Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأحد، 29 يوليو 2018

بكل هدوء : الباجي الخاسر الأكبر

بكل هدوء

يكتبه عبد اللطيف الفراتي
الباجي قائد السبسي
في صف الخاسرين
تونس/ الصواب/ 29/07/2018
كان بورقيبة طيلة حياته السياسية يربأ بنفسه أن يكون في صف الخاسرين ، ولعل أهم إعلان عن ذلك جاء في الرسالة الموجهة من قلعة سان نيكولا في مرسيليا حيث كان معتقلا إلى الدكتور الحبيب ثامر ، داعيا رفاقه الباقين بتونس ، إلى عدم التورط مع  المحور أي ألمانيا وإيطاليا واليابان ، وكان في تقديره أن المحور سيخسر الحرب العالمية الثانية ، وبالتالي فإن حزب الدستور لا ينبغي له أن يكون في صف الخاسرين ، بل في صف الفائزين حتى ينال جائزة مع من يربحون المواجهة الكبرى. وكان تقديره أن الجائزة تتمثل في الاستقلال وفقا للنقط السبعة الواردة في إعلان الرئيس الأمريكي ولسن.
ويبدو أن بورقيبة الذي قرأ جيدا كتاب الأمير لـ "ماكيافللي "، استوعب منه الدرس.
وعلى العكس فإن الباجي قائد السبسي ، الذي لا ينقصه الذكاء بل له منه قسط جد وافر ، ولا الدهاء الذي يعتبر سيدا فيه بلا نظير في الوقت الحاضر ، لم يستفد من دروس بورقيبة الذي اقترب منه كثيرا وتعلم ، فاندفع كالثور الهائج إلى موقع الخاسرين ، بالرغم من أن كل ذي تفكير سياسي سليم كان يعرف مقدما إلى أين تتجه الريح . وأن هشام الفراتي سيكون وزيرا للداخلية بإرادة الباجي وابنه أو بدون إرادتهما.
ما سبب سقطة الباجي قائد السبسي المدوية ، وهو على ما هو عليه من ذكاء ودهاء، وهو ما هو عليه من حساب سياسي  لا يخطئ عادة.؟
إنه ونقولها بدون مواربة ، خلط السياسة بالعائلة أو بالشأن العائلي ، وانتصاره لابنه ولعائلته (ويقال لابنه ولزوجته وزوجة ابنه) ، وإن كنا نحاول دوما تجنب الحديث عن الحياة الخاصة ، فضرر هذا الخلط  من طرف رئيس الجمهورية ، تجاوز عائلته ،وتجاوز الحزب الذي أسسه ونجح بواسطته ،  ضرر بلغ إلى تهديد توازنات  الدولة ومستقبل نمطها المجتمعي، الذي قامت حركة صيف 2013 بوضعه في مكانه الصحيح.
جاء الابن المدلل حافظ قائد السبسي ، ولم يكن لا في العير ولا في النفير ، ليفرض نفسه بقوة الدولة  لا بقوة إشعاع أو كاريزما ذاتية ولا خصال ظاهرة ولا خفية ، كما في الديكتاتوريات ، على حزب كان ناجحا بدليل نتائج انتخابات 2014 الرئاسية والتشريعية ، في محاولة توريث ممجوجة ، لعلها كانت تستهدف جلوسه في مقعد رئاسة الجمهورية خلفا لأبيه ، فتشظى الحزب وانقسم على نفسه  إلى شقوق ، وكان صرحا فهوى .
منذ تولي حافظ شهر " حفوظة " قيادة حزب أبيه ، أو هكذا يظن هو وأبوه ، والحزب الأول ، يتدحرج انقساما ونتائج وقلة مصداقية ، فمن الموقع الأول وبالتدريج بات في الموقع الثالث ، خسر المواقع ، وكان ذلك متوقعا ، فعندما حاول أبوه ترشيحه على رأس واحدة من القائمتين الاثنتين  في العاصمة تونس ، وكان الحزب في أوج قوته ، قامت ضجة اضطر معها إلى الانسحاب ، فقد كان معلوما من هو وما هي قدراته ، وضعف إشعاعه إن كان له إشعاع البتة.
ورغم ذلك فقد تم الإعداد بدقة لفرضه على زعامة الحزب الذي أسسه والده هو مجموعة من كبار السياسيين في البلاد انفرط عقدهم  ،  وذلك بقوة الدولة ، ولعب خصمه العنيد اليوم ، دور شاهد الزور في فترة ما  ، فأدى به يوسف الشاهد لزعامة حزب لا يستحقها وليس له قدرة عليها ، انتهت به إلى أمرين اثنين :
1/ تحقيق نجاح مشهود في تحطيم آلة حزبية كانت أمل القوى الحداثية في البلاد ، في مواجهة ما يتهددها من احتمالات الردة ، رغم وضوح معالم  دستور  يبدو قابلا لكل التأويلات.
ويوسف الشاهد العراب المغدور الذي نصب حافظ قائد السبسي على رأس الحزب رغم إرادة مؤسسيه ومناضليه ، يجني اليوم نتيجة الدور السيء الذي لعبه ، في عداوة من نصبه على قيادة الحزب ، ويصح عليه المثل العربي الشهير " جزاء سنمار ".
2/ فشل ذريع لا في قيادة الحزب ، فهل بقي حزب ، ولكن في كل الاختبارات الانتخابية التي دخلها ، وآخرها الانتخابات البلدية بدورتيها بالاقتراع العام ، وفي اختيار رؤساء البلديات .
وإذ كان الهدف من تفريغ مقعد ألمانيا في البرلمان ، وتعيين صاحبه ككاتب دولة من أجل ترشيح ابن أبيه للمقعد ، وهو ما تم رفضه بالمطلق من مناضلي الحزب في ألمانيا ، بحيث تم سحب الترشح ، وتمت خسارة المقعد ، الذي كان يؤمل  الأنصار من ىبني وي وي ، أن يذهب لابن أبيه بما يمكنه في أكتوبر المقبل ، من الترشح  ونيل رئاسة المجلس النيابي ، ويكون لنا قائدان للسبسي أحدهما في قصر قرطاج ، والثاني في قصر باردو.
وفي كل الدول الديمقراطية أو حتى التي تدعي ذلك ، فإن خسارة استشارة انتخابية واحدة ، تؤدي بالتبعية إلى استقالة بدون رجعة لمن يتزعم الحزب ، إلا عندنا في تونس ، حيث تسجل خسارة بعد خسارة ، والرجل جاثم على المنصب بقوة الدولة لا لإشعاعه .
**
السؤال الآن هل استفاد رئيس الدولة من الدرس ، من الهزيمة المدوية ، المتمثلة في تحديه وتحدي ابنه ، ومن يسير في ركابه وركاب ابنه ، ومنح الثقة لوزير داخلية جديد ، رغم أنف الباجي وابنه ، وإن التحقا هما والحزب في آخر لحظة بأنصار الشاهد ، في حركة تنقصها الحبكة السياسية وحتى الحد الأدنى من الكرامة الذاتية.
في مثل هذه الظروف السيئة المنتظر ، ولكن غير المتوقع ، أن يستعيد الباجي الحزب الذي صنع انتصاره ، بتخليصه من الشوائب التي حفت به ، وفي مقدمتها ، شكر الابن ، أي تسريحه جزاء له على خدماته ، والتخلص كذلك من المرتزقة الذين أحاطوا به ،  واسترجاع القوى الحقيقية التي صنعت انتصار 2014 ، بعد أن تم تهميشها ، فلم تجد لنفسها حظا في أحزاب عدة أنشأتها ولم يحالفها النجاح.
ولكن هل يكون الباجي من الشجاعة إزاء نفسه وإزاء ابنه ، وإزاء عائلته ، للإقدام على الخطوات الشجاعة التي قد تكون مؤلمة شخصيا ، ولكن ضرورية لتوازنات البلاد ولمواصلة حركة صائفة 2013 ، التي تتجاوز الباجي وحزبه لتشمل كل القوى الحداثية ، والتي كانت وراء المنعرج الايجابي الذي عرفته تونس.




الأربعاء، 18 يوليو 2018

الموقف السياسي : سفينة تونس تغرق ... تغرق ...تغرق

الموقف السياسي

يكتبه عبد اللطيف الفراتي
في غياب طبقة سياسية واعية
لك الله يا تونس
** سفينة تغرق .. تغرق .. تغرق ؟؟؟
تونس / الصواب / 16/07/2018
ما عسى المرء أن يقول أمام سوء نية طبقة سياسية لا تهمها مصلحة البلاد ، لا تتمتع بأدنى قدر من المسؤولية ، وهمها خصومة سياسية تبرز فقرها الذهني والتفكيري .
ترددت أياما لأتشجع وآخذ قلمي بين أصابعي ، أو على الأصح لوحة مفاتيح الكومبيوتر ، وشعور طاغ لدي بالغثيان ، باتت شاشات التلفزيون ساحة لنقاش بلا مستوى بين " كبار الدولة " ، يوسف الشاهد ، الذي أركبوه في رئاسة الحكومة  وهو نكرة ، جزاء له على ما قام به من دور لتتويج حافظ قائد السبسي الابن المدلل للرئيس السبسي  في موقع لم يخلق له ولا له مؤهلاته ،  في موقع ناله بالانقلاب على القيادة الشرعية لنداء تونس ،  لا بقوة ذاتية أو كاريزما ، وبقوة الدولة التي يرأسها أبوه ، كما في الديكتاتوريات حيث حزب الدولة هو دولة الحزب ، والذي استعمل شاشة القطاع العام  ( الشاهد) ليقول حقائق عن حليفه بالأمس ، خصمه اليوم ، ويحمله مسؤولية كل الفشل في الدولة وحزب الدولة ، غير أن هذا الهجوم كان على ابن أبيه نجل  رئيس الدولة ، تأخر رد فعل رئيس الدولة الباجي قائد السبسي ولكن في " نسمة " القناة التي جندت نفسها لخدمة "حافظ"  ، وجاء الأب ليدافع عن الابن ،  الأحد الماضي في حوار لعله الأسوأ مهنيا مما رأيت في حياة صحفية طويلة ، وعند إزالة المساحيق والمقدمات والمزينات ، فإن ما يستنتجه المرء ، أن رئيس الدولة تسنده عائلته ، جاء فقط للدفاع عن ابنه الذي حول نداء تونس من صرح هوى للقاع ، وبات مرادفا للفشل ، جاء لينتصر لابنه أساسا مما بدا وأن الدولة هي مرادف لعائلة السبسي ، وأن الأمر في تونس أصبح شديد الشبه بالأمر في كوريا الشمالية ، توريث دفع البلاد إلى الهاوية.
من خلال الكلام المنمق يقف المرء عند أمرين اثنين :
-        إرادة واضحة في تثبيت الإبن على رأس الحزب
-        دعوة رئيس الحكومة الذي نصب غصبا الإبن على رأس الحزب بدون وجه حق لأحد أمرين أيضا إما الاستقالة أو عرض نفسه على ثقة البرلمان.
وبذكائه الخارق وقدرته الكبيرة على المناورة ، فإن رئيس الجمهورية قادر بهذه الصورة أو يظن نفسه قادرا ، على الوصول إلى غرضه أي إسقاط الشاهد بالضربة القاضية ، وغالبا فإنه يستطيع ذلك ، ولكنه أيضا يدخل رهانا غير مأمون العواقب .
فلو رفض الشاهد وسيرفض  قطعا الاستقالة ، ولم تتوفر نسبة من التصويت في البرلمان لحجب الثقة عن الرجل ، فسيجد السبسي  الأب نفسه في موقف حرج ، يبقى له أن يحل البرلمان ويدعو لانتخابات تشريعية جديدة قبل الأوان ،  وهو حل لا يريده ، فنتائج الانتخابات البلدية التي قاد ابنه حزبه فيها إلى تقهقر غير مسبوق ، تبدو وكأنها مذاق أولي لهزيمة منكرة في أي انتخابات مقبلة على مستقبل منظور ، فلا حزبه أي نداء تونس مستعد لها ، ولا ماكينته الانتخابية التي أنجحته فيها ، أي رضا بالحاج ومحسن مرزوق يمكن أن يدفعاه للنجاح .
ولذلك فإن الباجي قائد السبسي يتهيب دخول تجربة انتخابية ليس واثقا من نتيجتها بل لعله واثق من نتيجتها العكسية ، وبالتالي يبقى أمامه أحد حلين ، إما أن يستقيل الشاهد الذي اعتبر في وقت من الأوقات ابنه الثاني ، ولا يبدو مطلقا أنه ينوي الاستقالة ، وإما أن يصوت البرلمان وهذه أيضا غير مؤكدة ، ما دامت النهضة تطلب إبقاء الشاهد الذي باتت الجهات البرلمانية المؤيدة له تتسع رقعتها ، ولذلك تبدو المغامرة غير سليمة العواقب ، واستنتاجا فإن التهديد بنهاية الوفاق بين النهضة والنداء ، ليست سوى ابتزازا للنهضة ، وليست  النهضة في وارد الاستجابة إليه ، وهي في كل الأحوال لا تستعجل الأمور ، والقناعة لديها أن الانتخابات المقبلة في ظل تمزق نداء تونس أربا  إربا ، ستمكنها من أغلبية ولو نسبية كبيرة ، تؤهلها لتشكيل حكومة تكون لها فيها اليد الطولى ،  وإن اضطرت إلى توافق مثلما حصل بعد انتخابات 2011 بزعامة النهضة ، أو 2014 بزعامة نداء تونس.
لكن هل في الوارد أن تتحدى النهضة رئيس الجمهورية للآخر ، فلا تلجأ للتصويت ضد الشاهد ، كل شيء وارد ، وللنهضة حساباتها على المدى القصير ، ولكن خاصة على المدى المتوسط والطويل.
الشاهد  نفسه من جهته يجلس على كرسي هزاز ، فإذا اشتد اهتزازه يخشى عليه من أن يقذفه ، فالشاهد عندما أقدم على إقالة وزير الداخلية لطفي ابراهم،  كان يعرف أنه لا يستطيع تعيين وزير مكانه يحتاج إلى ضمان أغلبية في البرلمان لتعيين خلف له ، وهذه الأغلبية ( 109 أصوات ) غير مضمونة ، كما إن توفر 109 أصوات لسحب الثقة منه لا يضمنها الباجي قائد السبسي ، خصوصا في ظل انشقاق جديد لمن أسموا أنفسهم اللجنة السياسية بزعامة المقرب بين المقربين لحافظ قائد السبسي ، سفيان طوبال الذي يبدو أنه قلب ظهر المجن لابن الرئيس فغادر ومجموعة مقربة منه السفينة قبل أن تغرق.
من هنا فإن التوازن غير المستقر كما يقول رجال الرياضيات قد حصل ، فأنا لا أستطيع لك شيئا وأنت بالمقابل لا تستطيع لي شيئا، ولكن وإذ تبدو المعادلة بلا حل فهناك أمران اثنان يمكن أن يقلبا كل الاحتمالات :
أولهما تسجيل انسحابات بالجملة من قبل الوزراء الندائيين   أو حتى غير الندائيين  ، فلا يمكن للشاهد أن يحكم بوزارة منقوصة ، فيضطره الأمر  للجوء للبرلمان ، لطلب التصويت على الوزراء الجدد ، للتعويض فلا يجد الأغلبية المطلوبة.
وثانيهما أن توازن "الرعب " القائم الآن يجعل البلاد غير محكومة وهي تعاني ما تعانيه من صعوبة ، فيزداد الأمر سوء
خصومة الشاهدـ النهضة ، السبسيان ، ذات أثر بالغ على الحياة السياسية والاقتصادية الاجتماعية ، فالدواليب كلها متوقفة ، والوزراء في حيرة من أمرهم ، هل يبقون أو يصرفون ، وهذا الأمر هو الأكثر إضرارا بسير البلاد ، وتنميتها ومشاريعها، والخصومات الشخصية التي تبعث على المسكنة ، و الانتشار الواسع لضعف روح المسؤولية  في طبقة سياسية لا تتمتع بأي روح وطنية ، كلها عناصر دافعة بالبلد ومستقبلها نحو هاوية سحيقة ، واحتمالات كبيرة من قلة الاستقرار والاهتزاز.
كل ذلك ليس مهما في نظر طبقة سياسية رديئة ، كل يحاول إنقاذ سفينته من الغرق ، ولكن لا يهمه أن تغرق سفينة تونس.


الجمعة، 13 يوليو 2018

بكل هدوء : محاولة للفهم

بكل هدوء
يكتبه عبد اللطيف الفراتي                                            
      حتى نفهم وحتى نستوعب الدرس
تونس / الصواب/09/07/2018
عندما سمعت بخبر العملية الارهابية التي ارتكبت يوم الأحد وخسائرها البشرية الثقيلة ، أحسست بأن خنجرا حادا استقر في قلبي ، فقد كنت أحد الذين اغتروا بالدعاية الحكومية وشركائها في الحكم بأنه تم القضاء على الارهاب في تونس ، أو وعلى الأكثر إنه لم يعد قادرا على الضرب الموجع ، شعرت بالغضب يجتاحني وبدت لي السلطة القائمة بكل مكوناتها وخاصة من نداء ونهضة ، إما أنهم غير قادرين على إيقاف التيار أو غير راغبين .
صدفة يوم الاثنين  و كنت في طريقي إلى وسط العاصمة توقفت حركة المرور ، تاركة المجال لسيارات الحماية المدنية حاملة الأعلام خفاقة ، 6 في الجملة ، وحزرت أن توابيت الشهداء على ظهرها في اتجاه ثكنة الحرس الوطني في العوينة ، اختلط في ذهني كل شيء وتبعثرت أفكاري ، تثلجت أوصالي ، وذرفت وأنا عصي الدمع ،  دموعا حرى على هؤلاء الشباب الذين ذهبوا ضحية الواجب ، وأيضا ضحية عجز فاضح ،  ضحية الارهاب الأعمى الذي رعته جهات تونسية ولكن أيضا مولته جهات أجنبية معلومة ،  لا لذنب اقترفوه ، وإنما انتقاما من بلد بأسره  ، شعبه مسلم ، والذين قاموا بالجريمة يعتبرون أنفسهم مسلمين.
**
حتى نفهم ونضع الأمور في نصابها وبدون تشنج لا بد من استرجاع بعض  الشيء  فترة قريبة اختلطت فيها المفاهيم  ، أقول هذا وأنا  أحد الذين دافعوا عن الاسلاميين  وحقهم  في التواجد على الساحة ، وحقهم في أن لا يكونوا عرضة للاضطهاد ، مع اختلاف كبير معهم  بشأن نمط المجتمع الذي يبشرون به.
جاءت الثورة، ودفعت صناديق الانتخاب حركة النهضة إلى الصدارة، مع شركاء لم يكونوا في حجم لجم التجاوزات أو الحد منها.
ثلاثة أو أربعة أمور انساقت لها النهضة ولم تقدر تأثيراتها اللاحقة ،بوصفها تعتبر نفسها حزبا مدنيا بمرجعية إسلامية ، إضافة إلى أنه لا عهد لها بالحكم لا هي ولا شركاؤها :
-        أولها وأخطرها الاستعاضة عن مشائخ التراب ( العمد) بطاقم جديد لا يعرف الأحياء ولا ساكنيها ، ولا يعرف نبض الحياة ، وبالتالي غير قادر على ملاحقة ما يجري في الشارع ، وإني لأذكر في مرة  قبل الثورة كنت أحتاج فيها إلى وثيقة ، سألت  عن موقع العمدة ، وجدت رجلا لم تسبق لي معرفة به ولم أره من قبل ، وما إن دخلت حتى بادرني بالسلام ،  وسماني بالاسم وكأننا معرفة قديمة ، العمد الجدد لم يكونوا على إلمام بالناس ولذلك مر بين خيوط الشبكة الكثير ممن تبين لاحقا أنهم من الإرهابيين، وكان الحكم الجديد في 2012 يعتقد أن العمد هم أتباع النظام "البائد " ولذلك ينبغي التخلص منهم ، وبالتالي التخلص في نفس الوقت من خبرتهم ومعرفتهم بكل ما يدور ويطرأ في "حومتهم "، وللمقارنة فإن بورقيبة وأعضاده عندما استلموا الحكم ثبتوا من وجدوا في الأمن وفي سلك مشائخ التراب واستفادوا من تجربتهم ، وبعضهم ممن عذبوا أنصار بورقيبة زمن الكفاح.
-        ثانيها إدخال بلبلة كبيرة في سلك الأمن بدعوى تنظيفه ، وحل ما أسمي آنذاك بالبوليس السياسي ، أي الاستخبارات ، عين الدولة  الساهرة (  أي دولة في العالم ) ، بدعوى  التورط في خدمة النظام المنهار ، و للحقيقة والواقع أن ذلك بدأ منذ 2011  ، بوزير داخلية غير واع بما يفعل ، وبإشارة من سيدة للأسف أضرت بالبلاد أكثر مما نفعتها ، و سيقاسي  الأمن طويلا مما أصابه من اضطراب ، وكان ذلك حافزا على دخول الارهاب للبلاد.
-        ثالثها ، ما حصل على يدي وزير الفلاحة النهضاوي محمد بن سالم من إقالة كل حراس الغابات  les gardes champêtres  ، العين الساهرة واليقظة في الغابات والجبال ، وتعويضهم بمن اعتبروا من الاسلاميين ، ممن سنجد بعضهم لاحقا في صفوف الارهابيين .
-        رابعها ما دخل من مال قطري   بالخصوص ، لبعض الجمعيات المشبوهة ، لا يعرف أحد لليوم كيف وأين تم توظيفه .
-        الدور الذي لعبه من يسمون نفسهم بالدعاة  تونسيين وأجانب ، فاستقبلوا بصورة رسمية في المحافل وحتى في القصر الرئاسي.
**
عرفت البلاد عمليات إرهابية فظيعة وكبيرة منذ 2012 ،  ولم يشفع للحاكمين وقتها أن يكونوا من حركة النهضة ، فطال الارهاب الجبال والمدن ، وحصلت لأول مرة منذ الاستقلال ، اغتيالات لم يقع لليوم الكشف عن الذين كانوا وراءها لينالوا جزاءهم ، وتورطت النهضة في التحالف مع جهات إرهابية معروفة ، لعل أبرزها  الليبي الإخواني عبد الحكيم بالحاج الذي كان زمنها يتردد على تونس باستمرار ، وتورطت الدولة التونسية زمن النهضة وبعد زمن النهضة في التعامل مع جهات إرهابية ليبية معترفة بها كممثلة ليبيا وهي مجرد حالة انقلابية على انتخابات نزيهة وشفافة دفعت للصدارة جهات مناوئة ، فتم استبعادها وهي تعود اليوم شيئا فشيئا للصدارة، ليبيا الإ خوان هي التي صدرت لنا الإرهاب  ، وفي الاعتقاد أنها ما زالت تصدر، وما حماية "أبو عياض " وما انطلاق عملية بن قردان المخططة للسيطرة على الجنوب التونسي ، وإعلان الإمارة الإسلامية  منه  والانطلاق منها لغزوة تونس ، إلا دلائل  على تورط الإخوان المسلمين في ليبيا ، في محاولة هز الاستقرار في تونس عبر كل الوسائل المتاحة بما فيها إذكاء حالة الإرهاب.
للواقع تم كسر شوكة الارهاب ولم يعد قادرا على القيام وفق التقديرات بأي عملية ذات بال حتى جاءت عملية عين سلطان الأخيرة ،  تم كسر شوكة الإرهاب وذلك منذ أن جاء حكم التوافق الندائي – النهضاوي ، أو على الأصح التوافق بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي ، ولعل ذلك هو الانجاز الوحيد منذ الثورة ، فيما عدا  دمقرطة البلاد التونسية ، الإنجاز الآخر الفعلي.
**
لكن الملاحظ بعد عملية عين سلطان  ،أن الإدانة من طرف أنصار النهضة عبر الفايس بوك على الأقل ، وفي مستوى أصدقائي الافتراضيين ، لم يكن بالقدر الكافي من القوة ، وإذ يبلغ عدد أصدقائي الافتراضيين على الفايس بوك حوالي 5 آلاف ، حرصت على أن يكون نصفهم من الاسلاميين ، ممن أتفاعل معهم تأييدا أو تناقضا ، فقد لاحظت غيابا شبه كامل للتنديد بالعملية الأخيرة من طرف الاغلبية  من هؤلاء الأصدقاء الافتراضيين ، هذا بقطع النظر عن القيادة ، وهو ما يطرح دوما تساؤلا حائرا حول مدى التوافق بين القيادة والقواعد.
وبصورة موضوعية من وجهة نظري ، فإن الشوط الذي قطعه الإسلاميون منذ السبعينيات طويل جدا ، وكبير جدا ، وبالعودة لأدبيات سنوات السبعين ثم أدبيات الإسلاميين في الثمانينيات وما بعدها  وحتى بعد الثورة ، يبرز الفارق الكبير  الملاحظ منذ المؤتمر الأخير للنهضة ،  للتأقلم مع طبيعة الدولة المدنية ، توافقا مع ما جاء به دستور 2014 ، ولو بعد إلحاح  على طبيعة تناقضاته الداخلية.
بعد هذا وبعد الجهد المبذول خاصة من قبل الاستاذ راشد الغنوشي  والتطور في المسار ( بسبب ما حدث في مصر بعد التمرد ، أو بسبب أحداث صائفة 2013 في باردو أو بدون ذلك )، ليس فقط على الصعيد النظري ، ولكن أيضا وخاصة على الصعيد العملي ، فهل يمكن اعتبار حركة النهضة حزبا مدنيا ، محك التجربة وحده هو الذي يمكن أن يؤكد  أو يفند ذلك ، وعندما تصبح النهضة الحزب الأول المدعو لتشكيل الحكومة  ( ربما بعد عام ونيف بالنسق الحالي لانهيار نداء تونس أو نداء حافظ قائد السبسي )، سيتبين للناس ما إذا كانت الحركة تحولت إلى ما يشبه الأحزاب المسيحية الديمقراطية في فصل الدين عن السياسة ، لا فقط فصل الدعوي عن السياسي ، ويبقى الشك قائما ما دامت النهضة لم تعلن انفصالها البائن عن تنظيم الإخوان المسلمين ، وما دام " شيخها " يحتل مركزا مرموقا في المنظمة العالمية لعلماء المسلمين ، التي يرأسها يوسف القرضاوي.
ومتى أمنت النهضة كغيرها من الأحزاب العقائدية يمينا أو يسارا : "لا ولاء إلا لتونس" ، تونس الوسطية ، تونس نهضة المشير أحمد باي ، تونس خير الدين ، تونس قبادو ،  تونس الثعالبي ، تونس الحداد ،  تونس الطاهر والفاضل بن عاشور، تونس بورقيبة.

                                                 

الأحد، 8 يوليو 2018

بكل هدوء : سكيزوفرينيا على نطاق واسع


بكل هدوء
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
الانتخابات البلدية
وتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة
تونس / الصواب /5/7/2018
 شهدت البلاد في الفترة الأخيرة حدثين على غاية من الأهمية ، هما الانتخابات البلدية ، وذيولها المتمثلة في ( ما أسمي بدورة ثانية متمثلة في انتخاب رؤساء البلديات)، وصدور تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة ، أو ما سمي بتقرير لجنة بشرى بن الحاج حميدة ، الذي أسال وما يزال يسيل الكثير من الحبر.
ومن موقعي امتنعت عن الكتابة مؤخرا في الأمرين الاثنين ، بل أجلت الكتابة في أشياء أخرى تجميعا للمعطيات والمعلومات بشأن الأمرين ، والتركيز للخروج باستنتاجات بعيدا عن العاطفة أو التوجهات الشخصية ، فالتقرير مثلا قرأته قراءة سريعا استغرقت مني جانبا من ليلة كاملة ، ثم قرأته قراءة متأنية مع وضع ملاحظاتي ، أما الانتخابات البلدية فقد تابعتها في مستوى نتائجها الأولية ثم بتفصيل ممل ـ، في مآلاتها كمجالس وتركيبتها واستنتاجاتي .، وإن كان تقرير اللجنة  يحتاج مني إلى مقال متفرد ، فإني ما زلت بين تناقضات الدستور ، الذي يبقى بالنسبة لي المرجع الوحيد المعتمد بكل ما فيه من تناقض أحيانا صارخ .
وقد انتهيت إلى ثلاثة عناصر أعتقد أنها تلخص  ما بدا لي بارزا من الحدثين:
أولها أن المسار الديمقراطي  بأحد أسسه الهامة ، أي الانتخابات سائر على طريق صحيحة حتى الآن ، والمرجو أن لا يدير الانتصار رؤوس المنتصرين ، فيتواضعوا لانتصارهم ولا يحاولوا سحق منافسيهم المنهزمين ، ولا بد من الاستنتاج أن هناك وبوضوح منتصر ومنهزم ، وأنه مطلوب من كل منهما أن يعتبر بالدرس ، باتخاذ القرارات  التي قد تكون بل لا بد أن تكون موجعة ،على الأقل على المستوى الفردي.
ثانيهما ما يلاحظ من أن المجتمع التونسي يمر بفترة سكيزوفرينيا  سواء على المستوى الفردي أو الجماعي ، وأنه ممزق داخل الكثير من الأفراد في أنفسهم وداخل أنفسهم ، وكذلك مجتمعيا  بما يتنازعه  من مواقف أحيانا متناقضة .
ولعل المرجع الوحيد الذي ينبغي اعتماده من وجهة نظري لا يوفر الوقف الحاسم.
ثالثها عدم القدرة على التواضع من جهة ، وعدم القدرة على تمثل النتائج والتعامل بالانطلاق منها ،  في تحليل موضوعي والوصول إلى الاستنتاجات الواجبة من قبل الذين يقفون في مواقع الصدارة .
**
هل يمكن القول اليوم أن بلادنا محصنة من ردة على الديمقراطية ؟
 بعد رابع انتخابات جرت عموما وفقا للمعايير الدولية للانتخابات  منذ "ثورة " 2011؟
الواضح أن المسار الديمقراطي قد ترسخ في تونس وامتدت جذوره عميقة ، لكن قصر عمره ، إذ لم يبلغ بعد حتى العقد من الزمن ، فاحتمالات الانحراف تبقى واردة ، ونتائج الانتخابات البلدية ليس مما يسهل قراءة المستقبل ، فهل يؤدي الصندوق اليوم إلى الصندوق بعد 5 سنوات؟.
لا بد من القول أن صحافة غير مسؤولة ، وانتصار انتخابي عريض يدفع للزهو بالنفس ، وطبقة سياسية غير منغرسة فيها مبادئ الصالح العام ، بل المصالح الضيقة سياسية وغير سياسية تتهدد المسار.
والانتخابات الشفافة النزيهة هي جزء هام من الممارسة الديمقراطية ، ولكنها غير كافية وحدها ، إذ لا بد لها من روافد تتمثل في مناخ سياسي سليم ، وحجم من الرضا الشعبي معقول ، وصحافة تشعر بمسؤوليتها وتكون مستقلة عن نفوذ المال والتسلط ، فالانتخابات الأخيرة في تركيا التي يشيد بها البعض منا كمظهر من مظاهر الديمقراطية ، تبقى من وجهة نظري أبعد ما تكون عن انتخابات نزيهة وشفافة ، ما دام 50 ألفا من المواطنين في السجون ( بتهمة المشاركة في مؤامرة ضد الحكم ، فمن سمع بمؤامرة في التاريخ شارك فيها بصورة أو بأخرى 50 ألفا) و150 ألف مطرودين من الوظيفة العمومية تقول جهات حقوقية دولية لأن لهم شبهة علمانية في دولة تقول عن نفسها أنها لائكية ، وحوالي 2000 صحفي في السجون ، عدا تعطيل مائة صحيفة وعدد كبير من القنوات والإذاعات ووكالات الأنباء  ، ومن هو البلد الديمقراطي الذي يأتي ترتيبا في الموقع 160 من 180 دولة ، مصنفة في الترتيب الدولي لاحترام  الحريات الصحفية  غير تركيا ، إذن وعموما فإن تونس تعتبر ذات مناخ ديمقراطي ، يجعل انتخاباتها لا غبار عليها من حيث المحيط السياسي.
ولعل الوضع في تركيا اليوم أشبه في انتخاباتها ،  بالوضع كما كان عليه قبل "الثورة "، من حيث عدم توفر مناخ سليم إضافة على ما كان عليه الأمر من تزييف الانتخابات في تونس بشكل فاضح ، ومتسم بغباء شديد ، بنتائج تقارب المائة في المائة ، وهو ما تجنبه الرئيس المجدد له إردوغان.
**
الانتخابات البلدية الأخيرة أظهرت أن هناك منتصر بشكل واضح ، ومنهزم بشكل لا غبار عليه.
المنتصر هو حزب حركة النهضة ،والمنهزم هو نداء تونس ، وإذا كان بين الاثنين مستقلين وأحزاب صغيرة حصلت على الفتات ، فإنه لا يفوت المرء ، أن هزيمة ثقيلة حاقت بحزب نداء تونس ، أولا على صعيد التصويت العام وثانيا على حيازة رئاسة البلديات ، فقد انحسر تأثير هذا الحزب الذي يعلن عن نفسه أنه حداثي ، وبات في القاع ، وقد خسر مواقع هامة لم يكن يتوقع له خسارتها وبهذا الحجم ،  وأصاب انصاره بخيبة أمل مرة لهذا الانهيار المدوي.
ولعل خسارة حركة  نداء تونس لم تتمثل فقط في نسبة التصويت بعد أن جاءت الثالثة ترتيبا ، بل في خروجها من جملة بلديات كبيرة ، تمثل في الذهن العام الأكثر حضورا في العقلية ، فبين تونس العاصمة وصفاقس والقيروان العواصم الثلاث وخسارتها ، خسر نداء تونس رمزية المسك بالمدن الأكبر والأكثر تأثيرا لأسباب مختلفة ، ويسود الاعتقاد جازما  بأن المدن الثلاث وربما غيرها ، أفلتت للنهضة لا فقط من جهة عدد المقاعد العائدة للحزب ذي المرجعية الاسلامية في كل منها ، ولكن بالخصوص بسبب المراهقة السياسية لحزب بات شبحا لنفسه ، بسبب قيادة فاشلة غير ديمقراطية عاجزة ليس فقط على الربح في المطلق ، بل عاجزة حتى على المناورة السياسية وكسب الأنصار بين المنتخبين من المستشارين ، ومعرفة من أين تؤكل الكتف ، وليس غريبا باعتبار طبيعة القيادة الفاشلة لنداء تونس ، أن يصوت مستشارون حداثيون لفائدة مرشحي النهضة أو يمتنعون عن التصويت ، الموازي للتصويت على مرشحي النهضة ـ، وهذا يطرح سؤالا أين ذهبت القيادات المقتدرة التي قادت الحزب إلى انتصار 2014 ، ولماذا غادرته  وتركت حزب الباجي قائد السبسي يتيما على مائدة اللئام .
**
فشل يلاحقه فشل ، بسبب إرادة التوريث ، ووضع قوى تتسم بقلة الدراية  السياسية في قمة الحزب ، لا تتمتع بأي مصداقية ، زيادة  على انعدام الكاريزما عند قيادتها الأعلى والتخبط وغياب البصر والبصيرة  ،  فضلا عن أن  أقدرتها على القيادة في حكم المنعدمة ، تماما إضافة إلى أنها موجودة في قمة الحزب بصورة انقلابية بقوة الدولة لا بقوة إقناعها الذاتية.
وإذ لا بد من سوق هذه الملاحظات عن طبيعة الانتخابات الأخيرة ، سواء في دورتها الأولى المتمثلة في الاقتراع العام ، أو دورتها الثانية المتمثلة  في انتخاب رؤساء البلديات ، وهو ما حقق اكتساحا للنهضة أفقد كل التوازنات معناها ، في بلد ما زالت ممارسته الديمقراطية هشة ، فإن تلك النتائج أولا وثانيا ، تطرح تساؤلا عما إذا لم يكن هذا الانتصار المدوي للنهضة مدعاة بل ومبررا بالخصوص لنوع من الغرور في أدنى الحالات ، فهو مسكر حلال لأي طرف يحقق مثل هذا النجاح ويسحق بفضله منافسه ،  الذي كان يتساوى معه في القوة .
**
لعل الرهان المطروح على النهضة اليوم ، هو أن تتسم بشيء من التواضع لعله ليس غائبا اليوم عن ذهن قائدها الداهية راشد الغنوشي ، وذلك هو الدرس الأول المطروح على النهضة ، هي انتصرت فعلا وبصورة عريضة ،ولكن الانتصار لا ينبغي أن يقودها إلى غرور قاتل ، قد يعيد البلاد إلى جو صائفة 2013، أما  الدرس الثاني  فهو مطروح هذه المرة على نداء تونس ، وهو الاتعاظ من هذا الفشل الذريع ، ومعرفة قراءة واقع الحال ، والقيام بالاستنتاجات اللازمة ، وتتمثل في انصراف القيادة الحالية كما يحدث في المجتمعات الديمقراطية ، لنتساءل مع المتسائلين أين هي قيادة الحزب الاشتراكي الفرنسي ، وأين هي قياد الحزب الديغولي ، وأين هي قيادة حزب الجبهة الوطنية اليمينية بعد انتخابات فرنسا قبل عام  وسقوط الأحزاب التقليدية ، الفاشل ينبغي له أن يعي الدرس ويقدم استقالته معتذرا.
**
على أن للمرء والمقال طال عن اللزوم  ، أن لا يخرج من الكتابة إلا وهو يلاحظ أننا وإلى حد كبير ،  مصابون بقدر غير محدود مجتمعيا وفرديا بسكيزوفرينيا  متأصلة أبرزتها في نفس الوقت انتخابات بلدية منتهية ـ وتقارير لجنة للحريات الفردية والمساواة ، استبدل النقاش الهادئ بشأنها بحملة شعواء متبادلة الاتهامات ، أحيانا كثيرة بدون سند ، فكم أطلق من أكاذيب لمحتويات منسوبة  للتقرير لا وجود لها  بين دفتيه ، وقد ظهر لي أن بلادنا لا تعرف معنى لآداب الحوار ، ولقد تأثرت كثيرا للتمزق الذي يشعر به الصديق صلاح الجورشي ، لا بين قناعاته الشخصية وما يعتمل داخل المحيط الذي ينحدر منه ، بل لظلم ذوي القربى ، وإن كان اعتقادي الشخصي ، أنه ليس في تونس اليوم من قطع طريقا مليئا بالأشواك مثل صلاح الجورشي ، فمن الجماعة الإسلامية في السبعينات ، بكل الفكر الذي تبنته وقتها وأستطيع أن أقول بلا ترد أنه كان ظلاميا ، للوصول للفكر  ذو المرجعية الكونية  بمقتضياتها و بكل مكوناتها ،  قطع الجورشي طريقا طويلا لم يكن من السهل أن يقطعه غيره ، جله داخل هياكل رابطة حقوق الانسان المدرسة الفريدة من نوعها ، لينخرط في منظومة توجه يؤمن بالكونية ، دون أن يتنكر لإسلامه في صيغته التقدمية المتلائمة  مع العصر،  إسلام مقاصدي ، كما انتهى إليه المصلحون خاصة في تونس ومصر منذ القرن التاسع عشر، ولعل التونسي البسيط الذي ليست له تجربة في خوض مسار المجتمع المدني معذور لعدم تفهم صلاح الجورشي ، أما من تمتعوا بالتجربة فهم يعرفون معنى الحلول الوسطى ، ومعنى التضامن بشأن ما يذهب إليه الوفاق ، ومعنى أن تكون أو لا تكون متفقا تماما  وحتى بتاتا ، ولكن تبقى ضمن الفريق ، تلك تجربة ثرية خاضها من يعرف معنى العمل داخل فريق ، فقط أقول كان الله في عون الرجل ، داخل " بعض طبقة مثقفة " لا تدرك معنى العمل الجماعي ، وما يفرضه من ضرورات ، وأحيانا تنازلات  لعل أهمها ضرورة التضامن ، وعدم ترك السفينة ،هربا بمناسبة أول عاصفة.
fouratiab@gmail.com