Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأربعاء، 22 فبراير 2017

الموقف السياسي : هل تتراجع الحكومة كالعادة ، وتضحي بجلول مثلما ضحت ببطيخ وضحت بالعائدي ؟

الموقف السياسي
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
مدرسة الجمهورية العمومية
تتراجع أمام المدرسة الخاصة والأجنبية
تونس / الصواب /22/02/2016
لم يكن توحيد التعليم في 1956/1958 على يدي بورقيبة / المسعدي ، صدفة ، بل كان نتيجة سياسة مخططة ، تستهدف توفير تعليم موحد في أهدافه يأخذ من كل جانب بطرف ، التعريب والتونسة ، الانفتاح على الثقافات الأجنبية وخاصة الفرنسية ، والغوص في أعماق العلوم الحسية ، إعدادا لأجيال إن لم تكن موسوعية فعلى الأقل ذات عقول منفتحة ، تعيش في محيطها المحلي بنوافذ مشرعة على العلوم والأصالة والتفتح.
هكذا كانت فكرة مدرسة الجمهورية ، أجيال منسجمة في توجهاتها ، مقبلة على عوالم فكرية تقدمية ، ولعل الدمار الذي أصابنا بين 1994 و2010 يتمثل أساسا في محاولة نجحت إلى حد بعيد في تدمير تلك الفكرة العبقرية التي جاء بها بورقيبة .
وبدل أن يتم إنقاذ أجيالنا الجديدة من هذا الدمار الذي يتربص بها ، وهو ما بدأ مع إصلاح تعليمي اعتمد استشارة واسعة ، وحددت له أهداف مرحلية مستنبطة من الواقع التونسي ، ومستوحاة  من أعتى التجارب العالمية وفي مقدمتها التجربة الفنلندية الرائدة ، انطلقت محاولات التحطيم لوأد التجربة، فاتخذت لنفسها مسارا ليس بيداغوجيا ولا إصلاحيا ، بل سياسيا ، استهدف وزيرا قد نتفق وقد نختلف معه ، ولكنه كان من الشجاعة بحيث أخذ الثور من قرونه ، وحاول كما حاول من قبله " كلود ألليقر " وزير التعليم في حكومة جوسبين الفرنسية تحريك حيوان الماموث الثقيل  المنقرض ، في بلد عصي على الاصلاح كما هو شأن فرنسا.
والنتيجة اليوم ، ونحن أمام إضراب " للمربين " بمطلب غريب ليس لا مهني ولا مطلبي ، بل سياسي بامتياز وهو صرف وزير من الوزارة التي يتولاها ، النتيجة أن  مدرسة الجمهورية هجرها من له قدرة على هجرها ، فذهب للمدرسة الحرة التي نجد من بين المدرسين  العاملين فيها  عدد مهم من المدرسين المضربين في المدرسة العمومية ، كما هجرها للمدرسة الفرنسية والمدرسة الأمريكية والمدرسة الألمانية وغيرها ، من باستطاعتهم أن يدفعوا الثمن الغالي  هربا من مدرسة تونسية كانت في وقت من الأوقات مفخرة ، وتردت أحوالها بفعل فاعل اليوم وما زالت على طريق التردي ، تاركين للمدرسة التونسية العمومية من لا يقدر أولياؤهم على دفع ثمن الدراسة الغالية ، ولكن الجيدة المتطورة ، والتي لا تعرف الإضرابات ، ولا يكفي أن تعليمنا قد انحدر مستواه للحضيض على مدى 15 عاما ، حتى نضيف إلى انحداره تكبيله بمزيد التقليص في أيام التدريس.
واليوم نجد أن الهدف الرئيسي المقرر بداية والذي عشنا على وقعه طويلا في انسجام  ، وهو تعليم موحد لكل الأبناء عبر كل البلاد ، بات في مهب الريح ، وأن هناك تعليما للقادرين على الدفع الجزيل ، في المدرسة الحرة أو الأجنبية ، و تعليما في المدرسة التونسية الكسيحة ، التي لا يريد  لها  البعض أن تتطور وتلحق على الأقل بما كانت عليه من إشعاع ورفعة وصيت في العالم ، في انتظار أن تلحق بالتطور الذي لحقت به مدارس ومناهج تعليمية عديدة بعضها حتى في العالم العربي ، تجاوزتنا وتركتنا على الرصيف .
هيهات ، هيهات.


الاثنين، 13 فبراير 2017

الموقف السياسي : ليبيا والسياسية التونسية الخاطئة

الموقف السياسي

يكتبه عبد اللطيف الفراتي
الخطإ القاتل :
الموقف التونسي من ليبيا
تونس / الصواب/13/02/2017
في 7/7/2014 جرت انتخابات في ليبيا انتهت بفوز الجانب المدني بأغلبية ساحقة ، وهزيمة مدوية للإخوان والداعين للدولة الإسلامية.
غير أن ذلك لم يرض الإخوان والجماعة المقاتلة وعبد الحكيم بالحاج وأزلامه ، ممن يسيطرون على ميليشيات مسلحة ، بعكس الداعين للدولة المدنية ، التي كانت موضع تأييد الأغلبية الانتخابية ، فانقلبوا على الشرعية الانتخابية ، وسيطروا على المنطقة الغربية بما فيها العاصمة طرابلس ، فيما اضطر  نواب الأغلبية الأحرار الذين صوت لهم الشعب ، إلى الانتقال  الجهة الشرقية  ، فاختاروا مدينة طبرق التاريخية كمقر للبرلمان المنتخب.
ولقد ارتأت  الحكومة التونسية إرضاء لشريكها حزب النهضة ، أن تكون في صف المنقلبين ، وقطعت كل علاقة مع الشرعيين ، وجاء بريمر الجديد كوبلر من الأمم المتحد لإيجاد حل " أمريكي " ، فأنشأ سلطة جديدة اعتبرها شرعية لتسلم مقاليد الأمر  لم يعترف بها أحد وإن كانت قريبة من الاسلاميين ، واضطر لوضعها أي تلك السلطة  بالقوة العسكرية في قاعدة بحرية ليبية تحت السيطرة الغربية.
وفي وقت كانت السلطة الأمريكية بين يدي أوباما  كلينتون ، بما عرف من تأييدهما للإخوان المسلمين ، انغمست أمريكا في تأييد الجهات الاسلامية حتى المتطرفة ، على حساب الشرعية الناتجة عن انتخابات حرة ونزيهة وشفافة ، إذ لا ننسى أن الجهة الغربية من طرابلس الواقعة انقلابيا تحت سطوة أشتات من الإسلاميين  ، من بينهم عبد الحكيم بالحاج الذي يستقبل بحفاوة في تونس ،  تؤوي المتطرفين التونسيين بمن فيهم أبو عياض ، ولعله من حسن الحظ أن جهة  لم تعلن عن نفسها  قنبلت قاعدة لهؤلاء كانوا يعدون للهجوم على بنقردان ، فقتلت منهم 100 ، وبقي 50 هم الذين نظموا تلك العملية الارهابية التي كان الجيش والأمن التونسيين لها بالمرصاد  في بنقردان  انطلاقا من ليبيا ، ونجحا  أي الجيش والأمن في تحجيمها قبل القضاء عليها ، وسحق  رأس الثعبان  وأعطاها دروسا في الشجاعة جديرة بالإشادة والتنويه ، ولنتصور أن الهجوم شمل 150 قتل ثلثاهم ، فإن جيشنا وأمننا وحرسنا كانوا قادرين على المواجهة ورد الرماح إلى رقابهم ولكن بأي خسائر يا ترى.؟
ودارت عجلة الزمن ، وأنهيت مهام المقيم العام كوبلر الذي يذكر بريمر في العراق ، وعين سليمان فياض وهو رئيس حكومة فلسطينية سابقة ، معروف بمدنيته وحزمه عين  مكانه ، فيما اتقلب الحال في واشنطن كما يلاحظ.
أما تونس فإنها لم تجد نفسها لا في العير ولا في النفير، فقد امتنعت عن تأييد الشرعية ، التي اعتمدت على الفريق حفتر ، والجيش الليبي ، وتنكرت لبرلمان طبرق تحت ستار حياد مغشوش ، تحت عملية إرضاء للنهضة شريكة الحكم ، وبدعوى أنها " لا تريد إغضاب المنطقة الغربية التي تجاور تونس ، ويمكن أن تصل تأثيراتها إلى بلادنا "، رغم أنها لا تخفي إيواء الارهابيين التونسيين وفي مقدمتهم أبوعياض ، ورغم التجاوزات التي تأتيها من حين إلى آخر.
وبالتالي فإن  تونس في النهاية ، ستجد نفسها في وضع صعب ، إذ وضعت كل بيضها في سلة واحدة ، بعكس ما يدعو إليه المثال الانجليزي الشهير ، ، بل عادت جهة متنفذة ، الشرعية إلى جانبها ورفضت الاعتراف بها ، و هي تحقق اليوم انتصارات حاسمة ، وغالبا لا أريد أن أقرن مع الرئيس بورقيبة ، الذي كان يتمتع ببصيرة سياسية ، والذي كان عند الاختيار لا ينجر إلا للجهات التي يدرك وفقا لمسار التاريخ أنها ستنتصر ، وبعضنا أي المرزوقي بالذات   على إفساد علاقاتنا  مع دولة الإمارات كما سبق له أن أفسدها في الأمم المتحدة تجاه مصر  في خلط بين مواقفه الشخصية ، ومقتضيات الدولة ، لتقربه من النهضة التي يظن خطأ أنها ستعطيه أصواتها في انتخابات رئاسية مقبلة ، كما سبقت أن أعطته أصواتها جملة وتفصيلا ، إلا بعض الأذكياء ، فيتربع على عرش قرطاج ، كما حصل له في مرة سابقة في غفلة من  الزمن فرفعته إلى سدة الرئاسة ، عندما تنكرت النهضة   للباجي وللولايات المتحدة  لوعودها وفضلته على الباجي قائد السبسي سنة 2011 ، بسبب ما أحرزه من مقاعد في المجلس التأسيسي  ، بعضها إخواني وبتصويت شعبي  نهضاوي .
ولعل الغلطة في الحسابات السياسية التي تم ارتكابها خلال سنتين ونصفا ، سيكون لها أكبر الأثر ، فحفتر ينتقل من الجزائر إلى مصر ، وتستضيفه البوارج الحربية الروسية ، وعموما فهو المقبول عربيا بينما تساعده طائرات الهيليكوبتر الفرنسية أباتشي، فيم ستضطر إدارة الرئيس الجديد ترومب إن لم يكن عن اقتناع  بل في اتجاه معاكس لإدارة أوباما/ كلينتون.
تلك عواقب السياسات التي لا تقرأ حسابا للمستقبل.

الجمعة، 10 فبراير 2017

بكل هدوء : بلا ماض بلا حاضر ولا مستقبل

بكل هدوء
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
في بلد لا يعرف تواصل الدولة
ولا تراكم التجارب والمنجزات
تونس / الصواب /10/02/2017
لا أستطيع أن أهضم ادعاءات تقول بأن كل شيء كان خرابا منذ 1956 ، وحتى قيام " الثورة "  ، فأجيال المتعلمين والمبرزين ، وأجيال الأصحاء بعد أن كان الرمد والسل على سبيل المثال  لا الحصر يفتكان  عمى أوبحياة الألوف ، وكل تلك المداخن المجللة للمصانع ، والسدود العالية والطرقات السريعة وغير السريعة والجسور والمحولات ، وشبكات صنع الكهرباء وأبراج نقلها ، كل ذلك يشهد على أن بلادنا لم تستكن فيها الحركة التشييدية على مدى 60 عاما ، هذا فضلا عن الانجازات النوعية مثل إعادة الكرامة للمرأة وإدماجها في الدورة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وغيرها بما أثرى المجتمع ، وزاد في القيمة المضافة اقتصاديا واجتماعيا بشكل كبير.
ولا يمكن أن ينكر ذلك ناكر ، كما لا يمكن القول أيضا ، بأن ذلك هو أفضل ما كان يمكن عمله ، فبلادنا التي كانت تستوي دخلا فرديا هي وسنغفورة في الستينات، لم تستطع أن ترتقي بالدخل الفردي إلا إلى 5 آلاف دولار ، فيما سنغفورة رفعت دخلها الفردي إلى 50 ألف دولار، ومن المؤكد أن هناك دولا حتى بترولية لم تحقق ما حققته تونس ، ولكن لماذا ننظر إلى ما هو أدنى منا ولا نرفع أنظارنا إلى من هم أعلى.
الواقع أننا يمكن أن نجد الأسباب في عدد من العوامل :
أولها أننا شعب في عمومه لا يحب العمل ولا يؤمن بالجهد.
وثانيا إننا لم نكن دوما محكومين كما ينبغي لنا أن يقع حكمنا ، فمن كارثة التعاضد  والإقلاع الوشيك الذي لم يحصل بعد عقود وحتى الآن ، إلى الجنة الموعودة مع رأسمالية الدولة في السبعينيات  ، إلى تخبط سنوات الثمانينيات ، إلى نهب التسعينيات وسنوات الألفين ، إلى فوضى سنوات ما بعد الثورة حتى لا نقول شيئا آخر وانحدار حاد في نسبة النمو وانفجار مديونية ستثقل كاهل الأجيال الجديدة .
ومن هنا فإن نسبة النمو عندنا كانت في حدود 5 في المائة سنويا أقل أو أكثر بقليل ، في وقت كانت بلاد أخرى لا تزيد الكفاءات فيها عما عندنا ، تسجل نسب نمو من رقمين ، وإذ لا نتحدث عن معجزات في كوريا وسنغفورة وماليزيا وإندونيسيا والفيتنام  حيث ثقافة أخرى وإقبال على العمل منقطع النظير ، أكبر خالق للثروة ، فإن تركيا حققت معجزتها نتيجة لجرأة الرئيس أوزال والاقتصادي الملهم كمال درويش ، وإن كان حزب أردوغان واصل المسيرة إلى حد عام أو عامين مضيا.
نحن شعب ليس مجبولا على حب العمل ، ويصدق علينا ما قاله وزير الخارجية الفرنسي الأسبق  جوبير ، بأن الانسان خلق ليعيش في الجنة بلا جهد ولا عمل ، وعندما نزل إلى الأرض بعد الخطيئة الكبرى ، كان عليه أن يعمل ويكد ، وكان عليه أن يدفع الضرائب ، وهما أكثر الأشياء كرها لنفسه.
ثم أننا ومن تجربة السنوات الأخيرة  شعب مجبول على الماسوشية أي يتلذذ تعذيب نفسه بنفسه ، فيغلق مصادر رزقه شماتة في الآخرين وما هو شامت إلا في نفسه ، لا ترده عن ذلك نقابات واعية بل تتسم بقدر كبير من المراهقة ، لا تنظر للتوازنات الكبرى بقدر ما تنظر للعاجل مما تحققه على حساب النظرة الطويلة الأمد .
وفوق هذا وذاك فنحن شعب بحكوماته المتعاقبة، لا نعرف التراكم، تراكم ما هو إيجابي ، ولأقدم هنا مثالين فاضحين:
المثال الأول يتمثل في حركة إزالة الأكواخ التي استنبطها بورقيبة في سنة 1983 وكلف بها وزير التجهيز   آنذاك محمد الصياح ، وكان مفترضا أن تفضي في 5 أو 6 سنوات لإزالة الأكواخ   la dégourbification   وقد استنبط لذلك برنامج خصصت له اعتمادات ، كانت تقتضي إسكان كل الناس في بيوت لائقة ببناء صلب يتوفر لها الماء الجاري والكهرباء، ومن طرائف ما أذكر أن الكاتب العام لذلك الحراك كان يقول la débourguification وكان محمد الصياح ينبهه إلى أن ما يقوله يعني إزالة بورقيبة ، وكثيرا ما كان نفس الشخص يعود عن حسن نية لذلك القول ، وخلال أشهر تم بناء محلات لائقة وزعت بالمجان واعتمادا في الغالب على مواد البناء المحلية ، أي الموجودة في المنطقة من حجر وطين وأعواد خشب.
وبحلول السابع من نوفمبر 1987 تم التخلي عن هذا المشروع ، الذي لو استمر وقتها ، لما واجهنا في هذا الشتاء مساكن أقل من قصديرية تتساقط فوق رؤوس ساكنيها ، ولكن ثقافة التراكم وتواصل الدولة غير معششة في عقولنا أو على الأصح عقول حكامنا ، فسريعا ما تخلينا على مشروع اجتماعي واقتصادي كان يمكن أن يجنب الكوارث لاحقا ، ويوفر بأدنى التكاليف المسكن اللائق ، ويتجه لتجميع المواطنين في تجمعات قابلة لتوفير متطلبات الحياة الكريمة.
أيضا  حساب 2626 وحتى 2121 وهما مشروعان خيريان ، من واقع تاريخنا عندما كانت  تقوم جمعيات خيرية ، وأذكر إحداها في صفاقس ( كان والدي أحد قيادييها ) كانت نشيطة في جمع الأموال وإسعاف الفقراء ، وتوفير السكن والمأكل للطلاب الوافدين على المدينة من المدن والقرى في الجنوب والوسط التي لم يكن فيها تعليم ثانوي سواء مدرسي أو زيتوني ، وغير ذلك من الخدمات ، وإني لأذكر ذلك المبيت في سوق الجمعة الذي كان لنا أصدقاء فيه نذاكر معا في رحابه.
حساب 2626 وحتى 2121 لم تكن فكرتها  سيئة بل بالعكس وكان واجبا استمرارها ، وبعد تخليصها من شوائبها ، كإجبارية الدفع ، وكضرورة إقرار موازنة شفافة ، وإن كانت التحقيقات القضائية ،  التي أجريت بعد الثورة سواء مع كمال ساسي أو عمر بن محمود ، قد كشفت عن مدى نزاهة الشخصين وما يتميزان به من ثقة مطلقة ، وما أدياه كل واحد في وقته من خدمات للمجتمع .
ألم يكن جديرا أن يتواصل بناء المسكن لفائدة  الفئات الأفقر في المجتمع والنائية على حساب الدولة ، ألم يكن جديرا بالبلاد أن يتواصل العمل بالصندوقين الاثنين ، ولكننا شعب بلا تراكم  في الانجاز ، ودولة بلا ماضي ولا ذاكرة ، لا نحسن البناء على ما سبق بل نهدمه بلا وعي ولا شعور بالمصلحة العامة.

الخميس، 2 فبراير 2017

سانحة : ,, وذهب كبار الصباح من أسهموا في صنع صحافة تونسية رائدة

أجيال الطليعة تتوارى ، فهل يخلفها خلف ؟
ودعنا بالأمس رجلا بأتم  معاني الرجولة : الصادق الزواوي أحد الذين كانوا وراء انطلاقة صحافة وطنية أدت دورا كبيرا في بناء الدولة والبلاد عبر الصباح ،  جاء ذلك بعد أن كنا ودعنا من رجالات الصباح الحبيب الشطي والحبيب شيخ روحه وعبد الجليل دمق ومحمد المصمودي ومحمد قلبي وأحمد عامر وغيرهم كثيرون ، بعد أن تركوا المشعل مضيئا لأجيال لاحقة ما زال جهادها ونضالها متواصلا على الدرب الذي رسمه الأوائل ليس فقط بأقلامهم ولكن بعزيمتهم الماضية مضاء السيف ، وكانت هذه مناسبة للتفكير في الماضي ، فمن لا ماضي له لا حاضر ولا مستقبل له ، وجاءت الفرصة لاستعادة ما كتبته قبل 3 سنوات بعد أن كان غادرنا أحد رواد الصحافة التونسية عبد الجليل دمق على مدونتـي " الصواب" assawab                         


سانحة : عبد الجليل دمق شمعة مضيئة ماضيا وحاضرا ومستقبلا
رسالة الناشر
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
عدنا والعود أحمد
تونس / الصواب/01/06/2014
بعد غياب قرابة شهرين لظروف قاهرة، ها نحن نعود لمصافحة قرائنا الأعزاء على صفحات هذه المدونة، وقد مر قبل أيام عام على ظهورها ، وفي نفس الوقت على الثقة التي وضعتموها فيها ، بحيث فاق عدد قرائها 15 ألفا.
ولعل العمل الفردي الذي يعتمد على جهد فرد واحد عرضة في كل وقت ولأسباب مختلفة ، للتعطل، ما يعطي معنى للعمل الجماعي الذي، لا يمكن أن يكون إلا أكثر سموا، ولكن وفي نفس الوقت أقدر على الصمود ، بعيدا عن التأثيرات التي تطرأ على حياة الفرد.
وإذ يعتذر الناشر عن هذا الانقطاع عن السادة القراء الذين هم سبب وجودنا في هذه المدونة فإننا، سنسعى جاهدين من أجل مدكم ، بتحاليلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية تونسية عربية وعالمية ، كما تعودنا من قبل ، وذلك في إطار من الدورية سنحرص عليه.
والله الموفق





سانحة
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
غاب الزميل .. الصديق ،، المعلم ،
ولكن شمعته باقية مضيئة ..
تونس/ الصواب / 1/06/2014
شيعنا السبت بكل حسرة، ولوعة تعصر القلب ، الزميل ، المعلم ، والصديق عبد الجليل دمق، ودعناه والقلب ينزف دما ، والدمعة في المآقي تأبى أن تستقر، فتندفع على الخدين حرى حارقة.
ودعناه وكل ذكريات الماضي تتزاحم ، لتبرز صورة رجل، كان كبير القلب ، وكان معطاء، وكان معينا لا ينضب.
ذات يوم (18 سبتمبر 1959) كنت أقف أمامه ، في مكتبه المتواضع في تلك الشقة المتواضعة في نهج علي باش حانبة ، التي كانت هي جريدة الصباح، وبيدي دعوة موقعة منه للالتحاق بالجريدة كمحرر.
كانت الفرصة سانحة لي لأتتلمذ في مجال الصحافة على أيدي أساتذة كبار تميزوا بنكران الذات والذوبان في خدمة بلاط صاحبة الجلالة، وكان عبد الجليل دمق هو معلمي الأول والرئيسي، دون أن اغمط حق الحبيب شيخ روحه ولا الهادي العبيدي ولا الصادق بسباس ولا عبدالله شريط ولا محمد الميلي الذي سيصبح لاحقا سفيرا للجزائر في تونس ثم مديرا عاما للألكسو في تونس.
ولكن تبقى لعبد الجليل دمق مكانة خاصة في نفسي، فلقد تعلمت على يديه وعمليا لا فقط نظريا، فنون كتابة الخبر، ومنطق كتابة التحليل، وضوابط كتابة الافتتاحية، وهو الذي أعطاني بحكم مركزه في الجريدة، الفرص لخوض تجارب معينة، ولأفتح بابا  اختار له اسما "صدى المحاكم"، ثم في وقت لاحق صفحة اقتصادية كانت لي فرصة للانفتاح على الركائز الحقيقية للنشاط العام، قبل أن يسلمني مسؤولية قسم الداخلية (أي الشؤون الوطنية) أكبر الأقسام وأشدها حساسية ، و مجلبة لأوجاع الرأس في الجريدة.
أستطيع اليوم أن أقول وبدون أن يكون في ذلك ما يحط من القيمة، أنني سرت في ظله زمنا طويلا قبل أن أحلق بأجنحتي، فأصبح رئيس تحرير، ثم رئيس تحرير أول، إستنجبني فكنت على ما أعتقد عند حسن ظنه وتعلمت على يديه عمليا ، ما كنت تلقيته من نظريات العمل الصحفي.
كان عبد الجليل دمق أحد أول خريجي معهد الصحافة الذي أنشأه بورقيبة في مطلع أشهر الاستقلال، ولعله الوحيد الذي بقي في بلاط صاحبة الجلالة، فيما استأثرت وزارة الخارجية بغالب البقية، في وقت كانت فيه البلاد في أشد الحاجة إلى  الإطارات والكوادر في مختلف الميادين.
ولم تكن الصحافة تتمتع بجاذبية خاصة، إذ لم يكن الإرث الصحفي مشجعا، ولم تكن الصحافة تعتبر مهنة فعلية، غير أن عبد الجليل دمق كان أحد الرواد القلائل ، الذين امتهنوا الصحافة، ورفضوا كل إغراءات الوظيفة، فقد أحب العمل الصحفي وأحبته الصحافة، وكانت الصباح أبرز حامل مشعل لها، فكافأته بأن تبوأ أعلى المناصب فيها، وتولى رئاسة تحرير الصباح بعد انطفاء جذوة الهادي العبيدي ، في زمن كانت فيه الجريدة تونسيا وعالميا تعتبر علما عاليا شامخا، فنال الحظوة،
وكان محل تقدير وحتى استشارة من كبار المسؤولين.
كان متحررا يتمتع بجرأة صحفية كبيرة، ويسعى إلى الخبر والسبق في وقت كانت فيه الصحافة التونسية ، تكتفي بالتكرار دون نفاذ إلى الأخبار التي يبحث عنها القارئ.
وإني لأذكر هنا بعضا من المغامرات التي خاضها عبد الجليل دمق، في سعيه إنارة الرأي العام ، وعدم الإكتفاء بما كنا نسميه نشر شكل الخبر، أي ذلك الخبر الذي لا يفيد شيئا، ولا يضيف، فمن بين مصادر عبد الجليل دمق كان قاض اعتبر لفترة معينة الأكثر تأثيرا في تونس، وهو محمد فرحات الوكيل العام للجمهورية، وكانت بيده صلاحيات وقتها قريبة من صلاحيات رئيس الجمهورية.
كان عبد الجليل دمق يقول لنا نحن الذين كنا من الجيل الصحفي اللاحق له، على الصحفي الناجح أن يكون له دفتر تليفونات لكبار المقررين وحتى للمعارضين، وأن تكون له الجرأة ليخاطب دون وجل ولا خوف وفي كل وقت من يرى للحصول على الخبر.
من ذلك أن محمد فرحات إن لم يكن أحد أصدقائه فإنه كان أحد معارفه الموثوقين، وعندما هرب احمد بن صالح من سجنه في أول السبعينيات، بعد أن صدر عليه حكم ظالم بالسجن في ربيع 1970،  اتصل عبد الجليل دمق بالقاضي محمد فرحات ، فأفاده بالكيفية التي هرب بها أحمد بن صالح، ونشر عبد الجليل دمق الخبر، وكاي صحفي يحترم نفسه ويلتزم بقواعد الصحافة وعلوم الأخبار، فإنه كان يلاحق الخبر يوميا، ولم يبخل عليه محمد فرحات بالتفاصيل التي كانت تصله يوما بعد يوم، وكانت الصباح تنشر تلك الأخبار من مصدرها، وبالتالي كانت مصدرا للأخبار للصحافة العالمية، أما الصحافة المحلية فأهملت الأمر، وكان الرئيس بورقيبة قد استشاط غضبا لهروب العصفور، وكان يرى في ذلك تحد للدولة وهيبتها، إلى الحد الذي دفعه للاستعاضة عن وزير الداخلية الهادي خفشة رغم أنه قريبه ومحل ثقته.
لم تمر إلا أيام معدودة والأخبار تترى عن الطريقة التي هرب بها أحمد بن صالح، والتقصير إن لم يكن التواطئ في مصالح السجون التي كانت تتبع وزارة الداخلية آنذاك، حتى دعي عبد الجليل دمق إلى مصالح الأمن لمساءلته حول نشر الخبر، كان ذلك في مناسبات عديدة وفي أيام متعاقبة، وكنا نتنفس الصعداء كلما عاد إلى مكتبه من تلك الساعات من التحقيق ، الطويلة ليجلس لمكتبه في هدوئه المعروف  لاستكمال عمله الصحفي وكتابة مقالاته وافتتاحياته، حاولوا معه كشف مصدره ولكنه امتنع بقوة، وكانوا يعرفون المصدر، وفاحت القضية عالميا وكتبت عنها الصحف ، فما كان إلا أن توقفت الدعوات والإستنطاقات.
ذلك مثال من أمثلة النضال الصحفي للرجل، وهذه النضالات كثيرة في وقت لم يكن أحد يتجرأ ، ولكن عبد الجليل دمق اخترق في كثير من الأحيان جدار الصمت.
بالأمس ودعنا عبد الجليل دمق إلى مثواه الأخير ، العين باكية والقلب يدمي حزنا على معلم علم الأجيال كيف تكون الصحافة وكيف تكون رسالتها، في الوقت الصعب.
ولكن تبقى في النفس حسرة ، فليس من رسمي لا وزيرا ولا واليا ولا معتمدا ولا حتى شيخ تراب ، حركته السلطة ليحضر الجنازة، جنازة رجل كانت له صولة وجولة.
لا من أحد من نقابة الصحفيين جاء للتوديع، وهو مؤسس الجمعية في سنة 1962 ، وهي الجمعية التي ورثتها النقابة، وهو أحد قيادييها لمدة سنوات.
لا من كلمة تأبين وتوديع، فنحن في بلد بلا وفاء ، وبلا ماض ، ومن لا ماض له لا مستقبل له.