الموقف السياسي - انقسام المجتمع
الموقف السياسي
|
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
إنقسام المجتمع.. إلى أين سيؤدي؟
تونس/ الصواب/ 05/08/2013
" 365 ألفا كانوا حاضرين في
اعتصام الشرعية في القصبة مساء السبت الماضي" هذه هي الحصيلة التي انتهى
إليها أحد المدونين ممن كان معروفا بقوميته العربية، ثم انقلب بعد الثورة إلى
إخوان مسلمين "، لكن الرقم الأكثر تداولا بين النهضويين هو رقم 200 ألفا،
والكثير من تصريحاتهم ووسائل الإعلامهم، تقدم هذا الرقم الأخير، ولكن لنتحدث
بموضوعية: إن "أرض قوقل" يقدم تقييما بالمساحات وبالمسافات باعتماد
الأقمار الصناعية، يفيد بأن ساحة القصبة أو ما بقي منها بعد أن تم على أطرافها
بناء قصر بلدية العاصمة، تبلغ 160 مترا طولا و70 مترا عرضا، أي إن مساحتها تصل إلى
ألف و20 مترا مربعا، ولما كانت تلك الساحة محدودة بساحة الحكومة المسيجة منذ ما
بعد الثورة بالأسلاك الشائكة، ويمينا بنهج باب المنارة ويسارا بشارع القصبة،
وكلاهما من الشوارع الضيقة، فإن للمرء أن يضيف حوالي 200 إلى 400 متر مربع، أي في أحسن التقديرات 1220
إلى 1350 مترا مربعا. وباعتبار أن الإخصائيين في حساب التجمعات الجماهيرية يضعون
معدل 3 إلى أربعة أفراد في مثل تلك التجمعات على المتر المربع، وفي أعلى
الاحتمالات، فإن الموضوعية تقتضي القول إن الحاضرين كانوا وفي كل الأحوال أقل من
50 ألف شخص،وهو في حد ذاته رقم كبير وهام ليست النهضة في حاجة لتضخيمه لإبراز
سيطرتها على جانب من الشارع التونسي، وإن كان ما يقلل من أهميته، تلك الجموع التي نقلتها
مجانا من داخل البلاد، على حافلات سواء كانت مكتراة، أو على حساب الدولة أي دافع
الضرائب التونسي، ويقلل منها تلك الأقوال والشهادات التي أدلى بها من أدلى ممن تم
الاتصال بهم قصد تعبئتهم بمقابل مادي أو
غذائي.
ويذكرني هذا بحادثة تعود إلى سنة 1984 بعد ثورة الخبز، فقد جمعني أيامها
بالسيد محمد مزالي الوزير الأول آنذاك بعد أن خرج من أزمة تلك الثورة منتصرا على
إدريس قيقة، فقد قال لي يومها: هل رأيت مدى شعبيتي ففي كل سبت أنتقل إلى ضاحية من
ضواحي العاصمة، فتأتي الجماهير لتأييدي بالألوف وتمتد لي الأيدي، فقلت له ما أغضبه
يومها: هل تعتقد سي محمد أنهم يأتون عن طواعية وللتأييد، تأتي بهم حافلات مع
كسكروت و5 دنانير، ثم تتركهم لحالهم وليس معهم من المال ليعودوا به لديارهم، ولقد
كررت عليه هذا الكلام بعد ذلك بحضور السيدين محمد بن الحاج عمر والطاهر بوسمة في
بيت أحد أبنائه في ضاحية رياض الأندلس بعد عودته من المنفى.
وإذ أغلق القوس فلأتحدث وبالمقابل ومن الجهة الأخرى عن المنافحين المطالبين بحل الحكومة والمجلس التأسيسي،
والمعتصمين في باردو، الذين لم ينجحوا
فيما رأينا وما سمعنا في تعبئة أكثر من ذلك العدد، فقط فإن قوتهم تأتي من أن حركتهم متواصلة مصممة، بعد 8 أيام أو تسعة من
انطلاقها.
ما يعني أن انقساما حصل في المجتمع، يسأل كل العقلاء الله أن لا يتحول إلى مواجهة
عنيفة.
الفارق الوحيد أن المنافحين لحل الحكومة والمجلس التأسيسي وقيام حكومة
محايدة من وجوه لا تنتمي لعوالم السياسة، يبدون في حالة هجوم، فيما النهضة
والمدافعين عن "الشرعية" يبدون في حالة دفاع، ويدعون للتحاور، دون أن
يتنازلوا عن شيء في مواقعهم، فهم يريدون أن يحافظوا على سيطرتهم على مفاصل الدولة،
ولا يبدو أن هناك أي استعداد منهم لتقديم تنازلات، هم أول من يعرف أن تقديمها يؤدي
بهم إلى فقدان مواقع مهمة قد لا يتسنى لهم استرجاعها، ويعرفون جيدا أنهم إذا قدموا
التنازلات المطلوبة فإن الانتخابات المقبلة ستجعل الأوضاع تفلت من أيديهم وربما نهائيا، أما مناوئوهم
فإنهم بإدراكهم نقطة الخوف القاتل لدى
خصومهم، يسعون لتقديم بيادقهم مهما كان الثمن لتحقيق ذلك، وهم يحققون ذلك شيئا
فشيئا ويوما بعد يوم في تصميم غريب.
بالتالي فإن القضية في النهاية هي قضية وجود، ودائما فإن القضايا الوجودية
هي أعسر القضايا على الحل.
النهضة تدرك أن الطفرة التي مكنتها من أغلبية نسبية في المجلس التأسيسي قد
ولى عهدها، وقد دلت آخر استطلاعات الرأي التي تولتها مؤسسة زمردة ( إيمرود) في ضوء
آخر التطورات على الساحة السياسية، بعد اغتيال الشهيد الحاج محمد البراهيمي ، عن
تدني كبير في شعبية رئيس الحكومة، وعلى خطورة ذلك فإن الخطر الأكبر هو المتمثل في
انهيار شعبية حركة النهضة، وبعد أن كانت تلك الشعبية تمثل أكثر من 19 في المائة في
الشهر قبل الماضي نزلت إلى..... ما أقل من 13 في المائة آخر شهر تموز يوليو، وهو
ما يتفق مع استطلاع للرأي تولته مؤسسة بريطانية في البلاد، يفيد بأن حظ النهضة في
الانتخابات لو حصلت اليوم يتراوح بين 12 و13 في المائة، ووفقا لمؤسسة
"إيمرود" فإن حركة نداء تونس ولو تراجعت فإنها حافظت على نسبة شعبية تتجاوز
20 في المائة (23 في المائة وفق الشهر قبل
الماضي، علما وأن النهضة كانت حازت في انتخابات المجلس التأسيسي على 37 في المائة
من الأصوات.
من هنا يمكن للمرء أن يتفهم كيف إن النهضة ستتمسك ما أمكنها التمسك، بحكومة
العريض، وإن تم القبول باحتمالات تعديلها، وبالتالي بقاء الأمر على حاله، من تمكن
من مفاصل الدولة ، سيساعدها في أي انتخابات مقبلة، ومن حفاظ على روابطها التي
ستمكنها من إرهاب الآخرين فتضمن نتائج الانتخابات، هذا هو موقف النهضة فهل سيقبل
الآخرون بذلك ويتراجعون.
لنحاول أن نتطرق إلى ما هو أبعد:
النهضة اليوم لها حلفاء يمكن اعتماد ولائهم، أولهم حزب المؤتمر وحزب التكتل(
المشكوك اليوم في ولئه المحتمل مستقبلا)، وكلاهما اليوم لا يستطيع الانفصال عن
النهضة، لأن كلا منهما في الدرك الأسفل من الشعبية والقدرة على استقطاب الناخبين،
وهما يعرفان أنهما كليهما بدون عطاء النهضة فقد انتهيا من الصورة تماما، وهناك
مجموعة أخرى من الأقمار تدور في فلكه النهضة إن قريبا أو بعيدا، وفي ما عد الوطني الحر لسليم
الرياحي فإن كل الأحزاب الأخرى الثمانية عشرة الموقعة في الأيام الأخيرة، لم تعد
تمثل شيئا على الخارطة الانتخابية، وسليم الرياحي هو أول من يعرف أن الاقتراب أكثر
من اللزوم من النهضة سيحرقه، وأن الابتعاد
كثيرا عنها سيصيبه ببرد مجمد، ولذلك فهو يسعى لنوع من التوازن غير المستقر، الذي
لا يمكن أن يحافظ عليه طويلا، اللافت للنظر أن الجبهة الشعبية تبدو في تصاعد
مستمر، ألم تفقد اثنين من أبرز مناضليها في عمليات اغتيال ، كان لها أثرها في تآكل
شعبية النهضة، إلا أن اللافت أيضا أن الجمهوري على ما حصل فيه من نزيف كوادره،
يسجل هو الآخر تسلقا ليس كبيرا ولكن مهما يجعله الحزب الرابع ترتيبا.
كل هذا يطرح تساؤلا، أمام هذه المواجهة وإصرار كل طرف على مواقفه.
إلى أين سيصل هذا الوضع ، هل إلى
تهدئة في آخر لحظة وعلى أي أساس، أم إلى مواجهة عنيفة، لا قبل للبلاد بها، ولكنها
آتية لا ريب فيها إن لم يتنازل أحد الطرفين ولو جزئيا أو كلا الطرفين حفاظا على
السلم الأهلي.
وإذ يبدو الأمر قضية وجود ، فكيف يمكن للمرء أن يتصور النهضة تتنازل، بما
يمكن أن يسحب منها السلطة، ولكن وأيضا فإن الطرف المقابل ،وقد وجد الطريقة التي
يمكنه بها لأول مرة، أن يضع النهضة في الزاوية بدون احتمالات مخرج ممكن، أن يفوت
على نفسه الفرصة لزيادة محاصرتها ونيل الأقصى من تلك المحاصرة.
علم السياسة يقول إنه لا بد أن تترك للخصم مخرجا ينفذ منه، وإلا فإنه
سيتصرف كالحيوان الجريح، والنهضة اليوم في حاجة إلى القيام بالخطوة الأولى أي
القبول بمقترحات الإتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة حتى يمكنها
أن تنقذ ما يمكن إنقاذه.
بدون ذلك يخشى من أن البلاد تسير نحو مأزق ، ودعنا نقول إلى احتمالات كبيرة
لما لا يحمد عقباه.
وتبقى القضية الآن قضية حفاظ على ماء الوجه، كيف يمكن لخصوم النهضة أن
يحافظوا لها على ماء وجهها ،
وأن تصدر عنهم طمأنة ما، بعدم الإقصاء أو
الانتقام، وهم الذين كانوا ضحية لمحاولات الاقصاء من طرفها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق