Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأحد، 20 أكتوبر 2013

من الذاكرة - المصمودي علامة دالة في علاقات تونس العربية والدولية

من الذاكرة
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
وزن تونس الكبير في قمة الجزائر
تونس / الصواب / 20/10/2013
عطفا على المقال السابق حول القمة العربية في الجزائر في خريف 1973 في أعقاب حرب أكتوبر من ذلك العام ، وصراحة بورقيبة الجارحة أمام الرئيس الجزائري المتحفظ هواري بومدين، و هي صراحة  تسنى لي أن أشهد جانبا منها في عدة مواقع أخرى، أواصل الحديث عن تلك القمة التاريخية.
فقد كان دور بورقيبة باهتا أيامها بسبب المرض، وكان حضوره متقطعا، بينما احتل الصدارة محمد المصمودي وزير الخارجية آنذاك، وذلك قبل بضعة أسابيع من عزله، ثم الغضب الشديد عليه.
ورغم حضور الغالب الأعظم من رؤساء الدول، فقد كان موقع محمد المصمودي بارزا، وبالتالي كان حضور تونس طاغيا ، وكان محمد المصمودي قد نسج علاقات حميمة مع غالب رؤساء الدول لا العربية فقط ولكن الدولية  ، وذلك بفضل قدراته التحليلية السياسية، واطلاعه على مجريات الأمور عربيا ودوليا وسرعة بديعته والقدرة على ربط علاقات.
وبعكس ما كان يسود في تونس من اعتقاد، فإن المصمودي لم يكن على علاقات مؤثرة فقط مع القذافي ، بل كان رجلا ينصت إليه الكل، ويسدي مشورته للجميع وهي مشورة مطلوبة.
ففي 7 نوفمبر 1987 ووفقا لما قاله لي خلال لقاء في بيته الفخم بباريس، رن جرس التليفون في الصباح الباكر جدا في غرفة مكتبه، ووجد على طرف الخط رئاسة الجمهورية الفرنسية، وقد دعاه الرئيس فرانسوا ميتران للحديث معه حول ما جرى في تونس من تغيير في نظام الحكم، ويبدو أن الفرنسيين قد فوجئوا بانقلاب ذلك اليوم بعكس الأمريكان والإيطاليين، وكان الرئيس الفرنسي يريد أن يعرف خلفية ما جرى، وكان يسوده اعتقاد جازم بأن المصمودي وزيادة على قدراته التحليلية ونفاذه لحقيقة الأشياء، لا بد أن يكون عالما بكل دقائق حياة وتوجهات زين العابدين بن علي، وكان السائد لديه أنه المصمودي هو الذي وضع الرئيس التونسي لاحقا، في ذلك الموقع الوزاري في حكومة الوحدة في 14 كانون الثاني يناير 1974، ولعل البشير المهذبي وهو رجل مقرب في نفس الوقت من بورقيبة والمصمودي ووزير الدفاع آنذاك، هو الذي أشار على المصمودي  باختيار بن علي بوصفه رجل مخابرات، دون أن تكون للمصمودي معرفة سابقة بالرجل، وقد دفع زين العابدين بن علي ثمنا باهظا لهذا التعيين الذي لم يكن على ما يبدو على علم به، فعزل من موقعه السامي وأرسل إلى المغرب كملحق عسكري، بينما كان العسكريون الذين من رتبته يعينون في منصب سفراء عندما يحالون على السلك الدبلوماسي.
ما إن انتهى المصمودي من مقابلة ميتران فجرا في قصر الإيليزي  الرئاسي، وكان يهم بركوب السيارة التي أرسلتها له الرئاسة لاصطحابه، حتى وجد سيارة أخرى في انتظاره، لتحمله إلى ماتينيون قصر رئاسة الحكومة لمقابلة جاك شيراك ( في حكومة المعايشة بين الاشتراكيين واليمينيين أيامها).
ذكرت هذه القصة التي ألقاها على مسامعي محمد المصمودي للتدليل على قيمة الرجل لدى الأوساط السياسية العربية والدولية ، وذلك بعد 13 سنة على عزله من مناصبه في تونس1989.
وعودة إلى تلك القمة العربية في الجزائر، فقد كان محمد المصمودي نجمها ، وكان يتصرف هناك كرئيس دولة باعتباره في غياب بورقيبة رئيسا للوفد التونسي، ليلتها كنت أجلس مع عدد من الصحفيين في مقهى مقر انعقاد القمة،  وعند ظهور محمد المصمودي التف حوله الصحفيون يسألون ويبحثون عن أخبار، ضن بها عليهم، أخذني من يدي من بينهم جميعا وسار بي نحو باب قاعة الجلسات الرئاسية، وكان مرفوقا بمستشاره أيامها منصف الماي، وهو صحفي قديم تزاملنا عندما كان يعمل في جريدة العمل، قبل أن يلتحق كالكثيرين بالسلك الدبلوماسي، ويرتقي فيه حتى يصل إلى رتبة سفير، ثم يصبح بعد انتقال الجامعة العربية إلى تونس مستشارا مسموع الكلمة للأمين العام الشاذلي القليبي.
أشار علي محمد المصمودي بأن أبقى هذه الليلة ولو تأخر الوقت، فربما سيعلن عن تطورات مهمة جدا.
فعلا بقيت في المقهى الملحق بالقاعة حيث يتجمع الصحفيون عادة، وانفض جمع الصحفيين وانسحبوا واحدا بعد آخر، وللواقع فإننا لم نكن ننتظر أمرا بارزا، أخذت أترشف قهوة بعد قهوة لأطرد النوم من عيني، وتقدمت الساعات وبقيت وحدي في الانتظار.
فجأة أطل محمد المصمودي وقد رفع أيد متشابكة مع ياسر عرفات، وقد بدت على وجهيهما ابتسامة الانتصار، سارعت إليهما، رفض كليهما الإدلاء بتصريح، ولكن ما قاله لي المصمودي كان كافيا ليهز الدنيا، فقد أفاد بأن القمة اعترفت لمنظمة التحرير بأن تكون الممثل الرسمي والوحيد للشعب الفلسطيني.
سيكون ذلك الخبر الذي طيرته سريعا ، هو مانشيت ذلك الصباح في جريدة الصباح، وقد انفردت به الجريدة، ونقلته عنها كل وسائل الإعلام العربية والدولية.
ولن يأخذ  ذلك الخبر الذي كان مبدئيا منحاه الرسمي، إلا بعد سنة في القمة العربية في فاس.
سؤال قد يتبادر للذهن، لماذا اختار محمد المصمودي جريدة الصباح لإعلان الخبر، ولماذا اختارني أنا بالذات.
ربما لأنه لم يجد من بين المرابطين في القاعة المواجهة لقاعة الجلسات من التونسيين سواي.
ربما أيضا للحنين الذي كان محمد المصمودي يحمله لجريدة الصباح، فقد كان مراسلا لها في باريس لسنوات واشتغل فيها، ومنها أطلق صوت تونس والمقاومة التونسية عاليا، ألم يكن هو الذي نشر على نطاق واسع صور مجزرة تازركة التي أرسلت له من تونس وعن طريق الحبيب شيخ روحه والحبيب الشطي رئيس التحرير وقتها، وبدت كفضيحة كبرى لفرنسا، وخلال سنوات اقترن اسم الصباح باسم محمد المصمودي في باريس، ومن هنا جاءته الزعامة خصوصا وأنه هو الذي تولى عقد الإجتماع التاريخي بين بورقيبة ومنديس فرانس تحضيرا لزيارة رئيس الحكومة الفرنسية إلى تونس والإعلان عن الاستقلال الداخلي في قصر الباي محمد الأمين في قرطاج (بيت الحكمة حاليا).




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق