؤسسة علمية عالية الشأن ، تتمتع بسمعة عربية ودولية غير
مسبوقة .
هنا أيضا لم
يعرف لحد الآن عدد ضحايا تلك المجزرة ، مجزرة ثورة الخبز ، غير أن ما أعرف أنه
صدرت أحكام بالإعدام قاسية ، وما كنت أتابعه عن طريق رابطة حقوق الانسان الفتية
أيامها ، أن مقابلة حاسمة جرت عن طريق باب موارب بين محمد الشرفي ( مرة أخرى شرفي
) الذي لم يكن وقتها قد أصبح رئيسا للرابطة ، " والماجدة " وسيلة بورقيبة
، على كره منه ، لأنه لم يكن يؤمن إلا بالتعامل مع من في يدهم شرعية القرار، وهي
مقابلة أثمرت قرارا من الرئيس بورقيبة بالعفو عن أولئك الشبان ، الذين اتهموا
بتأجيج الوضع " والتسبب " في قتل من قتل.
ولعله جاء
الوقت لاماطة اللثام عن أسرار ما حصل يوم 26 جانفي 1978 ، وجانفي 1984 وربما أيضا ، أسرار مجزرة جويلية
1961 من أحداث في بنزرت ، أورد جانبا منها
الطاهر بلخوجة في مذكراته.
والأحداث
الثلاثة كان لها رجع صدى في مسار الأحداث في السياسة التونسية ، محمد مزالي نجح في
إزاحة إدريس قيقة ، الأخير صاحب الوزن السياسي في حكومته ، وسفه أحلام من رجحوا
صرفه من الوزارة الأولى ، فعادة بورقيبة كان ينتصر دائما لعضده الأعلى رتبة على حساب من يعتبره منافسا في انتظار الوقت المناسب للإجهاز عليه كفريسة
بلا دفاع ، وكانت تلك الأحداث في جانفي 1984 ، مقدمة لسحب الثقة من مزالي ، فقد
استعاد بورقيبة صلاحية ترؤس اجتماعات مجلس الوزراء ، قبل أن يقضي بعد عامين ونيف
على مزالي ، ويدفع به للمحاكمة ولو غيابيا ، ويحاول القضاء عليه سياسيا ، ذلك هو
بورقيبة في كما تعلم من فلسفة ميكيافيللي ، ونفذها طيلة حياته أحسن تنفيذ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق