بكل هدوء
|
يكتبه عبد اللطيف الفراتي
لمن الأسبقية للدستور أم للشريعة ؟
الصواب/ 28/08/2017
في بدايات اجتماعات المجلس التأسيسي في مستهل 2012 كانت النهضة تعتقد أن الفصل الأول من الدستور ستتم صياغته على أساس ، أن تكون الدولة إسلامية تستمد تشريعاتها من الشريعة ، غير أن الحليف الرئيسي للنهضة أي حزب مصطفى بن جعفر ، وقف موقفا حاسما ، قائلا إن الفصل بهذه الطريقة لن يمر إلا على جثتي ، وتحرك المجتمع المدني ما اضطر النهضة إلى التراجع في غير انتظام ، وبعد أخذ ورد تمت العودة إلى نص الفصل الأول من دستور 1959 بدون زيادة أو نقصان ، وهو فصل في حد ذاته اضطر إليه الرئيس بورقيبة ، بعد أن كان يطمح لإعلإن تونس دولة لائكية ، ورأت فيه النخبة الحداثية آنذاك مضطرة أنه لا يعلن إسلامية الدولة .
إن الفضل في عدم سيطرة النهضة على المجلس التأسيسي بصفة كاملة يعود إلى طبيعة طريقة الاقتراع بالنسبية وأعلى البقايا ، ولو تم اعتماد الطريقة التي استعملت منذ الاستقلال أي التصويت على القائمات بالأغلبية ، لنالت النهضة في انتخابات 2011 أغلبية مريحة ، كما إن نداء تونس كان يمكنه في انتخابات 2014 أن ينال أغلبية مريحة وإن لم تكن مطلقة بثلثي المقاعد.
في سنة 2012 وصل الأمر إلى مأزق ، فالنهضة تحت لواء متطرفيها ، ومن لم يكن متطرفا وقتها في صفوفها ، كانت تعتقد أنها ستتمكن من فرض قيام الدولة الاسلامية التي تحتكم في قوانينها للشريعة ، غير أن أصواتا عالية تمكنت من كبح جماحها ، فتم الوصول إلى حل وسط بالحفاظ على الفصل الأول كما تمت صياغته سنة 1959 ، وهو كالحلول الوسطى لا يرضي أحدا كما إنه يتسم كما هو شأن كل الحلول الوسطى بأنه حمال أوجه ، وتأويلات مختلفة.
فقد نص هذا الفصل : "تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة الاسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها. "
غير أن التوطئة وهي تعتبر لدى البعض في نفس مقام ما جاء في جسم الدستور فيما لا يرى ذلك غيرهم أبرزت ما يلي : "تعبيرا عن تمسك شعبنا بتعاليم الاسلام ومقاصده المتسمة بالتفتح والاعتدال وبالقيم الانسانية وحقوق الانسان الكونية السامية .."
وككل عمل يراد له أن يكون حلا وسطا لا بد أن يحمل تناقضاته الداخلية ، ذلك أن التوطئة في مكان آخر تضيف " وتأسيسا لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي في إطار دولة مدنية ...... تضمن علوية القانون واحترام الحريات وحقوق الانسان......والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين والمواطنات ...
ويأتي الفصل الثاني من الدستور معلنا بدون مواربة وبالوضوح الكامل " تونس دولة مدنية " والدولة المدنية لها مقوماتها وخصائصها في الأعراف والنصوص
الدولية المعتمدة .
وفي تقديري فإن هذا الفصل يعتبر نصا مركزيا في الدستور كله ، ومدنية الدولة لا تعني لا أكثر ولا أقل أنها خاضعة للقوانين الوضعية التي يقررها النواب نيابة عن الشعب ، خاصة وأن الفصل الثاني نفسه يركز القرار في يد "إرادة الشعب " لا أي إرادة أخرى (؟؟؟؟) ، وإذ ينص الفصل السادس "الدولة راعية للدين ، كافلة لحرية الضمير والمعتقد وممارسة الشعائر الدينية ، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي " ، فإنه لم يحدد طبيعة الدين المقصود خصوصا عندما يضيف المساجد ودور العبادة .
وإذ "تلتزم الدولة .. بحماية المقدسات ومنع النيل منها ، فإنها ـ واستمرارا لحرية الضمير ـ تلتزم كذلك بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف والتصدي لها " وهو ما يبرز بشكل أكثر جلاء طبعة مدنية الدولة ، وهو ما جاءت به الوثائق العالمية والكونية الضامنة لحقوق الانسان.
وبالوصول إلى الفصل 46 من دستور 2014 نجد نصه صريحا جدا من حيث القول :" تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها "
ما هو المعنى العميق لهذا الدعم وخاصة التطوير ، وما هي حدوده إن كانت له حدود ومن يحددها.؟
**
في إيران يحد من الدستور صراحة النص القرآني والشريعة ، كما تحد من صلاحياته وأوامره ونواهيه مجالس ، حارسة ، تكون قراراتها فوق النص الدستوري ، كما إن " رهبانية " المذهب الشيعي المتمثلة في الإمام والملالي وتراتيبية يرى الكثيرون أنها تتناقض والقول لا رهبانية في الاسلام ، وما يملكون من سلطة خارجة عن سلطة الدولة ـ أو هذا ما يتم الايحاء به ـ متمثلة في الحرس الثوري ، حيث نظريا لا تتمتع الدولة باحتكار القوة المسلحة ،
وفي تونس وخلال صياغة الدستور تم عرض ـ ولو باستحياء ـ فكرة قيام مجلس من بين المؤسسات الدستورية تكون مهمته ، حراسة قرارات الدولة من أي تجاوز للشريعة ، ولكن سرعان ما تراجع أصحاب الفكرة ، باعتبار انخرام توازن في القوى على حساب حركة النهضة.
ففي الأثناء ، حصل ما حصل من اعتصام باردو ، وبدا أن المجلس التأسيسي لن يستطيع فرض ما لا يقبله للشعب ، المتشبع بحركة التنوير التي تدرجت في البلاد منذ 150 إلى 200 سنة ، والحريص في غالبه على الحفاظ على نمطه المجتمعي الحداثي منذ بداياته في مصر عبر الخديوي محمد علي ثم الطهطاوي وأحمد باي و المصري قاسم أمين أول الداعين لتحرير المرأة في العالم العربي وحتى الاسلامي وما تلاه من الطاهر الحداد والمصلحين وفي مقدمتهم بورقيبة وغيرهم من الرواد.
وفي الأثناء تعلم قادة النهضة ( كان درج استعمال الاخوان المسلمين بحقهم ) من أخطاء القيادة الإخوانية المصرية والتي عصف بها تمرد جماهيري كبير ـ قوامه عدة ملايين ( ما بين 10 و20 مليونا حسب التقديرات ـقبل أن يعصف بهم وبقيادات التمرد الشعبي ـ انقلاب عسكري دموي.
أمام المأزق الذي كان يمكن أن يدخل بالبلاد إلى حرب أهلية ، تفطنت قيادات النهضة ، بذكاء كبير ، إن لم يكن بدهاء كبير يتمتع به الاستاذ راشد الغنوشي إلى أن عليها ، أن تجد طريقا للخروج الاسلم فجاء لقاء باريس ، وتلك قصة أخرى، وإذ تم عرض الناحية النظرية ممثلة في الدستور ، والتجاذبات التي حصلت لتتم صياغته على الصورة التي خرج بها ، فقد بقي الحديث في مستقبل الأيام عن قضية الارث وزواج المسلمة بغير المسلم ، وتلك مسألة أخرى.
يبقى السؤال قائما هل انجرت النهضة إلى ما لا تريد عند كتابة الدستور ، ووقعت في فخ يجعلها أسيرة تنازلات لا تعرف اليوم كيف تخرج منها بسلام إلا إذا تنكرت لنصوص دستور تفتخر بأنها صاحبة الفضل فيه.
fouratiab@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق