قابس تحت وابل من المطر
الباهي الادغم خلال زيارته للمنكوبين في فيضانات قابس و يظهر
في اقصى الصورة الى اليمين عبد اللطيف الفراتي
كنا على طائرة الـد س 3 الصغيرة في الطريق من العاصمة تونس، إلى مطار قابس الصغير والذي كانت أرضيته مغطاة بصفائح من الحديد، ولم تكن تلك رحلة عادية، فمطار قابس الذي كان زمن الاستعمار يعتبر مطارا عسكريا ملحقا بأكبر قاعدة عسكرية في البلاد، تعتبر مفتاح المنطقة العسكرية، منذ انتصاب السلطة الاستعمارية في البلاد، وهي منطقة لا تخضع للنفوذ المدني وبالكاد لسلطة الباي، إن كانت للباي سلطة فعلية على أي منطقة من مناطق البلاد.
حطت بنا الطائرةوسط ضجيج مدو بعد تحريك صفائح الحديد.
على الطائرة كان هناك وفد كبير أوفده بورقيبة إلى المدينة المنكوبة بعد فيضانات طوفانية حصلت في الليلة السابقة في تلك الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر 1963، الفترة التي يتصارع فيها الهواء البارد القادم من الشمال مع الهواء الحار القادم من الجنوب، على رأي اخصائيي الرصد الجوي، فتنتج زوبعة مطرية تنزل وابلا من الماء، يقدر بما ينزل عادة في سنة خلال ساعة أو أقل من الزمن.
كان على رأس الوفد الباهي الأدغم بطلعته المهيبة التي تفرض الاحترام، كان متسربلا بمعطف غليظ للتوقي من البرد الخريفي، يحمل نظارات سميكة، وضم الوفد آنذاك عددا من الوزراء، ومجموعة من الصحفيين كنت من بينهم وأيضا ممثلين عن المنظمات الجماهيرية، ورؤساء المصالح في وزارة الاشغال العامة ـ لم يكن هناك في تلك الفترة مديرون ولا مديرون عامون حسب ظني ـ.
تجاوز عدد القتلى في قابس المائة، وكانت المدينة الجميلة غارقة في الأوحال التي جاءت بها وديان غير "مهذبة "،ولوحظ سقوط عدد من المساكن التي سميت وقتها مساكن بدائية.
كنت في غاية التأثر لاعتبار ما كنت أحمله لقابس من محبة وهي التي كانت تلقب بعروس البحر الأبيض المتوسط، وكان لي فيها أصدقاء منهم السيد حيدر الذي كان يتولى نيابة جرائد الصباح، وكان يأتينا لمقر الجريدة باستمرار، وأيضا الزميل الهادي رطل الذي كان صحفيا في جريدة لو بيتي ماتان LE PETIT MATIN التي كانت تملكها عائلة "زانا" وهي عائلة يهودية ولكنها لعبت أدوار متقدمة إبان الحركة الوطنية، كنت عند الذهاب إلى قابس أقطن عند صديقي "الهادي رطل"، في بيت والديه، وكنت أستضيفه في صفاقس خلال زياراته المتكررة في بيت أبوي.
وفي البيتي ماتان كان لي أصدقاء منهم "المسيو دوجان" مهيب القامة عبارة عن موسوعة من المعلومات، وهو فرنسي يشغل خطة رئيس التحرير، وقد تعلمت منه كثيرا لعلاقاتي الوثيقة معه، و"ميشال دوري" الذي جاء إلى تونس صدفة مع المجندين في الجيش الفرنسي، وبقي بها حوالي 40 سنة تميز فيها،وأصبح مراسلا لوكالة "يونايتد بريس"، ثم ومعها جريدة "لوموند"، وكانت له خصومات مع الحكومة التونسية نتيجة التزامه بحرية التعبير، ووصل الأمر إلى سجنه مرة إثر حادث مرور مع عسكري وبدون وجه حق، كما أطرد مرة من البلاد، واعترضته هائما على وجهه في باريس بنهج االإيطاليين، في الدائرة الأولى أو الثانية قريبا من مقر جريدة لوموند، ويعود الفضل للحبيب بورقيبة الابن في عودته إلى تونس وقتها، غير أن قلمه المتمرد كان دائما ما يتسبب له في مصاعب، حتى الوقت الذي أصابه فيه اليأس زمن الرئيس السابق بن علي، الذي فاق نظام بورقيبة في التضييق على حرية التعبير، فطلب التقاعد، واستقر في فرنسا، بينما كان ينوي أن يبقى حتى الموت في تونس أسوة بزميله وصديقه "المسيو دوجان"، كما عرفت أيضا الصحفي الشاب "شارل لانكار" الذي ارتبطت معه بعلاقة وثيقة، هو وعائلته، وكان أبوه من المغرمين بالسينما، وكان يدعوني باستمرار للذهاب لمشاهدة أمهات الأفلام مع أفراد العائلة، وكان كريما فلم يتركني مرة أدفع تذكرتي، إلا أنه كان يقطع التذاكر الرخيصة فهو لا يعدو أن يكون موظفا بسيطا، وكثيرا ما ذهبنا معا إلى سينما البالماريوم، الذي كثيرا ما يعرض أحسن الأفلام وأكثرها جدة، وكانت التذاكر في البلكون بمائة مليم، ولكن لا يصل المرء للبلكون حتى تنقطع أنفاسه من صعود الدرج، "شارل لانكار" سينتقل إلى فرنسا مع عائلته مثل الكثير من اليهود التونسيين في سنة 1967، فبعد حرب ما سمي بالأيام الخمسة أو الستة، وبعد مظاهرة يوم 5 جوان، أغلقت صحيفة البيتي ماتان وهاجر أصحابها، وانفرط عقد هيئة تحريرها، وكان من نصيب صديقي أن تقلب في الأعمال في باريس، فاشتغل عاملا في الأسواق الأسبوعية الباريسية، ثم إنه استقر في "نصبة" له، وهناك درس تاريخ تلك الأسواق، وقدم ثنائية روائية رائعة تحت اسم"أدلاييد" و"أدريان" رسم فيها بقصص حب مجنونة، بين باريس والجنوب الجزائري تاريخ الأسواق الأسبوعية الفرنسية، وأصبح كاتبا شهيرا، وأهداني مجموعة من كتبه، واستقبلته في تونس وقضينا فترات ممتعة معا ومعنا زوجتينا ، استرجعنا خلالها ذكريات الشباب ، ومنها حفلات الرقص التي كنا نرتادها.
و بالمناسبة فإن التونسيين من عمري لا بد أن يذكروا أنه كان لهم أصدقاء من اليهود، كانوا معهم على مقاعد الدراسة، وأنهم كانوا يرتبطون بصداقات قوية معهم.
وعودة إلى قابس التي كنت أحن إليها، فيستقبلني الهادي رطل، بكل ترحاب في بيت أبويه، ونذهب معا إلى شاطئها وكان من أجمل شواطئ البلاد،بزرقة شفافة، قبل أن تحل به مصيبة التلوث، وأذكر أني كتبت مجموعة مقالات عن قابس بمناسبة إحدى الزيارات، وكانت تسوية أرض منطقة مصانع الكيمياويات قد بدأت، وحذرت فيها في تلك المقالات من خطر تلك المصانع على البيئة، وعلى مصدر رزق أناس آخرين منهم من يعملون في السياحة، وأيضا أصحاب واحات شنني الغناء، غير أن الوالي آنذاك المرحوم أحمد بللونة، وكان شقيقا للمرحوم محمد بللونة الذي تولى في السبعينيات وزارة العدل، وأقيل منها على وقع تطورات الوحدة مع ليبيا، في كانون يناير 1974، لقربه من محمد المصمودي وزير الخارجية وقتها الذي عزل آنذاك عن الوزارة.
الهادي رطل سيهاجر إلى سويسرا وسيصبح لاحقا أحد كبار صناع الساعات التي تحمل اسمه “ RATEL” ولقد غاب عني إلا ما أسمع عنه من نتف نجاحه، حتى التقيت معه مرة في حفل زواج ابنة صديقي وزميلي المرحوم البشير طوال الذي تقلب من رئاسة تحرير جريدة العمل، إلى الإدارة العامة لوكالة الأنباء وات، إلى رئاسة دواوين عدد من وزراء الإعلام، ولم يكن العريس ليلتها سوى ابن الهادي رطل.
أخذني الحديث عن تلك الذكريات المرتبطة بقابس، فابتعدت عن أصل الموضوع وهو الفيضانات التي شهدتها المدينة، فأحالتها إلى كومة أوحال تتخللها منازل مهدمة، ومتاجر اختلط فيها كل شيء، القماش الفاخر بالكسكسي المتبلل ، والزيت بالقاز، كانت الحالة مؤلمة، وكان الخوف شديدا ينتاب الناس من احتمال عودة الأمطار، أذكر أني شاهدت سيارة مربوطة بحبل إلى نافذة أحد المنازل، فقد جرفت المياه أعداد من السيارات، وأخذ الناس يحاولون عدم التكرار.
وكان معتمدا صحبة عائلته في طريقه إلى صفاقس مسقط رأسه، فجرفتهم مياه وادي العوينات على ما أذكر، ولعله لم يعثر لهم على أثر.
كانت تلك الفيضانات هي الثانية في قابس، بعد عام عن الأولى.
وعندما استقبل بورقيبة في قصره الجديد في قرطاج، وفدا من أعيان قابس مع البعثة التي كلفها بمعاينة ما حدث وتقديم العون النفسي والمادي للسكان، وتصور طريقة من الطرق لحماية المدينة مستقبلا، سأل: ألم تقولوا لي قبل عام: "إن مثل هذه الفيضانات الطوفانية، لا تأتي إلا مرة واحدة كل مائة سنة"، أجابه" المختار العتيري" وكان آنذاك هو كبير المهندسين في وزارة الأشغال العامة وهو معروف بروحه الفكهة : "فعلا سيادة الرئيس ولكنها جاءت العام الماضي في آخر المائة سنة، ثم عادت هذا العام في أول المائة سنة الموالية".
عمت الضحكة كل الحاضرين، وهدأ الجو الذي كان محتدا فلقد كاد بورقيبة يستشيط غضبا، ولكن أساريره انفرجت، ودعا إلى الإسراع بأمرين اثنين: أولهما الإسعاف السريع للناس والتكفل بالعائلات التي فقدت سندها، ثم الشروع فورا في حماية المدينة، إذ لا ينبغي أن ننتظر مائة سنة أخرى للتوقي من فيضانات مدمرة،
و سنرى فيضانات أخرى أكثر تدميرا، وأوقع أثرا، وخسائر بشرية أكبر في سنة 1982.
تلك قصة أخرى.
fouratiab@yahoo.fr
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق