Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الخميس، 16 أكتوبر 2014

اقتصاديات : البنك الدولي وتونس ، نقد ذاتي عميق وتغيير في المواقف

اقتصاديات
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
تقرير البنك الدولي بشأن تونس
ملامح نقد ذاتي
وتراجع تكتيكي عن وصفات الماضي
** عودة إلى الدعوة لسياسات غير متصلبة
تونس/  الصواب /09/10/2014
تم يوم 2 تشرين الأول أكتوبر نشر التقرير الجديد للبنك الدولي ، بشأن عدد من البلدان من بينها تونس .
وتقارير البنك الدولي كما وصفها أستاذ جامعي تونسي هي بمثابة "الإنجيل" الذي "يقود للطريق المستقيم" سواء باعتبار تشخيصه للحالة ، أو باعتبار ما "يوصي" به من مسار للمستقبل القريب.
والتقرير الجديد الذي طال انتظاره رغم أن تاريخ نشره معلوم ، اختلف عن سابقيه ، ليس بالنسبة لتونس وحدها ، ولكن باعتبار التغيير الذي حصل في سياسات هذه المؤسسة المالية العالمية ، المنبثقة هي وصندوق النقد الدولي عن اتفاقيات "بروتن وودز" منذ حوالي 70 سنة ، وفي تشخيصها للأوضاع فإن المؤسسات المالية الدولية ، غيرت مما يبدو قناعاتها في توصيف الأوضاع والإشارة بأن الحل في سياسات تقشفية مضنية ، ولكنها تمادت   في تحرير وصفات الدواء الاقتصادي الكلي التي "توصي" بها أي تلك التي تفرضها على البلدان الملتجئة لهذه المؤسسات التي لا غنى عنها ، عندما تدخل تلك البلدان في عنق الزجاجة وتحتاج إلى مدد مالي منقذ لا يتوفر لها في جهات أخرى.
وفي فترة سبق لي أن قضيتها بين مصالح البنك الدولي، قال لي مسؤول كبير: "إن البنك الدولي لا يجري وراء الدول لا هو ولا صندوق النقد الدولي لتسليفها ، ولكنها هي الملتجئة عندما تنسد أمامها الأبواب الأخرى وتتردى حالتها المالية، والبنك الدولي وريفه صندوق النقد لا يفرضان شروطا، ولكنهما "يوصيان" بما يمكن معه ( كأي بنك ) أن يستردا ما بذلاه من أموال.
وقد وضع البنك الدولي كعنوان لتقريره الجديد عن تونس :"الثورة غير المكتملة"
وذكر في المقدمة "أن تونس هي عبارة عن مفارقة اقتصادية" فهي تجمع كل الشروط الكفيلة لتصبح "نمرا "اقتصاديا في حوض البحر الأبيض المتوسط ، غير أن هذه القوة الكامنة لا تبدو قابلة لتتحول إلى واقع ، بل على العكس فإن الاقتصاد التونسي هو فريسة لعدم القدرة على خلق مواطن الشغل، كما إن نتائجه في مجال التصدير ضعيفة فيما يسوده فساد معمم. وحتى إذا كان الفقر في تراجع فإن الفوارق بين جهات البلاد متواصلة في الزمن. وقد أثرت هذه العوامل على اقتصاد البلاد خالا العقد الأخير ، ما أدى إلى اندلاع الثورة في 2011"
ويضيف التقرير : " لماذا قبل أن ينتهي إلى أن التقرير الحالي يحاول أن يفك عقدة هذا الوضع واقتراح حلول"ممكنة.
وخلال السنوات الثلاث الماضية بعد الثورة ، أمكن لتونس أن تحقق تقدما كبيرا على الصعيد السياسي ، ما مكن من اعتماد دستور جديد توافقي ، ولكن النظام الاقتصادي الذي كان سائدا زمن بن علي لم يتغير فعليا، وبقيت مطالبة التونسيين الخاصة بالمرور إلى فرص اقتصادية نوعية غير مستجابة ."
وانطلاقا من هذا التقديم يضيف كتاب التقرير :
" إن هذا النص – الثورة غير المكتملة – هو بمثابة التحدي للتونسيين لإعادة التفكير في منوال التنمية المتبع، والإقدام على تأمل طموح بشأن الإصلاحات الكبرى الكفيلة ، بتسريع نسق النمو ، واقتسام الثروة ، و خلق مواطن الشغل ولكن من مستوى مرتفع ، والنهوض بالتنمية الجهوية".
وقسم التقرير مواده إلى 11 فصلا:
وتولى الفصل الأول توصيف الحالة الاقتصادية التونسية، وهو التشخيص الضروري والمبدئي لملامسة التحديات التي تواجه البلاد، عبر التحليل المفصل لتطور الاقتصاد هيكليا سواء في مستوى الكليات (الاقتصاد الكلي ماكرو) أو في مستوى ديناميكية وحيوية المؤسسات، ويبرز هذا التحليل التأخر الهيكلي للاقتصاد التونسي ، وركود ومراوحة المؤسسات في مكانها سواء في مجال النمو أو خلق فرص العمل أو من ناحية ضعف الانتاجية.
ويشير الفصل الثاني إلى غياب المنافسة وهو أحد خصائص السوق التونسية ، وهذا ما يؤدي لتغذية نظام ريعي ، ورأسمالية عائلية ، ما يعيق التميز في الاقتصاد وإصابة النمو بالضعف ويحجم إمكانيات تطور الانتاجية وخلق فرص العمل.
ويبرز الفصل الثالث كيف إن التعقيدات التي يضعها تدخل الدولة في الاقتصاد يؤول إلى ظهور الفساد والمحاباة بصورة شاملة ومعممة مكلفة للاقتصاد،  ومؤدية إلى انعدام تكافؤ الفرص.
أما الفصل الرابع  فقد انكب على نتائج سياسات الاستثمار التي قادت إلى تجزئة الاقتصاد إلى قطاع داخلي وآخر خارجي (أوف شور)على حساب الجدوى المتصلة بكل منهما ، وأدى إلى وضع أسس اقتصاد ضعيف المردود والقيمة المضافة.
ووفقا للفصل الخامس فإن السياسات المحمودة لتعديل سوق الشغل قد أدت إلى حث المؤسسات للانخراط في أنشطة ذات قيمة مضافة ضعيفة ما زاد في حدة البطالة لدى أصحاب الشهادات.
أما الفصل السادس فإنه أقر بعدم قدرة القطاع المالي على توجيه الموارد الأكثر إنتاجا وإنتاجية.
واتجه الفصل السابع للدعوة لاتباع سياسات صناعية ، من شأنها خلق الظروف العادلة والمنصفة بين الفاعلين لتمكين تونس من تنمية قسط القيمة المضافة في عدد من المنتجات الدليلية أو ما يسمى بالمنارات.
وأبرز الفصل السابغ أن فتح قطاع الخدمات على المنافسة يمكن أن يفيد البلاد ، وإن كان غالب هذه الإصلاحات تهم الواقع السيادي فإنه يبقى من المصلحة العليا للبلاد أن تشرع في ذلك بدون انتظار للنتائج المتوقعة من المفاوضات التجارية مع الاتحاد الأوروبي.
ويصل الفصل التاسع للسياسات الفلاحية الحالية لا تستفيد من المكتسب المقارن لتونس من حيث فرص التصدير لدول الاتحاد الأوروبي ، فالميكانيكيات المقررة لإسناد القطاع الفلاحي هي غير مفيدة طالما إنها تعطي أفضلية لمنتوجات لا تعتبر فيها تونس قادرة على التنافسية فيها ، بل لعل من المفارقة أن تكون عكسية بالنسبة للجهات الداخلية في البلاد.
ولعل مربط الفرس هو الفصل العاشر الذي يستعرض التوجهات التي تتلاءم مع احتمالات تطوير الجهات الداخلية ما يؤدي لتقليص الفوارق الجهوية.
أما الفصل الحادي عشر فهو الذي يقدم نصا تأليفيا حول المحاور الاستراتيجية المقترحة في التقرير، وتبرز مختلف مظاهر التحليل بصورة مترابطة منطقية ، العراقيل الاقتصادية الهيكلية ، وكذلك مقترحات الاصلاحات ذات الأولوية ، الكفيلة بتكثيف خلق فرص العمل، وتحسين نوعيتها بقصد إنجاز ازدهار ورخاء أكبر.
**
بعد أن قام البنك الدولي بنقد ذاتي لتقصيره في التنبيه إلى نواقص الوضع الاقتصادي قبل الثورة ، واعترف بأن النقد الذي كان موجها في رفق اعتمد لغة بيروقراطية (ص329) ، انتقل بداية من الصفحة (342) لتقديم عمل تأليفي لمقترحاته لتنمية البلاد.
ورغم أن عددا من التونسيين لا يريدون الحديث عن منوال جديد للتنمية فيما آخرون يتحدثون عن منوال جديد دون أن تكون لهم تصورات لا واضحة ولا غير واضحة عنه ، فإن البنك الدولي في تقريره  يدعو إلى تصور منوال جديد، ويحدد ملامحه.
وإذ اعتبر التقرير أن تونس تعتبر نمرا اقتصاديا وهي الأنجح في المنطقة، فإن البنك  ، لم يتوانى هذه المرة عن نقد لاذع لقصور المنوال الذي كان قائما والذي كان قبل 2011 يسبح بحمده عشية وضحاها،
ومن هنا فإن التقرير يقدم هنا تصوره للسياسات الاقتصادية الكفيلة بإقلاع الاقتصاد التونسي ، الموصوف بأنه قابل للإصلاح، عبر التوجه نحو أشكال من المؤسسات القادرة على تنمية الثروة ، وخلق مواطن شغل جيدة ، عبر إزالة العراقيل ، وفتح الباب أمام المنافسة للقضاء على الاقتصاد الريعي والاقتصاد غير المنظم أو العشوائي.
ويرى البنك الدولي أن سلسلة أولى من الإصلاحات يجب أن تتركز على القضاء على العراقيل التي تقف أمام السوق والمنافسة، بما في ذلك إصلاح القطاع المالي، ثم اتباع سياسات من شأنها تخفيف الفوارق بين الجهات ، وتحسين السياسات التي تهدف إلى حماية المواطنين الفقراء ، كما فتح الباب أمام المنافسة ، والقطع مع ثنائية الإقتصاد الموجه للداخل والآخر الموجه للخارج (أون شور   و  أوف شور).
وسوف لن نتعرض هنا إلى كل مجالات الاقترحات التي جاءت في تقرير البنك الدولي ولكننا سنتوقف قليلا عند نقط يعتبرها البنك منارات لا بد أن تكون مضيئة.
فالبنك الدولي الذي كان معاديا لسياسات  أصبح ينادي إلى سياسات تستهدف حماية الفئات الضعيفة ، فرفع الدعم لا بد من وجهة نظره أن يكون مصحوبا بسلسلة من القرارات مثل تلك التي اتخذتها دولة البرازيل، كما إن البنك الدولي يدعو إلى إصلاح جذري في صناديق التأمينات الاجتماعية حتى لا تبقى عبئا ثقيلا، ويقترح إصلاحا شاملا في التعليم والتكوين ، وأيضا في المجال المالي ، مع الاصرار على اعتماد المنافسة وإحلال الفلاحة والصناعة اهتماما أوليا عبر توصيات يقترحها.
**
وقد علق عدد من الخبراء على التقرير الجديد للبنك الدولي، وقال عدد منهم أن الأهم لا يوجد في هذا التقرير، وأن المفروض أن البنك الدولي كما صندوق الدولي يعترف بأخطائه المتمثلة في عدم قراءة الواقع الفعلي للاقتصاد التونسي قبل الثورة أو على الأقل عدم الجرأة للافصاح عنه.
وذكر الخبير الاقتصادي شوقي عبيد الذي عمل لفترة مستشارا اقتصاديا للرئيس التونسي المؤقت منصف المرزوقي ، أنه من الملاحظ أن البنك الدولي لم يعد يطالب لا صراحة ولا تلميحا سواء بالنسبة لتونس أو لغيرها باعتماد التقشف ، الذي كان هو المطلب الأول للبنك ، والذي يبدو أنه أدى إلى انكسارات اقتصادية عديدة ، عبر تعطيل روافع التنمية ومنها خاصة الاستهلاك.
واعتبر الخبير أن التقرير الجديد للبنك الدولي بالنسبة لتونس يشكل تراجعا تكتيكيا عن تقارير سابقة، ولعله يقدم استراتيجيات جديدة لتحقيق التنمية تعتبر معروفة ، ولا تضر  مبدئيا باقتصاديات البلاد أو تكسر انطلاقتها وتضع في الاعتبار النواحي الاجتماعية.
وانتقد شوقي عبيد المؤسسات المالية الدولية المنبثقة بعد الحرب العالمية الثانية بقصد خدمة الاقتصاد الأمريكي أول وبالعرض اقتصادات أوروبا الغربية.
 
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق