Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

السبت، 25 يناير 2014

الموقف السياسي : دستور ليس على مقاس أحد ، ولا يرضي أو يغضب أحد

الموقف السياسي
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
الدستور التونسي،،، هل هو قابل للدوام
تونس/ الصواب/ 25/01/2014
خلال الساعات القليلة المقبلة يكون لتونس دستورا للجمهورية الثانية، وهو دستور رغم كل شيء يبقى دستورا مقبولا، ليس بأحسن دستور في العالم كما قال البعض، ولا دستورا كارثة كما قال البعض الآخر من المؤسسين.
وعند الانتهاء من المصادقة عليه، فصلا فصلا وقف كل النواب المؤسسين وقفة رجل واحد لإنشاد حماة الحمى، واختلطت أصوات النواب خلال النشيد مع صوت التسجيل المصحوب بالموسيقى في غير تنسيق ولا ترتيب، يوحي لمن يريد أن يفهم ذلك بالخلط الحاصل في هذا الدستور، الذي جاء نتيجة وفاقات وتنازلات ، أهمها تلك التي بذلتها حركة النهضة، التي أعلن رئيس كتلتها أنها كادت تفجر تلك الكتلة لأهمية ما أدخل من تنازلات من طرفها، تحت ضغط أقلية نيابية من جهة، ومجتمع مدني نشيط، استطاع أن يفرض وجوده في هذا الدستور.
سؤال لا بد أن يطرح بداهة : هل هذا الدستور قابل للدوام أم إنه دستور وقتي سرعان ما يحال على التقاعد؟
أمران اثنان ينبغي أن نتوقف عندهما:
أولهما أن سوء تصريف الشأن العام من قبل حكومتي النهضة الأولى والثانية ، قد أراها الشمس في منتصف الليل، واضطرها إلى تقديم تنازلات موجعة.
ففي المنطلق كانت النهضة تريد أن تجعل من الفصل الأول، فصلا يؤكد إسلامية الدولة، لا مدنيتها، واضطرت منذ شهر ماي 2012 أي بعد أشهر قليلة من حصولها على أغلبية نسبية بعد انتخابات أكتوبر 2011، للتراجع عن اعتزامها، وهو ما لم يهضمه جانب مهم ومؤثر من نوابها، وأكثر من أنصارها.
غير أن تحرك المجتمع المدني الذي نظم نفسه، أثنى النهضة عن اعتزامها وجعلها تتراجع في غير انتظام للخطوات، وكان ذلك بداية تراجعات لم تعرف حدودا لاحقا، لمسايرة رغبات الشعب الذي كان متشبثا حسب عدة عمليات استطلاع للرأي  بنص الفصل الأول من دستور 1959، الذي ارتضاه بورقيبة بعد شد وجذب شديدين.
وبدا أن النهضة وهي تغمز في تصورات بورقيبة وتوجهاته وتقلل من أثر تصوراته على تشكيل المسار المجتمعي، تواجه توجها فكريا بورقيبيا يعلن عن نفسه حينا ويخفي نفسه حينا آخر، وسيظلل بورقيبة ميتا في وقت لاحق كل ردهات كتابة الدستور.
ولم يكن ذلك لينجح لولا فشل النهضة في الحكم من جهة، وتعميق السيئات التي تركها النظام السابق أي نظام بن علي في تفريق بينه وبين بورقيبة، ولولا العجز إن لم يكن التورط كما يقول البعض في استشراء الإرهاب والعجز والفساد، مصحوبا كل ذلك بمحاولة الانقضاض على دواليب الدولة بكل محاولات  التسرع الأخرق، في مناصب أحيانا لا ضرورة لها أو إن المعينين فيها لا يملكون لا الكفاءة ولا الخبرة لتوليها ، مضافا إلى ذلك تلك الاغتيالات التي أشعلت البلد، ومكنت من تعبئة شعبية كبيرة، أخافت النهضة خصوصا بعد ما حدث في مصر من تمرد شعبي على حكم الاخوان ، تم تتويجه بتحرك للقوات المسلحة يوصف بأنه انقلاب من فئة وبأنه إرجاع للثورة المصرية إلى منطلقاتها من فئات أخرى.
ولعل ما أخاف النهضة هو أنها خشيت من فقدان السيطرة، في ذلك الوقت، فبعد الدعوة لمسيرة "مليونية" في القصبة ليوم 3 أوت تمت تعبئة لا أكثر من 50 ألفا، تم نقلهم بوسائل الدولة وتم بأقوال كثيرة شراء ذممهم، وادعت  جهات من النهضة أن عددهم بلغ 200 ألفا في مساحة للقصبة والمحيط بها 18 ألف متر مربع ( قوقل إرث)، وإذا سلمنا بأن المتر المربع يتسع بالكاد لثلاثة أشخاص واقفين فإن المجموع لا يتجاوز بحال 54 ألفا ( قال أحد وزراء النهضة إن العدد بلغ مليونا)،  مقابل ذلك استطاع مجتمع مدني متحمس أن يجمع في ثلاث مناسبات عدة مئات الألوف في كل مرة وخاصة في مسيرة يوم 13 أوت عيد المرأة التونسية، مرفوقا بمقاطعة استمرت أشهرا لعدد من النواب تراوح بين 60 و75 قاطعوا اجتماعات المجلس التأسيسي وفرضوا عليه الشلل.
وإذ وصفت تلك التحركات بمحاولة انقلابية، فإنها في الحقيقة لم تتجاوز ظاهرة مجتمعية مدنية نجحت في ضغطها.
ثانيهما: أن حزب النهضة ساده اقتناع بأنه لا يمكن أن يقف إزاء مثل هذا التحرك، وأنه يرفض سيلان أنهار من الدم فضلا إلى المعرفة المسبقة من طرفه بعزوف الأمن الذي هو بصدد التحول إلى أمن جمهوري والقوات المسلحة، عن تلقي أوامر تعسفية تنتهي إلى مواجهات دموية، ألم يقل الشيخ راشد الغنوشي في لقاء سري له مع مجموعة من السلفيين إن الأمن والجيش ( مع جهات أخرى) غير مضمونين.
وبعكس الإخوان في مصر الذين كانوا حريصين على تغيير نمط المجتمع بأسرع وقت، من ذلك قرار إغلاق دار الأوبرا التي يعود تدشينها لسنة 1865 والتي كانت  شهدت تقديم أوبرا عائدة الإيطالية في أول عرض لها في العالم، فإن النهضويين كانوا الأذكى ، ولم يستفزوا كثيرا المجتمع التونسي إلا في نطاقين وهما تشكيل ميليشيات تحمل اسم روابط حماية الثورة والتعيينات المتسرعة لغير الكفاءات .
ومن هنا فقد قبل الإسلاميون التونسيون ابتلاع كل الثعابين على رأي المثل الفرنسي ، وقدموا تنازلات كبيرة جدا لحد إدخال تململ في صفوف الجهات الأكثر تطرفا في صفوفهم، وابتعادهم عن التيارات السلفية العنيفة مثل أنصار الشريعة إلى حد تصنيفها بأنها منظمة إرهابية ,هو ما ستتبعهم فيه الولايات المتحدة وجهات دولية أخرى بالخصوص أوروبية.
**
هذه إذن الظروف التي تمت في ظلها كتابة الدستور، بعد انعقاد حوار وطني تحت رعاية اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة بالخصوص.
-        تنازلات نهضوية لم تكن لتحدث لولا تطورات الأشهر الأخيرة محليا وعربيا، وحتى دوليا في ما سيسمى من طرف متطرفين من بينهم بالخصوص النائب المؤسس عبدالرؤوف العيادي.
-        تفهم من جهات توصف بالعلمانية، حتى لا تدفع بالنهضة إلى الزاوية.
وبين هذا وذاك من المشاغل أمكن إنهاء الدستور.
ولكن أي دستور؟
دستور اتسم بفقدان الحد الأدنى من المنطق الداخلي، فليس هو بدستور دولة علمانية ، ولا هو دستور دولة دينية، وحتى تعبير الدولة المدنية الذي جاء في فصله الثاني لا يمكن قبوله إلا تجاوزا.
ولعل الفصل السادس منه والذي نورده في ما يلي:
"الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي.
تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح، وبحماية المقدسات ومنع النيل منها.
كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف".
ومن رأينا فإن هذا الفصل حمال لوجهات مختلفة، قد يصعب عند التطبيق ضبطها، وإذا كان نتيجة توافقات صعبة، فإنه ولا شك يحمل بصورة تكاد تكون كاريكاتورية التناقضات الكثيرة في صلب هذا الدستور، الذي يبدو وكأنه دستور ، مكتوب لجهات متعددة بنوايا متعددة ، وتوجهات إيديولوجية متعارضة.
إن الدولة راعية الدين هي من خصائص الدساتير الإيديولوجية ذات المنحى الديني، وبالمقابل فإن كفالة حرية المعتقد والضمير يحيلنا لما تحفل به الدساتير ذات المنحى العلماني ، فمن شاء أن يؤمن فليؤمن ومن شاء أن يكفر فليكفر، وهي أي الدولة عندما تكون ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة( يعني معابد الديانات الأخرى ) عن التوظيف الحزبي للمرء أن يتساءل لماذا لا التوظيف السياسي أيضا، وهو مهم باعتباره مظهرا أكبر من التوظيف الحزبي، باعتبار أن التوظيف المنهجي الديني باجتهاد معين، هو أهم وأكثر استعمالا وأوسع من التوظيف الحزبي.
ولكن حماية المقدسات ومنع النيل منها ، هو إعلان غامض هلامي وغير محدد، ويمكن غدا إدخال كل شيء تحت بابه، فليست فقط الذات الإلهية أو الأنبياء وحدهم الذين يمكن أن يكونوا مستهدفين، بل كل ما يخطر ولا يخطر على بال، وفي هذا الإطار أين يكمن الإبداع الأدبي والفني.؟
أيضا نفس الأسئلة يمكن أن تطرح بالنسبة لمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف، وهنا يمكن طرح نفس التساؤلات السابقة ، وخاصة الغموض الوارد.
ولعله وجب أن يتم اعتماد قوانين محددة وواضحة في هذا المجال يمكن أن تثير نفس اللغط عند التشريع لها ، وتقابل بالقبول أو الرفض مجتمعيا.
**
سؤال لا بد أن يطرح وبإلحاح .
هل إن هذا الدستور يعبر عن إجماع وطني، أم إنه صيغ بطريقة ترضي كل الأطراف، كل طرف يجد نفسه في بعضه ولا يجدها في البعض الآخر.
ما لم يجتمع المجتمع على قرار، فإن هذا الدستور، سيبقى مرفوضا على الأطراف، التي تنتظر الفرصة لتغييره، وسيبقى محاربا ـ وهذه هي الكلمة المناسبة ـ من أطراف أخرى ولو أنها أقلية تعتبره ضد الإسلام، ولا يعبر عن الواقع التونسي .
من هنا لا يبدو أنه دستور صيغ لمئات السنين، فهل ستكون الفرصة سانحة لهذا الطرف أو ذاك لتغييره في العمق.
وهل من معنى لتحديد ذلك أو منعه بفصول معينة، فيما السيادة للشعب يفوضها لمجلس منتخب، هو المؤهل بحكم التفويض لتغيير ما يريد ويستطيع رغم أنف التحديدات.
من هنا فإن ما تم الانتهاء إليه يجعل هذا الدستور، عبارة عن علامات متنافرة لطبيعة التنوع ، ثم التوازنات في مجلس تأسيسي لم يرتق بحكم تركيبته إلى مشاغل ، المنبثق من الثورة، التي لم تكن في حينه على هذا القدر من التجاذب الإيديولوجي، ولم تكن تنتظر أن تكون الهوية الدينية أو غير الدينية لتونس هي المحدد.
**
وعودة للسؤال الأول في الطالع: هل إن هذا الدستور سيكون صالحا لمدة طويلة مثل الدستور الأمريكي ( قرابة قرنين ونصفا)، أو سيكون مصيره مماثلا لدستور الجمهورية الرابعة في فرنسا الذي لم يتواصل العمل به سوى 12 سنة (1946/1958).
دستور 1959 في تونس استمر العمل به 52 سنة، وكان يمكن بعد إدخال تغييرات عليه ( على الأصح على التغييرات غير المناسبة التي أدخلت عليه) أن يتواصل العمل به.
ولكن حركة النهضة وأقصى اليسار هما الذين عمدا للتجييش لإلغائه، كل منهما لأسباب إيديولوجية، فالأوائل كانوا يسعون لفرض الدولة الدينية والآخرون كانوا يسعون لفرض الدولة العلمانية، وانتهينا إلى دستور بلا روح ، وكل يحاول اليوم أن يجعله على مقاسه.
ذكرني هذا بما قاله لي وزير الخارجية الأسبق محمد المصمودي :  " كنا مجتمعين ثلة من أعضاد بورقيبة حوله في قصر أول جوان ، من بينهم الباهي الأدغم والطيب المهيري و المنجي سليم وأنا وغيرنا ثلاثة أو أربعة ، عندما فاجأنا بورقيبة بالقول ، هذا الدستور الذين تصوغون كأنه جاء على مقاسي، فلو أصبحت يوما وقد أصابني الخرف".
يقول المصمودي: سكتنا عن الكلام خوفا من أن يكون ذلك فخا لسبر آرائنا ، ولكن سارع الباهي الأدغم للتساؤل يمكن أن يصيبنا كلنا الخرف أما أنت فلا.
وتم غلق الموضوع.
دستور 1959 جاء على مقاس بورقيبة ، ودستور 2014 جاء على مقاس كل واحد ممن صاغوه وفي نفس الوقت فهو ليس على مقاس أحد. ولكن أيضا لن يكون أحدا راض بالمقاس.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق