من الذاكرة
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
الإسلاميون والسلطة (2)
في آخر ربيع 2011 وكان الوضع متقلبا،
والانتخابات قد تأجل إجراؤها بعد أن كانت
مقررة لشهر يوليو تموز إلى شهر تشرين الأول أكتوبر، جرى لقاء أعتبره شخصيا
مهما، فقد التقينا مجموعة في بيت شيخ المناضلين والرجل المرجع، مصطفى الفيلالي ،
تحلقنا حول هذا الحكيم نتبادل الرأي في الوضع في تونس، ولم يكن ساء للحال التي
وصلها في 2012 ولا خاصة حاليا حيث أصبح ميؤوسا منه، تحلقنا إذن حول الرجل، كان
هناك الدكتور حمودة بن سلامة، والطاهر بوسمة والمنجي الكعبي، وخاصة حمادي الجبالي
، وقد استنبت لحية صغيرة على عكس ما كان عليه في سنة 1989 آخر عهدي به، وانطبعت
على جبينه علامة الصلاة السوداء، والدكتور زياد الدولاتلي وهو رجل إسلامي غير
معروف ، ولكنه يتميز زيادة عن أخلاقه العالية، بشيء من التوازن يميزه عن الآخرين،
وبكثير من الاعتدال ، جعله لا يبرز بين أترابه من الإسلاميين ، في زمن بات التطرف فيه هو السمة البارزة بينهم،
فهو ليس لا البناني ولا خذر ولا عتيق ولا المكي ولا بن سالم الأول والثاني، ولا
غيرهم كثيرون ممن يزايدون بعضهم عن بعض.
ولقد كنت شديد الإعجاب بحمادي الجبالي
منذ تعرفت عليه واقتربت منه في عامي 1988 و1989، واعتقدت دوما أنه ليس فقط رجل
سياسة ممتاز، ولكنه يرقى إلى مستوى رجل الدولة، ولقد كان إعجابي به شديدا مساء ذلك
اليوم المشهود، في 6 شباط فبراير الماضي، عندما استخلص العبرة من اغتيال شكري
بلعيد ، واتخذ الموقف الذي ما كان لرجل دولة أن يتخذ غيره.
**
ولكنه وفي ظل نظام حكم لا يقوم على
مسؤولية الحاكم ، ولكن على مسؤولية من لا مسؤولية له، أي الشيخ راشد الغنوشي ، تم
قطع رجليه، ولم يذهب بالمبادرة التي أقدم عليها إلى الآخر، ولكن سيسجل له التاريخ
أنه ذهب إلى ما كان عليه أن يذهب إليه كرجل دولة، يداه مربوطتان، في ظل نظام حكم
غريب عن الدول الديمقراطية، لأن الحاكم فيه ليس حاكما، ولأن القرار ليس قراره رغم
سمو موقعه.
وعودة لذلك اليوم في بيت السيد مصطفى
الفيلالي الصافي الذهن رغم التسعين سنة التي يحملها، فقد جرى الحديث عن احتمال
تشكيل حزب كان المنجي الكعبي متحمسا له، في وقت كان انتفاخ عدد الأحزاب قد بدأ
يتضح، وسينتهي الأمر إلى تشكيل قائمات مستقلة دخلها خلال الانتخابات كل من المنجي الكعبي والشيخ
مورو وصلاح الجورشي ورضوان المصمودي القريب من النهضة وعراب علاقتها المتميزة مع
الأمريكان.
كانت الصورة لدى البعض منا قد أخذت في
الاتضاح، وكان وضع النهضة متميزا، وأنا
شخصيا ،كان يسودني أيامها اعتقاد جازم بأن
النهضة ستنال أغلبية لا نسبية ولكن مطلقة، أي إنها ستنال أكثر من نصف مقاعد المجلس
التأسيسي، وذلك انطلاقا من أمرين اثنين:
*أنها تتمتع بورقة رابحة جدا وهي أنها
كانت ضحية، وقد استغلت ذلك الوضع كما لم يستغله أي طرف آخر.
*أنها كانت تعد الطرف الأكثر أخلاقا
والأكثر تدينا، وانتشر أيامها القول بأنها "تخاف ربي"
وسيضاف إلى ذلك لاحقا أمران اثنان أو
ثلاثة :
أولهما برنامج من 360 نقطة ليبرالي
التوجه على كل الأصعدة.
ثانيهما: وعد صريح مسجل على الحركة
بأن المهمة أي مهمة التأسيسي لن تستمر أكثر من سنة واحدة.
ثالثهما: وعد صريح آخر من الشيخ
الغنوشي، بأن مرجعه يبقى ذلك الحديث الصحفي الذي أدلى به لجريدة الصباح والمنشور
في 17 تموز يوليو 1988، ولما كنت أنا الذي قمت بتلك المقابلة الصحفية، واعرف
مداخلها ومخارجها، كان ذلك الإعلان مطمئنا ، وإن تم التراجع عنه بعد وصول النهضة
للحكم.
من هذه المنطلقات ومما يدور في الشارع، ومن بدايات
عمليات سبر الآراء، تشكلت لدي منذ ذلك الحين قناعة بأن النهضة ستكون الفائز في
الانتخابات، وقد صارحت يومها الأستاذ حمادي الجبالي، بأني أنا شخصيا لن أصوت
للنهضة، وأضفت بأنه ليس من مصلحة النهضة أن تستلم الحكم في حالة فوزها
بالانتخابات، وبالرجوع إلى ما دونته يومها كما أفعل دوما بعد كل لقاء يبدو لي
هاما، لم أجد مدونا ما أعتقد أنه أجابني
به وقتها، ولكني أتذكره بصفة ضبابية ولست متأكدا منه، بأن القواعد لن تتسامح إذا
فرطت النهضة في انتصارها ، ولم تتول الحكم.
لعل ذلك الكلام لم يصدر عنه، ولعلي
سمعته في موضع آخر، ولكن للأمانة لا يمكن أن لا أذكره ما دام راسخا في ذهني في أي
موضع كان.
**
بعد انتخابات 23 أكتوبر، كانت
المفاجأة بالنسبة لي أن النهضة لم تحصل
على أغلبية مطلقة، بل أغلبية نسبية أهلتها لأن تكون الحزب الأول بـ 89 مقعدا من
جملة 217 في المجلس التأسيسي، أي أنها رقم أساسي لا يمكن بحال تجاوزه.
للواقع أنا شخصيا ما كنت أتمنى أن يتم
اللجوء إلى انتخاب مجلس تأسيسي، وكنت أعتبر أن ذلك مضيعة للوقت والجهد، وكنت مثل
الكثيرين أعتقد بان دستور 1959 في صيغته الأصلية مع بعض التنظيف يمكن أن يكون
ملائما للمرحلة بعد إضافة عناصر مسايرة للقواعد الكونية التي دخلت الحياة، أما وقد
وقعت الفأس في الرأس بعد القصبة 1 وخاصة القصبة 2 فكان على المرء أن يقبل بالواقع.
كان الأجدر من وجهة نظري اللجوء إلى
أحد أمرين:
إما اعتماد الشرعية القائمة، بتكليف
البرلمان بغرفتيه بإجراء التعديلات الضرورية، وهو أمر قد يطول لفترة قراءتين
بينهما ثلاثة أشهر، ثم يتولى البرلمان حل نفسه بنفسه مع ضمان صرف مرتبات النواب
لآخر المدة المنتخبين لها أي إلى شهر تشرين الثاني نوفمبر 2014، كما حصل مرتين من
قبل في عام 1981 و1988.
وإما اعتماد الشرعية الثورية بتشكيل
لجنة خبراء مسنودة بالأطياف السياسية، تتولى تنظيف الدستور وتطويره ويعرض عملها
على الاستفتاء العام.
ولقد كتبت ذلك في إبانه في عدد من
الصحف، ولكن كلا من النهضة من جهة وحزب حمة الهمامي اتفقا رغم تناقضهما
المبدئي الشامل على انتخاب مجلس تأسيسي.
**
إذن تم انتخاب مجلس تأسيسي لم يجتمع
إلا عدة أسابيع بعد 23 أكتوبر، وحتى تم
التأكد من صحة الانتخابات وإعلان النتائج الرسمية النهائية.
بعد ذلك صرف وقت طويل في كتابة دستور
صغير وقانون داخلي للمجلس.
وفي مفاجأة غير منتظرة، حصل تحالف
معاكس لطبيعة الأشياء، بقيام ائتلاف بين
حزب ديني ـ يبقى دينيا رغم كل شيء وينتسب إلى فكر غيبي ـ وحزبان المفروض أنهما
علمانيان، وبدا عمليا أنهما أبعد من أن يكونا كذلك ، هما حزب المؤتمر بقيادة منصف
المرزوقي ، وليس غريبا ذلك فالرجل معروف بتقلبه، وفي فترة ما وكان رئيسا للرابطة
التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان ، وكنت وقتها أحد أعضاء هيئتها المديرة، كان على علاقة
متميزة مع الرئيس الأسبق بن علي ـ و حزب التكتل بزعامة الدكتور مصطفى بن جعفر الذي
كان في وقت من الأوقات نائب رئيس الرابطة وتزاملنا في تلك الفترة.
ومن أجل المنصب باع كل منهما كل
مبدئيته لينخرطا في عملية غير طبيعية.
**
وإذا وقع التسليم بأن ذلك ممكن ، فإن
الحزبان ، قدما كل التنازلات وابتلعا كل الثعابين، سواء أثناء كتابة الدستور
الصغير، أو القانون الداخلي للمجلس، بحيث خرجا من المولد بلاحمص كما يقول المثل المصري، ولم يفرضا حقا
على أي توازن في العلاقة مع شريكهما الأكبر، وبالتالي كان للنهضة نصيب الأسد من
القرار، سواء خلال صياغة الدستور، أو بمناسبة توزيع الغنائم وأقصد بذلك الوزارات،
وكان لكل منهما فتات لا يسمن ولا يغني من جوع، ورغم ذلك فقد كنت شخصيا من بين من
كان يرى، أنه ينبغي أن تترك للحكومة فرصة العمل، حتى تثبت جدارتها، وقدرتها على
تصريف الأمور في الزمن الصعب لما بعد الثورة.
ولكن المحاصصة الحزبية، واستيلاء
النهضة على مركز القرار ، فضلا عن قلة الخبرة والتجربة، وأحيانا الجهل المركب وسوء
التدبير والتقدير إن لم نقل شيئا آخر، أدى سريعا إلى أن تسقط حكومة، من صنف
الحكومات المستعجلة، والغير مدركة لطبيعة مهمتها لا هي ولا المجلس التأسيسي، تسقط في تسيير بعيد عن الحوكمة الرشيدة، وبدت مراكز
الدولة وكأنها غنيمة، ينبغي الإسراع بالسيطرة
عليها.
**
في ذات الوقت أظهر الحزبان "الشريكان" ضعفا
في الأداء فاكتفيا، بمناصب تشريفاتية كرئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس التأسيسي،
وقد أفرغا من كل معنى ، وبعض الوزارات الثانوية والفنية التي تحتاج إلى كفاءات
معينة لم تتوفر في الشخصيات المسندة
إليها، وكان من نتيجة ذلك فشل ذريع سواء في الوزارات الفنية، أو وبالخصوص في
الوزارات السيادية التي استأثرت بها
النهضة، وحتى عندما تم تسليمها حصل ذلك إما لأتباع أو شبه أتباع، كل هذا فضلا عن
سوء النية الواضح، في تلك الإرادة المبيتة من سيطرة نهضوية ،على قطاعات يقتضي التسيير
الجمهوري في أي دولة تسعى لأن تكون ديمقراطية ، أن تكــــــــــــون محيدة(بفتح الحاء
وتشديد الياء وفتحها)، فمرفق العدل بدا وما زال يبدو تحت إرادة قوية للنهضة لم يكن
ممكنا معه مجرد تخيل استقلاله، أما الداخلية فوقعت تحت براثن أدت إلى تكرار
الاغتيالات السياسية ، من لطفي نقض إلى
شكري بلعيد إلى زلزال النائب محمد البراهمي، إلى محمد بن مفتي، وإلى تنصيب 23 وال
من النهضة أو ما يقارب ذلك من بين 24 وال
في الجملة ، فضلا عن المعتمدين والعمد، في محاولة لاستصفاء مراكز القرار ،
في ظل خلفية مشبوهة، بشأن عدم حياد الإدارة في أي انتخابات مقبلة، ما جعل
زعيم الجماعة، يتوقع ـ عن حق ما دام الأمر كذلك ـ نجاح النهضة في الانتخابات
المقبلة وما بعدها، رغم أن استطلاعات الرأي تجمع على أن موقع النهضة نزل من 37 في
المائة في انتخابات 2011 إلى 12 أو 13 في المائة حاليا، كل هذا عدا إنشاء ميليشيات
شبيهة بتلك التي أنشأها هتلر أو موسيليني ، من شأن دورها أن يمنع حق الأحزاب في
تنظيم اجتماعات مؤمنة (بفتح الهمزة وتشديد وفتح الميم) وذلك سواء في فترة
الانتخابات أو خارج تلك الفترة.
ومن هنا فإن المراقب المحايد لا يمكنه
فضلا عن استشراء الإرهاب المنظم، و المسكوت عنه وعن استعداداته طويلا بدون إجراء
ردعي، وما حصل في السفارة الأمريكية يوم 14 أيلول سبتمبر2012 ما يبدو معه وكان جهات ضالعة في حصوله ،
وانهيار الوضع الاقتصادي ، إلا أن ينتهي
إلى أن النهضة، ولا يمكن الحديث عن شريكيها، فليس كل منهما إلا شبحا لنفسه ( تدل
على ذلك استطلاعات الرأي)، قد فشلت، ولذلك فإن الفكرة المسبقة والفرصة التي أعطيت
لها ، قد زال موجبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق