أجيال الطليعة تتوارى ، فهل يخلفها خلف ؟
ودعنا بالأمس رجلا بأتم معاني الرجولة : الصادق الزواوي أحد الذين
كانوا وراء انطلاقة صحافة وطنية أدت دورا كبيرا في بناء الدولة والبلاد عبر الصباح
، جاء ذلك بعد أن كنا ودعنا من رجالات
الصباح الحبيب الشطي والحبيب شيخ روحه وعبد الجليل دمق ومحمد المصمودي ومحمد قلبي
وأحمد عامر وغيرهم كثيرون ، بعد أن تركوا المشعل مضيئا لأجيال لاحقة ما زال جهادها
ونضالها متواصلا على الدرب الذي رسمه الأوائل ليس فقط بأقلامهم ولكن بعزيمتهم
الماضية مضاء السيف ، وكانت هذه مناسبة للتفكير في الماضي ، فمن لا ماضي له لا
حاضر ولا مستقبل له ، وجاءت الفرصة لاستعادة ما كتبته قبل 3 سنوات بعد أن كان
غادرنا أحد رواد الصحافة التونسية عبد الجليل دمق على مدونتـي " الصواب"
assawab
سانحة : عبد
الجليل دمق شمعة مضيئة ماضيا وحاضرا ومستقبلا
رسالة
الناشر
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
عدنا والعود أحمد
تونس / الصواب/01/06/2014
بعد غياب قرابة شهرين لظروف قاهرة، ها نحن نعود
لمصافحة قرائنا الأعزاء على صفحات هذه المدونة، وقد مر قبل أيام عام على ظهورها ،
وفي نفس الوقت على الثقة التي وضعتموها فيها ، بحيث فاق عدد قرائها 15 ألفا.
ولعل العمل الفردي الذي يعتمد على جهد فرد واحد عرضة
في كل وقت ولأسباب مختلفة ، للتعطل، ما يعطي معنى للعمل الجماعي الذي، لا يمكن أن
يكون إلا أكثر سموا، ولكن وفي نفس الوقت أقدر على الصمود ، بعيدا عن التأثيرات
التي تطرأ على حياة الفرد.
وإذ يعتذر الناشر عن هذا الانقطاع عن السادة القراء
الذين هم سبب وجودنا في هذه المدونة فإننا، سنسعى جاهدين من أجل مدكم ، بتحاليلنا
السياسية والاقتصادية والاجتماعية تونسية عربية وعالمية ، كما تعودنا من قبل ،
وذلك في إطار من الدورية سنحرص عليه.
والله الموفق
سانحة
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
غاب الزميل .. الصديق ،، المعلم
،
ولكن شمعته باقية مضيئة ..
تونس/ الصواب / 1/06/2014
شيعنا السبت بكل حسرة، ولوعة تعصر القلب ، الزميل ،
المعلم ، والصديق عبد الجليل دمق، ودعناه والقلب ينزف دما ، والدمعة في المآقي
تأبى أن تستقر، فتندفع على الخدين حرى حارقة.
ودعناه وكل ذكريات الماضي تتزاحم ، لتبرز صورة رجل،
كان كبير القلب ، وكان معطاء، وكان معينا لا ينضب.
ذات يوم (18 سبتمبر 1959) كنت أقف أمامه ، في مكتبه
المتواضع في تلك الشقة المتواضعة في نهج علي باش حانبة ، التي كانت هي جريدة
الصباح، وبيدي دعوة موقعة منه للالتحاق بالجريدة كمحرر.
كانت الفرصة سانحة لي لأتتلمذ في مجال الصحافة على
أيدي أساتذة كبار تميزوا بنكران الذات والذوبان في خدمة بلاط صاحبة الجلالة، وكان
عبد الجليل دمق هو معلمي الأول والرئيسي، دون أن اغمط حق الحبيب شيخ روحه ولا
الهادي العبيدي ولا الصادق بسباس ولا عبدالله شريط ولا محمد الميلي الذي سيصبح
لاحقا سفيرا للجزائر في تونس ثم مديرا عاما للألكسو في تونس.
ولكن تبقى لعبد الجليل دمق مكانة خاصة في نفسي، فلقد
تعلمت على يديه وعمليا لا فقط نظريا، فنون كتابة الخبر، ومنطق كتابة التحليل،
وضوابط كتابة الافتتاحية، وهو الذي أعطاني بحكم مركزه في الجريدة، الفرص لخوض
تجارب معينة، ولأفتح بابا اختار له اسما "صدى المحاكم"، ثم في وقت
لاحق صفحة اقتصادية كانت لي فرصة للانفتاح على الركائز الحقيقية للنشاط العام، قبل
أن يسلمني مسؤولية قسم الداخلية (أي الشؤون الوطنية) أكبر الأقسام وأشدها حساسية ،
و مجلبة لأوجاع الرأس في الجريدة.
أستطيع اليوم أن أقول وبدون أن يكون في ذلك ما يحط من
القيمة، أنني سرت في ظله زمنا طويلا قبل أن أحلق بأجنحتي، فأصبح رئيس تحرير، ثم
رئيس تحرير أول، إستنجبني فكنت على ما أعتقد عند حسن ظنه وتعلمت على يديه عمليا ،
ما كنت تلقيته من نظريات العمل الصحفي.
كان عبد الجليل دمق أحد أول خريجي معهد الصحافة الذي
أنشأه بورقيبة في مطلع أشهر الاستقلال، ولعله الوحيد الذي بقي في بلاط صاحبة
الجلالة، فيما استأثرت وزارة الخارجية بغالب البقية، في وقت كانت فيه البلاد في
أشد الحاجة إلى الإطارات والكوادر في مختلف الميادين.
ولم تكن الصحافة تتمتع بجاذبية خاصة، إذ لم يكن الإرث
الصحفي مشجعا، ولم تكن الصحافة تعتبر مهنة فعلية، غير أن عبد الجليل دمق كان أحد
الرواد القلائل ، الذين امتهنوا الصحافة، ورفضوا كل إغراءات الوظيفة، فقد أحب
العمل الصحفي وأحبته الصحافة، وكانت الصباح أبرز حامل مشعل لها، فكافأته بأن تبوأ
أعلى المناصب فيها، وتولى رئاسة تحرير الصباح بعد انطفاء جذوة الهادي العبيدي ، في
زمن كانت فيه الجريدة تونسيا وعالميا تعتبر علما عاليا شامخا، فنال الحظوة،
وكان محل تقدير وحتى استشارة من كبار المسؤولين.
كان متحررا يتمتع بجرأة صحفية كبيرة، ويسعى إلى الخبر
والسبق في وقت كانت فيه الصحافة التونسية ، تكتفي بالتكرار دون نفاذ إلى الأخبار
التي يبحث عنها القارئ.
وإني لأذكر هنا بعضا من المغامرات التي خاضها عبد
الجليل دمق، في سعيه إنارة الرأي العام ، وعدم الإكتفاء بما كنا نسميه نشر شكل
الخبر، أي ذلك الخبر الذي لا يفيد شيئا، ولا يضيف، فمن بين مصادر عبد الجليل دمق
كان قاض اعتبر لفترة معينة الأكثر تأثيرا في تونس، وهو محمد فرحات الوكيل العام
للجمهورية، وكانت بيده صلاحيات وقتها قريبة من صلاحيات رئيس الجمهورية.
كان عبد الجليل دمق يقول لنا نحن الذين كنا من الجيل
الصحفي اللاحق له، على الصحفي الناجح أن يكون له دفتر تليفونات لكبار المقررين
وحتى للمعارضين، وأن تكون له الجرأة ليخاطب دون وجل ولا خوف وفي كل وقت من يرى
للحصول على الخبر.
من ذلك أن محمد فرحات إن لم يكن أحد أصدقائه فإنه كان
أحد معارفه الموثوقين، وعندما هرب احمد بن صالح من سجنه في أول السبعينيات، بعد أن
صدر عليه حكم ظالم بالسجن في ربيع 1970، اتصل عبد الجليل دمق بالقاضي محمد
فرحات ، فأفاده بالكيفية التي هرب بها أحمد بن صالح، ونشر عبد الجليل دمق الخبر،
وكاي صحفي يحترم نفسه ويلتزم بقواعد الصحافة وعلوم الأخبار، فإنه كان يلاحق الخبر
يوميا، ولم يبخل عليه محمد فرحات بالتفاصيل التي كانت تصله يوما بعد يوم، وكانت
الصباح تنشر تلك الأخبار من مصدرها، وبالتالي كانت مصدرا للأخبار للصحافة
العالمية، أما الصحافة المحلية فأهملت الأمر، وكان الرئيس بورقيبة قد استشاط غضبا
لهروب العصفور، وكان يرى في ذلك تحد للدولة وهيبتها، إلى الحد الذي دفعه للاستعاضة
عن وزير الداخلية الهادي خفشة رغم أنه قريبه ومحل ثقته.
لم تمر إلا أيام معدودة والأخبار تترى عن الطريقة
التي هرب بها أحمد بن صالح، والتقصير إن لم يكن التواطئ في مصالح السجون التي كانت
تتبع وزارة الداخلية آنذاك، حتى دعي عبد الجليل دمق إلى مصالح الأمن لمساءلته حول
نشر الخبر، كان ذلك في مناسبات عديدة وفي أيام متعاقبة، وكنا نتنفس الصعداء كلما
عاد إلى مكتبه من تلك الساعات من التحقيق ، الطويلة ليجلس لمكتبه في هدوئه
المعروف لاستكمال عمله الصحفي وكتابة مقالاته وافتتاحياته، حاولوا معه كشف
مصدره ولكنه امتنع بقوة، وكانوا يعرفون المصدر، وفاحت القضية عالميا وكتبت عنها
الصحف ، فما كان إلا أن توقفت الدعوات والإستنطاقات.
ذلك مثال من أمثلة النضال الصحفي للرجل، وهذه النضالات
كثيرة في وقت لم يكن أحد يتجرأ ، ولكن عبد الجليل دمق اخترق في كثير من الأحيان
جدار الصمت.
بالأمس ودعنا عبد الجليل دمق إلى مثواه الأخير ،
العين باكية والقلب يدمي حزنا على معلم علم الأجيال كيف تكون الصحافة وكيف تكون
رسالتها، في الوقت الصعب.
ولكن تبقى في النفس حسرة ، فليس من رسمي لا وزيرا ولا
واليا ولا معتمدا ولا حتى شيخ تراب ، حركته السلطة ليحضر الجنازة، جنازة رجل كانت
له صولة وجولة.
لا من أحد من نقابة الصحفيين جاء للتوديع، وهو مؤسس
الجمعية في سنة 1962 ، وهي الجمعية التي ورثتها النقابة، وهو أحد قيادييها لمدة
سنوات.
لا من كلمة تأبين وتوديع، فنحن في بلد بلا وفاء ،
وبلا ماض ، ومن لا ماض له لا مستقبل له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق