من الذاكرة
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
يوم الفزع
تونس / الصواب / 26/03/2020
كنت في الثالثة من عمري أو تكاد ،
أذكر فقط أننا كنا في بيتنا الشتوي في نهج هميلكار قرب باب القصبة وجامع سيدي
إلياس الذي يقال إنه كان جامعا حنفيا ، قبل أن
يصبح جامعا مالكيا لانتقال الأحناف في مدينة صفاقس إلى المالكية ، كنا
يومها نزلنا من "رعاية " في
ساقية الزيت ( وكان يقال إللي ما عندوش
جنان في رعاية يطلعوا أولادو هطاية ) بسبب
مرض أخي محمد جاءته رحمة اليوم بعينيه وكان ما يزال رضيعا ، فأخذه الوالد إلى طبيب
من أصل ألماني ، وصف له دواء ، ،،، جلسنا إلى المائدة الوالد الحاج
البشير وخديجة يقال لها دوجة وأخي محمد وأنا ، وكانت تتنقل بين الغرفة التي كنا
نستعد للأكل فيها والمطبخ ،المعينة المنزلية حليمة التي كانت بمثابة الأخت ، وقد وضعت أمامنا " شقالة " "
القطع خميرة " ويسمونها أيضا حلالم تونس ، وهي غير الحلالم المعروفة في
العاصمة ، وإذ كانت تأتي من الكوجينة بقمصار الماء ، بدأ أزيز الطائرات ثم انفجرت
قنابل مدوية ، كان بيتنا بوسط غير مسقوف على عادة الديار في المدينة العتيقة ، كنا
نظن أن المنزل سيسقط على رؤوسنا ، ارتفعت عقيرتي بالبكاء ، فيما أخذ الوالد يقرأ
بعض سور القرآن والأدعية بصوت مرتعش ، وضمتنا الوالدة أنا وأخي محمد في حضنها
كأنها تحمينا ، مما يجري ، بينما كانت حليمة في المطبخ تصيح بصوت عال ، ولم تجد في
نفسها من الشجاعة ما يمكنها من قطع الأمتار القليلة لتلتحق بنا ففي مثل الديار العربي لم تكن وسطيتها مسقوفة ،
دام الأمر في ما أذكر حوالي ساعة ، أكلنا غداءنا بسرعة ، ثم خرجنا إلى الشارع ، لنقطع المدينة في .. اتجاه باب الجبلي وأنا
أتعثر في مشيتي بعد الفزع الشديد بينما استقر أخي محمد علي كتف أمي نائما وقد سقط
جزء من السفساري من على رأسها ، ووراءنا حليمة ، وقد أصابتها بين الحين والآخر هبة
صياح مكتومة ، لم أكن شجاعا ولكن ربما لم أكن واعيا بما يجري ، سرنا في نهج
هميلكار حتى آخره ثم انعطفنا يسارا في اتجاه نهج سيدي علي الكراي المعروف بسوق
الفرياني ، وبانعطافنا في منتصفه إلى نهج سيدي بلحسن الكراي بدت أمامنا ويا لهول
ما رأينا بنايات على الجهة اليمنى وقد تهاوت من أثر القصف ، كانت المدينة أيامها
خاوية على عروشها ، بسبب هرب سكانها إلى الضواحي أو الأجنة ( جمع جنان ) وكانت كل عائلة تقريبا تملك حدائق في ضواحي
المدينة ، وتلك عادة معروفة في مدينة صفاقس ، تجاوزنا الخراب نحو زاوية سيدي بلحسن
قاصدين باب الجبلي ومنه انعطفنا يسارا نحو فندق بودبوس ، جيث أسرج الوالد الكاليس
وربطه بفرسنا البيضاء، وانطلقنا نحو ساقية الزيت ، يومها جاءت وفقا لما سمعته
لاحقا موجة أخرى من الطائرات في طريق قرمدة وقذفت حممها، وكان من ضحاياها المرحوم
قوبعة وزوجته ، وهو والد السيد نورادين قوبعة الذي كان قبل سنوات من الكوادر
الكبرى في وزارة المالية ، ثم رئيسا مديرا عاما لصندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية
.
وصلنا سالمين إلى جنان عمي محمد الأخ الأكبر للوالد)( ووالد الحبيب الفراتي مدير
ديوان وزير التخطيط والمالية ، قبل أن يحط
به الرحال كمدير عام للبنك العربي لتونس بيات) وصلنا إلى جنان عمي إذن في آخر زنقة دمق ، حيث أفردت لنا الغرفة الغربية نحن خمستنا، بعد
أن تركنا بيتنا الصيفي على شاطئ البحر ،في السلوم بطريق سيدي منصور ، وكان الاعتقاد
سائد ا فيما علمت، ثم إنقليز وأمريكان بعد
" تحرير" صفاقس.
الحقيقة أن تلك الأيام كانت أحلى أيام
الطفولة فقد كانت العناية بنا أنا وأخي كبيرة جدا ، سواء من عمي أو زوجته التي
كانت شقيقة إمام الجامع الأكبر ، والذي خلفه بعد موته خالي محمد الفراتي ، الذي
اعتزل الإمامة والخطابة بعد الاستقلال ، رافضا أن تتدخل السلطة في خطبه ، وبعد أن
ساد توجيه السلطة لأفكار عامة لاعتمادها ، والحق يقال أن بعض الأئمة ( ولم يكن من بينهم خالي محمد)ما زالوا في ذلك
الحين يخطبون باسم السلطان التركي عبد الحميد والخلافة.
لم تكن المدارس قد فتحت ، وكنا نمرح
في " وسط الجنان " نجني القــــــــــرفالة ( الجلبانة) من نباتاتها ونأكلها عسلا مصفى ، لم نكن نخرج لا كبارا ولا
صغارا ، فالخضر والغلال متوفرة في الحديقة أزيار العولة تطفح بما فيها ، ومرة في
الأسبوع يخرج الوالد وعمي إلى الساقية ( ساقية الزيت ) لأداء صلاة الجمعة، وشراء لحم العلوش من عند الجزار برك الله ، ولم
نكن نأكل اللحم كل يوم وإنما مرة أو مرتين
في الأسبوع.
**
في الخريف انجلت الغمة ، ورحل الألمان مهزومين ،
وجاء الفرنسيون لينتقموا من الدساترة الذين اعتبروهم من أنصار المحور ، ولنا ممن
في العائلة من قضى سنوات في السجون أو في
المنفى ، حتى انبلج يوم 31 جويلية 1954 ي ، يوم جاء منديس فرانس رئيس الجكومة الفرنسية
، واعدا بالاستقلال الداخلي .
في الأثناء كان التقسيط هو السائد ففي
عائلتنا بستة أفراد بعد أن انضافت إليها سريعا أختي سعاد وقبل أن يفد أخي الأصغر
محسن ، كنت أذهب يومــــــــيا إلى " كوشة" دربال ، لأتناول خبزة طليان
بزوز فرنك ، ويتم تسجيل ذلك ببطاقة يصرفها
لنا الشيخ الزريبي كل يوم جمعة ، فقد كان كل شيء يباع بالتقسيط ، وبنظام محكم ،
وكان من يحاول الاحتكار يقبض عليه ويوضع في حبس القاضي جنب باب الجبلي ، وعلى ما
أذكر ، فقد كان الانضباط كاملا ، فالسكر يباع في قوالب مخروطية الشكل ، بوزن كيلو
على ما أعنقد ملفوفا في ورق صقيل ،كان يقال له لون طابع زينة ، وكان ذلك كافيا
لمدة أسبوع .
ذهبنا إلى المدرسة بعد السن القانونية
وبعد قضاء ثلاث سنوات في مكتب الحاج خليفة ، لحفظ القرآن وبعض قواعد اللغة ، وكنا
نجلس على الأرض ونكتب السور على ألواح مطلية بالطفل ، ولعل الغريب أن الفصول كانت
مختلطة جانب للأولاذ وجاجانب للبنات لا يفص بينهما إلا مقدر متر ، فقط لم يكن
مسموحا تحدث الأولاد مع البنات داخل القسم ، وإن كنا نخرج للشارع معا ونتحادث ،
لكن كنا صغارا ، وفيما يلي من السنوات وبعد أن غادرنا وابنات كبرن صرن يلتحفن لحفة
سوداء تصل إلى ما تحت الصر والبعض منهن يضعن جوبا أسود يعل إلى نصف الساق ، بينما الأغلبية يلبسن جوبا ملونا حتى نصف الساق
، ولم يكن التواصل أو التحادث ممنوعا هذا على الأقل فيما عشته في صفاقس ، ولعله
وفي مستوى المدينة ، لم يكن موجودا التشدد الذي نراه اليوم .
أذكر هذا ونحن نعيش اليوم ، حرب
الكورونا؟؟؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق