سانحة
|
يكتبها عبد اللطيف
الفراتي
"الحقائق"
والأكاذيب في الكتاب الأسود
تونس / الصواب/
23/12/2013
رغم زعمي أني قرأت
الكتاب الأسود كاملا في الليلة التي وضع فيها على عشرات المواقع الإليكترونية،
وعلى كثير من صفحات الفايس بوك ، فإن الكثير فاتني ولم أتنبه له في تلك الليلة ، عندما سهرت معه حتى الخامسة صباحا.
وقد نبهني العديد
من الأصدقاء إلى أن اسمي كان موجودا في ذلك الكتاب، الذي اعتبره الكثيرون وخاصة من
رجال القانون، أنه كان مجرد قرصنة لا قانونية ولا أخلاقية، فإن الكثير من الناس
تداولوه، وقرأوا فصوله واستنتجوا منه ما استنتجوا، وخاصة ثلاثة أمور ذات أهمية
قصوى عدا غيرها مما يتسم بأهمية أقل:
أولها : أن رئاسة
الجمهورية غير مخولة بنشر ما يتاح لها من وثائق تمس حياة الناس وأعراضهم ، وأن
الأرشيفيين بمساعدة المؤرخين ورجال القانون والقضاء سواء العدلي أو في إطار
العدالة الانتقالية، هي وحدها المخولة بعد البحث المعمق والتمحيص الدقيق في ذلك
النشر واعتمادا على تشريعات عدم المساس بالحياة الشخصية.
ثانيا: أن رئاسة
الجمهورية إذ تبرأت ونسبت التسريب لأعوان المطبعة الرسمية، فإنها لم تزد أمرها إلا
توريطا، فهي تعترف بأنها قامت بذلك العمل، المستهجن وأن غيرها هو من سربه، وكان رد
نقابة تلك المطبعة العريقة التي يعود إنشاؤها إلى حوالي 160 عاما ،أكثر إفحاما من
كل مصدر آخر.
ثالثا: أن ذلك
العمل غير المسؤول، ولا القانوني يعرض، السلطة الأولى في البلاد إلى المساءلة
القضائية، وهو أمر في غاية الخطورة ، لم يحدث مثيلا له في تونس طبعا، وقليلا جدا
ما حدث في غيرها.
وبإطلاعي على ما
ذكر بشأني فقد وجدت أنه إيجابي، وكنت مستغربا أن يتم ذكر لي في كتاب، كان القصد
منه تشويه سمعة الناس في إطار الحط من قيمتهم والنيل منهم.
فقد جاء ذكر اسمي
مرة واحدة ومن خلال قائمة من طلبوا رخصة إصدار صحيفة سنة 1992، وتم حجب ذلك
الترخيص بصورة غير قانونية، على اعتبار أن إصدار الصحف في تونس وبمقتضى القانون لا
يخضع للترخيص وإنما لمجرد الإعلام.
غير أن الواقع
سواء في فترة الرئيس بورقيبة أو خلال حكم الرئيس بن علي تجاوز القانون، وإني لأذكر
الصعوبات التي لاقاها المرحوم المعلم الحبيب شيخ روحه، للحصول على ترخيص لإصدار
صحيفة "لوتون" في سنة 1975، رغم أنه كان متنفذا، وكان من بين الساعين
لفائدته عدد كبير من رجال السياسة آنذاك، وخاصة رجل الفكر ومدير الديوان الرئاسي
آنذاك الأستاذ الشاذلي القليبي، ووزير الداخلية السيد الطاهر بلخوجة.
وفي سنة 1992 وكنت
ما أزال رئيسا للتحرير في جريدة الصباح، بدأت أشعر بأن الرياح أخذت تنقلب ضدي، وقد
تم لومي كثيرا في تلك الصائفة على طريقة تغطية محاكمة الإسلاميين، واعتبرت بوقا
لحركة النهضة، ما أهلني لتلقي مكالمات يومية تنذرني، وللواقع فخلال كل فترة الرئيس
بورقيبة، تمتعنا بحرية كاملة وبلا رقيب على أمرين اثنين:
** المحاكمات السياسية
التي توليت شخصيا تغطيتها إما منفردا أو كرئيس فريق ابتداء من محاكمة التجاني
الكتاري وقيادات الحرس الوطني سنة 1960، إلى مؤامرة 1962 والتي انتهت إلى تنفيذ
حكم الإعدام في مجموعة من الضباط والمدنيين، إلى محاكمة مجموعة آفاق إلى محاكمة السيد
أحمد بن صالح، إلى محاكمة الإسلاميين في الدفعة الأولى سنة 1980 إلى غير ذلك من المحاكمات، ورغم أننا اعتمدنا دائما
النقل الوفي لما يقال ، وكان في أحيان كثيرة في لهجة قوية جدا ضد السلطة، فلم يسبق
أن تلقينا لا لوما ولا تهديدا ولا دعوة للكف عن النقل.
** ما كان يجري من
مداولات في مجلس الأمة الذي سمي لاحقا مجلس النواب، ورغم أن النواب كانوا كلهم من
الحزب الحر الدستوري بتسمياته المختلفة أو من حلفائه ، فإن النواب كانوا يتمتعون
بهامش حرية أحيانا قوي، وخاصة نواب اتحاد الشغل وفي أحيان أقل نواب اتحاد الصناعة
والتجارة، الذين كانوا يدركون خفايا القرارات الاقتصادية، وإني لأذكر كيف كانت
تتغير نصوص القوانين غالبا في اللجان،ولكن أحيانا في الجلسة العامة، وإذ لم يكن
مسموحا لنا نحن معشر الصحفيين، بالدخول لمتابعة أشغال اللجان، فقد كانت نتف أحيانا
مهمة من تلك التغييرات تصلنا فنحولها إلى أخبار وتحاليل.
ولا أذكر أنه حصل
تذمر ما أو إلفات نظر لما كان يحصل وقتها من نقل لمجريات النقاش في المجلس
النيابي، وكانت اتسمت في فترات معينة بحدة شديدة ضد الحكومة، مثل ما حصل في خريف
سنة 1977 قبل أحداث الخميس الأسود ببضعة أسابيع.
أيامها بدا لي استصدار رخصة جريدة ، أردتها لتخفيف الوطأة
على أصحاب القرار أن تكون فكرية، ومن الفكر يمكن أن أنفذ إلى السياسة، واجتمعت
حولي كوكبة من أصحاب رؤوس الأموال، قادرين على التمويل وتحمل الخسارة المتوقعة
خلال سنتين أو ثلاثة، وقمت وقتها بتأسيس شركة كان رأسمالها 16 ألف دينار، كبداية
على الطريق.
ولكن تم حجب
الترخيص عني، فيما أعطيت في تلك الفترة ترخيصات كثيرة ، لصحف لا أريد أن أذكرها
بالاسم ولكنها، كانت كلها تسعى في ركاب السلطة، وتنال منها الإعلان السخي والاشتراكات، لنسخ صحف تتكدس في المخازن ولا يقرٍِؤها أحد.
**
هذا ما لفت نظري
حول اسمي الوارد في الكتاب الأسود القاتم السواد من محتواه،
أما الاسم الثاني
فهو اسم الدكتور المنصف شيخ روحه، فبعد أن كان يشغل خطة مدير عام بنك كبير جاء
لإنقاذ مؤسسة دار الصباح من أن تغرق لا ماليا فقط بل توجها، وكان صاحبها قد أوهنه
المرض فاعتكف أيامها في سنة 1993 مريضا في بيته إلى أن يتوفاه الله لرحمته في
فيفري 2014.
كانت فترة سنة
1993 قد شهدت حملة قوية من السلطة قادها كل من عبد الوهاب عبدالله من القصر و عبد
الرحيم الزواري أمين عام الحزب ضد الصباح، تم تتويجها باستبعادي من رئاسة التحرير
توسلا لتغيير الخط التحريري للجريدة.
كانت الأشهر
الأخيرة من 1992 قد اتسمت بجفاف منبع الإعلان الحكومي بعد إنشاء وكالة الاتصال
الخارجي التي كلفت بدن أي نص قانوني ولا ترتيبي بالتصرف في إشهار المصالح الحكومية
والشركات العمومية، وتوقف اشتراكات الجهات الحكومية في جرائد الدار، وكان الإعلان
الحكومي أيامها يمثل القسط الأكبر من دخل الصحف، كما إن القطاع الخاص وبمجرد
انقطاع إعلانات الدولة يحجم من جهته على نشر إشهاره في الصحف المغضوب عليها.
بين إ(ست)قالتي وقدوم الدكتور منصف شيخ روحه
ثلاثة أو أربعة أشهر، وكانت حجت إليه في مقره في البنك جل إن لم تكن كل الإطارات
الكبيرة في صحف الدار أو من بقي منها، بعد أن استنزفت الصحف الجديدة الواردة
لمنافسة الصباح ، من أمثال الكاتب الكبير صالح الحاجة وسليم الكراي وجنات بن
عبدالله، وغيرهم، وقد امتنعت شخصيا عن ذلك الحج إلى مكتب شارع الهادي شاكر، أنفة
ودرء عن نفسي ذلك التمسح الذي كنت أراه مخلا بالكرامة.
ولقد جاء الدكتور
منصف شيخ روحه في بداية صيف 1993، وحاول تقويم حسابات الجريدة أو الدار على الأصح،
كما حاول إدخال الشفافية على التصرف، ولكنه حاول بالخصوص اعتماد سياسات تعيد
للجريدة خطها التحريري الذي اعتمده الوالد المؤسس الصحفي الكبير الحبيب شيخ روحه ،
وهو خط متحرر بقدر ما تسمح به الظروف ، ولكم اصطدم مع السلطة ، غير أن مكانة جريدة
الصباح كانت تمنع من إيقافها على شاكلة ما حصل سنة 1957 لمدة 7 أشهر وهو ما ندمت
عليه الحكومة ندما شديدا في وقته.
ولذلك فإن فترة
إدارة الصباح لمدة 7 سنوات أي بين 1993 و2000، كانت فترة مد وجزر، وفي أحيان كثيرة
توقف دفق الإعلان الحكومي عن الجريدة ما عرض حياتها لخطر التوقف، وهو ما حصل في
صيف 2000 ، بسبب مواقف شجاعة للمنصف شيخ روحه كان لي شخصيا ضلع فيها، وكان سببا في
تولي مجلس الإدارة عزل الدكتور منصف شيخ روحه ، وتنصيب إدارة موالية، وطرد الأشخاص
الذين اعتبروا مناوئين لطبيعة كتاباتهم، أو لاتهامهم بالالتصاق بالدكتور المنصف
شيخ روحه.
لذلك فقد استغربت
أشد الاستغراب من ورود اسم الرجل ضمن الذين حصلوا على منافع، وهو على ما أعرفه كان
وما يزال متعففا، أما إذا تمت محاسبته بهذا الشأن، على ما كان يصل لصحيفة أو الصحف
من إعلان حكومي، بعد أن تم حذف كل الاشتراكات الحكومية، فإنه من جهة حق لكل صحيفة
، ومن جهة أخرى فإن فيه مصلحة للدولة باعتبار توزيع الصحيفة وأهميته.
وعلى قدر ما أعلم
فإن دخل تلك الإعلانات ذهب بالكامل لخزينة
الجريدة لا لجيب الدكتور منصف شيخ روحه، إلا ما كان يتقاضاه من مرتب، هو وبكل
الأحوال أقل من المرتب الذي كان يتقاضاه لما كان يدير بنكا من بنوك تونس الهامة، ويتمتع
بمنافع ناتجة عن تلك الإدارة كما هو شأن المديرين العامين للبنوك.
ولعل للمرء، إلا
أن يقول أمام هذه الأكاذيب والترهات التي اعتمدها هذا الكتاب، حسبنا الله ونعم
الوكيل، هذا مع التأكيد بأن العلاقة بيني وبين الدكتور منصف شيخ روحه ، انقطعت منذ
عزله من إدارة الصحيفة، وطردي منها في سنة 2000، ولم تعد أبدا إلا ما يمكن أن
ألتقي به في فترات متقطعة، ودون التعرض لفترة عملت تحت قيادته، وحاولنا فيها مها
أن نرتفع بسقف حرية التعبير في زمن ما كان لأحد أن يجرؤ على قول شيء، وإني لأذكر
فيما أذكر تلك الإفتتاحية الجريئة التي صدرت عن محاولة اغتيال رياض بن فضل الصحفي
الحر، واعتبارها سابقة خطيرة ستعرض القائمين بها للمساءلة في يوم من الأيام ، وهو
ما لم يحصل قط حتى بعد الثورة، أو تلك التغطية لانتخابات 1999، وما جاء في
التغطيات من نفس تحرري وإبراز دور أحمد نجيب الشابي فيها وخاصة حزبه فيها وتغطية
أنشطته ، والقول دائما عن النتائج أنها نتائج رسمية معلنة، وهو ما كان يغضب السلطة
أيامها إذ تعتبرها نتائج صحيحة لا يرقى لها شك.
بعد هذا الكتاب
وبعد هذه الترهات بشأن أشخاص يتسمون بالنظافة الناصعة لا يسع المرء إلا أن يقول: " ولله في خلقه شؤون"، ولا يحيق الظلم
الصارخ إلا بأهله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق