بكل هدوء
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
خطبة الوداع ؟
تونس/الصواب/25/06/2013
سؤال حارق، هل كان التصريح الطويل الذي أدلى به الجنرال رشيد عمار إلى قناة التونسية نهاية طريق أو بداية طريق آخر؟
هل هي استراحة المحارب؟ أم هي استعداد لمعارك أخرى قادمة؟
عنصران بارزان في "خطاب" الجنرال رشيد عمار: نبرة الصدق – حقيقية أو مصطنعة ـ ونبرة المرارة إلى حد الألم والألم الموجع.
ولقد اختار الجنرال أن يتحدث للمواطنين وهو في زيه العسكر،ي حتى بعد أن أصبح خارج المسؤولية كقائد للأركان، ليعطي حديثه الصبغة الرسمية، مع الوقع اللازم.
الجنرال تمت ترقيته إلى رئاسة أركان الجيش العامة بعد الثورة، ولم يكن قبل ذلك سوى قائد أركان جيش البر، كما إنه أصبح فريقا بالمناسبة، فعهد بن علي لم يكن يرغب في قيادة للجيش جميعا، خوفا منها، والجنرال عمار، أبرز هو وزملاؤه في المؤسسة العسكرية هم ممن تربوا على الشرعية، وفقا لتقاليد المدرسة العسكرية الفرنسية، ولنقل الأوروبية، أبرز إيمانه بتقاليد الانضباط واحترام الشرعية .
وكما تقتضي مثل هذه الأحوال وفقا لتقاليد هذه المدرسة، فإن الجنرال رشيد عمار طلب أن يتمتع بحقه في التقاعد وقد بلغ 67 سنة، وهي سن بالنسبة لسلك الضباط السامين لا تعد إلا مجرد مرحلة في الحياة العسكرية، تحمل الخبرة، والمعرفة وحسن التقييم، وحكمة السن، ولكن رئيس الأركان رأى غير ذلك، مضطرا على ما يبدو، فاتجه إلى رئيس الجمهورية وطلب منه حق التمتع بالتقاعد كما ينبغي له، والرواية الرسمية لرئاسة الجمهورية تقول: إن الرئيس منصف المرزوقي قد حاول إثناءه عن عزمه، ولكنه لم يلن، وكان مصمما فما كان من الرئيس إلا أن قبل الاستقالة، كان ذلك يوم الجمعة 21 حزيران يونيو، وفي اليوم الموالي السبت أصبحت الاستقالة فعلية، وباتت البلاد بدون رئيس للأركان العامة، وبدون رئيس لأركان جيش البر، حيث أن الجنرال رشيد عمار كان يجمع الصفتين.
و من جملة مظاهر الانضباط، فإنه طلب من رئيس الدولة القائد العام للجيش السماح له، بأن يعبر عبر وسائل الإعلام عن "تقييمه".
وفي البلدان المتقدمة لا يجوز بقاء قيادة الجيش بدون رئيس للأركان العامة، فما إن تنتهي مهمة بهذه الدرجة من الخطورة، حتى يتسلمها رئيس آخر، أما تونس فهي شأن آخر، كما إن المتعارف في الجيوش هو أن الخلف يكون جاهزا وهو عادة الأعلى والأقدم في أعلى رتبة في الجيش، ولكن تونس شيء آخر، فقد بقيت لسنوات بدون رئيس للأركان العامة ،لأن الرئيس الأسبق بن علي، لم يكن يريد وضع أي كان في هذا المنصب باعتبار هاجس الخوف الذي كان يحمله من احتمالات الانقلاب العسكري، وهو الذي جاء للحكم بأثر انقلاب تولته أجهزة الأمن الداخلي.
وإذا توقفنا قليلا عند "خطاب" ( المتمثل في الحديث الطويل الذي اختار تنزيله في قناة التونسية لسعة انتشار بثها ( الجنرال عمار، الذي من المستغرب أنه لم تقع ترقيته إلى رتبة "المشير ليكون بذلك أول عسكري تونسي في الزمن المعاصر يصل إلى تلك الرتبة، وأدواره كانت تؤهله لذلك وأكثر ـ إذا توقفنا قليلا، فإننا سنلاحظ نقاطا رئيسية لا بد من رفعها:
قبل ذلك فإن الجنرال عمار، قد نالته الإساءة في الصميم:
** حزب المؤتمر أي حزب رئيس الجمهورية نال منه عن طريق المستشار السابق أيوب المسعودي واتهاماته المعلنة، ثم أخيرا عن طريق محمد عبو الذي وإن كان غادر المؤتمر فإن ثقافته تبقى مؤتمرية، ولعل هذا يقوم دليلا على أن الجنرال كان مستهدفا من حزب المؤتمر، وهو ما شعر به في أعماقه وسكت منه على مضض.
** اعتبار الأستاذ راشد الغنوشي أن الجيش ـ ضمن مؤسسات أخرى ـ ليس مضمونا.ـ مضمونا لمن؟ للوطن أو لحزب معين ـ
أي إن الحكم بجناحيه في الترويكا لم يكن مستريحا لقيادة الجيش، وهذا يمكن احتماله زمنا، ولكن لا يمكن احتماله دهرا، وبعد النجاح في مواجهة الشعانبي رأى الرجل أنه آن الأوان لأن يترك الساحة على مضض وعلى غير اقتناع.
**
أول تلك النقاط أن الجنرال عمار،بدا واضحا في القول أن الجيش الوطني هو جيش جمهوري قائم على الولاء للوطن، لا لفئة ولا لحزب، وأنه كان دائما كذلك، ولذلك فإنه حمى الثورة ورفض قمعها، وعندما سقط الحكم السابق، رفض أن يكون الحل غير دستوري غير مدني، وأن الجيش متمسك بالشرعية الدستورية وبمدنية الدولة، ونأى بنفسه عن العرض بأن يتولى رئاسة الجمهورية، لم يقل من عرض عليه ذلك يوم 15 كانون الثاني يناير 2011، وهو أمر هناك وعد بأن يميط عنه اللثام ربما بمناسبة كتابة مذكراته إن لم يكن قد كتبها بعد.
ثاني تلك النقط عبر تحليل واف للأستاذ الهاشمي الطرودي، أنه وهو ثمرة مرحلة بورقيبة، لم يبخل في تناقض مع التوجه القائم بالإشادة بأن الدولة المدنية العصرية تحسب لنظام بورقيبة "الذي كان بدعة في العالم العربي".
ثالث تلك النقاط أن المؤسسة العسكرية وهو على رأسها، وقفت ضد إجهاض الثورة خلال مسيرتها، برفض قمعها، وبعد نجاحها في استمرار الدولة وأجهزتها، خلال الأيام الصعبة مما بدا وكأنه تحللا، حتى الوصول لضبط الأمور، وصولا إلى انتخابات حرة نزيهة وشفافة.
رابع تلك النقط التي صدع بها أن السلطة وشرعيتها التي انبثقت عن انتخابات 23 أكتوبر، انتهت يوم 26 شباط فبراير 213، باغتيال شكري بالعيد.
خامس تلك النقط أنه هو الذي أوحى لحمادي الجبالي بتشكيل حكومة تكنوقراط بعد أن سقطت المشروعية الناتجة عن الانتخابات والملخص أن الشرعية تحتاج إلى مشروعية تسندها بدونها لا يكون هناك شرعية فعلية.
سادس تلك النقط هو ضعف السياسة الأمنية الذي ازداد اتضاحا بعد أحداث الشعانبي، نتيجة نقص استعلاماتي كبير، وهناك نقد كبير لا فقط لعدم إقامة وكالة استخبارات مركزية الذي طالب به، ولكن وبصورة صريحة، لزعزعة منظومة كانت قائمة من بينها جهاز العمد ـ مشايخ التراب ـ الذي كان مراقبا لوضع شامل، يخبر عن كل ما يطرأ في البلاد وحتى آخر شعاب أحيائها وأريافها. وفي هذا اتهام موارب لحكومة النهضة التي زعزعت ذلك السلك وتركت البلاد في العراء.
وبدا رئيس الأركان المتخلي في مرارة من يعلن أن المعلومة تم تغييبها عن الجيش الوطني، وأنه لا مجال للشك " في أن هناك عملية تآمر لإفشال عمل الجيش، وأن هناك من يطعنه في الظهر" مضيفا وفقا لنقل صحفي متعدد أن " ما يجري في جبل الشعانبي ليس مجرد أعمال إرهابية، وإنما حركة تمرد وترهيب تعمل على الاستيلاء على الحكم مدعمة من قبل أطراف بعينها".
ووفقا لما جاء في إحدى الصحف أنه استعرض أزمة جبل الشعانبي، وقال إن المساحة التي تشملها عمليات التمشيط، منها 70 هكتارا تمثل محمية الجبل، حاملا على ما وصفه بتقصير أعوان حراسة الغابات، في التبليغ عن العناصر الإرهابية التي اتخذت من الجبل مقرا لها منذ أكثر عام .
وذكر الجنرال وفقا لتلخيص ورد في جريدة الشروق أن الربط مع أحداث سليمان عام 2007 وجب، وأن عوامل الصدفة هي التي كشفت عن إرهابيي الشعانبي.
ودائما وحسب نفس المصدر ذكر أن المؤسسة العسكرية أصبحت تخشى على تونس منذ أحداث سليمان، مضيفا أن هناك ثلاثية تهدد تونس هي التهريب والإرهاب والجريمة المنظمة.
وهذه التهم التي يتم إطلاقها بدون مواربة من قبل شخص في مستوى رئيس الأركان العامة تنتهي صحيفة على الساحة بأنها تشير إلى ما أعلمت به جهات معينة من وجود أمن مواز.
وقد أضاف المحلل السياسي طارق بلحاج محمد في جريدة الصباح : أن رشيد عمار نبه إلى السيناريو الصومالي والسيناريو الجزائري، دون أن تكون لتونس الإمكانيات المادية للمواجهة، و أضاف :" إن مؤسسة عسكرية تعوزها الإمكانيات والاستعلامات وتتعرض للغدر، لا يمكنها أن تضمن أمن التونسيين في حدودهم وفي وطنهم، وهناك من استدرج الجيش للشعانبي من أجل إضعافه، وإنجاح مشروع إسقاط الدولة" .
وإذ تطرق الجنرال إلى خلل في العمل الاستخباراتي فإنه خلص، إلى الهدف الذي كانت تسعى المجموعات الجهادية التكفيرية لتحقيقه، وهو أنها كانت تريد السيطرة على جزء من التراب التونسي، لتجعله موضع قدم، حتى تتكاثر، و تصبح مركز تدريب واستقطاب للجهاديين في كل تونس وليس في القصرين فقط .. و أضاف الجنرال: أن الهدف كان يكمن في تكوين مركز تدريب "جهادي" تكفيري عسكري في مستويات صنع الألغام والتشفير والتجسس، وتكوين خلايا شبه عسكرية، هدفها الإطاحة بالدولة التونسية وتركيز دولة جديدة بنظام جديد وعلم آخر.
ولا يمكن هنا أن نتوقف عند كل عناصر الرسائل الصريحة والمشفرة التي أرسلها الرجل، في ما بدا أنه نقد لاذع للحكم، وإن قال بأن القوات المسلحة هي ملتزمة بالحياد وعدم الدخول في المتاهات السياسية، وأنها ستوصل حماية مدنية الدولة والنظام الجمهوري.
وإذ كشف رئيس الأركان العامة أنه أعلم الرؤساء الثلاثة عما أسماه بمخطط الإرهاب، ومغادرة الإرهابيين لجبل الشعانبي منذ انطلاق الأحداث، وعن محدودية المعلومات وضعف الاستخبارات، لكن دون أن يستمع إليه أحدا منهم.
وبالتالي فإن الجنرال عمار، يصب جام غضبه على الثلاثي الحاكم، وحتى على المعارضة، ملمحا لضرورة قيام روح من المسؤولية عند السياسيين.
** لا يمكن بحال أن لا يتوقف المرء عند أمرين اثنين:
أولهما هذا التلاحق بين استقالة وزير الدفاع السابق الدكتور الزبيدي المشهود له بالكفاءة الحيادية وعلو الأخلاق وسمو السلوك، وبين طلب الاقالة بعد 100 يوم من قبل الرجل الأول في الجيش الجنرال عمار، ألا يوحي هذا بأن هناك ما لا يرضي، وأن خطرا ما يتهدد البلاد، ولا يراد له أن يظهر أو تتخذ بشأنه القرارات؟.
ثانيا هذه الأقوال التي برزت للسطح بشأن احتمال أن يكون رشيد عمار هو رئيس الجمهورية الوفاقي المقبل، ولكن بأي صلاحية، فرشيد عمار في حالة ما طلب منه جماعيا ووفاقيا أن يكون الرئيس المقبل، لا يمكن أن يقبل بالوضع المهين الذي وجد فيه المرزوقي نفسه.
وإذا حصل ذلك فإنها ليست المرة الأولى عربيا، ألم يكن اللواء فؤاد شهاب قائد الجيش اللبناني محل إجماع سياسي، على تولي الرئاسة رغم أنه لم يكن راغبا فيها، ولكنه قبل في حينه وقاد بلاده وقتها إلى شاطئ السلامة، في حين كانت حينئذ على شفا هاوية عميقة، ستسقط فيها عندما انعدم الوفاق، وتغلبت النظرة العمياء عند كل الأطراف.
ولكن الوضع غير الوضع، فتونس وهذا ما لم يقله الجنرال عمار، مهددة جديا بنمط مجتمعي لا عهد لها به، مستورد من تصورات وهابية، غريبة عن هذا الوطن.