Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الاثنين، 7 أغسطس 2017

من الذاكرة 3 : لماذا خرج بن علي عن ثوابت السياسة الخارجية التونسية ؟

من الذاكرة
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
زلزال 2 أوت 1990 (3)
الخطأ القاتل
الصواب / 02/08/2017
تحرر إسماعيل خليل من وضع غير مريح كان يعيشه في حالة بين حالتين ، فهو رسميا ما زال وزيرا للخارجية ، وفعليا ملازم لبيته ، وقد عز الأصدقاء والمترددون عليه ، غير أنه لم يكن حالة فريدة وأستطيع أن أزعم وكنت وقتها ما زلت على علاقة بعدد من الوزراء ، أن التوجه الذي اتخذه الرئيس بن علي بشأن هذه القضية أي قضية اجتياح الكويت من موقف كان في النهاية إلى جانب الرئيس العراقي ، لم يكن يتفق وما عهدوه  من سياسات تونسية اشتهرت بوضوح في الموقف إلى جانب الحق .
ومع استحالة الكتابة لمثل ذلك التعبير في الصحف التونسية ، فقد تولى الكتابة في مجلة "المجلة " اللندنية التي كنت أراسلها ، عدد من كبار السياسيين التونسيين لعل أبرزهم الباهي الأدغم ومحمد الصياح ، معبرين عن طبيعة ما كان ينبغي أن يكون عليه موقف تونسي  ضد العدوان ، وفاضت كأس السلطة عندما زارني في مكتبي أيامها  بدار الصباح  ، محمد الصياح لتسليمي مقاله ، وعلى كثرة ما كان يأتيني من الوزراء سابقين ولاحقين ، فقد أثارت زيارة محمد الصياح   السلطة ضدي ، ووضعت منذ ذلك الحين على قاعدة انطلاق الطرد أو على الأقل الاقالة من رئاسة التحرير ، وهو ما سيأتي لاحقا ، بقيت على اتصال بإسماعيل خليل في بيته ، وكان أشد ما يؤلمه هو أن تتخذ تونس موقفا من قضية خطيرة كهذه كان يرى فيها الخط واضحا بين الحق والباطل ، وكان محمد الصياح يرى أن الحكومة ينبغي أن تقود الناس بإعمال العقل لا بالديماغوجيا وفي خط معارض لمصلحة البلاد اقتصاديا ودوليا ، وهو الذي ذكرني بمقولة بورقيبة ، لا ينبغي أن تقف تونس في صف المهزومين ، وكان منذ ذلك الحين على اعتقاد بأن صدام حسين وضع نفسه وبلاده  ووضعنا جميعا كعرب من معه ومن ضده في موقع الهزيمة.
كان كل السياسيين في المنفى في خط مخالف للقرار الذي اتخذه بن علي في موالاة صدام حسين ، محمد مزالي ومحمد المصمودي والطاهر بلخوجة وأحمد بنور.
ولقد قام موقف المعارضين لتوجهات بن علي على ثلاثة محاور :
أولها وطبعا يقوم على أن الموقف الطبيعي لتونس يكون رافضا للعدوان و أن احتلال دولة من قبل دولة أخرى هو عدوان موصوف .
ثانيها أن مصلحة البلاد يجب أن لا تقطع مع غصن الشجرة التي تجلس عليها ، فمنذ 1963 وبالأرقام كانت دولة الكويت هي أكبر داعم اقتصادي لتونس هبات وقروض واستثمارات ، وقد سربت لي وثيقة رسمية تثبت ذلك وبالمقارنة نشرتها في حينه ، فالكويت بزت في ذلك الحين الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والبنك الدولي وغيرها   من حيث حجم المساعدات بكل أنواعها ، من ذلك أن طاقة الايواء الفندقية  الكويتية في تونس كانت لحدود ذلك العام تمثل 7 إلى 8 في المائة ، هذا عدا الاستثمارات في الفروع السياحية المختلفة من نقل ومغاسل ووكالات أسفار ، وكان قال لنا وزير في الحكومة ، فإنه ليس من مشروع سد ولا محول طرقات ولا مركزية كهربائية ولا أبراج نقل الكهرباء ولا الطرقات السريعة لم تساهم فيها الكويت بالتمويل الكامل أو الجزئي .
وثالثها أن تونس فقدت  سندها الدولي في تلك المغامرة فالدبلوماسية التونسية وجدت نفسها مقطوعة عن مرتكزاتها  منذ حوالي قرنين كالولايات المتحدة وفرنسا والسعودية والمغرب ومصر ، ولعل من المضحك والتحرك الدولي أخذ طريقه في توجه معين ، أن يقول شخص قريب من السلطة آنذاك ، لقد خرجت الكويت من الجغرافيا ودخلت التاريخ.
ولاحقا قال لي مسؤول كويتي كبير : لقد كان ألمنا في حكومة الكويت في المنفى  بالطائف  كبيرا ، عندما قرر الرئيس بن على إيفاد موفدين إلى كل العواصم العربية لشرح موقفه الذي هو في النهاية موقف تونس ، واستثنى دولة الكويت التي كانت ممثلة بحكومة مؤقتة ، متجاهلا وجودها ، وأضاف في لقائنا به : لقد ذهب في ظن الحكومة التونسية  أو على الأصح الرئيس بن علي وقتها ، أن الكويت دولة منتهية ، وأنه لا عودة لها ، وأن الجغرافيا والتاريخ قد طوياها نهائيا.
ما لم يتضح وقتها من الصورة أمور ثلاثة أو أربعة :
أولها أن الرئيس بن علي كان على ما يبدو معجبا شديد الإعجاب بسياسات الرئيس العراقي صدام حسين  الداخلية وسيطرته المطلقة على  دواليب بلاده في دولة قل أن تكون سياستها الداخلية على ذلك القدر من التعسف في بلد آخر. وسيعمد هو نفسه  بن علي مباشرة بعد ذلك إلى اتباع نفس السياسات بداية من التسعينيات ، فينهي مهام وزيره للداخلية ويأتي بوزير داخلية جديد يقطع به ما اتسمت السنوات الأولى من حكمه من انفتاح ولو نسبي ، فيوضع الآلف خاصة من الاسلاميين في السجون وتجري محاكمات صورية ويقع تعقب الصحافة وتفرض عليها الرقابة الماشرة لا الذاتية كما كان سائدا لأول مرة منذ الاستقلال ، ويتم حل الرابطة التونسية لحقوق الانسان قبل التراجع عن تلك الخطوة مضطرا وتحت ضغط دولي كاسح .
ثانيها أن مستشارين مقربين من الرئيس بن علي من المحسوبين على التيار القومي العربي هم الذين دفعوه على تلك الطريق ، وفي شهادة لأحد كبار المسؤولين التونسيين وقتها اطلعت عليها وستنشر في وقت لاحق  في مذكراته ، أن خطاب يوم 9 أوت 1960 الذي تحدد فيه الموقف التونسي وتم فيه الاعلان عن رفض المشاركة في قمة القاهرة جاء مخالفا لخطاب آخر تمت صياغته بشكل آخر وتمت الموافقة عليه.
ثالثها  أن الرئيس بن علي كان على اقتناع كامل بأن الأمر قد قضي ، وأن احتلال الكويت وإلحاقه بالعراق أصبح أمرا نهائيا ، ولم يدر بخلده أن 500 ألف عسكري أمريكي وعشرات الآلاف من 30 دولة مختلفة لم يأتوا للمنطقة في نزهة يعودون بعدها إلى بلدانهم.
ولعله من الغريب أن يكون رجلا عسكريا مثل بن علي لم يقلب الأمور على مختلف وجوهها ، ولم يتفطن مبكرا إلى أن الحرب قادمة لا محالة ، وأن ما يروج من قوة العراق ستقف سدا منيعا أمام الحلف الدولي  هو كلام فارغ ، وهو ما تفطن إليه متأخرا فأوفد وفدا برئاسة رئيس الوزراء الدكتور حامد القروي لدعوته إلى  الانسحاب من الكويت  فقابل موفده بمزيد التعنت ، تماما كما قابل موفد الرئيس لبفرنسي ميتران ، وقال لوزير الخارجية التونسي  الحبيب بولاعرس والحرب الجوية الصاروخية في أوجها : إيتوا أيتوا على الأرض وسنرى ، وكان يسوده اعتقاد راسخ بأن جيشه سيمزق القوات المهاجمة ، ولكن تلك القوات كانت في الحقيقة تتراجع منهزمة وبدون نظام عندما حان وقت الهجوم البري.
وكان دعاني مسؤول تونسي كبير ارتبطت معه بصداقة دعاني  في 28 سبتمبر 1990 ، وبسط أمامي خريطة منطقة الشرق الأوسط ، وعرض علي الطريقة التي ستجري بها الحرب منهيا كلامه الذي استمر نصف ساعة بدون مقاطعة مني ولو بحرف وكأن سيناريو مكتوبا أمامي ،  لاحظت أنه تحقق بالكامل بعد 15 جانفي 1991  ،  ومفاده بأنهم وبعد تدمير القوة العراقية وشلها بالطيران والصواريخ،  سيدخل الأمريكان وحلفاؤهم الكويت كما السكين في الزبدة comme un
couteau dans du beurre  ، وحتى لو انسحب الرئيس العراقي من الكويت اليوم ( كان ذلك يوم 28 سبتمبر 1990) ولم تحصل الحرب ، فإنه سيدفع ثمن مغامرته من استقلال قرار العراق ، مضيفا إن ما قلته لك الآن حول الحرب وكيفية حصولها منشور كله وبحذافيره في المجلات المتخصصة .
وسأعلم فيما بعد عن طريق مجلة العربي وبقلم رئيس تحريرها أن شوارتزكوف قائد القوات المتحالفة في حرب العراق ، كان يعد العدة لما حصل وذلك منذ  في كتاب نشره 1972 ، وأن قوات أمريكية تدربت على حرب الصحراء في صحاري تكساس وأريزونا ، غير أننا لا نقرأ وحتى إذا حصل و قرأنا فلا نستوعب .
 قبل أيام من نهاية تلك الحرب التي استمرت شهرا ونصفا في منتصف  فيفري  وقد بدأ الهجوم البري  التقيت السيد محمد الصياح  في المطار ، وقال لي : إنهم يتبعون الخطة التي كان اعتمدها حنبعل "الاحتضان" les tenailles  وهي خطة تدرس في كل المدارس الحربية وكليات العلوم السياسية ، فالحرب ليست إلا وجها آخر للتعامل السياسي.
( يتبع)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق