Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الاثنين، 28 أكتوبر 2013

مصطفى الفيلالي يكتب للشيخ راشد الغنوشي

المناضل مصطفى الفيلالي يكتب للغنوشي
            فاضت الكأس يا شيخ
الشروق / 3(فيفري) فبراير شباط 1993

فاضت كأس الاحتمال المتسامح في أنفس مجتمع مسلم، إيمانه عريق على مدى ثلاثة عشر قرنا من عمر الدين المحمدي، وأمجاده في ترسيخ العقيدة وإشاعة ثقافة الدين أبعد زمنا وأبقى آثارا مما يعلم ضيوفك المتقاطرون على عاصمة الزيتونة قرؤوا أولم يقرؤوا من موطأ سيدي علي بن زياد تلميذ إمام دار الهجرة ومن أعلام الإبداع الفكري على مر القرون وصولا إلى آثار الإمام الطاهر بن عاشور..

مجتمع هذا الوطن مجتمع مسلم عريقة قدماه في الإسلام، ولا يحتاج إلى ضيوفك لأسلمته وليجددوا له دينه. ففيه رجال أفذاذ هم أنفذ قدرة وأوسع في العلم باعا، وفي السياسة نضجا، وعند قومنا انصياعا وأتباعا.

إن في الاستعانة منك ومن رئيس قرطاج بدعاة ملتحين متجلببين ، على مشروع أسلمة الأمة انتهاكا لحرمة الضمير للمجتمع التونسي، ورمينا جميعا بالجهل والمروق، والإقرار ضمنيا منك بالعجز عن أن تنهض وحدك بهذه المهمة المبتدعة، وفيه جحود لفضل من انتخبوك وحزبك لولاية أمورنا، إذ ما انتخبوكم إلا باسم الإسلام ولو كانوا كفرة فجرة لانفضوا عن حزبك ولاذوا إلى غيرك بأصوات الاقتراع، ثم إن برنامجكم الانتخابي الذي تقدمتم به إلى الرأي العام للفوز بثقته، ما علمناه ينص قولا وكتابة على أنكم عاقدون العزم على تغيير الطابع العقدي العريق في المجتمع التونسي، لإلحاقه بالفرقة الوهابية في الديار النجدية، وأنتم تعلمون أنها بدعة لعصبية قبلية ألبست بالدين مقاصد الاحتلال السياسي، وإقامة دولة النفط على «ميثاق نجد»، منذ قرنين ونصف من التاريخ. فما الذي زيّن عندكم هذا الانحياز إلى عصبية فريق، لا فقه يميزها ولا كتاب، رام زعيمها محمد بن عبد الوهاب نشرها في أمتنا بالرسالة التي أوحى إلى حليفه ابن سعود أن يبعثها إلى حمودة باشا، وقد طلب الباي من علماء الزيتونة « أن يوضحوا للناس الحق» فرد عليه أبوالفداء اسماعيل التميمي بكتاب سماه « المنح الإلهية في طمس الضلالة الوهابية». كما أجاب عنها العلامة فخر المذهب المالكي أبوالفضل قاسم محجوب برسالة بديعة. ولا بد أنك قرأت ذلك في الجزء الثالث من تاريخ ابن أبي الضياف (ص 60 … 75) . ولا بد أنك وجدت في رسالة قاسم محجوب الوارد نصها في الأتحاف بأكمله من ص 64 إلى 75 ما يغني عن الزيادة بشأن التوسل بالأنبياء والتشفع بالصالحين في قضاء الحاجات، وبشأن زيارة القبور للموعظة والترحم. ، وقد قامت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، بزيارة قبر حمزة، سيد شهداء غزوة أحد، ورد في رسالة الإمام قاسم محجوب قوله : «وأما ما جنحت إليه من هدم ما بني على مشاهد الأولياء من القباب، فهي الداهية الدهياء والعظيمة العظمى في الظلم» (الأتحاف ج 3 ص 68) وقد غدوت اليوم شاهدا مثلنا على هذا الظلم المتكرر على أضرحة الصالحين بديارنا من جناية جماعة الليل، لا يشك أحد من أهلنا أن هويتهم معلومة لدى مصالح السيد علي العريض، وهولا يرى أن من واجبه أن يكف بأسهم عن هويتنا وتاريخنا.

أنت أيها الشيخ العالم، متخصص في الفلسفة، وتعلم ما للأعراف الراسخة في تقاليد المجتمع، من دور فعال في نحت شخصيته على مستوى اللاوعي، وتعلم أن ذلك الزاد المخزون هو ركيزة أساسية في التوازن الذاتي، وأن هذا التوازن يتأسس على علاقة الذات الفردية بالذاكرة الجماعية. وأنت مدرك لا محالة مدى الاختلال العميق الناتج في الذاتية الاجتماعية للشعب التونسي عن التطاول الأحمق على رموز الذاكرة الجماعية، من أمثال السيدة المنوبية وسيدي أبي سعيد الباجي وغيرهما بالعشرات كثير.

وعن محاولة فك الرابطة المتأصلة في الذات، ذات كل تونسي وتونسية، في نسيج الهوية المميزة. إنما تقع هذه الداهية من الظلم باسم الإسلام، وأنتم تدعون احتكار الإسلام وتنفردون بتأويله وتصحيح أحكامه، وتقترف هذه الجنايات الإستئصالية، وأنتم تشهدون وبأيديكم أنتم وحدكم وسائل الردع.  فما رأيناكم تهبون للذود عن حرمة الشخصية التونسية في المألوف من آيات التعبد لأهلنا، كما لم نركم تهبون للدفاع عن رمزية الراية الوطنية ولا عن حرمة الجامعة التونسية. ولا تحركت فيكم حمية الغضب على انتهاك جامع الزيتونة، معقل ذاتيتنا الفكرية، وصرح إبداعاتنا العلمية.

آخر البدع «المجددة لأسلمة المجتمع» اقترفتموها بإعانة رئيس الدولة، الطبيب العالم بعلم نفس الأطفال، فجلبتم من أرض النفط والعصبيات القبلية داعية، لم ير من سبيل لإصلاح ديننا الحنيف أفضل وأيسر من تحجيب ثلة من أطفالنا في سن اللعب بالدمية والكرة الملونة.

لا يهمنا إن كان ضيفكم يذكر الحكم الشرعي المتعلق بشروط التكليف، ويذكر الحديث النبوي الذي يقرر أن التكليف مرفوع عن الصبي حتى يبلغ… ومرة أخرى أخاطب العالم بالفلسفة، الذي لا يخفى عليه الفرق بين علم النفس عند الصبيان وعلم النفس عند سن الكهولة.

فهل تعتقد أن ملكة الإدراك عند بنت الخمس سنوات التي ألبست الحجاب لعبا وتمثلا بالكبار، ستصبح مع مر الأيام مؤهلة للاختيار العقلاني الحر، لحجاب ارتدته عنوة وتقليدا منذ عشرة أعوام، يدل علم الاجتماع التجريبي أن أكبر دواعي التمرد في سلوك الشباب المراهقين هو النفور من السلطة الأبوية ومن الأعراف العائلية المفروضة. فهل تعتقد يا سيادة رئيس الجمهورية أن ما تزرعه اليوم من التحجيب المبكر لبنات القفز على الحبل، سيثمر غدا زرعا طيبا وسيؤصل في الأنفس عند المراهقين، سلوكا اختياريا باقيا.

أود أن أختم هذا الحوار الورقي معك أيها الشيخ الوقور بالتعريج على قضية التجسيد في علم الكلام المتعلق باستواء الخالق على العرش، وبالنسبة الجدلية بين جوارحه العلية وجوارح الإنسان من يد وبصر وسمع و… لقد علمت أن الجدل بين الأشاعرة والمعتزلة لم يحسم قضية العلاقة بين الأصول النظرية للإيمان وبين الطقوس التعبدية المحسوسة. كما علمت أن فرقة المرجئة نشأت لإعفاء الإيمان من الأعمال التعبدية المحسوسة. كتقبيل الحجر الأسود في حديث سيدنا عمر بن الخطاب ورمي الجمرات في الحج. أرى أنكم قد حسمتم الأمر في هذا الجدل فقررتم أن إلباس الحجاب لطفلة غضة وسيلة محسوسة لترسيخ العقيدة الإيمانية وأن ذلك يحصل بعد عشر سنوات من فترات الشباب والمراهقة، والعقيدة قائمة بالأساس على التمييز العقلاني وعلى الاختيار المنفصل عن التقليد وعلى الاضطلاع بمسؤولية التكليف.

وقد علمت أن الإمام ابن تيمية، وقد اتخذه الوهابيون مرجعا لعقيدتهم، قد عقد كتابا كاملا بعنوان «تعارض العقل والنقل» وقرر فيه «وجوب تقديم العقل وذلك بمثابة قانون كليّ عند أكثر الأئمة المجتهدين».

كما علمت ما قرره الإمام الشاطبي في الجزء الثالث من كتاب «الموافقات»: «إن الأدلة الشرعية لا تنافي العقول، وأن مورد التكليف هو العقل، إذا فقد ارتفع التكليف رأسا».

فليتنا يا شيخنا المحترم نلمس جانب المعقولية فيما تأتونه من أفعال على مستوى الشأن العام وفي ما تسكتون عنه من زيغ وانحراف. ليتنا نراكم تتقون الله فيما جعلكم مستخلفين فيه لوقت معلوم، ولا تجعلوا من ديننا الحنيف فزاعة تخويف ونفرة. واذكروا خطاب الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم في الآية 159 من آل عمران: «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر.
النشر بترخيص من الكاتب الأستاذ مصطفى الفيلالي »


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق