من الذاكرة (تصحيح )
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
الخميس الأسود..
ما قبله وما بعده ؟؟؟
تونس/الصواب
/ 10/04/2020
كانت عشية
كئيبة في ذلك اليوم الأربعاء 25 جانفي 1978 ، من مكتبي بالجريدة في نهج باش حانبة ، انتقلت إلى مقر الاتحاد في
ساحة محمد علي ، دخلت مباشرة إلى مكتب صالح برور، وكان بمثابة الكاتب الخاص للحبيب عاشور، كنت آمل
أن أدلف منه إلى الأمين العام العام ، كما
كانت عادتي في تلك الأيام ، ولكن طال الانتظار والأمين العام مشغول ، وأنا في عجلة
من أمري ، تذكرت ما سبق لي أن جلست معه قبل أيام قليلة وكنا ثلاثة الطيب البكوش ،
وكان له رأي مسموع في القيادة النقابية ، وهو الذي يمثل بصفته الجامعية العقل
المدبر ، وعبد الحميد شماخية وهو بمثابة المدير الإداري والمالي في الاتحاد ، وأنا
، دار الحديث عن ضرورة إيقاف التصعيد وربما تأجيل الاضراب العام ، وكان الجو العام
منذرا بأسوإ العواقب ، دخل علينا صالح برور في مكتب الأمين العام كالعاصفة ، وإذ
استمع إلى جانب من الحديث أرغى وأزبد وقال ،، لا تراجع ، وكان وهو من أقارب الحبيب
عاشور مسموع الكلمة ،، خرجت من مكتب الحبيب عاشور تاركا الأمر في اعتقادي بين يدي
الطيب البكوش ، كنت من رأيه وأيضا عبد
الحميد شماخية ، من نهج محمد علي اتجهت نحو المطبعة بشارع مرسيليا ، ولكني في شارع
باريس انعطفت نحو الباساج ومن هناك إلى شارع الحرية ، إلى يسار الشارع وبعد 50
مترا ، دلفت إلى العمارة التي يوجد بها مكتب الدكتور حمودة بن سلامة وهو من أشد
المتحمسين والعاملين من أجل تحرير البلاد وإطلاق الديموقراطية وكان أمينا عاما
لرابطة حقوق الانسان ، بقيت قليلا في غرفة
الانتظار قبل أن أدخل عليه ، ومن الشرفة لاحظنا خلو الشارع من السيارات وحتى من
المارة ، كنا متفقين أنه لا بد من خفض التوتر وإلا فإن الكارثة ستحل ، من هناك
ذهبت إلى مطبعة دار الصباح في شارع مرسليا ، بقيت في مكتب الطابق الأرضي ، وجاءتني
سريعا الأصداء من الداخل حيث آلة السحب الضخمة، وحيث كان الصحفيون والعمال مجتمعين
، وتقرر أن يكون يوم الغد بمشاركة كل أعوان دار الصباح داخل تحرك الإضراب العام ،
كانت الجريدة جاهزة للطبع ، ولم يعد لي من مهمة ذلك اليوم ، تحفطت على وثائقي
الشخصية القليلة ، واتجهت نحو باب الخروج من جهة نهج جان جوريس ، حيث كانت سيارتي
رابضة هناك منذ الصباح ، ناداني الحارس يطلبونك ، أخذت السماعة وعلى الخط كان صالح
برور ، كان هناك صياحا وضجة قال لي : لقد هجموا علينا ، سألته ، من؟ قال : البوليس ، قلت له ، هل سي الحبيب هنا قال لي لا
خرج وانقطع الخط ، كان الاتحاد قد أصبح في عزلة ، رن تليفون آخر ، كان على الخط الميداني
بن صالح ، لست أدري كيف مرت مكالمته من داخل الاتحاد ، وصف الوضع قائلا : هاجمونا
من كل مكان وأخذوا يجلوننا في "باقات " الشرطة ، مرة أخرى انقطع الخط ،
وأطبق صمت رهيب، الميداني بن صالح لم يبق
طويلا في الايقاف ، فقد توسط له وزير التعليم
محمد مزالي وكان رفيقا له في اتحاد الكتاب ،،،، عدت إلى ديسك التحرير في
الطابق الأول في نهج مرسيليا ، حررت خبرا
بما توفر من أخبار حول محاصرة مقر الاتحاد ، وإلقاء القبض على كل من كان فيه، فكرت
هنيهة ، ثم غلبني فضولي فاتجهت نحو نهج محمد علي ، من شارع باريس بدا لي أن
المدينة محاصرة ، لعلها منطقة نهج محمد علي ، دفعوني بغلظة عندما اقتربت ،وعدت أدراجي ، ركبت السيارة
واتجهت نحو بيتي في المنزه ، واعتقادي راسخ أنه حم القضاء ، وأننا مقدمون على أيام
صعبة ، ولكن لم يدر بخلدي أننا في مواجهة حمام دم.
اتجهت إلى
بيت جاري الصادق بسباس الأمين العام
المساعد ، ولكني لم أجده في بيته ، كان بيت الحبيب عاشور في المنزه محاصرا هو
الآخر ، أما بيت الصادق بسباس فلم يكن يبدو أنه تحت رقابة واضحة، بعد قليل كان
الصادق بسباس في بيته.
يوم الخميس26 جانفي ، وكان
يوم الاضراب العام تملكت أعصابي ، وبقيت أتنسم الأخبار ، فمقر الجريدة ومقر
المطبعة مغلقان ، لطبيعة الاضراب العام الذي كان الموقف إجماعيا بشأنهما ، تلفن
الحبيب شيخ روحه في الصباح الباكر ،وفقا لروايته التي أعلمنا بها لاحقا ، تلفن إلى "صديقه" الحبيب عاشور ، داعيا
إياه إلى التوجه وقتها عبر الإذاغة ، بنداء يتراجع فيه عن الإضراب العام ، ويدعو
لتهدئة الأمور ، ووفقا لما قاله لنا
الحبيب شيخ روحه ، فإن عاشور رفض ذلك ، هل تكون بادرة الحبيب شيخ روحة شخصية نابعة
منه شخصيا ، أم إنها كانت بإيحاء من صديقه
الآخر الهادي نويرة الوزير الأول ، الذي
كان يقضي كل ليلة في صالون الحبيب شيخ روحه
كل السهرة ، صحبة الشاذلي القليبي
شفاه الله ومحمود بلحسين ، وكان محمود بلحسين بمثابة أحد الكتاب الخاصين للرئيس
بورقيبة وكان مكلفا لديه بقراءة الصحف ،
أما الشاذلي القليبي فكان في ذلك الحين وزيرا مديرا للديوان الرئاسي ، وذلك قبل أن
يتم انتخابه أمينا عاما للجامعة العربية بعد نقلها لتونس، لا أحد يدري كيف جاءت المبادرة ؟ ولقد حصل ورأيت الجمع في
بيت الحبيب شيخ روحه ، أو على الأصح خمنت ذلك بمناسبة استشارة في أمر ما مع مدير
الصباح، لا ينبغي أن تمر عبر الهاتف ، ما كان يفرض علي الانتقال إلى قرطاج.
**
مر يوم 26 جانفي سيسمى الخميس الأسود ، في اليوم الموالي تم إلقاء القبض على
القيادة العليا للإتحاد بمن فيهم الحبيب عاشور ، ومن جملة من جمعتهم الشبكة ، جاري
الصادق بسباس الأمين العام المساعد ، عندما ذهبنا إلى زوجته كانت في قمة الشجاعة ،
لا انهيار ولا هم يحزنون ، وقد ضربت عائلات النقابيين من السجناء أيامها مثلا في الجلد والشجاعة ،
وقد رفضت العائلات على ما يبدو استلام مساعدات من المعارف ، وقد تكفلت على ما يبدو
الجامعة العالمية للنقابات الحرة من بروكسيل، بأمر العائلات المتضررة.
في ذلك اليوم
نفسه أدلى الهادي نويرة لإحدى وسائل الإعلام الأجنبية ( هل كان بطلب منه لتبليغ
رسالة معينة ) طبعا فرنسية بتصريح قصير تناقلته التلفزة التونسية ، وجوابا على
سؤال طرح عليه ، عما إذا كان سيجلس مع النقابات لإيجاد حل ، أجاب بنبرة قاسية ، لم
يعد بيننا وبينهم إلا القضاء وأحكامه.
سقطت على
تونس سحابة ضغط شديد.
يوم 27
جانفي صباحا دعي مدير التحرير في دار الصباح عبد الجليل دمق ، وكنت برفقته ، لمقابلة عاجلة مع كاتب
الدولة للإعلام مصطفى المصمودي الذي كانت تربطنا معه صداقة حميمية ، وكانت تجمعني
به قرابة عائلية وغير عائلية، وقد بدا عليه حرج شديد وهو يبلغنا ما معناه أن
الاستراحة انتهت ، وأن على جريدة الصباح وأخواتها أن تلتزم " الصف" ،
وما عجز عن تبليغه مما علمته لاحقا أنه كان هناك تهديد مبطن أوصريح ، عجز عن
تبليغه.
بعد قليل كنت
في مجلس الأمة ، لتغطية خطاب الوزير الأول السيد الهادي نويرة ، وكنت حديث عهد
بمراسلة صحيفة النهار العربي الدولي ، في باريس ، وكان يرأس تحريرها أيامها عبد
الكريم أبو النصر ، وهو صحفي كبير لا تفوته فائتة ، ويتمتع بمداخل في وزارة
الخارجية الفرنسية والبريطانية ، تجعله
نافدا جدا في كل الدوائر السياسية في بلدان كانت تحت الاستعمار الفرنسي والإنقليزي
، وكان مطلوبا مني تغطية اجتماع مجلس
الأمة ، لا فقط للصباح ولكن أيضا للنهار العربي والدولي ، وكانت فرعا لصحيفة
النهار في بيروت ذات الشهرة العالمية، يومها كان موعد القفل في النهار العربي والدولي أي إنهاء الكتابة
الصحفية في تمام الواحدة ظهرا، للإرسال للسحب ، كنت مطمئنا إلى أنه عندي متسع من
الوقت ، ولكن طال خطاب رءيس الوزراء ، وخفت أن يفوتني الوقت بينما رئيس التحرير يلح
على أن أكون في الموعد ، فتونس كانت في عين الاعصار بالنسبة للصحافة العالمية ،
ولكن عندما اتجهت إلى باب الخروج من المجلس وجدته مغلقا ومحروسا ، سألت إن كان
هناك منفذ آخر ، قيل لا كل المنافذ مغلقة حتى
رفع الجلسة ، عدت للسؤال من المسؤول ، قيل لي إنه صلاح الفراتي ، وهو أحد
أبناء عمومتي ، اعتقدت أنها فرجت ، ولكن ، استحالت مقابلته ، فضلا عن أني علمت
لاحقا أن فتح أبواب المجلس ليس بيده.
عندما خرجت
وكنت قد قمت بإعداد مقالي وكان وفقا للطلب مركزا، التحقت بأقرب مركز بريد فوجدته
مغلقا لفترة راحة منتصف النهار ، تذكرت قريبا لي في باردو ، لم أكن أعرف عنوان
البيت ، ولكن دلوني عليه ، وهناك تكرم فمكنني من تليفون بيته ، وأمليت مقالي ، لم
يكن آنذاك قد توفر الفاكس ولا الانترنت ، وكان يمكن لقريبي أن يمتنع لأن المكالمة
مع الخارج باهضة الثمن ، ثم من يدري لعله تقع محاسبته سياسيا، في آخر المكالمة
تنفست الصعداء ، وانطلقت لا ألوي على شيء مباشرة إلى المطبعة في شارع مرسيليا ، لم
تكن حركة المرور بالكثافة التي نعرفها حاليا ، سريعا ما وصلت لأجد مكالمة في
انتظاري ، استلمت السماعة ، ووجدت محررا
من النهار العربي والدولي ، يسألني عن معنى في حالة تلبس ، وهي الحالة التي اعتمدت
في إلقاء القبض على الحبيب عاشور وغيره من النقابيين النواب في البرلمان ، وبالشرح
تعرفت على العبارة المستعملة في الشرق ، وهي حالة الجرم المشهود ، وسأتعلم أسماء
الأشهر، وكذلك عبارات مستعملة عندنا ولكن
لا يفهمها الإخوة العرب ، مثل ماء الفرق ، ويسمى عندهم ماء النار ،وغيرها كثير من
العبارات.
أطبقت على
البلاد حالة ثقيلة من الضغط غير المسبوق ، وإن لم تكن تونس تتمتع بحريات صحفية
وغير صحفية كبيرة ، فقد كانت جريدة الصباح تتمتع بهامش ، كان يحسدنا عليه اازملاء
في الصحف الأخرى ، غير أن تلك الفترة كانت لاحقة للإعتراف بالرابطة التونسية لحقوق
الانسان ، ولظهور صحيفة الرأي المتحررة والتي شهدت عدة مرات من الحجز.
وفي ظل تلك
الأنوار أمكن لنا أن نشق طريقا ضيقا ، واليد على القلب ،لأن احتحاز جريدة مثل
الصباح، يعني قطع رغيف حوالي 200 إلى 250
من الصحفيين والإداريين والعمال ، والعرضيين ومئات بل ألوف من الباعة. وكانت الصباح قد مرت
من التجربة عندما تم إيقافها لمدة 7 أشهر ، كان ذلك قبل أن أنتسب إليها.
يوم 27 جانفي
كان علينا أن ننظم ظروف صدور الجرائد غي دار اصباح ، وكانت السلطة حريصة على صدورها حتى لا يقال في
العالم أنها منعتها من الصدور ، وكان الخوف من العالم أقوى من الخوف من الرأي
العام الداخلي .
أعددنا
قائمات الأعوان الضروريين لإصار الجريدة ، والعاملين ليلا ، وتم استثناء الاداريين
ما عدا قسم التوزيع ، وجهناها إلى إدارة الأمن وسريعا ما جاءت أذون التنقل ليلا ،
لكن بقيت مشكلتي الشخصية ، وهي أن زوجتي كانت حاملا بابنتي إيمان وفي شهرها التاسع
، طلبت إذنا لها بالتنقل في ساعات منع الجولان ، فطلبت مني إدارة الأمن شهادة طبية
تثبت الحمل ، وسرعان ما استخرجتها ، وذهبت بها إلى مكتب الشرطة المركزية في نهج
عبد الرزاق الشرايبي ، ولكن ذلك لم يكن كافيا ، فقد قدموا طلبا آخر ، وهو أن تحضر
لديهم ، لمعاينة الحمل ، أخذت طريقي إلى البيت ، فلم أجدها لأنها كانت تدرس في ذلك
الوقت ، لم تكن هناك إجازة حمل مثلما هو الأمر الآن ، طلبت من المديرة أن تسمح لها
بالخروج ، فسمحت وأخذتها إلى الشرطة المركزية حيث تمت المعاينة ، بعد الاستظهار
ببطاقة التعريف ، وتم تسليم بطاقة الجولان
ليلا ولكن ليوم واحد ، وإذ كنت من جهتي أملك بطاقة غير محدودة المدة على
طول فترة منع الجولان ، فقد كان علي أن أذهب يوميا لنهج عبد الرزاق الشرايبي
لاستخراج بطاقة صالحة لليلة واحدة لزوجتي .
عدت بها إلى
البيت في المنزه ، وتركتها دون أن أتفطن
إلى أني تركت عندها أوراق السيارة وأوراقي الشخصية ، مع أوراقها التي استظهرت بها لدى الشرطة.
مباشرة عدت
للعمل في شارع مرسيليا ، وكان علي أن أعود إلى البيت لمرافقتها في حال ما ، فمن يعلم متى تنطلق علامات الولادة ، وجدتها في
النافذة وكاد أن يقتلها القلق ، لم أكن أحمل معي لا أوراق السيارة ولا أوراقي الشخصية
ولا إذن الخروج ليلا ، ولكن الله سلم ، فلم يستوقفني أحد . لا ليلتها ولا بعد تلك الليلة فقد أعفاني
مدير التحرير عبد الجليل دمق رحمه الله من العمل ليلا ، وفقا لتداول بين مسؤولي التحرير أيامها .
وقد تمت الولادة بسلام بعد نهاية فترة منع
الجولان.
كم كانت أيام
عصيبة.
fouratiab@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق