Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأحد، 9 يونيو 2013

الموقف السياسي


يكتبه عبد اللطيف الفراتي

تركيا في عين الإعصار

فهل تجتاز حكومتها  الزوبعة؟

تونس/ الصواب/04/06/2012


هل هي الثورة تجتاح تركيا، وهل تعصف بحكومتها وربما نظامها، كما حصدت ثورات عربية كان منطلقها تونس أنظمة عديدة، لم تصمد أمام رياح الثورة؟

وهل أن تركيا التي تعتبر نفسها أوروبية،( رغم أن الحكم فيها منذ أحد عشر عاما إسلامي)، هي  في مأمن من أن تعصف بها الرياح، فتطيح بسلطتها المنبثقة من انتخابات نزيهة وشفافة ودورية؟

كل تلك أسئلة حارقة اليوم، وقد فاجأت "الثورة" المراقبين الداخليين والخارجين في بلاد آخر خلافة إسلامية ودعت منذ قرابة القرن.

ككل الحكام فإن الثورة في تركيا إذا صح أن نسميها ثورة، قد قوبلت بالاستنكار من الحكومة القائمة، تماما كما كان الأمر في تونس أو في مصر أو في ليبيا أو في اليمن أو في سوريا أو البحرين.

وتماما ونفس المقولة تم تقديم نفس الإنكار، "تركيا" ليست لا تونس ولا مصر.

ورفع رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان عقيرته عاليا، إن الأمر لا يعدو جماعة من المتنطعين، وأن الهدوء سيعود سريعا.

لحد الأمس لم يتجاوز عدد القتلى  الثلاثة، ولكن 1500 جريحا في إسطنبول و700 جريحا في العاصمة أنقرة، عدا عدد غير معلوم في المدن الأخرى، ومئات المعتقلين، ومعاملة خشنة ومتعسفة.

ومن هذه المدن التي طالها الاضطراب ديار بكر العربية، ولواء الاسكندرون حيث تعيش أقلية  علوية، تنتسب لنفس الطائفة الحاكمة في سوريا من النصيرية، وحيث توجد أقليات يونانية وأرمنية وأذربيجانية وطاجيك وسريان وتركمان، عدا التنوع الديني من مسلمين غالبهم حنفية ومن يهود ومسيحيين من كل الطوائف.

كل هذه الأقليات وبعضها مهم كالأقلية العربية التي تعد لا أقل من 6 ملايين والأقلية العلوية التي يوجد مركزها في سوريا ولكنها تعد أكثر من علويي سوريا الذين بيدهم حكم دمشق، ويبلغ عددهم حسب المصادر  المختلفة ما بين 10 و15 مليون ، إذ تؤكد السلطات التركية في غياب إحصائيات حسب الأعراق والديانات أنهم 12 مليونا بينما تؤكد زعامات العلويين أنهم لا يقلون عن 20 مليونا، وكذلك هناك الأقلية الكردية وغالبها الأعظم من المسلمين السنة الحنفيين، وهنا أيضا نجد اختلافات عميقة بشأن تعدادهم وإذ تؤكد السلطات التركية أن عددهم يبلغ 12 مليونا فيما تؤكد الزعامات الكردية أنهم يفوقون 20 مليونا، وإذا صحت هذه التقديرات فإن نصف عدد الأتراك أي  35 إلى 40 مليونا من 75 مليونا هو عدد سكان تركيا، هم من الأكراد والعلويين.

وإذا تم استثناء العلويين وقلة من المسيحيين واليهود فإن 55 إلى 60 في المائة أو يزيدون هم من المسلمين السنة الحنفية في دولة تقول بأن 99 في المائة من سكانها هم مسلمون.

وتركيا تقوم على 15 عرقا على الأقل اليونانيون والأرمن والآشوريون والسريان والجارك أو الجورجيون والغجر هم من المسيحيين، باعتبار أن إسطنبول كانت عاصمة إمبراطورية مترامية الأطراف يأتيها المهاجرون من كل فج عميق.

**

 عند كتابة هذا المقال كانت مظاهرات الاحتجاج قد بلغت يومها السادس، ولم يكن يبدو في الأفق ما يدل على أنها إلى تراجع، بل على العكس كانت تبدو وكأنها متعاظمة، في ذلك اليوم كانت قد عمت 67 مدينة حسب المصادر التركية ذاتها.

وقد انتقلت الاحتجاجات من حادثة بسيطة، تمثلت في  اتجاه النية لتحويل منطقة خضراء في قلب إسطنبول، إلى جامع، واعتبرت جهات من المثقفين أن ذلك يمثل أسلمة زاحفة، وتغيير في النمط الاجتماعي  التركي الذي كم أشاد أردوغان نفسه بعلمانيته.

ومن هنا تبارى عدد كبير من المتظاهرين في حمل زجاجات البيرة،  رفضا لقرار الحكومة التركية، بمنع بيع الخمر في المقاهي على قارعة الطريق، مما اعتبرته جماهير عريضة ممن تصوت عادة لحزب العدالة والتنمية، عملية زاحفة لتغيير النمط المجتمعي المتعود على السلوك العلماني الذي تم إقراره منذ سنة 1923 على يدي مصطفى كمال أتاتورك.

غير أن المراقبين المتفطنين عادة، لا يعزون هذه الانتفاضة لسبب بمثل هذه البساطة، بل يعتقدون جازم الاعتقاد أن الأمر أعمق من ذلك، وهناك جانب كبير من الشعب التركي أصابته  آفة السأم من حكم تواصل طويلا ولو اعتمادا على صناديق الاقتراع ، وأخذت تبدو على زعيمه ملامح التصرف الاستبدادي باتخاذ قرارات منفردة، لا يبحث  فيها عما إذا كانت مقبولة لدى الشعب أم لا.

ولعل الخطيئة الكبرى التي ارتكبها النظام التركي، هي تلك المتمثلة في استعمال أساليب العنف المفرط، ما رفع كثيرا من عدد الضحايا، كما سبق أن رأينا، والتهديدات الصريحة المعلنة من قبل الرئيس رجب طيب أردوغان، الممتلئ  ثقة بنفسه نتيجة الثقة الانتخابية التي يتمتع بها، والتي أدت في ظل نظام برلماني إلى  القطيعة بينه وبين جماهير المثقفين، الذين قد لا يزنون كثيرا في ميزان الأصوات الانتخابية، ولكن ثقلهم المعنوي لا تنبغي الاستهانة به، وقد لوحظ في مقدمة المتظاهرين، وجود كبار الفنانين وفي مقدمتهم خالد أغنش بطل مسلسل "حريم السلطان" والمتقمص لدور السلطان سليمان وهو أي ذلك السلطان  واحد من أهم خلفاء الدولة العثمانية  وكان هذا الممثل الذي يتمتع في تركيا بشعبية كبيرة مرفوقا بزوجته وهي ممثلة أيضا، وكذلك عدد  كبير من نجوم الغناء والتمثيل والرسم والمسرح والسينما، وأيضا نجوم الرياضة وخاصة كرة القدم.

وقد اعتبرت تصريحات أردوغان  التي وصفت المتظاهرين  بالمتنطعين، قاسية وغير مقبولة، وبدل تخفيف وطأة الاحتقان، ما كان إلا أن تزيد في درجته.

وعلى العكس فإن نائب الوزير الأول بولند أرينك وهو أيضا الناطق الرسمي باسم الحكومة، أطلق دعوة لوقف التظاهر الثلاثاء الماضي وفقا لما جاء في صحيفة "لوموند" الفرنسية، معبرا عن اعتذاره لأعداد المتظاهرين الذين جرحوا خلال المظاهرات، باعتبار أنهم يؤمنون بضرورة المحافظة على المحيط، متناسيا أن ذلك لم يعد هو السبب الرئيسي للتظاهر، وقد جاء اعتذاره بعد لقاء له مع رئيس الجمهورية عبد الله غول، وأضاف إليه القول: إن المظاهرات التي انطلقت شرعية ومشروعة.

أما رئيس الجمهورية وفي غياب رئيس الحكومة القابض على القرار الفعلي في تركيا، فإنه بدا محرجا وهو يعلن، إن الشرعية لا تنبثق فقط من صندوق الاقتراع، مثنيا على أقوال نائب رئيس الحكومة،" ليس كل الناس مجبرين على تأييدنا، ونحن منفتحون على أفكار الذين لا يساندوننا.

وفيما كان رئيس الجمهورية الذي لا يتمتع بصلاحيات فعلية،ونائب رئيس الحكومة يسعيان لتهدئة وضع يبدو أنه لم يعد تحت السيطرة، كان رئيس الحكومة  خلال زيارة قادته إلى المغرب والجزائر وتونس، في نفس وقت  تعفن الوضع يعلن في حالة تحدي للتحركات المسجلة: إن الأوضاع بصدد العودة لحالتها الطبيعية، ومن هنا وإلى عودتي للبلاد ستقع تسوية المشاكل ويعود الهدوء.

ويذكر هذا بما كان يعلنه الرئيس بن علي عند عودته من "أبوظبي" والبلاد تغلي كالمرجل فوق نار حامية في تلك الأيام الحارقة من النصف الأول من شهر  كانون الثاني يناير 2011.

**

 والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم وتركيا تجتاز أسبوعها الأول من المظاهرات التي انتشرت في كامل أرجاء البلاد، هل إن ما يجري هو إرهاصات ثورة ستعصف بالنظام الإسلامي في تركيا، أم مجرد تنبيه وإنذار لا يعرف إن كان الحكم القائم سيستفيد منه أم لا.

هناك عنصران لا بد من الوقوف أمامهما:

أولهما: ماهو مدى قدرة حكم يستند إلى الدين ويعتقد أنه يحمل حقيقة مطلقة، على التفاعل الحقيقي مع نظام ديمقراطي، يستند إلى قيم لا أريد أن أقول إن الإسلام  لا شك في أنه يحملها، ولكن أقول أنها ليست في ثقافة الشرق، ولا عاداته، وأنه إذ يحاول أن يسايرها، فإنه يبدو لاهثا وراءها دون قدرة حقيقية على التفاعل معها.

ثانيهما: ما هي القدرة الفعلية على تجميع الأتراك وراء ثورة ـ إن كان في الأمر ثورة ـ لا تستند لا إلى زعامات ولا لفكر أو فلسفة، وبالتالي فهي في مهب الريح كما كان شأن ثورات الربيع العربي.

ومن هنا يحق التساؤل إلى أي حد يمكن معه لأردوغان وهو الذي يدعي الديمقراطية، أن يذهب في طريقه، مستعملا القمع، ومستمرا بوصف المتظاهرين بالرعاع؟

ومن هنا أيضا يمكن التساؤل عن مدى قدرة المتظاهرين على المواصلة دون أن يفت لهم ساعد؟

في الجواب على هذين السؤالين مفتاح الاجابة على مدى إمكانية فشل أو نجاح التحركات القائمة.

**              

هل بالإمكان رسم صورة للواقع التركي اليوم، لتوفير قدرة على التحليل؟

 من جهة فإن تركيا تعيش منذ 1923 في ظل حكم يسمى بالعلماني، وهو ليس كذلك بالضرورة بالقياس إلى التجربة اللائكية الفرنسية التي حاول مصطفى كمال أتاتورك استنساخها، فالدين الإسلامي بقي مسيطرا لا فقط في المجتمع ،ولكن مع السلطة حتى زمن أتاتورك، ثم بعد وفاته زمن عصمت إينونو، ثم  زمن الثلاثي عدنان مندريس وجلال بيار وفطين زورلو، وبعد ذلك جاء حكم الجيش الذي وضع يده على حقيقة السلطة حتى وصول أردوغان قبل 10 أو 11 سنة. وفي الأثناء قامت حكومات مدنية ولكن بقيت تحت وصاية الجيش، الذي اعتبر نفسه دوما وصيا على علمانية الدولة وميراث مصطفى كمال أتاتورك.

ويطلق البعض على الحزب ـ حزب العدالة والتنمية -  وسياساته لقب العثمانيين الجدد وهو ما أقره الحزب من خلال أحد قادته أي وزير الخارجية أحمد داود أوغلو الذي يعتبر منظر الإسلاميين الأتراك حيث قال في 23 نوفمبر 2009 في لقاء مع نواب الحزب:

"إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية. إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد. نعم نحن العثمانيون الجدد. ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا. نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا. والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب. وخاصة فرنسا التي تفتش وراءنا لتعلم لماذا ننفتح على شمال أفريقيا".

من جهة أخرى فإن تركيا اليوم ليست تركيا الأمس، ومن حالة الإفلاس، انتقلت تركيا إلى حالة الوفرة  وما اعتبر رخاء، ولكن ليكن واضحا أن حزب العدالة والتنمية ليس هو المسؤول عن هذا الانتقال" المحمود"، فقد سبق صعود الحزب الإسلامي للحكم قيام حالة من الرخاء تعود إلى قرارات مكنت البلاد من تجاوز أزمتها العميقة، وتمثلت تلك السياسات، في القطع مع التوجهات الاقتصادية المصطنعة، والتوجه إلى حقيقة الأسعار، أي إيلاء الحركة الاقتصادية ما تستحق من اعتماد على رفع سلبيات الدعم، وتزييف الواقع، وهبوط الأجور وانهيار العملة أي الليرة التركية، فتم في نفس الوقت رفع الأجور إلى حقيقة قيمتها، ورفع أسعار السلع والخدمات هي الأخرى إلى حقيقة قيمتها، كما امتدت يد الإصلاح إلى العملة التي اختصرت ستة أصفار منها، بحيث باتت عملة محترمة، ومن هنا انطلق الاقتصاد التركي نحو آفاق مفتوحة، مكنته حتى قبل وصول الحكم الحالي الإسلامي، من القضاء على المعوقات التي كانت تكبله.

وعندما جاء حكم العدالة والتنمية، وجد الأرضية سانحة لتحقيق نسب نمو عالية، وفرت فرصا كبيرة للاستثمار ولكن أيضا التشغيل الواسع، والتصدير، وإن أصيب بالتراجع في العام الماضي، وبعد تسجيل نسب نمو سنوي بـ9 أو 10 في المائة اكتفى في العام 2012 بنسبة نمو بـ4 في المائة فقط.

غير أن حزب العدالة والتنمية  لم يكن من النباهة ليتفطن بأن تلك السياسات التوسعية، لا بد أن تخلف سلبيات ينبغي معالجتها في الوقت المناسب، وإلا فإنها تنخر المجتمع وتعد العدة للانتفاض، فقد تعاظم حجم البطالة ليبلغ عدد العاطلين عن العمل حوالي 2.5 مليون، وبات السباق بين الأجور والأسعار سيد الموقف،و تهرت طبقة وسطى هي التي كانت في المقدمة لتنمية الثروة، ولكنها وجدت نفسها في قاع الجهة المستفيدة منها. وأمام فشل قدرة التوقع والاستباق والاستشراف، فإنه فشل في امتحان التنمية الفعلية.

وهذه هي الأسباب الحقيقية لما تشهده  تركيا اليوم، فقد طفح الكيل وكانت قضية بناء ترعاه السلطة ومخالف للقانون في حي "تقسيم" البورجوازي، القشة التي قصمت ظهر البعير، كما كان احتجاز عربة البوزيدي وانتحاره هي منطلق ثورة تاريخية في منطقة بأكملها.

وأدى تراكم غضب شعبي لأسباب بقدر اختلافها، ولكن تجمعها، في انفجار يجب أن ننتظر لرؤية نهايته، هل سيؤدي إلى سقوط نظام، أم سيحصنه التحصين الذي يمكنه من المواصلة و ولكن لكم من الوقت.؟ 
fouratiab@yahoo.fr

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق