سانحة
|
يكتبها عبد
اللطيف الفراتي
النزول إلى
الجحيم
تونس/ الصواب
/ 06/09/2013
كنت ذات يوم
من أيام صيف 1982، أجلس في فيراندا المقر الرئاسي لرئيس جزر القمر أحمد عبد الله، وهو مقر متواضع لا يفوق أي
فيلا متوسطة مما نعرفه اليوم في بلادنا، وكان ساحل جزيرة القمر الكبرى يتبدى
أمامنا في جمال رائع في هذا البلد ذو الربيع الدائم، حينها كان الرئيس يسترق النظر
إلى البحر ، ينتظر إطلالة ناقلة نفط وافدة من الكويت، يعرف أنها على مشارف البلد،
وأنها هي التي ستنهي انتظارا لمدة أيام انقطعت فيها إمدادات البنزين عن الجزيرة،
ولم تعد تتحرك فيها سوى سيارات قليلة لكبار الأغنياء أو للرسميين.
أيامها كانت
الحكومة الفيدرالية لجمهورية جزر القمر ومنذ استقلالها المعلن انفراديا سنة 1975،
على يدي رئيسها أحمد عبدالله ، الذي كان يتصرف في البلاد كما يتصرف المالك في ملكه
الخاص، تعيش على شحنات البترول السعودي أو الكويتي الذي يجري انتظاره بفارغ صبر،
والذي يعتبر هدية بلا مقابل من الدولتين العربيتين ، هو والإمداد المالي الشهري
الوافد من باريس والذي يسمح بدفع مرتبات الموظفين القمريين بدء من رئيس الجمهورية
حتى آخر وأصغر موظف في الدولة.
وعلى ثراء
رئيس القمر الفاحش، فقد قيل لنا إنه لم يكن يتأخر عن قبض آخر مليم في مرتبه
الشخصي.
خلال حديثنا،
وكان أحمد عبدالله على ما يجمع بين يديه من سلطة مطلقة، وما يتمتع به من ثراء
فاحش، رجلا متواضعا حلو المعشر، بعكس سلوكه مع معارضيه، الذين كان لا يتردد في
تصفيتهم متى بدرت منهم معارضة ، أطلت تتهادى باخرة ضخمة اتجهت إلى ميناء بدائي،
ووقفت بعيدا عنه لتتجه إليها قوارب سوف تحمل شحنات البنزين إلى مخازنها، في موروني
العاصمة، قبل أن توزع على الجزر الأربع التي تتشكل منها دول جمهورية القمر، وقبل
أن تتوجه الناقلة إلى رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا في طريقها إلى اوروبا
لتفريغ شحنتها الضخمة.
استنتجت أن
الدولة القمرية هي دولة تعيش على صدقات الفرنسيين والدول البترولية العربية،
والرئيس أحمد عبد الله يواصل حديثه لائما العرب على مواصلة رفضهم لقبول دولته ضمن
الجامعة العربية، وهي دولة عربية أكثر من جيبوتي والصومال المنضمتين حديثا، بحكم
عدد المتحدثين فيها باللغة العربية التي كان الرئيس أحمد عبد الله يتقنها إتقانا
جيدا.
ستلتحق
جمهورية القمر بجامعة الدول العربية سريعا، فيما سيقتل الرئيس أحمد عبد الله في سنة 1988 شر قتلة، على أيدي المرتزقة
الفرنسيين الذين أوصلوه للحكم، وعلى رأسهم بوب دينار، الذي كنت ألتقيه يوميا وهو يركب دراجته متفقدا قوات المرتزقة الأجانب
التي كانت تأتمر بأوامره وكانت تحرس الرئيس أحمد عبد الله.
**
ما ذكرني
بهذه الذكريات البعيدة هو الحالة التي كانت عليها دولة لم تكن تكتفي بذاتها، وكانت
مرتبات موظفيها بما فيها مرتب رئيس الجمهورية عبارة عن منحة فرنسية، وبنزينها أداة
الحركة فيها يأتيها هدية من الكويت والسعودية.
عندما تتأخر
المنحة الفرنسية، يبقى موظفو الدولة على الحديدة بدون مرتبات،فتكسد السواق ويقل
البيع والشراء ويكتفي السكان بأكل الموز الذي تحمله عراجين مثقلة متروكة للسبيل،
وعندما يتأخر البترول يذهب الناس أو لا يذهبون لشؤونهم على الأرجل، أو على
الدراجات الهوائية.
ما ذكرني
كذلك أن بلادنا تسعى رسميا للحصول على مدد
من أوروبا ، لرتق الفتق في المحصلة بين مداخيل ومصاريف الدولة.
لماذا ؟
لأن السياسات
المعتمدة كانت من قصر النظر، وغياب جهاز الحكم ، إلى الدرجة التي وصلت معها الحالة
إلى أمرين اثنين:
أولهما أن
التحصيل الضريبي تدرج سلبا إلى حد أنه لم
يعد يؤدي دوره في التوازن بين الدخل والخرج. والسلطة نفسها تقول إن عجز الميزانية
يبلغ 6.5 إلى 7 في المائة، فيما تؤكد جهات الخبراء إنها لا تقل عن 14 في المائة(
الطبيعي 3 في المائة)
وثانيهما أن
تراجع النشاط الاقتصادي قد أضعف القاعدة المعتمدة في تحصيل الأدءات ، إضافة إلى
تعاظم النشاط الموازي الذي لا يعرف ضرائب ولا التزامات.
ويتبادر إلى
الذهن تساؤل؟
هل أصبحت
تونس في حاجة لمدد خارجي كما كان شأن جزر القمر في 1982،
لست أدري ما هو حال تلك الجزر اليوم، ولكن لن
يغيب على الفطنة، أن تونس باتت في حاجة إلى مدد خارجي قد يأتي وقد لا يأتي، وإذا
أتي فماذا سيكون الثمن.؟
فقط أريد أن
أذكر هنا ما جاء في مسرحية رجاء فرحات "بورقيبة السجن الأخير"، لست أدري
ما إذا كان ذلك حقيقة تاريخية، أو أنه حالة قصصية.
فقد استلم
بورقيبة رئاسة الحكومة في منتصف نيسان أبريل 1956، وبمجرد استلام الحكم دعا إليه
وزيره للمالية، آنذاك الهادي نويرة، وسأله عن حال خزينة الدولة، وقد يكون أجابه :
في أسوأ حال، فليس لدينا ما يكفي لدفع مرتبات موظفي الدولة آخر هذا الشهر.
أصيب بورقيبة
بالذهول، ودعا إليه بسرعة شخصين اثنين:
الفرجاني بن
الحاج عمار، وكان الرئيس الفعلي لاتحاد
الصناعة والتجارة، وأحد رفقاء بورقيبة في مرحلة الكفاح،
أدري باروش
وهو من أثرياء يهود تونس، وكان أيضا من رفقاء بورقيبة في فترة الكفاح، ويعتبر رجلا
وطنيا من المقام الأول، وقد تولى الوزارة في تلك الحقبة.
طلب بورقيبة
منهما تدبر الحال لتوفير ما يكفي لضمان دفع مرتبات الموظفين، لأن دولة لا تدفع
مرتبات موظفيها، تكف عن أن تكون دولة لها ناموسها ووزنها، في نظر أبنائها قبل
غيرهم.
وفعلا تم
تدبر الأمر، ولم يأت آخر الشهر، حتى كانت كل المرتبات قد تم دفعها، على قول رجاء
فرحات.
**
لا بد هنا من
تقديم ثلاث ملاحظات:
أولها أن
بورقيبة كما أحمد عبد الله لم يكن أمامهما من حل، وإن كان بورقيبة لجأ إلى التضامن
الداخلي، واكتفى أحمد عبدالله بالاعتماد على الخارج.
وكلاهما، لم
يكن باستطاعته أن يتلاعب بالعملة فالفرنك التونسي، لم يكن أيامها بيد تونس، بل كان
بيد بنك تونس والجزائر وكان الإصدار بيد فرنسا، وبالتالي لم يكن ممكنا اللعب على
آلة سحب الأوراق النقدية، كما لم يكن بإمكان أحمد عبد الله استعمال آلة سحب النقد،
لأن الفرنك القمري كان تابعا للفرنك الفرنسي.
ثانيهما أن الحرص
على التوازنات المالية سريعا ما كان الهاجس الأكبر "للمجاهد الأكبر"،
فخلال شهر تم اتخاذ قرارات مريرة لضغط الإنفاق، صحيح أن بورقيبة أيامها كان يتمتع
بهالة تشبه التقديس، فإليه يرجع المواطنون أمر الانتصار على فرنسا وتحقيق الاستقلال،
ولذلك كان مقبولا أن يطالبهم بالتضحيات، وقد قبلوا بها عن طيب خاطر، وكان يمكن
للنهضة بالذات أن تطالب الشعب بالتضحية بمجرد وصولها للحكم، في أواخر 2011، ناسبة
المشاكل للنظام القديم، ولكنها بسبب قصر النظر، وكذلك بسبب الأهداف الانتخابية،
تركت الأمور تتعفن، حتى وصل الأمر لطلب مدد من الخارج.
ثالثها أن
الحكومة الحالية يمكنها أن تواصل دفع
المرتبات وكل الالتزامات المالية الداخلية، اعتمادا على تدوير آلة السحب للنقد، هذا إذا قبل بذلك
محافظ البنك المركزي، وباعتبار خبرة ونزاهة الشاذلي العياري، فلا أحد يعتقد أنه سيستجيب،
للنتائج المدمرة التي قد تترتب عن ذلك الحل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق