الموقف السياسي
|
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
الأيام المقبلة
تونس / الصواب /20 /08/2013
في انتظار تطورات الأيام المقبلة،
وإلى أي اتجاه تسير الأمور، هل لاتجاه التهدئة والتفاهم، أو لاتجاه المواجهة لا قدر الله، فإن
ما حصل في خلال الفترة الأخيرة يحمل دلالات قوية جدا، جديرة بان يتوقف عندها الفرد
التونسي.
لنذكر أن المجلس التأسيسي الذي تسيطر
عليه النهضة وذيولها، كان بصدد تمرير قانون "تحصين الثورة"، وكان في الحسبان التصديق عليه، بصورة تقصي في تناقض كامل، مع
القواعد التي يعتمدها القانون الدستوري
تحت أي سماء، مواطنين معينين دون أن يكون صدر بحقهم حكم قضائي، ولو في ظل قضاء غير
مستقل، وكان هذا القانون يشمل ما بين 50 و70 ألفا، سيتم حرمانهم من حق الترشيح في
الانتخابات المقبلة وحتى الموالية لها وربما حتى حق التصويت، وكان مقصودا
بالذات بذلك القانون الإقصائي زعيم نداء
تونس الباجي قائد السبسي ، الذي لا يمكن نكران فضله على البلاد ، بعد أن قادها
لانتخابات شفافة، وقاد سفينتها إلى بر الأمان، خلال فترة انتقالية أولى امتدت من
بدايات شهر آذار مارس إلى أواخر شهر كانون الثاني ديسمبر 2011،
وكان المستهدفون من ذلك، منافسون
سياسيون للنهضة ، يقدر أنه ربما يكون لهم وزن وثقل، يفوق وزن وثقل النهضة
والأحزاب الأذناب التي تحوم حولها"وتنش" عنها ما يمكن أن يقلق مسيرتها.
كان هذا هو الوضع قبل 25 جويلية 2013،
يوم اغتيال الحاج محمد البراهمي، في وضح النهار وأمام بيته ، وتحت أنظار عائلته،
في ما تتحمل مسؤوليته على الأقل السياسية والأخلاقية، الحكومة بتمامها وكمالها بمن
فيها من النهضويين، ومن التكتليين، ومن المؤتمرين ، وممن يسمون أنفسهم مستقلين.
الأمر الطبيعي والمنتظر ذلك اليوم كان لا يتمثل إلا في
استقالة حكومة، أبرزت إلى فشلها السياسي وفشلها الاقتصادي وفشلها الاجتماعي ، فشلا
في الحفاظ على أمن التونسيين وعلى حياتهم، وسنرى ذلك الفشل معززا في التطورات
الحاصلة بعد أيام في الشعانبي ، متمثلا في سقوط أبناء أعزاء من فلذات أكباد هذا
الوطن ومن العسكريين ، بعد أن سبق وقيل لنا قبل أشهر، أن الذين قيل إنهم يتدربون
على السلاح والتنظيم الإرهابي، هم مجرد أفراد يقومون بتمرينات رياضية.
لكن لا علينا فهذه الحكومة كانت وبقيت مشدودة إلى الكراسي بلاصق قوي جدا،
لا فكاك منه، وإني لأذكر أن ويلي براندت المستشار الألماني ـ ما يقابل عندنا وعند
غيرنا رئيس الحكومة ـ ما كان منه إلا أن استقال ، هو وحكومته لمجرد التفطن
إلى أن إحدى سكرتيراته، كانت تتجسس لفائدة ألمانيا الشرقية.
هكذا يكون الرجال..
لكن لا علينا مرة أخرى.
بدل ذلك..
خرج رئيس الحكومة بعد اغتيال البراهمي بخطاب ملأه بالتهديد والوعيد، وكأن اغتيال الشهيد كان انتصارا معززا ينبغي أن يلحقه ما يلحقه من
إصرار على..
ولكن هذا
الخطاب تضمن رغم ذلك وقتها عنصرا واحدا
إيجابيا ، لم يتفطن له الكثيرون، حيث قال ما معناه، ولعل هذا ما استنتجته شخصيا،
بأن القوانين التي حولها جدل سيتوقف عرضها على المجلس التأسيسي، وباستعراض القوانين
التي كانت تثير جدلا، لم يكن ممكنا إلا التوقف عند قانون "تحصين
الثورة".
كانت هناك
أغلبية واضحة في المجلس لفائدة هذا التمرير، ولفائدة المصادقة، رغم أن المجتمع في
غالبيته كان يدرك أنه يوضع تحت وصاية النهضة وذيول النهضة ، في محاولة للحجر عليه
واعتباره غير رشيد، ولاستبعاد منافسين "خطري" يمكن أن ينالوا من إصرارها
على فوز رخيص في انتخابات، يراد لها أن تجري بعيدا عن النزاهة والشفافية، ليس بهذا
القانون فقط، بل أيضا بالسيطرة على مفاصل الدولة، عبر الاستحواذ على المناصب
المؤثرة من ولاة ومعتمدين وعمد ومسؤولي مؤسسات حكومية، بعيدا عن الكفاءة التي
اتسمت بها الأوساط الإدارية دوما، وفي ظل ولاء مطلق لفعل أي شيء مطلوب، وعلى عكس
المقولة الشهيرة لثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب بشأن أهل الكفاءة وأهل
الثقة ( والمقصود من تثق بهم ومن تضمن
ولاءهم وليس ما معناه من يتسمون بالنزاهة ونظافة اليد)، وكذلك عبر وضع البلاد
تحت طائلة ميليشيات تحت تسمية "لجان
حماية الثورة"، مهمتها إفساد اجتماعات المعارضين، هذا إذا لم يكن اعتماد
القتل والسحل، كما حصل مع الشهيد لطفي نقض في تطاوين، الذي تتجاهله حركة النهضة
كأحد ضحايا حكمها ، هو المصابين بالرش في سليانة، وبعد أن كان مجلس الشورى في
مناسبة سابقة طالب بإطلاق سراح المورطين في قضية لطفي نقض، في بيان رسمي ومعلن.
**
هذا هو ما
كان عليه الوضع عشية وغداة اغتيال الشهيد
محمد البراهمي، واليوم وبعد الحراك الشعبي، وبعد انسحاب عشرات النواب من مواقعهم
النيابية، وبعد الإعتصامات في باردو وفي داخل الجمهورية، وبعد توافد ما بين 400
و500 ألف مواطن على مسيرة يوم 6 آب
أغسطس، وعدد كبير جدا في 13 آب أغسطس لم
تسعفنا "غوغل إرث" بتقييم له ، ولكنه كان بمثابة أمواج بشرية
متلاطمة، وبعد مسيرة للنهضويين، تتفق كل الآراء على أنها لم تتجاوز الـ 50 ألفا ، باعتبار
المساحة المتاحة في القصبة والشوارع الضيقة المحيطة بها، فإن للمرء أن يتوقف قليلا
عند أمرين اثنين:
أولهما، هذا
اللقاء المسرحي في باريس بين الغنوشي والباجي قائد السبسي.
سيقول وزير
الصحة والقيادي في النهضة عبد اللطيف المكي إنه كان بطلب من قائد السبسي، وهو قول
تكذبه المؤشرات، إذ كيف يطلب السبسي أن يأتيه الغنوشي إلى باريس، فينصاع إليه إن
لم يكن هو من يطلب ذلك، كما يكذبه محيط رئيس حركة نداء تونس في تصريحات متعددة من
بينها تصريح لرضا بالحاج المدير التنفيذي للحركة
على قناة حنبعل.
كما سيقول
عبداللطيف المكي على قناة الإذاعة الوطنية ، إن اللقاء انتهى إلى موافقة السبسي
على عدم المساس بواحد من أركان مطالب جبهة الإنقاذ ، وهو حل المجلس التأسيسي ،
فيما يأتي بيان صادر عن اجتماع لهذه الجبهة ليؤكد على ذلك المطلب ، وهو أمر إما أن
يكون فيه تجاوز للسبسي من قبل ممثليه في
الجبهة، إذا كان فعلا قد أكد ما قاله المكي، أو إنه سبق لسان من قبل وزير الصحة،
حيث إن رئيس حركة نداء تونس أكد أنه تم استعراض الوضع دون أن يحصل اتفاق.
والواضح أن
اللقاء تم بمبادرة من الغنوشي، الذي حرص على إخفائه، غير أن حركة نداء تونس سارعت
بتسريبه، خصوصا وأن أحد الوسطاء هو صاحب قناة نسمة نبيل القروي، وهو كغالب من
يشتغلون في بلاط صاحبة الجلالة "لا يستطيع أن لا يبل اللبانة في فمه".
وستكشف
الأيام حقيقة ما جرى، وبمبادرة من؟
ولكن
التسريبات تجاوزت ذلك الحد، إلى القول من طرف متعاون في قناة نسمة ، بأن الغنوشي
قد يكون عرض على السبسي منصب رئيس الجمهورية وأربعة مناصب وزارية يختارها أو يختار
بعضها، وإني وإن كنت أشك في مثل هذا العرض، وأجزم بان الغنوشي لا يمكن أن يتجرأ
لتقديمه للسبسي، الذي لا يمكن أن يلدغ مرتين، بعد أن كان اتفق على توليته ذلك
المنصب في خريف 2011، قبل أن ينقض عليه منصف المرزوقي فيستلمه في تنكر كامل للوعود
المقطوعة من قبل النهضة.
غير أن هذا
التسريب سواء كان صحيحا أو خاطئا فإنه وفقا لما جاء في صحيفة المغرب، قد أثار مغصا
لدى المرزوقي الواضح ، أنه متشبث بالكرسي أكثر من أي طرف آخر.
على أن الأهم
من ذلك يبقى مطروحا كتساؤل بنقطة استفهام كبيرة؟
كيف قبل
الغنوشي أن يجلس مع السبسي وفي عاصمة أجنبية، من أجل ترتيب أوضاع، بينما كان متهما
إياه بأنه يرسكل التجمعيين، وأنه وحزبه
يدخلان تحت طائلة قانون تحصين الثورة.
تلك هي
السياسة، فرئيس حزب حركة النهضة يجد نفسه اليوم
وظهره إلى الحائط أمام الحراك الشعبي، والتهديد بالعصيان المدني، وإسقاط الولاة
والمعتمدين والعمد وكبار الموظفين الذين تم تعيينهم في عهد النهضة والإمتناع عن
دفع الضرائب ، وهي عناصر بقوتها
واستمرارها لا يمكن إلا أن تزلزل أعتى العتاة، ويخشى من آثارها إن لم تقع مرافقتها
لا مواجهتها.
هذا اللقاء
الباريسي يستبطن أشياء عديدة:
1/ أن
الإقصاء عبر قانون تحصين الثورة قد تم قبره بعد أن كان الورقة التي تم بها
تهديد السبسي، الذي كان يكرر أنه قانون لن يمر، بل لعل الدستور المقبل لن ينصص فيه
على سن قصوى للترشح للرئاسة.
2/أن زمام
المبادرة قد انتقل من يد النهضة إلى يد نداء تونس
3/ أن
الغنوشي ، إما إنه قد استفاد من الدرس المصري، وفهم أن مواجهة المجتمع ، بما فيه
لا الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني فقط ،
وإنما الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة معا، لن تفضي إلا إلى
مواجهة يعرف أن عواقبها في أقل التقديرات غير مأمونة، وعلى المرء أن يعترف أن
حركة النهضة ومنذ البداية تصرفت بذكاء ومرونة، لم يعرفها الإخوان في مصر، وهم يدفعون
اليوم الثمن.
ثانيهما ما
يجري على الساحة.
ولعل للمرء –
هذا إذا لم يكن مخطئا ـ أن يستنتج أن بيان مجلس شورى النهضة وبيان جبهة الإنقاذ
التصعيديين إلى الأقصى، إنما يعبران عن طلقات بارود الشرف كما يقول الفرنسيون، وإن
هناك اتفاقا بصدد الإنضاج ، يرتكز على مبادرتي اتحاد الشغل واتحاد الصناعة
والتجارة ويقوم على النقط التالية:
1/ قيام
حكومة كفاءات غير متحزبة (على رأي مصطفى بن جعفر) بصيغة يتفق عليها الطرفان
الرئيسيان، ولكن بتشريك الأطراف الأخرى، وبصورة تضمن أن لا يكون هناك فيتو لا
لرئيسها ولا للأعضاء فيها.
ألم يقل
عبداللطيف المكي على القناة الوطنية 1 أن النهضة ليست متشبثة بالحكم، ولا
يعتقد أحد أن هذه زلة لسان، وهذا ما سجله عليه منذر بالحاج علي القيادي في نداء
تونس ، الذي كان في الحوار على تلك القناة بعكس عادته، غير هجومي، وإلى حد كبير
مرن ولين.( هل هو سيناريو متقن الإخراج)
2/ أن يتم
الاتفاق على تحييد الإدارة والقيام بضربة مكنسة قوية بين الولاة وداخل التعيينات
التي قامت بها حكومات النهضة، ولكن برفق وبدون أن يطال ذلك الكل.
3/ أن لا يقع
المساس بالمجلس التأسيسي ولا حديث عن حله، ولكن مع تأطيره بمجموعة من الخبراء،
ويحصل وفاق على أن يتولى من جهة منح الثقة للحكومة الجديدة، وفي نفس الوقت الاستجابة
للطلبات الملحة للخبراء، أي للمجتمع المدني بعيدا عن إكساب أي صبغة دينية للدستور
، كما يخشى الآن. ألم يبد منذر بالحاج
علي اقل حماسا مما يعتقد عن فكرة حل
المجلس التاسيسي.؟
4/ يتم حل
"روابط حماية الثورة" مع السيطرة عليها من قبل النهضة و ترويضها ،
مقابل تشغيل وجوهها في مجالات بعيدة عن أن تكون حساسة.
بتلك الصفة
يجري الإعداد لانتخابات طبيعية وعادية نزيهة وشفافة حقا، وليتنافس
المتنافسون، وتكون النهضة قد أنقذت نفسها ودخلت اللعبة السياسية في ظروف متساوية
مع الأحزاب الأخرى وبعيدا عن التغول، ولا يكون مصيرها كما حصل في مصر مع الإخوان، فلا
هي تصرفت مثل تصرف الإخوان في مصر منذ البداية ، ولا تستحق أن يحصل لها ما حصل لهم،
وإذ كان موقفنا الشخصي دوما مع ضرورة وجودها، ولعب
دور سياسي وفق حجمها الحقيقي، باعتبارها عنصرا نرى أنه ضروري لتوازن المجتمع،
وبذلك يكون البناء الديمقراطي في تونس مثاليا.
ذلك هو
السيناريو المأمول للبلاد, وغيره من السيناريوهات يكون كارثة عليها.
ولكن هل
سيصيب الانقسام الجهتين المتقابلتين في الأثناء بعد التنازلات من هذا الطرف وذاك.
وبعده – ولا
نتحدث عن غيره – فإن على التونسيين أن يشمروا عن ساعد الجد، لتجاوز مخلفات عام
ونصفا من سوء التصرف.
وحظا سعيدا
لمن سيحكم هذه البلاد مستقبلا، فالتحديات كبيرة، وحتى ميزانية العالم كله لا تكفي
للخروج من الوضع الكارثي الذي نحن عليه.
فقط يمكن
للحكام الجدد ومهما كانوا إنهم ورثوا وضعا ليس صعبا فقط بل سيئا جدا وأن على
التونسيين أن يحزموا أمرهم على سنوات من التقشف والحرمان للعودة لما كانت عليه
البلاد اقتصاديا قبل الثورة.
ولكن لنضيف
.. أن الثورة كانت مرحلة ضرورية، لتعيش البلاد عصرها، أي عصر الديمقراطية وحرية الكلمة والتعبير،
وتلك ضريبة الديمقراطية التي يجب أن يعيها كل الشعب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق