Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الثلاثاء، 31 يناير 2017

سانحة : الصباح المدرسة الصحفية الدائمة

سانحة
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
الصباح : الست والستون
تونس / الصواب /01/02/2017
في 1 فيفري 1951 ، كانت البلاد على قاب قوسين أو أدنى من أحداث كبيرة ستقودها إلى الاستقلال ، فقد كانت رسالة وزير خارجية فرنسا ، قد أغلقت أبواب سبق أن فتحها في وجه تطورات كان المعتقد أن تكون إيجابية ، تحت ضغط طغمة من المعمرين الفرنسيين مستقرين في تونس ظلما وعدوانا ، يتحكمون في رقاب دولة من أعظم دول العالم آنذاك هي فرنسا، ولم يكن لا هؤلاء ولا حكومة باريس على دراية بأن عجلة التاريخ قد استدارت دورة كاملة ، وأنه لم يعد هناك مجال لاستعمار ولا لدول مولى عليها.
في باريس وأمام رئيس حكومة الباي محمد شنيق ، فتح بورقيبة متحديا  رسالة هي في واقع الأمر موجهة من الخارجية الفرنسية لملك تونس ، وقرأ  نص الرسالة الفرنسية التي ترد  سلبا على رسالة الحكومة التونسية بتاريخ 15 ديسمبر 1950 ، والمطالبة بالاستقلال ، في الغد استقبل بورقيبة أحد أكبر الصحفيين  الفرنسيين وهو في هيجان شديد ، ليقول له ، "يريدون المواجهة فليكن".
نقل محمد المصمودي  ( الوزير لاحقا ) مراسل الصباح ذلك، لينشر على أعمدة الجريدة.
وكانت المواجهة التي قادت إلى الاستقلال ، بعد 75 سنة من الاحتلال.
في تلك الظروف كان أول صدور للصباح لتكون ، وهي الصحيفة المستقلة الخاصة ، صوت الحركة الوطنية ، ولتدخل معركة التحرير من بابها الواسع ، وتكون الصوت المؤرخ للثورة التونسية ، التي اصطلح على اعتبار انطلاقتها في 18 جانفي 1952 ، يوم تم إلقاء القبض على الرئيس الحبيب بورقيبة  ، فيما فر كل من صالح بن يوسف ومحمد بدرة ، الذين كانا  يدافعان عن استقلال تونس في مقر الأمم المتحدة المؤقت في قصر شايو في باريس فرا عبر بلجيكا إلى جنيف ، ثم  منها إلى القاهرة ليبقى صوت تونس مسموعا في العالم ، ولتبقى جذوة  الشعلة التونسية مضيئة لا داخل البلاد فقط عبر المقاومة الشعبية مدنية ومسلحة ، بل كذلك في المحافل الدولية عبر دول حملت قضية تحرير تونس عبر كبار المسؤولين  فيها أيامها في مصر( محمد صلاح الدين )  والعراق( فاضل الجمالي ) وباكستان ( ظفر الله خان ) خصوصا.
أيام لن تنمحي من الذاكرة ستبقى تحملها الأجيال عندما كانت الصباح تحمل الرسالة المقدسة وما زالت  ، عبر الكلمة الحرة  في عنت تحت إجراءات رقابة السفارة الفرنسية  والمقيم العام ديهوتكلوك الذي جاء  إلى تونس على ظهر بارجة حربية إمعانا في التخويف ، وأيضا وهذا ما لا تعرفه الأجيال عبر تلك العربة الصغيرة التي  يدفعها  " فطح " وهي تحمل رزم  الصحف الصادرة لتوزيعها ، وتحتها   القنابل المحلية الصنع لقض مضاجع المستعمرين الفرنسيين.
تلك أيام عرفت ملحمة جديرة بأن تبقى في الذاكرة ، من المؤسف أن الذين عاشوها ، بشجاعة لا تخلو من خوف ، قد انسحبوا وطواهم الموت غالبا ، ولم يبق منهم ممن التحق بهم في تلك الأيام العصيبة والمليئة بالتحدي ، سوى الصادق بسباس وقبله مصطفى الفيلالي والشاذلي القليبي  والحبيب الشيخ ( وزير البريد لاحقا ) أطال الله أعمارهم وربما غيرهم ممن لا أعرف  أو لا أذكر.
أين الحبيب شيخ روحه ، أين الحبيب الشطي ، أين الهادي العبيدي  ، أين فرحات حشاد ،  أين الباهي الأدغم ، أين محمد المصمودي وآخرهم ، أين عبد الجليل دمق ، أين صلاح العامري ، أين محمد قلبي  أين محمد التمتام ، أين  الصادق الزواوي الذي التحق بالرفيق الأعلى ، تقريبا يوما بيوم بعد 19 عاما من وفاة المؤسس وحامل المشعل  في الصف الأول الحبيب شيخ روحه وعشيره لأطول فترة  ، وهم الذين  وغيرهم انبعثت على أيديهم الصباح ، أو واكبوا مسيرتها ،فجعلوا منها أداة كفاح من أجل الكلمة الحرة والأخلاق الصحفية العالية ، والانتصار للحق ، ومساندة الشعوب المولى عليها.
الصباح ليست فقط صحيفة ، وليست فقط مؤسسة ، بل فكرة ازدهرت ، وفعلا أسهم وما زال يسهم بجد ونشاط رغم كل شيء في رفعة تونس ، ورفعة العروبة ورفعة الانسان ، عبر أجيال صنعت مجدها ، وصنعت من جهتها   بمكانتها  أمجادهم.
 فهي بأقلامها ولأقلامها تعيش  وستعيش ، فالصحيفة ليست حقا تجاريا ،  كما يتخيل البعض ، بل أقلام وأسماء بهم تعيش وترتقي. وأخلاق صحفية  عالية ، اعتمدت لها الصباح منذ سنوات طوال مدونة شرف.
ستعمر الصباح، وستبقى هي وأخواتها من منشورات الدار ،  تلك المنارة المضيئة كما كانت دوما ، وكما أرادت لها الارادة الوطنية عندما أنشئت قبل 66 سنة .

السبت، 28 يناير 2017

سانحة : الصادق الزواوي ،، غياب جندي الخفاء ، ورجل الوفاء


سانحة

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
الصباح: وغيب الموت آخر جنود الخفاء:
 الصـــادق الــــزواوي
في الليلة الفاصلة بين الأربعاء والخميس ، جلس الصادق الزواوي في بيته وفي " بيت القعدة " (غرفة المعيشة كما يسمونها في الشرق) يتمتع ببرامج تلفزيونية ، حوالي منتصف الليل استعد للنوم ، وهو بنظامه الصارم المتبع ، يزور غرفة الحمام ، هناك سقط بلا حراك ، زوجته  ورفيقة دربه  الست جميلة ، لم تستطع عمل أي شيء ، خرجت مستنجدة ، فجاءها ابن الجيران هو وأمه وسريعا ما جاء الطبيب ليعلن عن الوفاة .
تسلل الصادق الزواوي من الحياة ، في رفق كما كانت حياته دوما بلا ضجيج ، وفي هدوء ، لتنتهي أسطورة صاحبت إنشاء جريدة الصباح من يومها الأول في 1 فيفري 1951 ، بل وحتى قبل ذلك ، إذ رافق إعدادات إنشائها.
آخر جندي خفاء ، ممن كان لهم دور بارز في صدور واستمرار هذه الجريدة ، التي اعتبرت وما زالت تعتبر علامة مضيئة في تاريخ الصحافة التونسية  وتاريخ البلاد  ، الجريدة التي تصدرت الصحف التونسية لوقت طويل ، والتي حافظت دوما على أخلاقيات عالية في الممارسة الصحفية والتي كانت دوما وما زالت بفضل فريقها الحالي كما فريقها على مر الزمن مدرسة تخرج منها مئات الصحفيين والإداريين والتقنيين ، صحيفة كانت هي الأولى كجريدة إخبارية منذ صدورها ، وكانت سباقة في صحافة الرأي والصحافة التحليلية ، وكانت دوما تتمتع بنصيب من حرية في التعبير ، لم تكتسبها صحيفة أخرى إلا بعد زمن ، وكانت توصف بأنه لا ينبغي قراءتها بصورة مسطحة بل قراءة ما بين كلماتها وما بين سطورها ، عن قصد أو غير قصد.
كان وراء ذلك صحفيين من أجيال متعددة يذوبون في أداء رسالتهم الصحفية ، أحيانا بصعوبة ولكن بذكاء ، وكان عهد بورقيبة رغم صعوباته ، مرحلة معقولة ، فلم يقع قط زمنه فرض رقابة على الصحيفة كما جرى في العهد اللاحق ، ولم تتدخل السلطة في تركيبة الفريق كما حصل لاحقا ، عندما استعملت أداة الإعلان الحكومي ( وبالتبعية الإعلان الخاص للمحاربة ) وتم فرض تعويض أو ملاحقة ذلك الصحفي أو غيره لأنه لم يكن مسايرا للتيار.
عايش الصادق الزواوي كل ذلك ، وكان في أحرج المواقف وما أكثرها دائم الابتسامة ، مؤمنا إيمانا شيدا بأننا لن نرى إلا ما كتب لنا.
ذهب الصادق الزواوي وذهبت معه أسرار مراحل طويلة وصعبة ، لم يعشها معه من بقي حيا ، ولعل أقدم وجه باق اليوم من تلك المرحلة أو ما لحقها هو الصادق بسباس أطال الله عمره  الذي التحق بالصباح في 1954 أي بعد ثلاث سنوات  على إنشائها ،  ولكنه  أي الصادق الزواوي كان خزانة ذكريات كبيرة ، انقرضت من الذاكرة بذهابه ، كما ذهب جزء كبير منها بوفاة الحبيب الشطي وزير الخارجية الأسبق وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي وأول رئيس تحرير للصباح ، وأيضا الهادي العبيدي ثاني رئيس تحرير ، وخاصة الحبيب شيخ روحه مؤسس الجريدة ومؤسس  دار الصباح وعميد الصحافة التونسية ، ولعل الوحيد الذي ترك أثرا هو المرحوم عبد الجليل دمق رئيس التحرير الأسبق ولأطول مدة بكتابه " العسل المر".
ولقد جاءت الفرصة منذ قرابة سنة لتسجيل ذكريات عن التأسيس ، عبر عمل أكاديمي تولاه الجامعي والصحفي سامي المالكي  لفائدة معهد الصحافة ، غير أن الصادق الزواوي امتنع تماما عن تسجيل ذكرياته التي ذهبت معه ، فيما قبلنا الصادق بسباس (1954)  وأنا (1959) تسجيل تلك الشهادة ، حفاظا على ذاكرة منارة كبيرة من منائر الوطن.
ولنا أن نتساءل ماذا فعل سامي المالكي بتلك الشهادات وهل دونها كتابيا إضافة إلى التسجيل بالفيديو.
غاب الصادق الزواوي إلى الأبد ، ولم يترك إلا الأثر الطيب ، عند المئات من الذين خدموا بلادهم عبر العمل الصحفي من تونسيين وجزائريين وليبيين ومغاربة وحتى من موريتانيين  ، من مروا كمتمرنين عبر أقسام الجريدة ، عندما كان الرئيس الموريتاني المختار ولد دادة يسعى لإنشاء صحافة وطنية في بلاده بعد استقلالها ، فتوجه لصديقه الحبيب بورقيبة ، الذي أشار عليه و وجهه لجريدة الصباح ، لتكون مركزا لتكوين الصحفيين الموريتانيين ، فقضوا تباعا عدة أسابيع ومنهم من تصدر لاحقا قيادة الصحافة أو المراكز الحكومية في بلاده.
ومما يذكر أن الصباح خرَجت كمدرسة عددا من الوزراء التونسيين والمغاربيين نذكر منهم اثنان على الأقل هما محمد المصمودي والحبيب الشطي ، كما عمل في رحابها عدد من الوزراء الآخرين كمراسلين وخاصة كمال مرجان ، عدا من ارتقوا إلى مناصب دولية عليا مثل نجيب الفريجي ونورالدين المازني وعبد المجيد الشعار ، وغيرهم كثيرون ، وكان الصادق الزواوي بالنسبة لهم الرفيق الصديق ، وحتى الأب الحنون، مكتبه مزار الجميع كل يوم ، يأتيه صباحا مشيا على الأقدام بعد قطع ما بين 4 أو 5 كيلومترات من بيته ، ويغادره مساء بعد العمل راجلا.
كانت الصباح منتدى ، وكان هو محوره ، لأن البقية محررين وكتاب يسعون يومهم ، فيما هو ثابت ، ليجلس إليه فرحات حشاد والباهي الأدغم والشاذلي القليبي وأحمد بن صالح ومصطفي الفيلالي وزعماء الحركة التحريرية الآخرين تونسيين وجزائريين من أمثال عبد الله شريط وعبد الرحمان شريط ومحمد الميلي وبن يلس ومحمد علي طاهر الفلسطيني ومفدي زكرياء صاحب النشيد الوطني الجزائري ( قسما) كانوا يأتون بعضهم يكتب مقاله وآخرون ينتظرون عنده الحبيب شيخ روحه أو الهادي العبيدي أو غيرهما من المحررين ، أيامها قبل الاستقلال وبعده  كانت الصباح هي المنتدى ، وهي المقصد وفي كثير من الأحيان كان الصادق الزواوي بكل لطفه زيادة على مهمته كمدير إداري ومسئول عن الموظفين هو المركز ، كان هو الذي يصرف المرتبات ، وهو الذي يقف على توزيع الجريدة وهو الذي يستورد الورق وهو المحاسب ، ورغم كل هذه المهام وغيرها لم يكن ليبدي تبرما أو غضبا ، فهو بكلمته اللطيفة قادر على إطفاء لهيب نار مشتعلة في داخل كل من يأتيه ثائرا لسبب من الأسباب .
رحم الله الصادق الزواوي وأثابه عن كل ما أتاه في حياته مما كان له أثر عميق في بناء صحافة وطنية مسؤولة وبأخلاقية عالية ومن موقع جندي الخفاء.
أمر واحد بقي في ذاكرتي في حسرة وألم يعصر القلب ، يوم اضطر للمغادرة ، للتقاعد على غير رغبة لا منه ولا من الحبيب شيخ روحه ، الرجل الذي وثق به وكان محل ثقته ، فكان جديرا كل الجدارة بتلك الثقة ، بكى الرجلان يومها ولم يكونا يستطيعان فراقا ، وكانا يعتقدان أن الأيام لن تفرق بينهما على الأقل في "الصباح"، ورغم التقاعد فإن الوفاء بقي سمة الرجلين ، فأصبح الصادق الزواوي يأتي لزيارة رفيقه كل يوم ، وكان الحبيب شيخ روحه يسأل عن الصادق الزواوي عندما يتأخر فلا يأتي لمكتبه ، حتى فرق بينهما موت الحبيب شيخ روحه في سنة 1994، كتبت يومها في "كلمة الصباح"  ،ـ  وقد أزحت عن رئاسة التحريرـ وكان مفترضا أن " كلمة الصباح " هي من مسؤولية رئيس التحرير ، كتبت يوما : " الحبيب شيخ ,, شمعة لن تنطفئ" ، وأعيد اليوم " الصادق الزواوي :" شمعة لن تنطفئ".



الاثنين، 23 يناير 2017

بكل هدوء : محمود بن رمضان ،، حديث الصراحة وإطلاق صفارة الانذار

بكل هدوء
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
صيحة فزع
في القاعة الكبرى في بيت الحكمة ، كان الموعد لسماع محاضرة للأستاذ الجامعي المتميز محمود بن رمضان ، صباحا على غير العادة ، وفي المجال الاقتصادي الذي يقل  عنه الحديث في هذه الدار ، التي تعتبر مفخرة لتونس ، والتي تحيل إلى بيت الحكمة في بغداد ، أيام عز الحضارة العربية ، التي كانت رائدة في عالم يقتبس منا ولا نلهث وراءه، والتي يرأسها ويديرها بكل اقتدار الدكتور عبد المجيد الشرفي.
كان الموضوع مغريا :" تونس في مواجهة الأزمات الاقتصادية الكبرى : طرق النفاد " ، وكان المحاضر جدير بالمتابعة لغزارة علمه من جهة ولتمكنه البيداغوجي من جهة أخرى ولتجربته الطويلة من جهة ثالثة وآنية الموضوع وحرقته من جهة رابعة.
كان الموضوع مغريا بحيث استقطب ما ملأ القاعة برؤساء حكومات ووزراء سابقين عدا الأساتذة الجامعيين والموظفين الدوليين والمتصرفين من المدراء الكبار ممن كان لهم أثر في بناء اقتصاد البلاد.
ما يمكن أن يخرج به المرء من المحاضرة ذاتها التي لم تتواصل مدتها  الساعة ، ومن التدخلات  في القاعة ، ومن ردود المحاضر، هو أن صفارة الإنذار المدوية قد أطلقت ، وأن صيحة الفزع العالية قد ترددت أصداؤها .
للحقيقة فإن ما أورده المحاضر محمود بن رمضان ، ليس جديدا ، فالأزمة الخانقة كانت معلومة منذ الأشهر الأولى بعد الثورة ، وأنها تعمقت بدون حلول عندما كانت الحلول طوع اليد خلال حكم الترويكا وبالذات النهضة، ولعل الوزير حسين الديماسي هو أول من أطلق صفارة الانذار منذ جوان 2012 ، مما اضطره للاستقالة ومغادرة حكومة بدا واضحا ، أنها لا تريد أن تأخذ الثور من قرنيه لترويضه ، وأن همها هو ربح الوقت،  انتظارا لانتخابات كانت تعتقد أنها ستمكنها من أغلبية مريحة بلا شريك ، لا منصف المرزوقي ولا مصطفى بن جعفر.
منذ ذلك الحين اتضحت معالم الصورة فقد كانت البلاد تسير نحو إفلاس محقق ، ويذكر المحاضر هنا "أن البلاد كانت مفلسة فعليا منذ منتصف سنة 2013، وأنها وصلت حاليا لا للقاع ، ولكن أبعد من القاع ، فكل المؤشرات في الأحمر ، أي في وضع متأزم " المالية العمومية بعيدة عن كل توازن ممكن ، الشركات الوطنية كلها تقريبا تشكو من عجز كبير وبعضها تعتبر مفلسة ، ولو تم تطبيق القانون عليها لوجب غلقها ، قطاعي الفسفاط والسياحة اثنان من القطاعات الدافعة تشكو ، النمو في أدنى أحواله ، والاستثمار معطل والتجرة الخارجية وميزان الدفوعات في انخرام كامل ، والوضع السياسي يزيد الحالة سوء ،ورغم قيام الديمقراطية كوسيلة متقدمة للحكم ، فإن البلاد لم تعرف حتى الآن إنشاء المؤسسات الدستورية ، التي بدونها لا وجود لديمقراطية حقيقية رغم الانتخابات النزيهة والشفافة ، ورغم إطلاق الحريات العامة والفردية ،  وإذ تدل تجارب  الثورات المعاصرة يقول محمود بن رمضان :" على أن اقتصادها يسترجع عافيته بعد 4 سنوات ، على قيام الثورة ، فإننا في تونس وبعد ست سنوات على 14 جانفي فإن اقتصادنا ما زال لم يسترجع ديناميكيته السابقة ، وهو يتميز بانخفاض مستوى النمو ولا حديث عن تنمية ولا عن تشغيل ".
ويعقد المحاضر مقارنة طريفة بين أزمة الاقتصاد في الثمانينات والأزمة الحالية ، لينتهي إلا أن القرارات التي اتخذت آنذاك  في 1986 سريعا ما أتت أكلها ، فيما إن تونس اليوم لم توفق وبالتالي فإن الأزمة متواصلة ، وهي تهدد بأن تتحول إلى أزمة شبيهة بما حصل في اليونان ، وإذا كانت الحكومة قد استطاعت توفير المال اللازم لدفع مرتبات موظفيها حتى الآن  ، وضخ ما يكفي لدفع الصناديق الاجتماعية المفلسة جرايات المتقاعدين ومستحقات المرضى  عبر الكنام التي فقدت توازناتها ، فلا شيء يؤكد أن ذلك ممكن أو في حيز الإمكان الشهر المقبل أو الأشهر المقبلة ، أي أن يستمر صرف مرتبات الموظفين وجرايات المتقاعدين ، وسداد مستحقات المنتسبين لمؤسسة تعويض نفقات العلاج؟ .
وعلى هذه النغمة المتشائمة نسج المتدخلون ، مؤكدين ما ذهب إليه المحاضر  من تشاؤم ، لا مبالغة فيه ، مقدمين إضافات مهمة في نفس الاتجاه ،  ولقد سبق لنا أن نبهنا لهذا ، منذ أكثر من سنتين  أو أكثر على أعمدة هذه المدونة ، وهو ما يشهد به ما نشر منها وما يمكن الرجوع إليه في كل وقت.
غير أن المحاضر ينتهي إلى أن هناك احتمال للخروج من هذا الوضع وإنقاذ البلاد والدولة ، باعتماد توافق مجتمعي قائم على قبول جماعي بالتضحية الإرادية لا المفروضة.
ولكن يبقى سؤالنا نحن هل هذا ممكن ، قبل أن تغرق السفينة ونرى البلاد في وضع أشبه بذلك الذي عرفته قبل 1881 ، في بلد عصي على الإصلاح ؟


الأربعاء، 4 يناير 2017

بكل هدووء ، الشعبوية واستقالة النخبة إلى أين تقود البلاد ؟

بكل هدوء

يكتبه عبد اللطيف الفراتي
صراحة مؤلمة
تونس / الصواب / 04/01/2017
ترددت كثيرا ، وأجلت الأمر طويلا ، قبل أن يقر مني العزم ، على أن أغامر بالسباحة في المياه العميقة ، وأنا  أتقن فن العوم عادة ، ولا أتهيب البحر، فأنا ابن شواطئ عندما كانت في مدينتي صفاقس شواطئ ممتعة بلونها اللازوردي الأزرق ، قبل أن يهجم عليها تصنيع وحشي أحال تلك الشواطئ إلى مصبات قمامة الفسفاط .
تذكرت كلمة كان يرددها على مسامعنا نحن أبناء الهادي العبيدي ، الذي نسيه الناس ونسوا جرأته وشجاعته ، وكتاباته المزلزلة ، كان الرجل يردد : الصحفي والمفكر يسيران في مقدمة الركب ويقودانه ، ولا ينبغي أن يتبعوا أهواء الناس ، وكان يذكر بيتا من الشعر  في هذا المعنى غاب عني.
ما أود أن أقوله وأكتبه اليوم في بداية هذا العام الجديد ، أننا أصبحنا في هذه البلاد بقياداتنا ، بصحفيينا ، بمفكرينا نسعى وراء الجماهير بدل أن نقودها ، وسيطرت علينا شعبوية قاتلة ، غابت الصراحة لإرضاء كل من هب ودب، وباتت قيادات التنظيمات الاجتماعية والقيادات السياسية حكما ومعارضة  تسير وراء ما يرضي الناس ، ورضاء الناس غاية لا تدرك ، وبات الصحفيون ،ـ والتعميم غير جائز ـ  وأنا منهم  يجرون لا وراء البحث عن "الحقيقة " ، بل وراء إطراء العواطف مهما تعارضت مع المصلحة العامة ، وسأتوقف عند ملاحظات معينة:
** قضية حادثة القطار ، تم تناولها من الجانب الخطأ  في رأيي ، وأنا لا أعرف الرئيسة المديرة العامة ولم أسمع باسمها قبل أن تتقرر إقالتها ، قد تكون غير كفئة ، ولكن في هذه القضية بالذات ، لأسوق أمرا غاب عن كل " المحللين " وهو أن القطار في سكته يتمتع بأولوية مطلقة ، وأن على الذين يقطعون عليه الطريق أن يكونوا على انتباه كامل ، وبالتالي لماذا لم يتساءل الناس وفي المقدمة أصحاب الحملة على الرئيسة المديرة العامة ، والذين طالبوا بإقالة الوزير وزير النقل ، وهو الآخر لا أعرف ولا أذكر اسمه إلا يوم عين في منصبه هذا ، ألم يكن الأجدر بهم أن يسائلوا مدير شركة النقل الذي غامر سائقه  بحافلة يحمل أوزار ركابها  وهو  من رمى بهم في فم وحش هو القطار.
، ووزير النقل في الحالتين يكون مسؤولا  لو لم يكن هذا الخطأ بشري ، ومهما تعللنا وتعلل المسؤولون بنقص في تجهيزات التقاطعات ، ولم يدافعوا عن أمر مؤكد وهو أولوية القطار على سكته ، وحتى ممثل الوزارة تحاشى أن يصارح الناس ، ويحمل المسؤولية لمن وجب أن يتحملها مسايرة للرأي السائد ، لا لحقيقة القانون ، وأود أن أذكر هنا أنني في أحد أيام القيظ في صائفة 2008 ، وكنت في سيارتي في شارع يوغورطا ، عند وصولي للإشارة الضوئية كانت حمراء ، وتوقفت ، ولكن 7 أو 8 سيارات اخترقت الضوء الأحمر ، وعندما وقفت بجانبي سيارة تحترم الإشارة الحمراء ، تساءلت بيني وبين نفسي :" من هو هذا الساذج مثلي ، الذي لا يخرق الضوء الأحمر " استدرت فمن وجدت ؟
محمد الغنوشي وكان آنذاك وزيرا أول يقف احتراما لإشارة المرور ، التي خرقها عدة أشخاص قبله ،  بحيث نحن في هذه البلاد لا نحترم القوانين بما فيها قانون المرور ، واليوم وبعد أن فرض وضع حزام الأمان داخل المدن ، أراهن على أن الشرطة لن تجد سهولة في فرض  احترام ذلك الإجراء .
غير أن المؤلم في الأمر أكثر هو أن الصحافة مكتوبة ورقية أو إليكترونية  وخاصة تلفزيونية وإذاعية  ، وفي مسايرة لا أريد أن أصفها دخلت في حملة ظالمة ، دون بحث أو تدقيق .
** لا يمر يوم أو أسبوع دون أن يتم " اعتصام " على طريق يقطع السير ، ويعطل المصالح ، ويصيب انسياب الحركة بالتوقف ، هذا من أجل البرتقال ، وهذا من أجل الحظائر ، وهذا من أجل التعطل ، والأدهى والأمر ما حصل من تعطيل تسيير الفوسفاط ، إلى مواقع تصنيعه أو تصديره ، اتحاد الشغل ومن أجل عدم مواجهة أعداد من المتضررين ، لا يبدو أنه يدافع عن مصالح شعب بكامله ، وحكومات متعاقبة عاجزة عن أن تفرض سلطة القانون ، مستشفى بعينه لا يسيره من ينبغي أن يسيره  أي أساتذة جامعيين ، بل من  لهم مطالبات اجتماعية قد تنتهي وقد لا تنتهي هم من  باتوا يتدخلون في التسيير والتصرف ، ووزراء يقالون أو لا يجدد لهم تحت ضغط نقابات دورها لا فقط الدفاع عن المصالح المعنوية والمادية لمنظوريهم ، وربما غيرهم في الطريق تحت ضغط شديد ، وتعليمنا  واقع تحت وقع إضرابات متواصلة ، اليوم أو غدا إضراب آخر في التعليم.
والأولياء في حيرة ، التعليم الخاص أخذ يمتليء ، ويتحسن مستواه ، والذين يتمتعون بإمكانيات حتى قليلة " يتشعبطون " بين تعليم خاص بثمن ، ومن الذين يتمتعون بمداخيل مرتفعة لا تجد إلا قلة من يبقون أبناءهم في المدرسة التونسية ، بينما غصت المدرسة الفرنسية والانقليزية والأمريكية  وحتى الألمانية  والكندية بالتلاميذ التونسيين ، الذين هربهم آباؤهم من التعليم العمومي ، الذي على تدني مستواه بات يعيش إضرابات وراء إضرابات ، تحت أنظار وأسماع مركزية نقابية ، للمرء أن يتساءل إن ما زال يهمها أو لا مستقبل تونس وأبناؤها ،  ووداعا وحدة التعليم ، وتكوين أجيال متأصلة في مجتمعها ومناخها الاجتماعي التونسي ، وسؤال مطروح على الجميع ، هل تبقى المدرسة التونسية المكسب الذي بنته أجيال من المعلمين بالمفهوم الشامل للمعلمين ، فقط لمن ليس لهم حظ ومال ، وينصرف الآخرون عنها ، لا فقط لانحدار مستواها واسألوا برنامج بيزا   العالمي  ،بل وأيضا لما اعتراها من قلة انضباط وتذبذب وغياب استمرارية ، وما ربحته المدرسة التونسية من أيام تواصل في الدراسة خسرته في عدد أيام الاضرابات  مهما كانت شرعيتها فإنها تبقى ضارة بالتحصيل العلمي لأبناء المستقبل.
** ولأن المفكر والصحفي يسير في مقدمة الركب ، ولا يلهث وراءه ، ولأن المصارحة تجاه وضع يشكو من صمت القبور ، فإني أواجه العاصفة عن وعي ودراية  ، عل السواكن تتحرك ، وتنزع الجمود والقبول بالدون حتى  ينتفيا ، كان هذا موقفي سنة 1990 عندما رفضت أن أساير التيار ، فاتهمت وقتها ظلما  بالبيع والشراء ، فإني على الخط الذي اتبعت دوما من أجل الحقيقة ، ومن أجل مصلحة البلاد     ، غضب من غضب ، ورضي من رضي ، شتم من شتم  ، وشكر من شكر ، أحب من أحب وكره من كره. تلك هي شمتي دوما وأبدا.
وليس لي من خوف إلا من ضميري ومن الله.

fouratiab@gmail.com