Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الجمعة، 20 أكتوبر 2017

الموقف السياسي : مصر وتونس ، السبب الرئيسي لنفرة غير مبررة

الموقف السياسي
بقلم عبد اللطيف الفراتي
تفاعل تونسي مصري حداثي
على مدى قرابة قرنين من الزمان
قبل أن ينقطع الخيط
تونس / الصواب /16/10/2017
رغم مستواه التعليمي الأولي ، فإن المشير أحمد باي الأول  قد تميز بالنسبة لأسلافه ، بفكره الشبابي ، وطموحه ، وحيويته وشجاعته ، وإذ أراد أن يحرر البلاد من وصاية الباب العالي ويدفعها على طريق الحداثة ، فقد قرر أن ينقل إلى تونس الحركة التحديثية  التي تولى القيام بها محمد علي في مصر وهو الذي كان معجبا به : (  كتاب المملكة التونسية تحت حكم البايات لمؤلفه ماهر كمون ) .
فمن مظاهر حنكة هذا الباي وتبصره اطلاعه عن كثب على التجارب الناجحة التي قامت بها بعض البلدان الأجنبية وسعيه إلى الاقتداء بها  ، من ذلك تأثره بتجربة محمد علي بمصر، وما حققته هذه البلاد العربية من تقدم وقوة وجاه في النصف الأول من القرن التاسع عشر : ( كتاب حكام إفريقيا وتونس لمؤلفه عبد الوهاب الجمل ).
للتأمّل والعبرة:
بدأ التعليم العلمي الحديث في مصر، عند مطلع النهضة العلمية الحديثة ، و اختار الطبيب الفرنسي العالم أنطوان كلوت (Clot Antoine Barthelemy نوفمبر 1793/28 اوت 1868)، مؤسس مدرسة الطب في أبي زعبل عام 1827 (انتقلت إلى القصر العيني عام 1837)، أن يكون التعليم باللغة العربية ، رغم الاعتراضات الكثيرة التي قاومته، سواء من المستعمرين، أو من الذين يجهلون إمكانيات اللغة العربية ، أو ممن يعتبرون التعليم والتحدث باللغة الأجنبية علواً وتسامياً، أما انطون فكان يعتقد بأن تعلم الطلاب لعلومهم بلغتهم أسهل كثيراً وأعمق فهماً وإدراكاً، كما أن ذلك يزودهم بوسيلة كفأة للتفكير والتذكر، ولتطوير مفاهيمهم ومداركهم، بينما يضطرهم التعلم بغير لغتهم إلى تعلم لغة جديدة أولاً، ولن تكون هذه واسطة سهلة ومقبولة للتواصل الفكري واللغوي لديهم، مع الآخرين، حتى إلى درجة بسيطة، بالمقارنة مع ما تزودهم به لغتهم العربية القومية، لغة حياتهم وممارساتهم اليومية. ( الدكتور عبد اللطيف الحناشي )
**
عندما نتحدث عن الحداثة في تونس ، نغفل عن التفاعل الذي حصل بين البلاد التونسية والبلاد المصرية ، فقد كان لخديوي مصر  ( الملك المصري  محمد علي والذي كان شبه أمي  1769/1848) تأثيرا كبيرا على عدد من البلدان العربية التي تقدمت أشواطا في طريق الحداثة والتطوير  بعد محاولات التحديث التي سبقت إليها مصر وكانت نبراسا لعدد من البلدان العربية ، ومن بينها تونس حيث افتتن مليكها المشير أحمد باي بالإصلاحات التي تولاها مــحمد علي في بلده ، وأقدم على تقليدها ، مما أدخل تونس في عصور التنوير.
وإذ لم تكن تحركات المشير أحمد باي كلها إيجابية ، فهو الذي انخرط في إنفاق أهدر إمكانيات البلاد ودفعها إلى أبواب الافلاس مثل بناء قصر المحمدية الذي أراده شبيها بقصر فرساي في باريس ، فإنه أنشا المدرسة الحربية بباردو التي كانت من وجهة نظري أول محاولة ناجحة لإدخال العلوم الصحيحة إلى تونس، على غرار مدرسة الترسانة في مصر في بدايات القرن التاسع عشر ومدرسة الطب في أبي زعبل سنة 1927 والتي أتمت تخريج الأطباء قبل أن تخريج الأفواج الأولى من الدكاترة من بريطانيا في سابقة  هي الأولى من نوعها في العالم العربي.
ولقد كان الترابط وثيقا بين مصر وتونس طيلة القرن التاسع عشر  والعشرين ، وكانت تونس محط رحال علماء مصريين لعل أبرزهم محمد عبده ، أو  الأديبة المثقفة الأميرة نازلي ، التي انتهت بالزواج من أحد أعيان التونسيين وفتحت منتدى يجتمع فيه حولها  الأدباء  من رجال ونساء الفكر التونسيين ، ومن يأتي من مصر ، كما ذكر المرحوم أبو القاسم محمد كرو في موسوعته ذات الستة أجزاء ضخمة ، فقد كان رافع رفاعة الطهطاوي علامة بارزة بالنسبة لرجال عصره من التونسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، هو والأفغاني ، كما قاسم أمين ، أول من دعا لتحرير المرأة في أواخر القرن 19 ، والذي سبق الطاهر الحداد بنحو 30 سنة ، وإن كان الطاهر الحداد من وجهة نظري أكثر جرأة في كتابه " أمرأتنا في
الشريعة والمجتمع" .
ولقد استمر التلاقح بين البلدين ، وإن كانت  تونس تستوحي من مصر والمشرق العربي أكثر من العكس ، خصوصا وقد ابتليت تونس بالاستعمار الفرنسي الاستيطاني ، والذي كان يحاول فرنسة وتنصير التونسيين ، ومن وجهة نظرنا أن مصر هي التي أدخلت الفكر القومي العربي إلى تونس ، أكثر من المشرق الأقصى متمثلا في سوريا والعراق ولبنان ، بعد أن كان السائد هو فكرة الأمة الاسلامية ، ولقد اشتهرت منذ العشرينيات من القرن العشرين عبارة " الدين لله والوطن للجميع "، وهناك اختلاف فيما إذا كان قائلها هو طلعت حرب أب الصناعة المصرية أو مكرم عبيد وكلاهما من المصريين المسيحيين.
وبلغ من التأثير المصري أنه وبعد سعد زغلول والوفد الذي قاده إلى لندن ، للمطالبة بالاستقلال ، ولم يمر وقت طويل حتى أنشأ عبد العزيز الثعالبي الحزب الحر الدستوري التونسي ( الحر بمعنى الليبيرالي ) ، في وقت قصير بعد حصول الثورة البلشفية في 1917 ، التي اعتبرت لا دينية وشيوعية تمييزا له على الأحزاب الكثيرة القائمة وقتها ، والتي تنسب نفسها للاشتراكية وتحارب الأديان  أو على الأقل تضع لنفسها مسافة مع الدين ، وتم تسيير وفد إلى باريس للمطالبة بالاستقلال على غرار الوفد المصري  إلى لندن ، الذي كان منطلقا لتسمية الحزب في مصر ، "حزب الوفد " وهو حزب قائم لليوم.
ويقول الدكتور عبد الواحد المكني في أكثر من كتاب من كتبه أن التأثير المصري بلغ حتى الأسماء في العائلات ، فبعد الأسماء التقليدية التي كانت مستعملة وفدت علينا أسماء حديثة لم تكن تطلق على الأبناء والبنات نتيجة التشبه بأسماء المواليد في مصر ، ولقد لعبت الزيجات المختلطة مع مصريات غالبا ولكن أيضا من أقطار مشرقية أخرى دورا في تنويع وتطوير الأسماء.
وعودة إلى بورقيبة ، فقد سبق رحلته إلى هناك  ( مصر) والتي دامت بين 4 و5 سنوات ، وفود عدة لاجئين  تونسيين كانوا مطلوبين من فرنسا وكانوا موضوع تتبع وملاحقة ، بينهم الحبيب ثامر والرشيد إدريس وحسين التريكي ومراد بوخريص وآخرين ، فقد وجد بورقيبة هناك حضنا دافئا استطاع منه أن يقوم بالدعوة للقضية التونسية ، سواء من القاهرة التي كانت عاصمة قضايا التحرر من ربقة الاستعمار ، أو عبرها إلى عدة عواصم في الشرق الأوسط والشرق الأقصى أو حتى في الولايات المتحدة ، حيث قابل بترتيب مسبق في سفارة المملكة العربية السعودية، وزير خارجية أمريكا "دين روسك " ونشرت له معه صورة ، أقامت الدنيا ولم تقعدها في باريس ،
وإذ سكن تباعا في بيت حسين التريكي ، الذي كان يتمتع ببعض الرفاهة ،  ويقطن في بيت فاخر في ضاحية رفيعة من  ضواحي العاصمة المصرية ، فإنه سكن أيضا في فندق بسيط ، وكان يعقد لقاءاته مع الوفود المبتعثة للعاصمة القاهرة في صالونات فنادق فاخرة ، حيث يقوم بالدعاية للقضية التونسية وينال التأييد لها، وبعكس ما يقول بورقيبة فإن كل الشهادات ، تقول بأنه كان يتلقى المساعدة  من الحكومة المصرية و من الجامعة العربية ، فضلا عما كان ينفق على سعة ، مما كان يوفره له الهادي شاكر من أقربائه ومعارفه في مصر ، وإلى الحد الذي تم كف يده عن التصرف في الأموال في القاهرة ، وأوكل الأمر بمقتضى قرار من مؤتمر دار سليم  للحزب الحر الدستوري الجديد إلى الحبيب ثامر.
و من القاهرة انطلق الدعم للقضية التونسية عبر رجال لا ينبغي نسيان أفضالهم على حركة التحرير التونسية التي كانت في حاجة للسند ،  ولعله وجب ذكر بعضهم حفظا للذاكرة :
عبد الرحمان عزام باشا ، أمين عام جامعة الدول العربية آنذاك
محمد صلاح الدين : وهو من حزب الوفد ، وتولى وزارة الخارجية المصرية عدة مرات حتى سنة 1952 ، أي حتى ثورة عبد الناصر
محمد ظفر الله خان وزير خارجية باكستان في ذلك الحين
الدكتور محمد فاضل الجمالي وزير خارجية العراق
محمد علي طاهر المناضل الفلسطيني المقيم في مصر الذي لازمه في القاهرة ، وكان بمثابة مستشاره ومدخله إلى الشخصيات النافدة أيامها في الأوساط المصرية والدبلوماسية
وإذ كافأ بورقيبة محمد فاضل الجمالي ، فأنقذه من براثن عبد الكريم قاسم صاحب انقلاب 14 تموز في العراق بعد أن كان محكوما عليه بالإعدام ، فاستقدمه وأغدق عليه ، وإذ أطلق اسم محمد صلاح الدين على أحد أنهج العاصمة تونس ، فإن بورقيبة  استضاف عديد المرات وأكرم محمد علي طاهر وأغدق عليه ، وقد تسنى لي أن أتعرف على الرجل ، إذ كان خلال إقاماته الطويلة في تونس يسهر في مكتب الاستاذ المرحوم الهادي العبيدي ، وإذ كنت لفترة أعمل سكرتير التحرير الليلي في جريدة الصباح ، فقد كنت أتمتع بجلسات الرجل الذي كان بمثابة الموسوعة تماما كما كان الهادي العبيدي ، وتحاليله المصيبة ، وفي ساعات النهار كثيرا ما جمعني الغداء مع ابنه الذي كان يرافقه صيفا خارج فترات الدراسة .
كان محمد علي طاهر ضيفا مبجلا على بورقيبة ، وعلى تونس فقد كانت له شبكة من الأصدقاء واسعة  في مصر والعالم العربي وظفها لفائدة بورقيبة والقضية التونسية ، وخاصة بين من كانوا لاجئين في القاهرة ، ومن كان سندا لهم أيام الكفاح.
**
غير أن بورقيبة قلب ظهر المجن لمصر بعد أن استقر له الحكم في تونس وذلك حسب تقديري لسببين  رئيسيين :
أولهما ، أن انقلاب عبد الناصر سنة 1952 ، قد أثار حفيظته ، فهو أشد ما كان يكره الانقلابات العسكرية  وسيكون هو نفسه ضحية  الإزاحة على وقع انقلاب بوليسي ، ولم يكن يعتقد أن الانقلابات   يمكن أن تأتي بخير ، إضافة على ما يبدو من نفوره من مصطفى النحاس باشا رئيس حزب الوفد الذي ترأس عدة حكومات مصرية قبل الثورة .
وثانيهما أن عبد الناصــــــــر ارتكب خطأ جسيما ، باختيار التدخل في الشأن التونسي ، وتأييد صالح بن يوسف على حساب بورقيبة ، وهو أمر استمر حتى بعد اغتيال بن يوسف في سبتمبر 1961 ، ويعتقد بورقيبة أن محاولات اغتياله من طرف بن يوسف ، قد تم التخطيط لها في المخابرات المصرية على يد قائد المخابرات فتحي الذيب ، الذي يقال إنه اعترف بذلك في سياق مذكراته.
من  هنا فإن بورقيبة الذي عاش في مصر لفترة يمكن أن تفوق الفترة التي عاشها في فرنسا في العشرينيات ، أصيب بكره مرضي لعبد الناصر ، وعبره لمصر ، هذا فضلا على أنه اعتبر نفسه دوما أحق بزعامة العرب من الرئيس المصري ، الذي لم يكتف بمنافسته بل بزه وتفوق عليه ، ونال من ثقة العرب شعوبا أكثر منه بكثير حتى هزيمة 1967.
وإذ يعود بورقيبة لقلوب التونسيين منذ وفاته في سنة 2000 ، فإن عبد الناصر قد عاد لقلوب الكثير من  العرب بعد سنوات  من غيبته ، بأكثر  كثيرا بحيث نافسه حيا وميتا.
**
لكن بورقيبة لم يكتف بكراهية متأصلة لعبد الناصر ومصر ، بل أخذ يكيد لدور مصر  وجامعة الدول العربية في  شأن مساندة الكفاح التحريري  التونسي ويقلل من شأن تلك المساندة ، ونجد أثر ذلك في التاريخ الرسمي كما كتبه له محمد الصياح ، أو كما صاغه في محاضراته وخطاباته ، ويؤاخذ بورقيبة مصر على الاستقبال الذي خصوه به في نقطة الحدود عندما وصل من ليبيا ، في رحلته المحفوفة بالمخاطر التي انطلقت على مركب من قرقنة  بترتيب من الحبيب عاشور ، فلم يكن أعوان الحدود  المصريين يعرفونه ، وهو الذي يظن نفسه مشهورا ، وكان لا بد له من ساعات انتظار حتى يسلموه وثائق تسمح له بالدخول بعد العودة للسلطة المركزية في القاهرة ، كما بدا له أن من سبقوه من الزعماء التونسيين للقاهرة ، هاربين من ألمانيا المنهزمة كانوا يعاملون مثله ، بينما هو الزعيم " المجاهد الأكبر " ولم يكن يخطر في باله أن تلك الزعامة المنفردة لم تكن تدخل في أذهان الموظفين المصــريين أو في جامعة الدول العربية ، من هنا حاول أن يوطن ( بتشديد الطاد وكسرها)  التونسين على كره متأصل لمصر ، واحتقار لها ، وعدم اعتبار وزنها الاستراتيجي ، والتاريخ ، والمدد الحداثي الذي قدمته للمنطقة بما فيها تونس.
ولقد ساعدت بورقيبة في ذلك عوامل موضوعية ، وإذ يعرف العرب عموما والتونسيين خصوصا هزائم مصر في حروبها  مع إسرائيل ، فإنهم لا يعرفون أو لم يتسن لهم أن يعرفوا ، أن مصر خاضت 4 حروب كبرى نيابة عن العرب ، تركت فيها كل ريشها ، وفقدت فيها و بها أسبقيتها على بقية العرب ، فعند قيام الثورة المصرية سنة 1952  ، كان الدخل الفردي في مصر وفقا لوثائق بين أيدينا أعلى من الدخل الفردي في المملكة العربية السعودية ، وأن الجنيه المصري كان يساوي 4.8 دولار، وأنه لم تكن هناك بطالة في مصر وأن الصناعة المصرية كانت مزدهرة وتصدر لكل العالم بفائض تجاري ، وفائض في ميزان المدفوعات .
وليس هذا تبرير ولكن المصريين ساندوا السادات في كامب دافيد ، مؤملين أن يعيد ذلك رخاء فقدوه ، وقد ردد رسميون مصريون أمامي عديد المرات ، " بينما كانت تستزف أموالنا في حروب متعددة مساندة لقضايا عربية  ، ويموت خيرة شبابنا ، فإن  عربا آخرين تزداد ثرواتهم ويعيشون في رخاء ، ولا يقدمون لمصر ما تمول به تلك الحروف المكلفة ".
**
 إن 60 سنة من التدمير المنظم لعلاقات كانت حميمة بين تونس ومصر ، لا يمكن أن تعود إلى طبيعتها بين يوم وليلة ، ولكن وجب اليوم أن ندرك ، أن التفاعل التاريخي بين مصر وتونس ، وإزالة الشوائب التي صنعتها سنوات الجفاء الناصري – البورقيبي والارتياب الذي لا مبرر له ، لم تعد تفيد.
وإذ يبقى جانب  كبير وفق تقدير البعض ، صغير وفق تقدير البعض الآخر من التونسيين ، على مؤاخذة شديدة من الحكم المصري  الحالي الانقلابي ، فإن علاقات الدول لا يمكن أن تكون وليدة اللحظة ، فالطبيعي هو عودة انسياب السلع والخدمات والأشخاص  والأفكار والتيارات الفكرية المتجذرة في القدم ، بمقدار طبيعة تاريخية علاقات ، ولكن أيضا المصالح المشركة ، وعلاقات العروبة التي هي أقوى من كل علاقات أخرى على الصعيد الاقليمي والدولي.





الأربعاء، 11 أكتوبر 2017

اقتصاديات : تفسير أسباب الاندفاع للهجرة

اقتصاديات

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
طريقة أخرى لقياس تدهور الاقتصاد
أي مستقبل ينتظر أبناءنا ؟
تونس /الصواب / 08/10/2017
لعل المرء تصيبه الغيرة ، كلما رأى غيره ، وقد تفوق عليه وخاصة إذا تفوق على أبنائه ، الذين يريد لهم أن يكونوا متميزين متفوقين ، ومهما يكن من أمر فإن المرء ينتظر أن يكون أبناؤه أفضل منه وأعلى مرتبة ، وأوسع رزقا وأفضل مقاما ، وحتى إذا كان مرفها فهو يتمنى أن يكونوا أحسن منه حالا .
غير أن تلك هي التمنيات ، وكانت ممكنة بل واردة في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات والتسعينيات ، فلقد عشنا نحن الجيل الذي فاق الستين والسبعين اليوم في وضع أفضل مما كان عليه غالبا آباؤنا وخاصة أجدادنا ، الذين عرفوا أو لم يعرفوا الكهرباء في بيوتهم ، والمياه الجارية في ديارهم والثلاجة والراديو ثم التلفزيون ، وفي الثمانينيات عرف جيلنا أي جيل السن الرابعة اليوم أي ما بعد السبعين الفاكس والكومبيوتر والانترنت ، وعرف السفر والتجوال بين البلدان على الأقل بالنسبة لما يسمى بالطبقة المتوسطة عموما، وخاصة منها الطبقة الوسطى العليا ، وكان يعتبر من يبلغ دخله ما بين ألف و1500 دينار  مرفها ، ويكون الأمر أفضل إذا كان ذلك مضاعفا باشتغال الزوجة وفي موقع كادر سواء في القطاع الخاص أو العام.
كيف انحدرنا ، ولم يعد الأبناء كما يأمل أو آمل الآباء ، أن يكون أبناؤهم أفضل حالا منهم وأكثر رفاهية .
جيل استطاع ولو كان من الإطارات المتوسطة ، أن يبتني لنفسه فيلا ولو صغيرة على قطعة أرض متوسطة بين 400 و500 متر مربع ، تتوفر فيها كل المرافق ، وذلك بالحصول على قروض ميسرة تدفع أقساطها على مدى 15 أو 20 سنة بفوائض متدنية ، لا تفوق 5 وفي أسوإ الأحوال 7 في المائة .
في نفس المواقع سواء الإدارية ، أو في المؤسسات العمومية أو الخاصة  ،هل يستطيع الشاب أو حتى من تجاوز سن الشباب اليوم ، أن يطمح إلى ذلك المستوى الذي عاش فيه صغيرا وشابا يافعا.
لقد صدمت عندما رافقت  زوجين ومعهما طفلاهما ( في الابتدائي ) ، عزما على شراء بيت من صالة وغرفتين في ضاحية متوسطة ( النصر) وفي أعاليها  بعيدا عن العمران ، صدمت لأمرين اثنين :
أولهما ثمن المسكن ، الذي يناهز 300 ألف دينار
وثانيهما ، ما ينبغي لهما أن يدفعاه شهريا كأقساط لسداد القرض ، بعد أن كانا وفرا ادخارا ومساعدة من أبويهما بحوالي 100 ألف دينار ( وذلك ليس متاحا للكل ) ، فالمبلغ  اللازم للسداد يقارب 1800 دينار شهريا  ، وإن كانا كلاهما من الكوادر العليا ، فإنهما قادران على مجابهة ذلك ، ولكن كم منن الناس يقدر فعلا ، إذ لا ينبغي أن لا تتجاوز أقساط السداد 40 في المائة من المرتب الخام.
ورأيت الزوجة تقول لزوجها ، وهي لا تبدو شديدة التحمس فالغرف صغيرة ، لا تحتمل ما اشترياه من أثاث في أيام العز ، بمساعدة الأهل : يعني وداعا للسفر للخارج مرة كل عامين ، ووداعا لتقضية أسبوع في الفنادق مرة صيفا ومرة شتاء، " فالبنك سيلهف ما أمامنا وما وراءنا ، حتى نصل لسن الكهولة ويكبر الأولاد".
رب العائلة المسكين ، كان يدرك كل ذلك ولكن كل شيء يهون في سبيل ، ما يسمونه " قبر الحياة " ، وهو يسعى لإخفاء مشاعره ،  أما الزوجة والأبناء الفرحين بأنهم سينتقلون للبيت الجديد ، غير عابئين ببعده عن المدرسة ، وعن مجالات الترفيه ، وعن مرافق التجارة ، التي كانت تسهل عليهم شراء حاجيات من الرغيف إلى الخضر وكل لوازم العيش.
بدا لي " الكوبل " سعيد بأنه سينتقل للتمليك ، ولكنه حائرا أمام التزامات جديدة ، فهل تكفي سيارة واحدة هي سيارة وظيفية للأب ، بعد ضرورة الاستغناء عن السيارة الثانية الصغيرة ، لأنه لا طاقة لاحتمال نفقاتها المتزايدة ، من بنزين في أوج ارتفاع أسعاره ، وصيانة تقفز أثمانها من شهر إلى آخر ، ومن طابع جبائي وتأمين هذا إذا سلم ربي ، ولم تدخل لمستودع الاصلاح لسبب طارئ من أي نوع.
هذا الحديث عن طبقة متوسطة عليا تنال مرتبات تفوق 3000 أو 3500 دينار، بين زوجين يكدان من الصباح لليل ، فما هو الشأن بطبقة متوسطة أو متوسطة تدحرجت إلى طبقة متوسطة دنيا ، فيما البقية في الحضيض ، تدحرجت إلى درجة الفقر ، فالموظف المحضوض الذي ينال شهريا كمرتب أكثر من ألفي دينار وما أقل عددهم ، وإذا لم يتمتع بمزايا وظيفية أخرى فإن مرتبه الحقيقي لا يكاد يصل إلى 600 أو 700 يورو ، فيما عملتنا التونسية المتدهورة مرتبطة بالعملة الأجنبية، التي يؤثر صعودها أو نزول عملتنا في أسعارنا وخدماتنا   الداخلية ما يزيد الطين بلة .
هذا في مستوى عيش الأجيال الحالية التي تعيش كابوسا حقيقيا ، ولكن ماذا سيكون مصير كل هؤلاء الأفواج التي نراها أمام المدارس بمئات الآلاف ، الأكيد أنها ستعيش وضعا أسوأ من وضع شبابنا العامل اليوم ، وكهولنا الذين اجتازوا العقبة.
لذلك لا يمكن للمرء إلا أن يتفهم اندفاع الشباب للهجرة للخارج ، فالإحساس بانعدام مستقبل لائق ، لا يمكن إلا أن يشعر بعدم الاطمئنان ، وبات الكبار هم الذين يدفعون الأبناء للبحث عن فرص في الخارج ، وهذا ما يفسر أن 850 طبيبا متخصصا هاجروا إلى فرنسا وألمانيا خلال بضعة أشهر، ومثلهم أو أكثر من المهندسين الحائزين على شهادات مرموقة ، أما إرساليات بلدنا إلى أوروبا وأمريكا من الطلبة المتفوقين ، فإنها لا تعني من المنطلق إلا هجرة مؤكدة ، فلا أحد منهم سيعود.
وحتى أبناء "الذوات " من أصحاب المشاريع والقادرين على الاستثمار ، بما يتوفر لآبائهم ، فهم أيضا محجمون على العودة للاستثمار في مشاريع آبائهم ما يحقق استمراريتها  ، أو الاستثمار في مشاريع جديدة ، ما دامت بلادنا على هذه الحال من الاضطرابات الاجتماعية والمطلبية المنفلتة والإضرابات والإعتصامات " القانونية " والفوضوية .