Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

السبت، 28 يونيو 2014

الموقف السياسي : من أجل تحريك السواكن ، الكتاب الأبيض لمصطفى كمال النابلي ومجموعته

الموقف السياسي
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
ضجة في البلاد
بعد الكتاب الأبيض لمجموعة من المستقلين
تونس/29/06/2014
انكب حوالي 15 من المثقفين من سياسيين وجامعيين وصحفيين ومحامين كلهم من المستقلين ، على صياغة مرجعية لحالة البلاد ، والخطوات اللازمة للخروج بها من أزمتها المستعصية ، التي لا يبدو أن الحكام لديهم الرغبة ولا الإرادة للخروج منها.
وكانت المبادرة صادرة من أربعة من المفكرين ، هم
 الدكتور مصطفى كمال النابلي وزير سابق ومحافظ سابق للبنك المركزي
الدكتور عبد الجليل التميمي الأستاذ الجامعي  المتميز ، ورئيس مؤسسة التميمي للبحث العلمي التي قدمت خدمات جلى للبلاد ولتوثيق تاريخها المعاصر
الطاهر بوسمة  المحامي والنائب السابق والوالي السابق والمثقف المفتوح على الحضارة الإنسانية والقيم الكونية
عبد اللطيف الفراتي الصحفي رئيس جمعية الصحفيين السابق وأمين عام مساعد الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان رئيس تحرير الصباح الأسبق ومدير مكاتب عدة صحف عربية ودولية سابقا.
وقد انضم إليهم سريعا عدد من رجال الفكر من الأساتذة الأجلاء من بينهم عبد المجيد الشرفي ومحمد الحداد وحمادي بن جاب الله ونائلة السليني وفوزية الشرفي ومنية بن جميع ومحمد الكيلاني وكلثوم المزيو وغيرهم كثيرون.
وبعد نقاش مستفيض استمر لعدة أسابيع أولا بقصد تشخيص الحالة التي باتت عليها البلاد ، ثم الحلول المقترحة.
ويمكن القول إن المنطلق كان قائما على أولوية الدولة التونسية بكل زخم عطائها على مدى آلاف السنين ، ثم الحفاظ على المكاسب الوطنية التي شهدت تراكما كبيرا خلال القرنين الأخيرين ، وجعلت تونس في مصاف الدول المنخرطة في الحداثة ، ومن هذه المنطلقات بدأ التشخيص ثم التصور للمستقبل.
وقد تكفل الأستاذ المقتدر حمادي بن جاء بالله ، بصياغة النص الذي يتولى تأليف كل الأفكار المقترحة خلال جلسات العمل المضنية ، فكان خير مترجم لتركيز النقاش في سيولة  بدون إطالة ، ولكن بدون إخلال للمعاني المتداولة .
ورغم ذلك فقد خضع النص لعدة أسابيع من النقاش بقصد زيادة التوجه لكل ما جاء في النقاش ، دون إغفال ، وأيضا بروح بناءة ، وإذ كانت نقدية فإنها لم تتخل قط عن حياديتها المطلقة  ولا إيجابيتها ، ولا عن التجميع في زمن عرف وما زال يعرف تشتتا مؤلما ، ومحاولات للردة ، وضبابية شديدة ، وعدم توضح الرؤية  ولا جهدا استشرافيا حقيقيا ، بات مقوما من المقومات الرئيسية لمعالجة أدواء اليوم ، والتصور البناء للمستقبل على المدى القصير والمتوسط والطويل.
وفي ما يلي كامل النص الصادر باللغة العربية والذي تكرمت مشكورة  بنشره في كراس قابل للفصل في جريدة "المغرب"، كما تم نشر ملخص محيط له باللغة الفرنسية مع تحليل في مجلة "ليدرز " الإليكترونية نشرته مشكورة هي الأخرى :

مثقفون ومفكرون مستقلون يصدرون كتابا أبيض في حاضر تونس ومستقبلها


وترجمت الوثيقة عن الحوارات والنقاشات الثرية والمتعددة بين مفكرين من مختلف الاختصاصات والتوجهات الفكرية. وهدفت إلى تشخيص الوضع الراهن بمختلف أبعاده عبر تقديم جملة من الأفكار والتوجهات المستقبلية لدعم بناء الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية التي تصبو إليها تونس، ولتجاوز صعوبات المرحلة الانتقالية. وتتميز هذه الوثيقة بتناولها المتكامل لمختلف الأبعاد المترابطة: التاريخية والحضارية والسياسية والأمنية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية.
المواطن بين الضيق بالحاضر، والخوف من المستقبل، والتهاون بالدولة
إنّ أخطر ما تشهده تونس في المرحلة الراهنة من تاريخها الحيّ ما تتعرض له الدولة من تدمير متعدد الوجوه مسّ مكانتها ووظائفها ومؤسساتها، بحيث أصبح التهاون بالدولة ينذر بذهاب الوطن ذاته.
ومن أمرّ نتائج ذلك التهاون بالدولة - فكرا وممارسة - ما أصبح عليه التونسي ذاته بعد ثلاث سنوات من ابتداء الثورة الوطنية من حالة نفسية غلب عليها الإحباط العام، بما يلتئم عليه من الضيق بالحاضر والخوف من المستقبل. وممّا زاد التأزّم النفسي حدّة ما صحبه من تأزم مادي تضافرت في إنتاجه عوامل ضاغطة يوميا، هي الانحسار الاقتصادي والتضخم وانحباس الاستثمار وتزايد البطالة وتقلص دائرة الطبقة الوسطى واتساع دائرة الفقر.
ولقد أصبح التونسي اليوم يخشى أن يفقد بلده مقوّمات هويته السياسية والثقافية والحضارية بفعل تكاثر القوى العاملة في صمت ماكر، أو في ضوضاء عدوانية، على تقزيم الذات الوطنية وصهرها في كيانات فيها من البريق الإيديولوجي الزائف على قدر ما فيها من سوء المآل المحقّق.
وقد اندرجت تلك المساعي في مجرى السطو على ثورة شباب مدرسة الجمهورية، ثورة «الشغل والحرية والكرامة الوطنية»، عبر الحرص على تحويلها إلى ثورة من أجل الهوية والأسلمة، وكأنّ تونس ليست بلدا يمتد وجوده الانطروبولوجي إلى أبعد من 100 ألف سنة، ويغطّي وجوده السياسي أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وكأنّ تونس لم تغنم من جميع الوافدين على أرضها خير ما عندهم في إطار من الوفاء الدائم لذاتها. فقد أخذت عن الفتح الإسلامي - منذ أربعة عشر قرنا - خير ما فيه، الدين الإسلامي واللغة العربية، وأخذت عن الوافد الأوروبي خير ما عنده، الفكر التنويري الحديث ومنظومة حقوق الإنسان والمواطن، حتى أنه يمكن التأكيد أن أصالة تونس قُدَّت - عبر التاريخ - من وفائها في تلقائية السجيّة لقِيَمِها المكتسبة، إذ تنفتح على الآخر لـتأخذ عنه في غير خوف، وتغدق عليه ممّا عندها في غير منّ. وبذلك تهيّأت لها أسباب الجمع المتين بين فضائل الانتماء الحضاري مغاربيا وعربيا وإسلاميا ومتوسطيا وإفريقيا، وقوّة التجذّر في الهوية الوطنية باعتبارها نتاج تجربة تاريخية فعلية امتدت منذ أقدم العصور حتى اليوم على رقعة جغرافية أساسية تمتد من «النخلة» إلى «الدخلة».
ولئن كان الواجب يقتضي الإجلال لشهداء الثورة الذين ضحّوا بالنفس في سبيل تلك القيم النبيلة، والتذكير بضرورة الإحاطة بأُسَرهم، كما العناية التامة بجرحاها، فلا بدّ من التذكير بالأبعاد التاريخية والجغرافية والثقافية والنفسية لتلك الثورة، لأنها من أركان الهوية الوطنية، ومن مقوّمات الدولة التونسية، فكرة في الأذهان وحضورا في الوجدان ومؤسسات في الأعيان. وبالتالي فإنّ ما سُجّل من وَهَن لَحِقَها إنما هو جرّاء الاعتداء متعدّد الأشكال على تلك المقوّمات، بدءا بالاعتداء العلني على العلم الوطني ومعاودة السعي بطرق شتى إلى تكسير وحدة التشريع والقضاء التي ميّزت تونس منذ أوائل القرن العشرين. ومن تلك الطرُق محاولة إقحام ما يسمّى بـ»الصيرفة الإسلامية» في النسيج البنكي الوطني، لتُتّخذ بابا من أبواب عودة الإفتاء في الدورة المالية والاقتصادية، تخطيطا بيّن المقاصد، متراخي المراحل، لعودة التقاضي على غير قوانين الدولة المدنية.
ولئن مسّ الفساد منذ سنوات النظام القضائي، خاصة في اتّجاه التوظيف السياسي، فالأمل معقود على أن يكون القاضي التونسي في مستوى واجب حفظ الحقوق والحريات، لا باسترداد كامل استقلاله في أداء واجبه فحسب، بل كذلك بتعهّد تكوينه العلمي وتجويد أدائه المهني ضمانا لكفاءة عالية نحن اليوم في أمسّ الحاجة إليها. ومتى استقام النظام القضائي أخلاقيا وعلميا ومهنيا، أمكن الاطمئنان حقا على مستقبل تونس، وطنا ودولة وثورة.
و يعني ذلك ضرورة أنه لابد اليوم من استرجاع مفهوم دولة القانون والمؤسسات الذي مَرّ من إرادة تتفيه مبادئه قبل الثورة بحكم زيف استخدامه للتسلط على الرقاب إلى تناسيه بعد الثورة لتهميش الدولة ذاتها. ولابد أن يكون واضحا في أذهان الجميع أن دولة القانون والمؤسسات يوجب قيامها أوّلاً أن تكون الدولة وحدها المؤتمنة على القانون تصوّرا وتطبيقاً، وثانياً أن تكون الدولة بدورها خاضعة للقوانين التي تسنّها، وثالثاً أن تكون الغاية من سنّ القوانين وتطبيقها حماية حرية المواطن.
تعثُّرالعمل السياسي والحزبي، وتهلهل النسيج الاجتماعي، وتخلخل القِيَم الأخلاقية
والتونسي يدرك أنه حين يتعلق الأمر بالشأن العام، فإنّ جميع القضايا تصبح سياسية، من قريب أو من بعيد. فما لَحِقَ مكانة الدولة في تونس من وَهَن يشكّل الظاهرة الأخطر، ويعيّن البعد السياسي في الأزمة الراهنة، بشقَّيْه العملي المحسوس والنظري المجرّد. ويكفي الوقوف على ما سَجّل القاصي والداني من تقصير في مجال إدارة الشأن العام، ومن قصور في تعديل الصراعات الاجتماعية والحزبية، لنُدرك أنّ العمل السياسي انتهى إلى التحت الذي لا تحت بعده.
وليس أقل من ذلك خطورة ما سُجّل من محاولات الإجهاز على مدرسة الجمهورية، والتشكيك في قيمة مجلة الأحوال الشخصية والتلكّؤ في التسليم بالمساواة بين الرجل والمرأة، إضافة إلى الشروع في التنصّل - باسم خصوصيات واهية - من تعهداتنا الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان في كَونيّة مفهومها وشمولية مجالاتها، باعتبارها اليوم من مكوّنات المواطَنة، قيمةً مدنية وسياسية ماهيتها المساواة وشرطها الحرية. فلا مواطَنة دون مساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات، ولا مساواة دون حرية فردية وجماعية، بدءا بحرية التفكير والضمير والتعبير، حتى الحريات السياسية والاجتماعية. وليس لأيّ كان أن يَحرِم أيّا كان من أيّ حق كفَلَه القانون والشرعية. ولا مشروعية لقانون ما لم يكن تعبيرا عن حرية المواطن. وقد تُعبّر الحرية عن ذاتها بطرق مختلفة باختلاف النُظُم السياسية، ولكنْ من أجل غاية واحدة هي حماية الحرية ذاتها.
ولقد تضافرت تلك العوامل على خلق مناخ عام كان يمكن أن يدفع بتونس إلى ما لاخير فيه، لولا هَبَّة من الشعب قويّة، أسمعت مَنْ صمّ آذانه عن تمسّكه بالحرية والمساواة، قيمتين بهِما تكون المواطَنة، وعبّرت عن إرادته في الالتحام بإرادة الإنسانية. وعلى ذلكم الشعب اليوم أن يكون أحزم موقفا، وأصلَبَ إرادة في الدفاع عن هويته الحضارية والثقافية، وفي الحفاظ على حقّه في السعي إلى مزيد الترقّي في مدارج الحرية والعقلانية، وفي اكتساب القوة على مغالبة أعداء الإنسانية الثلاثة، الفقر والجهل والمرض. فمعركتنا اليوم معركة شاملة من أجل التحرر السياسي، والنمُوّ الاقتصادي، والرقيّ الحضاري. ولا رقيّ في عصرنا إلا بامتلاك ناصية العلوم، الإنسانية منها والصلبة، والإسهام في إنتاج المعرفة لا الاكتفاء باستهلاك ما أنتجه القدماء أو بما ينتجه الآخرون.
وكان من الطبيعي أن ينعكس – سلبا - ما شهدناه في المدة الأخيرة من الشغب ومعاودة محاولات مسخ الهوية الوطنية ووَأد المواطَنة، على النشاط العام في كلّ المجالات، في لحظة تاريخية حاسمة نحن في أمسّ الحاجة فيها إلى التعويل على الذات الواعية المريدة، وإلى الإيمان بالعمل واجبا أخلاقيا ووطنيا وضرورة اقتصادية لإنقاذ البلاد ممّا أصابها من وهَن شامل، بعد أن أَوقدت الثورة شعلة الأمل الواعد بتجدد الموعد مع التاريخ.
ولعلّ ما زاد المزاج الوطني تعكيرا ما نلاحظه بأسف من تعثّر العمل الحزبي في بلادنا، حيث ظل –عموما ولأسباب ذاتية أكثر منها موضوعية - دون ما تتطلبه المرحلة التاريخية من وضوح في الرؤية يقتضيه فهم أوضاعنا الراهنة، لنعمل في الاتجاه الصحيح على تجاوزها، ومن إيمان بالذات وبالوطن لنعمل ليلا نهارا حتى يستعيد الاقتصاد الوطني عافيته، ونعيد إلى الشباب المعطل عن الشغل الأمل في أن يكون غَدُه أرحبَ من يومه. وتلك رسالة متأكّدة لن تقوى الأحزاب القائمة على الاضطلاع بها في ظل ما تشهده من انقسامات وتشتّت.
ولئن حقّ لتونس أن تُسَرَّ بانطلاق حرية التفكير والتعبيرو بانعتاق الصحافي من كبت السنين لتتجلى كفاءته، وأن تعتزّ بما بلغه من مهنية عالية، فإنّ لها أن تنتظر منه المزيد في اتجاه التّبصير بأهداف الثورة في الشغل والحرية والكرامة الوطنية، وفي التوعية بما يُحدِق بالوطن والثورة من مخاطر، ولاسيما تلك التي تتخفّى وراء مبدأ حرية التنظّم والتفكير والتعبير. وعلى قدر واجب الصحافي في التمسك بمبادئ شرف المهنة، وجَبَ أن يكون حرصه في الدفاع عن قيم الحرية والمساواة والتقدم.
ولذات الغرض، كان على الجمعيات المدنية الحقوقية، ألا تغفل عن أنّ ما يتهدّد قيم الحرية والمساواة والتقدم لا يصدر عن الدولة وحدها، بل كثيرا ما يكون في المجتمع ذاته من قوى القمع ما ينبغي التصدّي له بكلّ الطرق المشروعة، ولاسيما بالتوعية والإعلام. فليس من سلاح أجدى من المعرفة في مقاومة الجهل، وليس أجدى من نشر الأنوار لإجلاء الظلام.
ولا يخفى على أحد أنّ ما سبقت الإشارة إليه من التشتت الحزبي، وتفشّي الظواهر النفسانية–الاجتماعية السلبية، في ارتباطها بالوضعية السياسية بِبُعدَيها العملي والنظري، من أخطر ما يهيّئ - في غير وعي - لِتَحَمّل الهوان، وتَقَبّل ضياع الأوطان، وسقوط الدول. وليس أدلّ على ذلك من تفشّي ظواهر ما عهدناها قطّ في التاريخ الوطني، مثل شيوع الانتحار والعنف، واحتقار الذات، والتفكير في طلب اللجوء السياسي، والتنصّل من الهوية الوطنية التونسية، والانتماء الحضاري. وتُوجِب الموضوعية تنزيل هذا المنحى الخطير الذي آل إليه الوطن - دولة وشعبا، ووجودا وقيمة - في مجرى تعمّق ما شهدناه منذ سنوات قبل الثورة من مظاهر التهلهل في النسيج الاجتماعي، والتخلخل في نظام القيم الأخلاقية، والمعايير المتعالَمة، والمناقب الاجتماعية السمحة. ولم يُستثن قطاع من الحياة الوطنية من امتداد إرادة الإفساد إليه، ولاسيما في القطاعين التربوي والجامعي والثقافي عامة. لذلك تفشَّى بيننا التسطيح الفكري، والتزمّت العقدي، والتصحّر الوجداني، واستولى على الكثير النزوع إلى الاكتفاء بالمُتاح، والاستسلام إلى الجهد الأدنى، والتحيّل للارتقاء السريع، والميل إلى الربح السهل. وبوجه عام طغت عند بعضنا المطالبة بـ»الحق» على الالتزام بالواجب، في حين يقضي الحسّ السليم بأن لا زهد في القيم ولا تفريط في حق المواطنة ولا إهمال للواجب نحو الوطن.
وبالتالي فإنّ ما جدّ بعد الثورة من مظاهر استشراء العقلية الانتهازية، ولاسيما بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، واقع - في أهمّ مقوّماته وأعمق أسبابه وأجلى ممارساته - في سياق ما قبل الثورة. ولا ريب في ما لذلك التواصل الفعلي بين ما قبل الثورة وما بعد الثورة، رغم ادّعاء القطع معه، من مخاطر، لاسيما في ظروف تاريخية استثنائية استرجع فيها الشعب ثقته بنفسه، فهبّ، في عزم لا يَلين، للدفاع عن مكاسبه، وأبدى من الصمود في المقاومة ما جعل الكثير يراجع حساباته ويأخذ في نقد ذاتي يحقّ لنا أن ننتظر منه خيرا أو بعض الخير.
ضرورة التركيز على بناء الدولة المدنية الديمقراطية، وتوثيق الرابطة الوطنية، بدءا بالثقافة، والنأي بالمدرسة عن الخصومات الحزبية
غير أن تلك المراجعة لن تكون حقيقيّة ومُجدية إلا بالحسم نهائيا مع إرادة الإساءة إلى دولة الاستقلال، ورموز دولة الاستقلال، وإنجازات دولة الاستقلال مهما كانت متواضعة، ما دامت تندرج في سياق الإعداد الموضوعي لتحوّل الدولة الوطنية - على ما غَلَبَ عليها من منحى سُلطَوي لا تُنكَر سلبياته - إلى دولة وطنية ديمقراطية، يرجو منها الجميع خيرا كثيرا. فليس لتونسي أن يفاخر تونسيا بوطنيته، ذلك أن الوطنية من حيث هي فضيلة أخلاقية ذاتية نتقاسمها بالتساوي ولا نتفاضل فيها.
أما الوطنية من حيث هي قيمة سياسية موضوعية فلا نصيب لنا فيها إلا على قدر ما نحرص على حفظ مكاسب الوطن على مرّ التاريخ، ولاسيما ما تحقق منذ قيام النظام الجمهوري، وفي مقدمتها بناء دولة مدنية حديثة الأركان، يصحّ بها انتماؤنا إلى العصر، وإنشاء مدرسة الجمهورية طلبا للمعرفة، وإصدار مجلة الأحوال الشخصية انتصارا للحرية و المساواة من ناحية أولى، وعلى قدر ما نبذل من جهد لإنجاز مشاريع الوطن الراهنة، وفي مقدمتها تأمين مسيرة الانتقال الديمقراطي من ناحية ثانية، وعلى قدر ما نتفانى من ناحية ثالثة في تحقيق طموحات الوطن المستقبلية، وفي مقدمتها التنمية الشاملة المستديمة.
وليس يخفى أنّ من أعتى عوائق التقدم في ذلك الاتّجاه ما سُجّل منذ سنوات من انحلال الرابطة الوطنية انحلالا ازداد منذ قيام الثورة استفحالا. ومن أسبابه – إضافة إلى التهميش والفقر، لاسيما في الجهات الداخلية - الفوضى التي استبدّت بالقطاعين التربوي والثقافي، باعتبارهما المجال الحيوي الذي في مداه تكتسب الشعوب وعيَها بذاتها، وجودا تاريخيا، وقيمة متعالية تحض دائما على الارتقاء إلى الأفضل. لذلك كان الأمر يدعو إلى مواجهة تلك الفوضى - على بُعد أسبابها وتعدّد وجوهها - بما يلزم من اليقظة والحزم.
في هذا العالم الذي تسوده المظالم ويتغلب فيه الطغيان على العدل و المساواة يجدر بالمجتمع التونسي أن يسعى إلى تسخير كل عبقريته لتغيير هذه المعادلة عن طريق الإبداع الفني بجميع أشكاله، والسعي إلى تغيير رؤيته للعالم. فهل يجوز الأمل بحياة في غير مجتمع مبدع منفتح و متقدم، مجتمع خال من العنف والأصولية ونبذ الآخر، عالَم بعيد عن تسليع الفن وتشييئه، مجتمع يصبح فيه السلام والحرية من أعز مثل الإنسانية مطلبا؟
ذلك أنّ الفن وسيلة للتحرر وتعبير عن الحكمة والتأمل والمعرفة. إنه اللغة الإنسانية الحميمة التي لا يمكن عزلها عن ممارسة العيش والحرية. وحيوية الإبداع الفني تكمن في صيانة الذاكرة الجماعية، وفي التحريض على الابتكار في إطار التنوّع والتجذّر الاجتماعي والثقافي لإثراء الخيال في عملية ترسيخ قيمة الحياة والتقارب بين البشر والطبيعة، في اتجاه تحقيق التوازن الروحاني للكون.
فليس أقدر من الرُكح المسرحي واللحن الشجيّ والقصيد الشعري والرسم الفني والصورة السينمائية على إشاعة الإحساس بجمال الوجود حيثما تجلّى، قصد حفز النفس إلى الخير، ودفع الإرادة إلى التفاؤل الفاعل، بفتح أبواب الأمل رحبة كأبواب السماء، في سياق الحضّ الفَطِن على القيام بالواجب الذي لا بدّ من القيام به مهما كان ثقيلا. وهل من معنى للواجب إن لم يكن ثقيلا ؟
ولمّا كانت المدرسة تتنزل في قلب عملية الجهد التحديثي والبناء الثقافي الذي أخذت فيه تونس منذ ما يقارب القرنين، وجب على السياسي - وهو مؤقّت بحكم مبدأ التداول على الحكم في النظم الديمقراطية - أن يعمل في هذا المجال بالخصوص عمل السياسي الدائم. فليس لانتظام الفعل التربوي أن يتغيّر بتغيّر الحكومات وأن يكون تبعا لصعود هذا الحزب أو ذاك إلى الحكم. ذلك أن مآلنا غدا إنما يكون ممّا عليه مدرستنا اليوم.
لذلك فان الحرص الحق على مستقبل الوطن يقضي بأن ننأى بالتربية، من رياض الأطفال حتى الجامعة، من الخصومات الحزبية والسباق نحو السلطة. وبالتالي كان على السياسي - متحزبا كان أم غير متحزب - أن ينزّل كل بادرة تُتّخَذ في المجال التربوي في مجرى التقاليد الوطنية الثابتة التي لم تنفصل فيها إرادة المعرفة عن إرادة الحرية، باعتبارهما من شروط قوّة الأمم اليوم. ولا ريب في أنّ العلم والحرية مجتمعَيْن هما أوّلا من لوازم تحقّق إنسانيتنا فينا في كونية مفهومها، عقليا وأخلاقيا ووجدانيا، وهُما ثانيا من متطلبات إعداد الناشئة لِحياة مدنية ديمقراطية لا مجال فيها للميز على أساس ديني أو جنسي أو عرقي أو اجتماعي، وهما ثالثا من ضرورات تكوين الكفاءات العاملة المقتدرة على إنتاج الخيرات والكسب الشريف، بما تفرضه الثورة العلمية-التكنولوجية من ذكاء حَسَن التكوين ومهارات جيّدة الإعداد في اتجاه الملاءمة المحكمة بين التكوين والتشغيل. فالمدرسة تتعالى عن الأحزاب والحكومات والظروف، ولكنّها ملتزمة ذاتيا بالأبعاد الإنسانية والمدنية والاقتصادية التي منها سلامة الفعل التربوي المُدْرِك لحقيقته، المتبصّر بغاياته الإنسانية والحضارية والاقتصادية، دون تفريط في أيّ من أبعاده تلك، أو تغليب بُعد على بُعد، بحيث يكون الفعل التربوي متكافئ المكوّنات، الإنساني منها والطبيعي والتكنولوجي، على أن يُولَى تعليم اللغات في ذلك كلّه الأهمية التي يقتضيها واجب الارتقاء باللغة العربية إلى مرتبة القدرة على تحصيل قيم العصر وعلومه وتكنولوجياته، والمساهمة الحقيقية في تطويرها. وهو ما يوجب إتقان لغة أجنبية واحدة على الأقل إتقانا يؤهّل لإغناء الذات قِيَميّا و فكريا وثقافيا.
وبحكم ما يكتسيه الاضطلاع بالأمانة التربوية من أهمية قصوى، كان لابدّ لها من إعداد علمي ومهني جيّد. وتبعا لذلك فإنّ الواجب يفرض مراجعة الانتدابات التي تمّت على غير منهاج سليم. فما كان لأحد أن يُخضِع انتداب المربّين لغير المعايير العلمية والبيداغوجية. فانتداب مرَبّ غير مؤهّل مهنيّا يترتب عليه التضحية بآلاف الشبان الذين سيتتلمذون عليه سنين طويلة. فهاهنا قد نسعف مواطنا لنظلم آلافا. ولذلك كان لا بدّ من اتّخاذ تدابير عاجلة ومدروسة لمعالجة هذا الأمر بما يوفّق بين مصالح التلاميذ وسمعة المربّي وحقوق المنتدَب.
وذات الحرص على الإصلاح ينبغي أن يُولَى إلى الجامعة من جميع نواحيها، حتى تكون الجامعة طليعة التنمية الشاملة التي أردناها. ونظرا إلى ثقل تلك الأمانة التربوية، وشعورا بخطر الفوضى السائدة في المجال التربوي والثقافي، وجبت إحالة جميع المخالفين للقوانين والتراتيب الإدارية فيه على القضاء في أسرع وقت ممكن، حفظا للناشئة ولحقّها في تربية سليمة الأركان، عقلانية الاختيارات، هي من ضرورات تكوين الشخصية السويّة المتّزنة. ولا بدّ من المبادرة عاجلا بغلق جميع المؤسسات «التربوية « التي فُتحت دون ترخيص أو التي لا تستجيب للشروط الصحية والبيداغوجية، أو لا تتقيّد بالبرامج الرسمية نصّا وروحا، مع الالتزام بترخيص إضافي من سلطة الإشراف في كل زيادة تضاف إلى تلك البرامج الرسمية. كما وجب أن تُغلَق المحاضن والروضات والكتاتيب والمدارس والمعاهد والكليات الخاصة التي ترفض الخضوع للتفقد الصحي والبيداغوجي والعلمي والمالي، أو لا تتوفر فيها إطارات تربوية وإدارية مؤهَّلة وِفقا لمقتضيات القانون الجاري به العمل في الغرض.
فالمدرسة التونسية موحّدة، عمومية كانت أم خاصة، والتربية فيها قائمة على الولاء للوطن دون سواه. وهي مُلزَمَة بان تكون على الدوام مؤسَّسة لتحصيل العلم في أرقي تجلياته، واكتساب الفضائل الأخلاقية والدينية والقيم المدنية والمهارات الصناعية التي بها يمكن تنشئة الإنسان، وتربية المواطن، وتكوين الكفاءات المُنتِجة المقتدرة على توفير أسباب العيش الكريم.
وفي هذا السياق وجبت إدانة ما يتعرض له جانب من الناشئة - لاسيما في مؤسسات تربوية خاصة - من إرهاب نفسي يخلخل الشخصية، ومن حشو أدمغة يحول دون نموّ القدرات الفكرية، ومن تعبئة خرافية تقتل فيهم الإحساس بنبض الوجود، وتمهّد لاستمالتهم غدا إلى دروب مفضية إلى كتائب مهيّأَة للعدوان على أمن الوطن والمواطنين، فضلا عن احتمال انضمامهم إلى جحافل جرائم الاعتداء في الخارج. كما يقضي الواجب الوطني اليوم بردع من تورّط من قريب أو من بعيد، وتصريحا أو تلميحا، في التغرير بهذا الشباب، سواء باستغلال أوضاعه المعيشية والثقافية المزرية، أو عن طريق دفع الأموال وشراء الذمم، أو بواسطة التعبئة الإيديولوجية والشحن الخطابي، لاسيما في المساجد والجوامع والميادين العامة.
ولذلك كان لزاما على مؤسسات الدولة أن تتصدّى لمنابر شحذ الصدور حقدا في مساجد أذن الله أن ترفع ليذكر فيها اسمه. وهو ما يوجب أن تبسط الدولة في أقرب وقت ممكن سلطتها على جميع المساجد والجوامع، إضافة إلى استرداد ما كان من الملك العام مستغَلّا على غير وجه حق، ومحاسبة جميع الخارجين عن القانون وفقا للقانون. ولا بدّ في هذا المجال من الإشارة الواضحة إلى أن ما تمّ في «احتفالية» التفريط في جامع الزيتونة المعمور لتصرّف الخواصّ أمرٌ لا يمكن التساهل فيه مع مَن تصرّف في ما لا حقّ له فيه، ولا يمكن قبول استمرار الوضع على ما هو عليه مهما كانت الأسباب. وليس ينبغي أن يُكتفَى في عملية الاسترداد هذه بتعويض خطيب بخطيب، بل الواجب المتأكّد فيها أن يحلّ بها سلوك حكيم بديلا عن سلوك طائش، وقول ديني تطمئنّ به القلوب محلّ قول سياسوي تتصدّع له الأفئدة. فلا ذِكرَ في المساجد إلّا لله، أمّا السياسة فلها منابرها ومواضعها، وهي اليوم كثيرة طليقة.
وبيّن مما سبق أنّ كل عمل سياسي ينبغي أن ينصهر في حقيقة ما به الأصالة التونسية، روحا ووجدانا وفكرا وثقافة وتاريخا ممتدا عبر القرون، ليس لأحد أن يختزله في مرحلة دون أخرى. فأصالتنا تاريخنا، لاسيما بما غلب عليه منذ بواكير عصر الإحياء من تعطش للمعرفة مقرون على الدوام بالتشوق إلى الحرية. فليس من الصُدَف أنْ جَمَع المصلحون في تونس بين مطلبَي الحرية والعلم في كافة مراحل النضال الوطني من أجل الارتقاء إلى حداثة عصرنا، قيما عملية ومفاهيم نظرية. فقد تعاصر- على سبيل المثال - قرارا منع الرق وإحداث المدرسة الحربية بباردو في أربعينات القرن التاسع عشر، وتعاصر إعلان عهد الأمان سنة 1857 وسنّ دستور 1861 وإنشاء الصادقية في منتصف السبعينات من نفس القرن، وتزامن صدور مجلة الأحوال الشخصية مع صدور قانون توحيد التعليم وإنشاء مدرسة الجمهورية في خمسينات القرن العشرين. وفي ذلك كلّه ما يدلّ دلالة واضحة على أنّ التونسي لا ينفصل عنده الحلم بالحرية عن الكدّ في تحصيل العلم. وهل قوّة الأمم القوية اليوم إلا من الجمع المتين المتّصل بين تكوين العقول المتبصّرة، الدّرِبة على الحكم السليم، والإرادات الحرّة المقتدرة على الفعل المنتج ؟
الفعل السياسي في قيادة المرحلة الراهنة من أجل الخيارات الحضارية للمستقبل وإعادة بناء الثقة بمؤسسات الدولة
وهكذا نستبين ما يجب أن يكون عليه الفعل السياسي اليوم وفقا لما يقتضيه في آن واحد الوفاءُ للروح الوطنية ولِما تُوجبه قيادة المرحلة الراهنة، والاستعداد للمستقبل. وعلى قدر تفهّم ما تلقاه حكومة الوفاق الوطني من مصاعب، فلاشيء يعفيها من أن تكون حكومة سياسية وان كانت غير حزبية ومؤقتة، ذلك أنّ تسيير شؤون الدولة هو وحده الفعل السياسي بامتياز، ولو غفل ذلك الفعل عن حقيقته. والفعل السياسي الحق ليس فنّ إدارة الصراعات الحزبية والقوى الاجتماعية الفاعلة في صلب الدولة، بل إنّ ذلك كلّه - على خطره - لن يكتسب معناه إلا من تصوّر عام لكيان الأمة قيمةً عليا ووجودا قويا في التاريخ بين أمم الدنيا. وفي ذلك الأفق العام ينبغي أن يتنزّل البرنامج المؤقت، وفي مداه ينبغي أن تُطرَح القضايا ويُبحَث لها عن حلول.
لذلك فإنّ الفعل السياسي - مهما كانت مدّته ومجالات تدخّله - لا يتحقق بمجرد إقامة التوازنات المالية، ولا بمجرد القيام بحلول ترقيعية، بل قبل كل شيء بتوجهات سياسية مدروسة، واختيارات حضارية واعية، ومخطّطات عقلانية تنير سبل المستقبل وتفتح أبواب الأمل للتونسيين. وهو ما لا بدّ منه ليكون لمعاناتهم معنى، سواء تلك التي أرهقتهم قبل الثورة أو تلك التي شَقُوا بها بعد الثورة. فالشعوب لا تقبل على التضحية إلا حين ترى ضرورتها، وهي لا تتحمّل الصبر على المرّ إلا حين تتيقّن أنّ معركتها معركة قِيَم لا خصومة امتيازات، وحين ترى في الخيارات الجريئة تجديدا لمواعيد مع التاريخ.
ومن أظهر علامات الوهن العام الذي استولى على الدولة ما آلت إليه الدبلوماسية التونسية من ممارسات أفقدتها جديتها وأضاعت عليها خصوصياتها التقليدية المشهود بها دوليا. فلا تدخّل في شؤون الغير، أخا كان أم صديقا، وبعيدا كان أم قريبا، إلّا بالحسنى وبما يخدم المصلحة الوطنية ويبرز صورة تونس الثورة في المحافل الدولية، ويثري البعد الاقتصادي في العمل الدبلوماسي ويدعم أواصر التعاون والتفاهم مع الجميع ومع دول الجوار. فلا تفريط في المبادئ ولا تهاون بالمصالح.
وممّا زاد هذا الوهن المباشر فداحة تنزّله موضوعيا، أي بصرف النظر عن النوايا والإرادات الذاتية، في مناخ عام تعرضت فيه الدولة بما هي فكرة وقيمة ووظيفة إلى التخريب بفعل الميل
بها إلى التحزيب، حيث نحَتْ القوى الفاعلة، سواء عن تخطيط مسبق أو عن سوء تقدير، إلى تهرئة «العروة الوثقى»، اي «العقد الأساسي» الذي به يتحوّل الأفراد إلى شعب، والأرض التي يعيشون عليها إلى وطن تنشأ فيه، بفضل التجربة التاريخية المشتركة، روح تُشعّ في جميع مجالات المَعيش المشترك، وبها يكون الشعب أمّة لها هويتها وثقافتها ووعيها بذاتها وجودا ومآلا، حاضرا ومستقبلا.
وممّا يسجّل الملاحظ الموضوعي أنّ المواطن التونسي فقد ثقته بمؤسسات بلاده بمختلف مستوياتها بدءا بأعلى الهرم حتى العمل البلدي المباشر الذي أوكل أمره إلى «النيابات الخصوصية» التي أظهرت من الإهمال وانعدام الكفاءة ما حوّل الشوارع إلى مزابل وذهب بما كان لها من بعض الجمال البناءُ الفوضوي من ناحية، وفوضى الحياة العمرانية من ناحية أخرى. فيزداد المواطن لذلك حزنا ويتعمق يأسه من الحياة العامة ويدفع من حيث لا يحتسب إلى مزيد التراخي حتى الاستقالة. لذلك فإنَّ من أَوْكد أولويات العمل السياسي اليوم إعادة الثقة بالمؤسسات إلى المواطن. وعلى المؤسسات بدورها أن تَجُدَّ فى أداء الواجب حتى تكون أهلاً لثقة المواطن بها، وكلاهما من ضرورات إعادة بناء دولة القانون والمؤسسات.
ضرورة إشاعة الروح المدنية وثقافة السلم مع نبذ الانقسام
وفي هذا المناخ العام الذي تاهت فيه الدولة التونسية عن قيمها، فاستفحل عجزها عن أداء وظائفها الاجتماعية، فإنّ الأحزاب السياسية خاصة مدعوّة إلى بذل المزيد من الجهد للارتقاء أكثر فأكثر إلى مستوى المسؤولية التاريخية التي تقع على كاهلها لتحسيس جميع شرائح المجتمع التونسي بأهمية الشأن السياسي وبضرورة المشاركة فيه، وحضّها على الوعي بالدور الأساسي الذي على الشعب ان يضطلع به في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخه الحديث، حتى يقوم كُلّ مواطن في الموقع الذي هو فيه بواجبه المهني والمدني على خير الوجوه. وأوّل ما يجب اليوم على الساسة عامة إشاعة الروح المدنية وثقافة السلم والتآخي بين المواطنين، بدل التباغض والتجافي. فلا مستقبل بين التونسيين لثقافة الحقد ولا للخلط بين ما يريدونه لأنفسهم من الامتياز بعَرَق الجبين، وما تطلبه إيديولوجيات التميّز الواهم والتفرّد المرَضي بهويات وخصوصيات تخيّلية محنّطة.
لذلك كان على جميع الأحزاب اليوم توضيح مواقفها من العنف عامة ومن الإرهاب خاصة، لا بالإدانة الصورية التي كثيرا ما يكون فيها من التعميم والتجريد على قدر ما فيها من التعتيم والهروب من المسؤولية، بل بانتهاج تثقيف أخلاقي ومدنيّ وسياسي يؤهّل منخرطيها إلى فهم آداب العيش معا، نظرا وعملا، ويحصّنهم من مخاطر الانسياق إلى دعوات ثقافة الكراهية والتطرف المتخفية بغطاء التقوى وادّعاء الانصياع إلى أوامر الله، باتخاذ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» تَكِئَة وذريعة للتسلط على المواطنين عامة والمواطنات خاصة. فلا سلطان لمواطن على مواطن إلا في إطار مؤسسات الدولة وبالوسائل التي يتيحها القانون العام. والأحزاب السياسية مدعوّة بإلحاح إلى حضّ مناضليها على الاعتدال في الموقف، والاقتصاد في الرأي، والحسنى في الجدال فيه والإعراب عنه. فلئن كان للديكتاتورية عصاها الطويلة لفرض نظامها فليس للديمقراطية إلّا فضائل مواطنيها لتنشأ وتنمو وتتعزّز.
ومن شروط حمل تلك الرسالة اليوم التأكّد من سلامة النسيج الجمعياتي بتخليصه من الدخلاء الذين يتبيّن ولاؤهم لغير الوطن، ونشاطهم لغير صالح أهداف الثورة في «الشغل والحرية والكرامة الوطنية». فالدولة هي السلطة الوحيدة المؤهلة اليوم للاضطلاع بمسؤولية حفظ الثورة من كل محاولات السطو عليها. كما يجب محاسبة كافة الجمعيات التي تحوم الشبهات حول مصادر تمويلها ومجالات استثمارها، بما في ذلك استضافة الدجّالين وأصحاب البِدَع لاستمالة البسطاء إلى اختيارات عقدية وسياسية يستفيد منها هذا الطرف أو ذاك، فضلا عمّا فيها من مسّ بالذوق السليم وبما دأب عليه التونسي من الاحتكام الى الفكر المستنير والبداهة العقلية. كما يدعو الواجب الوطني إلى منع استقدام خطباء السوء الذين يعملون على شحن الصّدور ضد مكاسب الوطن ورموزه بتعلّة المطالبة بتطبيق الشريعة، أو إنشاء مؤسسات تعبئة تجعل من الناشئة فيالق إيديولوجية وعسكرية بتعلّة التربية والتثقيف. فعلى قدر ما يرحّب التونسي بضيوفه، فإنه يحرص على أن يراهم يلزمون آداب الضيافة، فلا ينصّبون أنفسهم أوصياء على الضمائر أو دعاة لِمَا لا خير في الدعوة إليه. وهل أضلّ ممّن ادعى على تونس كذبا وهو يدّعي وصلا بالإسلام؟
مواجهة العنف والإرهاب باستهداف أبعادهما الفكرية والنفسية والاجتماعية والأمنية
وسواء كان ما أصاب الدولة من الوهن في أداء وظائفها ناتجا عن تخطيط مسبق واع، أو عن مسالك عشوائية في تسيير الشأن العام، فإنّ النتيجة الموضوعية فسحت المجال لممارسات لم نعهدها، وما كان لها أن تكون في دولة قائمة الأركان، كالإطاحة بأئمّة وتنصيب آخرين بدلا عنهم، عملوا على نشر خطاب سياسوي قام على إرادة تقسيم الوطن إلى فسطاطين، فسطاط «العلمانيين» و»الحداثويين»، وفسطاط «الإسلاميين» و»الأصلانيين»، مع ما صحب ذلك من توصيفات تعسّفية جعلت المكر والاغتراب والعنف في جهة، والصدق والأصالة والسلم في الجهة المقابلة، حتى لكأنّ الأمر يتعلق عند هؤلاء بتنظيم صفوف جيشين يتهيآن للتقاتل بتزكية دينية. وكان من نتائج هذا الاصطفاف أن نما بيننا أسلوب في التعامل يعتمد العنف اللفظي والمادي، كان من أول ضحاياه المرحوم لطفي نقض، كما برزت بيننا ظاهرة الاغتيالات السياسية، وكان من ضحاياها الشهيدان شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والعديد من شهدائنا في قوات الأمن والجيش.
ولمّا كان الإرهاب متعدّد الوجوه، فهو نفساني وفكري ومادي وظاهر ومستتر، كان من شروط الانتصار عليه تجفيف منابع تمويله، وفي مقدمتها التهريب وترويج المخدّرات، فضلا عمّا في ذلك من المضار الصحية الناتجة عن استهلاك بضائع غير معروفة المصدر، ولا مضبوطة المعايير، وعن الخسائر المالية التي تتكبدها خزينة الدولة، زيادة على ما لتلك التجارة اللاّقانونية من انعكاسات سلبية على النسيج الصناعي والتجاري الوطني. ولا ريب أنّ ذلك كلّه يوجب فرض قوانين الدولة على الجميع، ويتطلب قوّة أمنية رادعة، عليها يتوقف اليوم أمن البلاد والعباد ومستقبل تونس خاصة والمنطقة المغاربية عامة، بحكم تزايد الإرهاب وانتشار الجريمة المنظمة.
وفي السياق ذاته لا بدّ من التأكيد أنّ استرجاع هيبة الدولة والثقة فيها يفرض الشفافية والوضوح في كل ما تقوم به. لذلك كان من الضروري احترام ما جاءت به خارطة الطريق التي أنتجها الحوار الوطني، في باب مراجعة التعيينات الحزبية في كل مستويات المصالح العمومية، فتحزيب مؤسسات الدولة مؤذن بخرابها. كما وجب إعادة النظر في ما تمّ من انتدابات عشوائية بالإدارة في اتجاه احترام التزامات الدولة إزاء المنتدبين، باتخاذ التدابير اللازمة لرسكلتهم بما يساعدهم على المساهمة الحقيقية في دورة الإنتاج، أو إكسابهم مهارات جديدة تؤهلهم إلى شغل فعلي في مجالات غير إدارية من ناحية أولى، وفي اتجاه الالتزام ما أمكن الالتزام بالتوازن بين وظائف الإدارة وعدد العاملين بها، بما يقيها التورم المشلّ من ناحية ثانية، والحفاظ على حيادها من ناحية ثالثة.
والشفافية تفرض اليوم - باعتبارها من واجبات الدولة إزاء المواطن - مغالبة إرادة التعتيم التى جثمت طويلا على صدر الوطن. ولئن كان لا يحق لأحد ان يتهم أحدا جزافا فانه من حق الجميع معرفة الحقيقة. فمن حق المواطنين أن يعلموا نتائج جميع اللجان التي شكلت للتحقيق في كلّ الإحداث، بدءا باستعمال الرشّ ضدّ مدنيين مسالمين تظاهروا في سليانة مطالبين بحقوقهم، حتى ما سبق ذلك من اعتداء عنيف على المحتفين سنة 2012 بتونس العاصمة بعيد شهداء 9 أفريل 1938، وكذلك ما سجّل من اعتداء على مقرّات الاتحاد العام التونسي للشغل وعلى السفارة الأمريكية.
ثم إنّ ما جدّ بالأمس القريب في حي الزهور بالقصرين من اعتداء استشهدت فيه ثلة من رجال الأمن الوطني، وما سبقه بالأمس غير البعيد من أمر احتلال جبل الشعانبي من قِبَل إرهابيين، وتوسّعهم للعيش والتمركز فيه، حتى أضحوا خطرا يهدد أمن البلاد، دون أن تتفطن لهم الجهات المختصة، ودون القيام بأدنى الواجب، أمران يدعُوان إلى قلق لا مزيد عليه، ويشيران على الأقل إلى إهمال يحسن الوقوف على أسبابه، لاسيما وقد أفضى ذلك الإهمال في أحيان كثيرة إلى سقوط شهداء من الجيش الوطني والأمن الداخلي، فضلا عن انتشار ظاهرة ترويع المواطنين. وكان من الممكن أن يؤول الأمر إلى ما هو أخطر لولا استبسال قواتنا المسلحة في الدفاع عن الوطن، كما يشهد بذلك اكتشاف العديد من مخابئ الأسلحة وانتصاب خلايا الإرهاب في مواضع عديدة من التراب الوطني.
تلك سلبيات لا بدّ من تداركها، والاعتراف بها للشعب، والالتزام بتسخير كل ما تستطيع الدولة لمعالجتها، حتى تصير الأمور إلى حقائقها، فيستردّ الشعب أنفاسه، وتعود له أريحيته الأصيلة. وهي سلبيات عميقة الدلالة، قريبة المخاطر، تُلقي على الشعب بكامله، وعلى القوات المسلحة خاصة، مسؤوليات جسيمة.
لذلك كان من حق قواتنا المسلحة على تونس، حكومة وشعبا، أن تدعّم بما يجب من المساندة الأدبية والاجتماعية، وبتوفير العتاد والعدة، وما تفرضه مقاومة الجريمة والإرهاب من قوانين ملائمة، ويتطلب ذلك تركيز مؤسسة أمنية حديثة البناء جمهوريّة العقيدة والوظيفة تستعين في أداء رسالتها بوكالة وطنية للاستعلامات والأمن الشامل. ويدعو الواجب الوطني إلى الإحاطة التامة بالمصابين من أبطالها والعناية المستحقة اللازمة بعائلات الشهداء منهم، دون اكتفاء بالقوانين والإجراءات المعمول بها حاليا.
وتقديرا لما تشهده منطقتنا من مخاطر ذات انعكاس مباشر على الوضع الداخلي ينضاف إلى مصاعب الانتقال الديمقراطي، كان الواجب يدعو إلى تكثيف التعاون الأمني خاصة مع الأجوار في المنطقة المغاربية . ويفرض هذا الوضع تسخير جميع الإمكانات البشرية والمالية واللوجستية والقانونية لفائدة القوّات المسلّحة وقوات الحرس والشرطة والديوانة، بما يمكّنها من القيام بالواجب الذي تتطلبه حماية حدود الوطن من أيّ انتهاك، والتصدّي في الداخل لجميع مظاهر التسيّب والاعتداء على اختصاصات الدولة، ولاسيما مقاومة زحف الإرهابيين، على أن يقوم كل مواطن وكل جمعية مدنية بما يمكن القيام به للإعانة على ربح معركتنا ضد الإرهاب الذي يُنتظر أن يستشريَ في ظل الأوضاع الراهنة. وهو ما يتطلب توطيد أواصر الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة بعد سوء ظن بها طال أمده. وهي سلبيات لا بدّ من تداركها والاعتراف بها للشعب، والالتزام بتسخير كل ما تستطيع الدولة لمعالجتها حتى تصير الأمور إلى حقائقها، فيستردّ الشعب أنفاسه، وتعود له أريحيته الأصيلة، وكرمه الذي خبرناه جيّدا في الأيام الأولى للثورة قبل ان تسطو عليها قوى لا فضل لها فيها.
مصيريّة الانتخابات القادمة، وضرورة معالجة الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية العاجلة
ومما يزيد المسألة الأمنية خطرا أنْ تضرَّرَ جرّاء إهمالها مسار الانتقال الديمقراطي، وتأخرَ عن مواعيده. إلا أن المتوقّع الأخطر أنْ يُلحق غيابُ الأمن بحكومة الوفاق الوطني ضررا أفدح، إن لم نتدارك الأمر بالكفاءة اللازمة والحزم الكافي والتعاون الواجب، لاسيما ونحن مقبلون على انتخابات رئاسية وتشريعية مصيرية.
فهي انتخابات مصيرية من حيث المبدأ، لأنه عليها يتوقف مستقبل الديمقراطية في تونس، بالقطع نهائيا مع التزييف وشراء الأصوات والوعود الكاذبة. فالديمقراطية قوامها ممارسة الحرية على مستوى جمعي، والحرية لا تستقيم دون وعي صحيح والتزام بالحقيقة.
وهي كذلك مصيرية من حيث المشاركة فيها قبل نتائجها، فالأمن ضروري ليغالب المواطن اللامبالاة بالمواعيد الانتخابية بحكم إرث سياسي جعل من الانتخابات مواعيد للتزوير ومعاقبة المخالفين للتعليمات. والأمن ضروري ليقدم المواطن على تجاوز تردده ومخاوفه ممّا قد يتعرض له يوم الاقتراع من عدوان من قوى لم تجد إلى حد الآن الردع الكافي، رغم ما بذل من جهود سخية شجاعة في هذا الاتجاه.
لذلك فالأمل معقود على أن تقوم الحكومة الحالية بما يجب ليستتب الأمن في كافة ربوع البلاد، ويملأ الأمان جميع القلوب، حتى نجعل من الانتخابات المقبلة موعدا تاريخيا لظهور روح جديدة حقيقية تطالب – إيجابا - بالأمن من اجل ممارسة الحرية، وتفرض – سلبا - القطع البيّن مع عقلية مقايضة الحرية بالأمن، أساس كل نظام استبدادي.
وهي أخيرا انتخابات مصيرية لأنه عليها يتوقف تأكيد الاختيار الوطني الكبير، ذلك أن الانتخابات المقبلة لن تكون لمجرد اختيار حكومة لمدة خمس سنوات، بل لاختيار نمط حضاري. فإما أن ينهض التونسيون للحفاظ على مكاسبهم التاريخية والارتقاء بها إلى أفاق أرحب وأخصب، بدءا بمدرسة الجمهورية ومجلة الأحوال الشخصية وما شاع بينهم من روح متحضرة متسامحة وشغف بما تكون به صحة الانتماء إلى العصر عن إرادة وتصميم لا عن صدفة وانتهازية استهلاكية، بما في ذلك المراجع الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والقوانين المنظمة للعلاقات الدولية، وإمّا أن يفسحوا المجال للآتي المجهول في مجرى ما سماه البعض بـ»الفوضى الخلاقة»، وجعل منه بعض أدعياء «الأصالة» منهجا تحت مسمّى «التدافع الاجتماعي».
ذلك ما يجعل مسؤولية السياسي اليوم مسؤولية تاريخية وأمانة ثقيلة يدعو الواجب الوطني إلى التعاون على القيام بها لصالح الجميع، لاسيما والدولة ملزمة اليوم، سياسيا واجتماعيا، بمعالجة أوضاع اقتصادية حرجة إنضافت إلى المسألة الأمنية الحادة وتراكمت سلبياتها منذ ما قبل الثورة وتفاقمت في ما بعد الثورة. وبالتالي فإنّ بعض مصاعب اليوم وافدة علينا من مساوئ الأمس.
فليس ممّا يحتاج إليه بيان ما بلغه المناخ السياسي عامة قبل الثورة من تدهور هيّأ لتفشي الفساد والمحسوبية، وانعكس سلبا على الحياة الاقتصادية، إذ ضعفت نسبة النمو وانحسر نسق الاستثمار كميا ونوعيا وتفاقمت - تبعا لذلك - البطالة عامة وبطالة حاملي الشهادات العليا خاصة، لاسيما في الجهات الداخلية المحرومة.
وقد ازداد الوضع الاقتصادي هشاشة بعد الثورة بحكم ازدياد تدني النمو، وتفاقم البطالة، واستفحال الصعوبات المالية في القطاعين العام والخاص. وبذلك تعمّقت الهوة بين المنشود والموجود، بين تطلعات الثورة إلى أسباب الحياة الكريمة في واقع وطني أفضل وأخصب من جهة، وما انتهت إليه أوضاعنا من مآزق جعلت الحياة أصعب وأشحّ من جهة أخرى.
ولئن كان من الصعب الاحاطة في مساحة وجيزة بالمسالة الاقتصادية والاجتماعية لصعوبتها وتشعّب مسالكها وثقل إرثها، فإنّه تكفي الإشارة - في هذا الموضع - إلى أنه لا بدّ أن تُطرَح تلك المسالة برمّتها في أقرب وقت طرحا سليما تُجمع عليه كافة الأطراف الاجتماعية الفاعلة في هذا المجال. ويقتضي ذلك سلفا أن تقوم الدولة من ألآن بوظائفها التعديلية والتشريعية كاملة في اتجاهات رئيسية متضافرة ثلاثة. أولها الحرص الدائم اليقظ على التوفيق بين واجب الحفاظ على استقلال القرار الوطني وعلى الخيرات الوطنية من ناحية، والانفتاح من ناحية أخرى على الاقتصاد العالمي بما يوفره لنا من إمكانيات النمو الذاتي. وثانيها العمل على التوفيق في كل اختيار اقتصادي ممكن بين نجاعة البادرة الاقتصادية ضمانا لإنتاج أكثر ما يمكن من الخيرات وتوفير أكثر ما يمكن من مواطن الشغل من ناحية، وتحقيق اكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية من ناحية أخرى. وثالثها أنّ الواجب يقضي اليوم أن تولى الجهات الداخلية المحرومة عناية غير مسبوقة حتى تغالب حرمانا طال أمده.
وهكذا نتبيّن بوضوح تداخل الأبعاد التي نتج عنها مأزق الوطن اليوم، السياسي منها والأمني والاقتصادي. فهي تتفاعل في ضرب من السببية الدائرية، حيث يؤثر الوضع السياسي والأمني غير المستقر في حركية الاقتصاد الذي يؤثر بدوره في الوضعين السياسي والأمني.
غير أنه لمّا كان العنصر السياسي أهمّ العناصر لشمول محتواه ومصيرية اختياراته، كان من الواضح أنّ الخروج من الأزمة الوطنية الراهنة، في أبعادها الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، يرتبط ارتباطا وثيقا بالخروج من الأزمة السياسية، بما تفرضه راهنا من عناية خاصة بأولوية الشأن الأمني.
ويستوجب الإقرار بمركزية العنصر السياسي في الأزمة الوطنية الاعتراف بمحدودية جدوى المقاربات الظرفية والإجراءات الحينيّة في معالجتها، بل يقضي الواجب اليوم، في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ الوطني المباشر، بالإقدام على إصلاحات جذرية شاملة لنظمنا الاقتصادية والتربوية والثقافية والاجتماعية بما يستجيب لطموحاتنا في حياة كريمة مزدهرة تجمع إلى جدوى البادرة الإنتاجية مبدأ العدالة الاجتماعية وسلامة توزيع المجهود التنموي، حتى لا يبقى شبر من أرض الوطن يشكو ضيما.
ومن أبرز الإصلاحات الضرورية تلك التي تهمّ الجباية باعتبارها واجبا وطنيّا. فإهمال واجب الجباية ضربٌ من التحيّل على المواطَنة، كما أنّ عدم الإنصاف في تحديدها وفي توزيعها على مختلف شرائح المجتمع، أو التراخي في المطالبة بها، ضربٌ من إهمال آليات تحقيق العدالة الاجتماعية .
المصاعب كثيرة لكن الآفاق لا تزال واعدة بِمستقبل أفضل إن تعالت قيم العمل، وتنامت أخلاقيات الصدق، وتوطدت الثقة في النفس.
اليوم وقد جدّ الجد أدرك التونسي عن تجربة رائدة أنه لئن كان من المهمّ ان لا يكبو الجواد فإنّ الأهمّ أن ينهض إذا كبا. فلقد تعثرت مسيرة الدولة الوطنية المرار العديدة، ولكنها انتصرت في كل مرة على مصاعبها وأصبحت أقوى مما كانت. وليس أدلّ على ذلك من قيام الثورة باعتبارها – سلبا - رفضا لأوضاع استشرى فيها الفساد، وضاعت أخلاقيات الصدق، وتلاشت في زحام المحسوبية ودوائر الانتماءات المتخلفة قيمُ العمل والكسب بعرق الجبين، وباعتبارها – إيجابا – فتح آفاق واعدة بغد أفضل يوفّر فيه التونسي لنفسه شغله ويضمن حريته ويصون كرامة وطنه. فعزّ الأوطان من عزّ المواطن.
لذلك لن يستسلم التونسي للمشكّكين في ثورته سواء بشدّها زورا إلى تدبير خفيّ من دوائر أجنبية، أو إلى تآمر جهنمي من تخطيط قوى داخلية. فليس لأحد أن يقلّل من شأن ثورة تراكمت أسبابها الموضوعية، وفي مقدمتها البطالة واتساع الفوارق بين الغنى الفاحش والفقر المدقع. بل ليس يمكن إلا تقدير ثورة تنادت لها العزائم الصادقة، وكان طليعتها شباب مدرسة الجمهورية مطالبا بالشغل والحرية والكرامة الوطنية.
لذلك كان على الدولة أن تحسن الإصغاء إلى شبابها طليعة ثورتها قيادة ووقودا. وليس لأحد في شعب ثلثاه دون الثلاثين، أن يهمل طموح الشباب إلى المشاركة الفعلية في إنجاز مطالب الثورة المتأكدة ورسم معالم الغد الوطني القريب منه والبعيد.
ويكفي شباب تونس فخرا أنه جعل لثورته شعارا عالي المرامي، دالاّ في معانيه الثلاثة المتضافرة، الاقتصادي منها والسياسي والحضاري، على أن شبابنا أراد لثورته أن تكون بمآلها أكثر ممّا هي بمنطلقاتها، وبغاياتها المطلوبة أكثر ممّا هي بأسبابها المُحتّمة، وبمستقبلها الزاهر أكثر ممّا هي بماضيها البائس. ولذلك كان الواجب يدعو أكثر من أي وقت مضى إلى يقظة وطنية حازمة لتحقيق تلك الأهداف السامية، حتى تستعيد تونس مكانتها المشرّفة بين أُمَمِ الدنيا ، وحتى تعود للتونسي نعمة الشعور بفرحة الحياة. وهو ما يتطلب أن يكون الشغل أولى الأولويات اليوم وغدا في أفق تنمية شاملة مستديمة يكون بناء مجتمع المعرفة سبيلها، والعدالة الاجتماعية من أوثق أركانها الموجّهة، والإنسان غايتها و مركزها.
ولقد حققت تونس في هذا الاتجاه أشواطا لا تنكر، وان كانت دون ما نريد كمّا وكيفا، ودون ما تقدر عليه بكثير. ولعلّ أخطر إنجازات الثورة أن الشعب تعلّم كيف يدافع عن مكاسبه بنفسه، وكيف يعبّر عن طموحاته ويحمل مؤسسات الدّولة على تبنّيها، فخرج بذلك من طور الوصاية المُذلّة إلى طور الرشد المناضل، وتجاوزنا إلى غير رجعة عقلية الإقصاء والتهميش، واتخذنا من الحوار الوطني منهجا قويما، وجد في الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد الوطني للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وعمادة المحامين، خير سند في أصعب مراحل الانتقال الديمقراطي الذي نحن أشدّ ما نكون إيمانا بنجاحه.
لقد أنجزنا الكثير وحقّ لنا أن نفخر بما أنجزنا، ولكنّ ما بقي علينا إنجازه أهمّ وأكثر، وهو ما يفرض علينا جميعا أن نقبل بعزم قوي أمين على تحصين الثورة حتى تنمو وتتعزّز.
أمّا وقد دقّت اليوم ساعة الاختيار المصيري فليس من تحصين للثورة إلا بالعِلم والعمل أوّلا، والعِلم والعمل ثانيا، والعِلم والعمل ثالثا، في مجتمع آمن واقتصاد مزدهر، وبقيادة دولة مدنية قوية عادلة، ترعى الثقافة، وتنشر المعرفة، وتحمي الحرية.
قائمة الممضين
مصطفى كمال النابلي
عبد الجليل التميمي
حمادي بن جا بالله
عبد المجيد الشرفي
آمال قرامي
آمنة منيف
بثينة بن جاب الله العيادي
توفيق البشروش
توفيق الجبالي
حمادي صمود
سليم اللغماني
سنية التميمي
الطاهر بوسمة
عبد القادر المهيري
عبد اللطيف الفراتي
عبد الوهاب المدب
عبد الوهاب محجوب
علي المزغني
عمار المحجوبي
فتحي بن سلامة
فوزية الشرفي
كلثوم مزيو
محمد الحداد
محمد الكيلاني
محمد عبد الناظر
محمد نوري رمضان
منية بن جميع
منيرة شابوطو الرمادي
نائلة السليني
نصر الدين عفريت
هالة بوسمة

 



·          



Synthèse

Que propose le Livre blanc de Mustapha Kamel Nabli et son groupe


       
« Cette forme d’expression, le "Livre blanc", indiquent ses auteurs a été choisie par ce groupe afin que leur point de vue ne soit pas considéré comme un simple « appel » ou une simple « lettre ouverte» adressée à l’opinion publique, ni comme une « motion » définissant une liste d’exigences. Ce document se veut un « Livre blanc », d’abord  parce que ses initiateurs s’expriment en partant d’une perspective Citoyenne—qui est la plus noble et la plus globale---qui dépasse l’étroitesse  des partis pris, des appartenances  politiques voire professionnelles. Ensuite, ce document se présente comme un « Livre blanc » qui, plutôt que de se limiter à la description des maux dont a souffert le pays avant la Révolution et qui ne cessent de s’aggraver depuis, apporte des propositions de solutions qui peuvent contribuer à la sortie de l’impasse dans laquelle il se trouve. Enfin, c’est un «Livre Blanc» qui, sans attribuer la responsabilité à quiconque en particulier, exige que le citoyen soit au faite sur les causes réelles qui ont conduit le pays à cette crise.

Ce «Livre Blanc» constitue un cri de détresse en vue du salut de l’Etat tunisien, un appel pressant pour le libérer de la situation tragique dans laquelle il s’est trouvé confiné. Cette situation alarmante a eu des retentissements sur la psychologie du citoyen tunisien souffrant actuellement de déception et de désillusion qui le condamnent à l’indifférence. En effet, si, avant la révolution, on ne cessait de ressasser la notion d’Etat de droit et des institutions essentiellement dans le but d’opprimer le citoyen, après la révolution, ce concept est désormais utilisé pour déconstruire l’Etat lui-même. Ce sont les raisons pour lesquelles s’impose, aujourd’hui, une priorité absolue : la restauration des rôles politique, régulateur et éthique de l’Etat. Une restauration devant commencer, insiste-t-on, par une réforme de l’instance judiciaire qui devrait acquérir toute son indépendance, œuvrer à parfaire la formation des juges et à améliorer leur compétence professionnelle. L’avenir de la Tunisie et le sort de la révolution en dépend et ne peuvent être assurés que par un système judiciaire performant et indépendant, ce qui requiert l’intégrité morale, la formation scientifique et la compétence professionnelle.

Les auteurs du Livre Blanc estiment qu’à l’origine de la décadence actuelle, se trouvent des problèmes essentiels relatifs aux questions de la culture, de l’éducation, de l’information et de la sécurité.

En ce qui concerne la culture, pour les auteurs, il s’agit de lui assigner la mission de sauvegarde les fondements constitutifs de l’identité nationale, et de renforcement de l’aspiration du citoyens à l’esthétique de la beauté et le rejet de la laideur, de même que sa libération de toute forme d’oppression et d’étouffement. Quant à la question éducative, elle revêt, aux yeux des signataires, une importance capitale, étant donné son impact sur la formation des générations futures, ce qui rend nécessaire la reconnaissance de l’autonomie de l’Ecole de la République, qu’il s’agisse des jardins d’enfants jusqu’à l’Université, et de les protéger de toutes les formes d’interférence liées à la compétition politique. Le système éducatif ne doit obéir par principe qu’à ses propres exigences pédagogiques et scientifiques.

Aussi est-il urgent, martèlent les signataires de ce document, de mettre fin à l’anarchie qui a envahi les milieux scolaires et culturels, de fermer dans l’immédiat, toute “école”, tout “koutèb” et toute faculté nouvellement constituées dans l’illégalité et ne répondant pas aux critères scientifiques, pédagogiques et sanitaires tels que définis pat les règlements en vigueur.

Conformément au principe de l’indépendance, poursuivent les auteurs, la Tunisie est en droit de se réjouir de l’affranchissement du journaliste de la soumission à laquelle il était astreint des années durant, se donnant ainsi le moyen de faire preuve de ce dont il est professionnellement capable. Toutefois, sa mission est appelée à se hausser davantage au rang des nobles tâches qui lui sont  aujourd’hui confiées : faire prendre plus conscience aux citoyens des objectifs de la Révolution, à savoir l’emploi, la liberté et la dignité nationale, et leur faire connaître les dangers qui guettent la Nation et  la Révolution, provenant en particulier de ceux qui se déguisent derrière l’évocation des principes de la liberté d’association, de pensée et  d’expression. Il s’agit pour le journaliste de défendre la déontologie de son métier tout autant que de défendre les valeurs de liberté, d’égalité et de progrès.

Quant à l’affaire sécuritaire, elle occupe une place majeure. Le « Livre Blanc » appelle   à faire converger les efforts fournis en la matière en vue d’une meilleure coopération avec nos voisins maghrébins. La recrudescence du terrorisme appelle à doter, urgemment, les forces armées, de la sécurité intérieure et la douane de toutes les ressources humaines, financières, logistiques et juridiques adéquates, en vue de leur donner les moyens de protéger les frontières de toute violation et de faire face, à l’intérieur, à toutes les formes de laxisme et de transgression  des prérogatives  de l’Etat. Il est impératif à ce que tout citoyen ou association de la société civile apporte tout soutien possible en vue de gagner notre lutte contre le terrorisme. L’efficacité de cette action requiert, selon les auteurs de ce Livre Blanc, la création d’une institution sécuritaire moderne quant à sa structure et républicaine quant à son éthique et à sa fonction ; et qui serait soutenue par une agence nationale des renseignements et de la sécurité globale.

Le devoir national oblige à prendre convenablement soin des blessés des forces armées et de sécurité et à prendre en charge, comme il se doit, les familles de nos martyrs, victimes de la lutte contre le terrorisme. Cette cause ne saurait être gagnée qu’en attaquant les cause du mal, et partant, en tarissant ses sources matérielles et en démantelant ses bases idéologiques : bloquer son financement en luttant contre le commerce illicite, et reprendre en main toutes les mosquées, tous les lieux de prière confisqués par les apôtres de la culture de la haine, de la pensée obscurantiste, et par les hors la loi.

Les auteurs du Livre Blanc mettent en garde contre la tentation de ne pas écouter suffisamment la Jeunesse Tunisienne éduquée et consciente, fer de lance de la Révolution et ferment des temps à venir. Ils considèrent que cela constitue une des missions essentielles de l’Etat dans tout ce qu’il entreprend. Par ailleurs le Livre Blanc n’a pas été en mesure de couvrir suffisamment les questions économiques et sociales à cause de leur complexité, de leur difficulté et de la lourdeur de l’héritage. Il a été en mesure seulement d’appeler à mettre ces questions de manière appropriée et dans leur globalité sur la table par l’ensemble des composantes économiques et sociales du pays. Ils mentionnent, cependant, que d’ores et déjà l’Etat est tenu d’exercer son rôle régulateur et législatif dans trois directions principales. La première consiste à concilier entre l’objectif de sauvegarde de l’indépendance et la souveraineté dans les décisions nationales et les choix d’ouverture sur l’économie mondiale et ce que cela offre comme possibilités pour le développement. La deuxième est de trouver un équilibre dans les choix économiques entre la nécessité de promouvoir la liberté d’entreprendre qui permet la création des richesses et des opportunités d’emploi d’un côté et la réalisation du maximum d’équité et de justice sociale d’un autre côté. Finalement l’exigence aujourd’hui est de donner au développement des régions de l’intérieur l’attention nécessaire en vue de mettre fin à une période de privations qui trop duré.

Restaurer le statut de l’Etat dans la société ainsi que ses fonctions politiques, éthiques et régulatrices sont un réquisit nécessaire autant au salut du pays qu’à la réalisation des étapes restantes du processus de transition démocratique, notamment la réussite des prochaines élections législatives et présidentielles, un moment crucial pour l’avenir de la Tunisie. En réalité, l’enjeu des prochaines élections est moins celui du choix d’un gouvernement pour cinq années que celui du choix d’un projet de société et de civilisation. Soit les Tunisiens se réveillent pour sauver leurs acquis et les promouvoir, en premier lieu, l’Ecole de la République, le Code du Statut Personnel, ainsi que l’attachement aux  valeurs de tolérance et d’ouverture, l’adhésion aux principes des droits universels de l’Homme, le respect des accords internationaux et des lois régissant les relations entre les pays, soit ils laisseront la porte ouverte à l’inconnu et ce que peut apporter le processus du chaos créatif, une approche adoptée par ceux qui ambitionnent à un retour vers l’âge de la pierre.

Les auteurs du Livre Blanc reconnaissent que la Tunisie ait fait, contre vent et marée, beaucoup de progrès, bien qu’en deçà de ses ambitions en quantité et qualité, et surtout en deçà de ses possibilités. Il tiennent pour un acquis majeur de la Révolution que le peuple ait appris à  défendre lui-même ses acquis, à exprimer lui-même ses ambitions et à obliger l’Etat à les servir, rompant de la sorte avec le statut humiliant de minorité marginalisée pour accéder à un militantisme bien compris et dépasser définitivement l’esprit d’exclusion. Ce sont cette éthique et ces valeurs politiques sur lesquelles peut compter le Tunisien pour réaliser les finalités de sa Révolution, en premier lieu l’emploi qui demeure la priorité des priorités, ainsi que les libertés tant individuelles que sociopolitiques et la dignité nationale, ce qui garantirait le salut éternel du pays ». 

Les signataires

1.   Mustapha Kamel Nabli
2.   Abdeljélil Temimi
3.   Hamadi Ben Jaballah
4.   Abdelmajid Chorfi
5.   Amel Grami
6.   Emna Mnif
7.   Boutheina Ben Jaballah Ayadi
8.   Taoufik Bachrouch
9.   Taoufik Jebali
10.                    Hamadi Sammoud
11.                    Slim Loghmani
12.                    Sonia Temimi
13.                    Taher Boussemma
14.                    Abdelakder Mhiri
15.                    Abdellatif Fourati
16.                    Abdelwahab Meddeb
17.                    Abdelawhab Mahjoub
18.                    Ali Mezghani
19.                    Ammar Mahjoubi
20.                    Fethi Ben Slama
21.                    Faouzia Charfi
22.                    Kalthoum Meziou
23.                    Mohamed Haddad
24.                    Mohamed Kilani
25.                    Mohamed Abdennadher
26.                    Mohamed Nouri Romdhane
27.                    Mounira Chapoutout-Remadi
28.                    Neila Sellini
29.                    Nasreddine Afrit
30.                    Hela Boussemma


الجمعة، 20 يونيو 2014

الموقف السياسي : سيناريو السبسي رئيس ولكن بأي أغلبية برلمانية ولونسبية : المأزق

الموقف السياسي
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
الزمن الانتخابي .. الخلفيات ،، والتداعيات
تونس / الصواب /19/6/2014
قبل آخر الأسبوع ، والغالب يوم السبت 21 جوان الحالي ، يتم التحديد الرسمي والنهائي للمواعيد الانتخابية المقبلة.
وباعتبار المقتضيات الدستورية والقانونية فإن تلك الانتخابات ستجري في أواخر أكتوبر بالنسبة للتشريعية البرلمانية ، يكاد يكون يوما بيوم بعد ثلاث سنوات على انتخابات 23 أكتوبر 2011، وطبعا في دورة واحدة باعتبار طريقة الانتخاب القائمة ، كما كان الأمر قبل ثلاثة أعوام على أساس التصويت بالنسبية على القائمات وبأعلى البقايا.
كما ستجري الانتخابات الرئاسية في موعد أواخر نوفمبر المقبل ، واحتمالا إذا احتاج الأمر لدورة ثانية ( وغالبا سيحتاج ) في أواخر ديسمبر 2014.
وإذ ستجري الانتخابات التشريعية في شهر أكتوبر 2014 وتظهر نتائجها على الأقصى في بدايات نوفمبر بعد الانتهاء من النظر في كل الطعون المحتملة، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كان رئيس الجمهورية المؤقت ( قد بقي في منصبه ولا شيء دستوريا أو قانونيا يمنعه من ذلك ، والتعلل بالأخلاقية غير كاف في حد ذاته لدفعه على الاستقالة )، إذن هو ما إذا كان رئيس الجمهورية المؤقت ، هو الذي سيدعو ، زعيم الحزب الفائز ولو بأغلبية نسبية لتشكيل الحكومة، أو إنه سيترك الأمر لخلفه ( مهما كان وربما يكون هو نفس الشخص) ، أم إنه سيترك الأمر للرئيس المنتخب في أواخر نوفمبر أو أواخر ديسمبر 2014 ( حسبما يحتاج الأمر إلى دورة أو دورتين ) ، لتعيين رئيس جديد للحكومة ، بحيث تبقى حكومة التكنوقراط الحالية لتصريف الأعمال.
ولكن ما هي الظروف التي حفت باختيار الزمن الانتخابي المنبثق من "الحوار الوطني " .
لنذكر أن حركة نداء تونس ، كانت هي أول من اقترح الفصل بين المسارين الانتخابيين ، ولم يكن ذلك المقترح بريئا، بل كان يعتمد حسابات سياسية محددة، فقد كان النداء يتكهن بأن نتائج الانتخابات الرئاسية لن تفلت من بين يديه مهما كان الحال سواء بالنجاح في الدورة الأولى أو الدورة الثانية ، وكانت حركة الباجي قائد السبسي تسعى لتوظيف ذلك النجاح الذي  تتوقعه اعتمادا على نتائج استطلاعات الرأي التي تعطي الباجي أسبقية مريحة تجاه أي من المرشحين الآخرين ، وخاصة رئيس الجمهورية الحالي ، الذي لا يأتي إلا في مرتبة ثالثة أو رابعة في دورة أولى تبدو محسومة وفقا لتقديرات طبقة سياسية ما زالت رغم ذلك تتلمس طريقها ، وتقف موقف التشكيك من استطلاعات الرأي.
ويعتقد زعماء نداء تونس ، أن احتمال نجاح مرشحهم ، سيعطيهم ديناميكية مؤثرة في انتخابات تشريعية لاحقة، كما دلت التجارب في عدد من البلدان ومنها فرنسا بالخصوص.
ولذلك فقد نادوا أولا بالفصل بين المسارين الانتخابيين ، وثانيا إلى أسبقية الانتخابات الرئاسية، ليقطفوا ثمرة نجاحهم المتوقع في الانتخابات اللاحقة أي  التشريعية.
غير أن حركة النهضة تفطنت إلى المناورة ، ومقاصدها البعيدة، لذلك أصرت بداية على التزامن بين المسارين الانتخابيين ، ثم وأمام تواجد أغلبية من الأحزاب مع الفصل بين المسارين، عدلت موقفها بصورة براغماتية أصبحت تتقن اللعب على حبلها، وإذ استجاب  الحوار الوطني من خلال وفاق قائم هو الآخر على التصويت لا وفاق حقيقي ، إلى طلبات حركة النهضة ، فقد وجد الباجي قائد السبسي وأنصاره أنفسهم في التسلل ، ولن يجنوا أي استفادة من الفصل بين الانتخابين كما أملوا وكما منوا النفس.
بل على العكس ، لقد بدا وكأن حركة راشد الغنوشي قد حققت نقاطا إيجابية، بعد أشهر عديدة من الصعوبات التي مرت بها على المستوى السياسي والتي انتهت بإزاحتها من الحكومة، وإن بقيت هي وأنصارها مسيطرة على المجلس التأسيسي بمعية المؤتمر والتكتل وآخرين.
ماذا يعني ما حصل من فصل ،وبهذه الطريقة وما هي الاحتمالات التي تؤدي إليها.؟
لقد انتهينا من الفصل بأسبقية الانتخابات الرئاسية، التي كان مؤملا عند حركة النداء أن تعطيها  رافعة حقيقية للسيطرة الفعلية على الحكم، وإذ كان الأمل لديها في أن انتخابات رئاسية سابقة للتشريعية ستعطيها ديناميكية حقيقية ، تمكنها إن لم يكن من السيطرة على البرلمان المقبل وهذا يبدو مستحيلا في ظل طريقة الاقتراع المعتمدة ، مضافا إليها مقتضيات القانون الانتخابي  ورفض العنصرين المؤديين للحد من التشتت عبر عتبة التصويت وعبر التزكية ، فعلى الأقل من الحصول على أغلبية نسبية مريحة تدفع بالأحزاب الصغيرة للتدافع على بابها للانضمام إليها توسلا للحصول على كراسي وزارية تعتبر فتاتا للترضية وغير مؤثرة، كما كان مع النهضة والترويكا التي كانت مجرورة فقط وراء قاطرة قوية هي حركة راشد الغنوشي.
اليوم انتهينا من الفصل بهذه الطريقة ، التي تركت جروحا في نفوس قيادات النداء، تبدو عميقة باعتبار تصويت ثلاثة أحزاب على الأقل من اتحاد تونس لفائدة الفصل بإعطاء أسبقية للتشريعية على الرئاسية ، كما كانت ترغب النهضة في مواجهة لنداء تونس.
وكان رد الفعل سريعا وشمل لا فقط الأحزاب التي صوتت لفائدة ما دعت إليه النهضة بل حتى الأحزاب الأخرى التي كانت في تحالف عميق مع النداء، حيث سقط قرار سي الباجي بأن النداء سيقدم قائماته الانتخابية منفردا ، لا في تحالف مع الأحزاب الأخرى ، وعلى أساس أنه يرحب في قائماته  بشخصيات من تلك الأحزاب ومن المستقلين لا بصفتهم تلك ولكن كمكونات تحت راية النداء لا تحت راية أحزابهم في ائتلاف ربما غير متكافئ ولكنه موجود.
وقد آلم هذا القرار كثيرا ، ولكنه كان الرد المتوقع على عدم انتظام الاتحاد من أجل تونس، والخذلان من طرف بعض مكوناته لسي الباجي.
وفي هذه الحالة فإن النداء ترك شركائه في موقف حرج، فإن ترشحوا على قائماته لا قائمات انتخابية ائتلافية  فإنهم سيفقدون ذلك الوزن بصفتهم كيانات مستقلة ، كما إنهم لن يكونوا في المراتب الأولى على تلك القائمات وهي المراتب التي تضمن الحد الأدنى من احتمالات النجاح، وإن ترشحوا منفردين وفي قائمات خاصة بهم فإن حظوظ نجاحهم ستكون ضئيلة في ظل تجاذب ثنائي أخذ بالتعاظم.
غير أن الانتخابات التشريعية المقبلة ستكون على شاكلة الانتخابات السابقة لـ 23 أكتوبر 2011 ، من حيث تشتت الأصوات ،  حيث بقيت جملة 1.5  مليون من الأصوات خارج قدرة على الإستفادة من توزيع المقاعد ، أي قرابة ثلث المصوتين الذين لم يروا أثرا لتصويتهم.
وإذا كانت النهضة قد استفادت من هذه الحالة في الانتخابات السابقة ، فمن سيكون المستفيد هذه المرة ؟
صناديق الاقتراع وحدها هي التي يمكن أن تجيب ، وهل ستستفيد النهضة من هذه الحالة أم نداء تونس،  وهذا مرتبط بالحزب الأول الذي سيجمع أكبر عدد من المقاعد في البرلمان المقبل.
والواضح هنا أن الطبقة السياسية لم تستفد من التجربة السابقة، وستدخل الانتخابات بمزيد الضبابية عن الانتخابات الأخيرة، وستتوزع المقاعد بشكل عشوائي، وربما لن تكون هناك أغلبية واضحة تمكن من القدرة على الحكم ، والحسم في قضايا مصيرية ، لم تحاول حكومة المهدي جمعة بعد 4 أشهر من تنصيبها الحسم فيها ولا هي على نية حقيقية للحسم.
لو مر مقترح نداء تونس بأسبقية الرئاسية ، توسلا للحصول على أغلبية  برلمانية ولو نسبية كبيرة، لوجدت البلاد نفسها في حالة سياسية أشبه بنظام رئاسي مقنع ، تكون فيه خيوط القرار مجموعة في يد حزب واحد ، ولعله شخص واحد هو الباجي قائد السبسي ، رئيس الجمهورية ، وقائد أغلبية ولو نسبية كبيرة ، و" مشينا مشينا ورجعنا لنقطة الانطلاق".
أما وقد مر المقترح الثاني أي أسبقية التشريعية ، فإنه ومهما كانت الأغلبية النسبية فإن ما قد ينتظر البلاد، هو ضعف في الاستقرار وانعدام قرار ، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى حزم  وخاصة في مجال السياسات الاقتصادية، فهل سيكون الباجي قائد السبسي قادرا في حالة انتخابه رئيسا  على مسك البلاد ، والتأثير في الحكومة، أم سيكون وبصلاحيات محدودة جدا في نفس تخبط الرئيس المؤقت الحالي ، وقلة تأثيره ، والتزامه بخط النهضة أو الحزب الذي ستكون له أغلبية نسبية ، والأول في نتائج انتخابات أريد لها وللبلاد أن لا تكون حاسمة.
مؤكد أن الباجي مختلف مهما كانت النتيجة، وأنه رئيسا لن يكون على سلبية سلفه، وأنه بأغلبية نسبية أو بدونها ، فإنه سيكون رقما فاعلا إن حصل كما يتمنى على المنصب الرئاسي المأمول.