Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الجمعة، 10 فبراير 2017

بكل هدوء : بلا ماض بلا حاضر ولا مستقبل

بكل هدوء
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
في بلد لا يعرف تواصل الدولة
ولا تراكم التجارب والمنجزات
تونس / الصواب /10/02/2017
لا أستطيع أن أهضم ادعاءات تقول بأن كل شيء كان خرابا منذ 1956 ، وحتى قيام " الثورة "  ، فأجيال المتعلمين والمبرزين ، وأجيال الأصحاء بعد أن كان الرمد والسل على سبيل المثال  لا الحصر يفتكان  عمى أوبحياة الألوف ، وكل تلك المداخن المجللة للمصانع ، والسدود العالية والطرقات السريعة وغير السريعة والجسور والمحولات ، وشبكات صنع الكهرباء وأبراج نقلها ، كل ذلك يشهد على أن بلادنا لم تستكن فيها الحركة التشييدية على مدى 60 عاما ، هذا فضلا عن الانجازات النوعية مثل إعادة الكرامة للمرأة وإدماجها في الدورة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وغيرها بما أثرى المجتمع ، وزاد في القيمة المضافة اقتصاديا واجتماعيا بشكل كبير.
ولا يمكن أن ينكر ذلك ناكر ، كما لا يمكن القول أيضا ، بأن ذلك هو أفضل ما كان يمكن عمله ، فبلادنا التي كانت تستوي دخلا فرديا هي وسنغفورة في الستينات، لم تستطع أن ترتقي بالدخل الفردي إلا إلى 5 آلاف دولار ، فيما سنغفورة رفعت دخلها الفردي إلى 50 ألف دولار، ومن المؤكد أن هناك دولا حتى بترولية لم تحقق ما حققته تونس ، ولكن لماذا ننظر إلى ما هو أدنى منا ولا نرفع أنظارنا إلى من هم أعلى.
الواقع أننا يمكن أن نجد الأسباب في عدد من العوامل :
أولها أننا شعب في عمومه لا يحب العمل ولا يؤمن بالجهد.
وثانيا إننا لم نكن دوما محكومين كما ينبغي لنا أن يقع حكمنا ، فمن كارثة التعاضد  والإقلاع الوشيك الذي لم يحصل بعد عقود وحتى الآن ، إلى الجنة الموعودة مع رأسمالية الدولة في السبعينيات  ، إلى تخبط سنوات الثمانينيات ، إلى نهب التسعينيات وسنوات الألفين ، إلى فوضى سنوات ما بعد الثورة حتى لا نقول شيئا آخر وانحدار حاد في نسبة النمو وانفجار مديونية ستثقل كاهل الأجيال الجديدة .
ومن هنا فإن نسبة النمو عندنا كانت في حدود 5 في المائة سنويا أقل أو أكثر بقليل ، في وقت كانت بلاد أخرى لا تزيد الكفاءات فيها عما عندنا ، تسجل نسب نمو من رقمين ، وإذ لا نتحدث عن معجزات في كوريا وسنغفورة وماليزيا وإندونيسيا والفيتنام  حيث ثقافة أخرى وإقبال على العمل منقطع النظير ، أكبر خالق للثروة ، فإن تركيا حققت معجزتها نتيجة لجرأة الرئيس أوزال والاقتصادي الملهم كمال درويش ، وإن كان حزب أردوغان واصل المسيرة إلى حد عام أو عامين مضيا.
نحن شعب ليس مجبولا على حب العمل ، ويصدق علينا ما قاله وزير الخارجية الفرنسي الأسبق  جوبير ، بأن الانسان خلق ليعيش في الجنة بلا جهد ولا عمل ، وعندما نزل إلى الأرض بعد الخطيئة الكبرى ، كان عليه أن يعمل ويكد ، وكان عليه أن يدفع الضرائب ، وهما أكثر الأشياء كرها لنفسه.
ثم أننا ومن تجربة السنوات الأخيرة  شعب مجبول على الماسوشية أي يتلذذ تعذيب نفسه بنفسه ، فيغلق مصادر رزقه شماتة في الآخرين وما هو شامت إلا في نفسه ، لا ترده عن ذلك نقابات واعية بل تتسم بقدر كبير من المراهقة ، لا تنظر للتوازنات الكبرى بقدر ما تنظر للعاجل مما تحققه على حساب النظرة الطويلة الأمد .
وفوق هذا وذاك فنحن شعب بحكوماته المتعاقبة، لا نعرف التراكم، تراكم ما هو إيجابي ، ولأقدم هنا مثالين فاضحين:
المثال الأول يتمثل في حركة إزالة الأكواخ التي استنبطها بورقيبة في سنة 1983 وكلف بها وزير التجهيز   آنذاك محمد الصياح ، وكان مفترضا أن تفضي في 5 أو 6 سنوات لإزالة الأكواخ   la dégourbification   وقد استنبط لذلك برنامج خصصت له اعتمادات ، كانت تقتضي إسكان كل الناس في بيوت لائقة ببناء صلب يتوفر لها الماء الجاري والكهرباء، ومن طرائف ما أذكر أن الكاتب العام لذلك الحراك كان يقول la débourguification وكان محمد الصياح ينبهه إلى أن ما يقوله يعني إزالة بورقيبة ، وكثيرا ما كان نفس الشخص يعود عن حسن نية لذلك القول ، وخلال أشهر تم بناء محلات لائقة وزعت بالمجان واعتمادا في الغالب على مواد البناء المحلية ، أي الموجودة في المنطقة من حجر وطين وأعواد خشب.
وبحلول السابع من نوفمبر 1987 تم التخلي عن هذا المشروع ، الذي لو استمر وقتها ، لما واجهنا في هذا الشتاء مساكن أقل من قصديرية تتساقط فوق رؤوس ساكنيها ، ولكن ثقافة التراكم وتواصل الدولة غير معششة في عقولنا أو على الأصح عقول حكامنا ، فسريعا ما تخلينا على مشروع اجتماعي واقتصادي كان يمكن أن يجنب الكوارث لاحقا ، ويوفر بأدنى التكاليف المسكن اللائق ، ويتجه لتجميع المواطنين في تجمعات قابلة لتوفير متطلبات الحياة الكريمة.
أيضا  حساب 2626 وحتى 2121 وهما مشروعان خيريان ، من واقع تاريخنا عندما كانت  تقوم جمعيات خيرية ، وأذكر إحداها في صفاقس ( كان والدي أحد قيادييها ) كانت نشيطة في جمع الأموال وإسعاف الفقراء ، وتوفير السكن والمأكل للطلاب الوافدين على المدينة من المدن والقرى في الجنوب والوسط التي لم يكن فيها تعليم ثانوي سواء مدرسي أو زيتوني ، وغير ذلك من الخدمات ، وإني لأذكر ذلك المبيت في سوق الجمعة الذي كان لنا أصدقاء فيه نذاكر معا في رحابه.
حساب 2626 وحتى 2121 لم تكن فكرتها  سيئة بل بالعكس وكان واجبا استمرارها ، وبعد تخليصها من شوائبها ، كإجبارية الدفع ، وكضرورة إقرار موازنة شفافة ، وإن كانت التحقيقات القضائية ،  التي أجريت بعد الثورة سواء مع كمال ساسي أو عمر بن محمود ، قد كشفت عن مدى نزاهة الشخصين وما يتميزان به من ثقة مطلقة ، وما أدياه كل واحد في وقته من خدمات للمجتمع .
ألم يكن جديرا أن يتواصل بناء المسكن لفائدة  الفئات الأفقر في المجتمع والنائية على حساب الدولة ، ألم يكن جديرا بالبلاد أن يتواصل العمل بالصندوقين الاثنين ، ولكننا شعب بلا تراكم  في الانجاز ، ودولة بلا ماضي ولا ذاكرة ، لا نحسن البناء على ما سبق بل نهدمه بلا وعي ولا شعور بالمصلحة العامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق