سانحة
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
الصباح: وغيب الموت آخر جنود الخفاء:
الصـــادق الــــزواوي
في الليلة الفاصلة بين الأربعاء
والخميس ، جلس الصادق الزواوي في بيته وفي " بيت القعدة " (غرفة المعيشة
كما يسمونها في الشرق) يتمتع ببرامج تلفزيونية ، حوالي منتصف الليل استعد للنوم ،
وهو بنظامه الصارم المتبع ، يزور غرفة الحمام ، هناك سقط بلا حراك ، زوجته ورفيقة دربه
الست جميلة ، لم تستطع عمل أي شيء ، خرجت مستنجدة ، فجاءها ابن الجيران هو
وأمه وسريعا ما جاء الطبيب ليعلن عن الوفاة .
تسلل الصادق الزواوي من الحياة ، في
رفق كما كانت حياته دوما بلا ضجيج ، وفي هدوء ، لتنتهي أسطورة صاحبت إنشاء جريدة
الصباح من يومها الأول في 1 فيفري 1951 ، بل وحتى قبل ذلك ، إذ رافق إعدادات
إنشائها.
آخر جندي خفاء ، ممن كان لهم دور بارز
في صدور واستمرار هذه الجريدة ، التي اعتبرت وما زالت تعتبر علامة مضيئة في تاريخ
الصحافة التونسية وتاريخ البلاد ، الجريدة التي تصدرت الصحف
التونسية لوقت طويل ، والتي حافظت دوما على أخلاقيات عالية في الممارسة الصحفية
والتي كانت دوما وما زالت بفضل فريقها الحالي كما فريقها على مر الزمن مدرسة تخرج
منها مئات الصحفيين والإداريين والتقنيين ، صحيفة كانت هي الأولى كجريدة إخبارية
منذ صدورها ، وكانت سباقة في صحافة الرأي والصحافة التحليلية ، وكانت دوما تتمتع
بنصيب من حرية في التعبير ، لم تكتسبها صحيفة أخرى إلا بعد زمن ، وكانت توصف بأنه لا
ينبغي قراءتها بصورة مسطحة بل قراءة ما بين كلماتها وما بين سطورها ، عن قصد أو
غير قصد.
كان وراء ذلك صحفيين من أجيال متعددة
يذوبون في أداء رسالتهم الصحفية ، أحيانا بصعوبة ولكن بذكاء ، وكان عهد بورقيبة
رغم صعوباته ، مرحلة معقولة ، فلم يقع قط زمنه فرض رقابة على الصحيفة كما جرى في
العهد اللاحق ، ولم تتدخل السلطة في تركيبة الفريق كما حصل لاحقا ، عندما استعملت
أداة الإعلان الحكومي ( وبالتبعية الإعلان الخاص للمحاربة ) وتم فرض تعويض أو
ملاحقة ذلك الصحفي أو غيره لأنه لم يكن مسايرا للتيار.
عايش الصادق الزواوي كل ذلك ، وكان في
أحرج المواقف وما أكثرها دائم الابتسامة ، مؤمنا إيمانا شيدا بأننا لن نرى إلا ما
كتب لنا.
ذهب الصادق الزواوي وذهبت معه أسرار
مراحل طويلة وصعبة ، لم يعشها معه من بقي حيا ، ولعل أقدم وجه باق اليوم من تلك
المرحلة أو ما لحقها هو الصادق بسباس أطال الله عمره الذي التحق بالصباح في 1954 أي بعد ثلاث سنوات على إنشائها ،
ولكنه أي الصادق الزواوي كان خزانة
ذكريات كبيرة ، انقرضت من الذاكرة بذهابه ، كما ذهب جزء كبير منها بوفاة الحبيب
الشطي وزير الخارجية الأسبق وأمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي وأول رئيس تحرير
للصباح ، وأيضا الهادي العبيدي ثاني رئيس تحرير ، وخاصة الحبيب شيخ روحه مؤسس
الجريدة ومؤسس دار الصباح وعميد الصحافة
التونسية ، ولعل الوحيد الذي ترك أثرا هو المرحوم عبد الجليل دمق رئيس التحرير
الأسبق ولأطول مدة بكتابه " العسل المر".
ولقد جاءت الفرصة منذ قرابة سنة
لتسجيل ذكريات عن التأسيس ، عبر عمل أكاديمي تولاه الجامعي والصحفي سامي المالكي لفائدة معهد الصحافة ، غير أن الصادق الزواوي
امتنع تماما عن تسجيل ذكرياته التي ذهبت معه ، فيما قبلنا الصادق بسباس (1954) وأنا (1959) تسجيل تلك الشهادة ، حفاظا على
ذاكرة منارة كبيرة من منائر الوطن.
ولنا أن نتساءل ماذا فعل سامي المالكي
بتلك الشهادات وهل دونها كتابيا إضافة إلى التسجيل بالفيديو.
غاب الصادق الزواوي إلى الأبد ، ولم
يترك إلا الأثر الطيب ، عند المئات من الذين خدموا بلادهم عبر العمل الصحفي من
تونسيين وجزائريين وليبيين ومغاربة وحتى من موريتانيين ، من مروا كمتمرنين عبر أقسام الجريدة ، عندما
كان الرئيس الموريتاني المختار ولد دادة يسعى لإنشاء صحافة وطنية في بلاده بعد استقلالها
، فتوجه لصديقه الحبيب بورقيبة ، الذي أشار عليه و وجهه لجريدة الصباح ، لتكون مركزا
لتكوين الصحفيين الموريتانيين ، فقضوا تباعا عدة أسابيع ومنهم من تصدر لاحقا قيادة
الصحافة أو المراكز الحكومية في بلاده.
ومما يذكر أن الصباح خرَجت كمدرسة
عددا من الوزراء التونسيين والمغاربيين نذكر منهم اثنان على الأقل هما محمد
المصمودي والحبيب الشطي ، كما عمل في رحابها عدد من الوزراء الآخرين كمراسلين
وخاصة كمال مرجان ، عدا من ارتقوا إلى مناصب دولية عليا مثل نجيب الفريجي
ونورالدين المازني وعبد المجيد الشعار ، وغيرهم كثيرون ، وكان الصادق الزواوي
بالنسبة لهم الرفيق الصديق ، وحتى الأب الحنون، مكتبه مزار الجميع كل يوم ، يأتيه
صباحا مشيا على الأقدام بعد قطع ما بين 4 أو 5 كيلومترات من بيته ، ويغادره مساء
بعد العمل راجلا.
كانت الصباح منتدى ، وكان هو محوره ،
لأن البقية محررين وكتاب يسعون يومهم ، فيما هو ثابت ، ليجلس إليه فرحات حشاد
والباهي الأدغم والشاذلي القليبي وأحمد بن صالح ومصطفي الفيلالي وزعماء الحركة
التحريرية الآخرين تونسيين وجزائريين من أمثال عبد الله شريط وعبد الرحمان شريط
ومحمد الميلي وبن يلس ومحمد علي طاهر الفلسطيني ومفدي زكرياء صاحب النشيد الوطني
الجزائري ( قسما) كانوا يأتون بعضهم يكتب مقاله وآخرون ينتظرون عنده الحبيب شيخ
روحه أو الهادي العبيدي أو غيرهما من المحررين ، أيامها قبل الاستقلال وبعده كانت الصباح هي المنتدى ، وهي المقصد وفي كثير
من الأحيان كان الصادق الزواوي بكل لطفه زيادة على مهمته كمدير إداري ومسئول عن
الموظفين هو المركز ، كان هو الذي يصرف المرتبات ، وهو الذي يقف على توزيع الجريدة
وهو الذي يستورد الورق وهو المحاسب ، ورغم كل هذه المهام وغيرها لم يكن ليبدي تبرما
أو غضبا ، فهو بكلمته اللطيفة قادر على إطفاء لهيب نار مشتعلة في داخل كل من يأتيه
ثائرا لسبب من الأسباب .
رحم الله الصادق الزواوي وأثابه عن كل
ما أتاه في حياته مما كان له أثر عميق في بناء صحافة وطنية مسؤولة وبأخلاقية عالية
ومن موقع جندي الخفاء.
أمر واحد بقي في ذاكرتي في حسرة وألم
يعصر القلب ، يوم اضطر للمغادرة ، للتقاعد على غير رغبة لا منه ولا من الحبيب شيخ
روحه ، الرجل الذي وثق به وكان محل ثقته ، فكان جديرا كل الجدارة بتلك الثقة ، بكى
الرجلان يومها ولم يكونا يستطيعان فراقا ، وكانا يعتقدان أن الأيام لن تفرق بينهما
على الأقل في "الصباح"، ورغم التقاعد فإن الوفاء بقي سمة الرجلين ،
فأصبح الصادق الزواوي يأتي لزيارة رفيقه كل يوم ، وكان الحبيب شيخ روحه يسأل عن
الصادق الزواوي عندما يتأخر فلا يأتي لمكتبه ، حتى فرق بينهما موت الحبيب شيخ روحه
في سنة 1994، كتبت يومها في "كلمة الصباح" ،ـ وقد
أزحت عن رئاسة التحريرـ وكان مفترضا أن " كلمة الصباح " هي من مسؤولية
رئيس التحرير ، كتبت يوما : " الحبيب شيخ ,, شمعة لن تنطفئ" ، وأعيد اليوم
" الصادق الزواوي :" شمعة لن تنطفئ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق