قرأت لكم
|
ظاهرة الإرهاب في الفضاء الجغراسياسي المغاربي
بقلم د. عبد الله
الكحلاوي *
مؤسسّة التّميمي/ تونس/ 27-28 فيفري 1
مارس 2014
لقد مكّن رصدنا لظاهرة الإرهاب، على امتداد عقدين، من الوقوف على حقائق عدّة أهمّها أنّه فيما دأبت قوى الإرهاب على تجديد نفسها وخطابها وآليات عملها ظلّت القوى العالمية الفاعلة في التصدّي للظّاهرة تردّد نفس الخطاب والمضامين وتسوّق نفس المقاربة العلاجية بذراعيها الأمنية والاقتصادية (تجفيف المنابع المالية)، بل وتأتي نفس ردود الفعل التحشيدية – التهويلية والتي تشيع "الترهيب" في المجتمعات المسالمة قبل حتّى أن تخيّم نذر الإرهاب الحقيقي. ولا أدلّ على ذلك من صيحة الفزع والتّحذير التي أطلقها مؤخّرا وزير داخلية فرنسا وتناقلتها وسائل الإعلام العالمية على نطاق واسع بشأن بدء عودة "الجهاديين" من معسكرات التدريب السّورية إلى أوطانهم الأوروبية مبرمجين لتنفيذ أجندة دمويّة.
ولئن تعدّدت المؤتمرات الدّولية والإقليمية حول الإرهاب بما أفضت إليه من نفس التوصيات المتكرّرة وتقريبا نفس الخطط الاستباقية إلاّ أنّ التّعاطي مع الظّاهرة لم يتجاوز الحلّ الأمني والاستنفار الاستخباري، بل إنّ الخطاب المضاد السّائد كان في حدّ ذاته جزءً كبيرا من المشكلة لاسيّما عندما قدّم المعركة مع الإرهاب على أنّها معركة بين الشّمال والجنوب أو بين عقيدة دينيّة يتناسل منها "الأشرار" ونظام حياة ارتضاه "الأخيار".
سنقف في هذه الورقة عند الخصائص البانية لهويّة الخطابين: خطاب الجماعات الإرهابية المهيمنة إقليميا و الخطاب الغربي المضاد، وسنبيّن في مرحلة ثانية أنّ التعاطي العربي مع الظّاهرة لم يرق ليفرز خطابا مضادّا وإنّما ظلّ في فلك القراءة الأمنية الضيّقة التي تشكّلت أغلب مضامينها في غرف عمليات وزارات الدّاخلية؛ ومن ثمّ سنسعى إلى تحديد معالم خطاب المقاومة المنشود كرديف للمقاربة الأمنية لا كبديل عنها.
الكلماتالمفاتيح:
التنظيمات الإرهابية، خطاب الإرهاب، خطاب التصدّي، خطاب المقاومة،
الإرهاب: الخطاب والخطاب المضاد
I. تناقضات السّياق العام للظّاهرة
مهما قيل في الغرب عن " لا بَراءة " الرّبط بين نشأة الإرهاب الدّولي والحيف التنموي في العالم فإنّ حقائق الجغرافية البشرية والتنمويّة ما فتئت تثبت أنّنا نعيش في عالم مشروخ في صميمه وبنيته، وأنّ الشّرخ طال حتّى الخطاب المتّصدّي للإرهاب لا سيّما في الغرب، ممّا كان له تداعيات على نجاعة التّصدّي، بل إنّ المتصدّين انخرطوا في مكافحة الظّاهرة حتّى دون الاتّفاق على تعريف قانوني لها: أهي فعل أفراد مَرَقوا على القوانين والشّرائع أم إنّ المروق ينسحب أيضا على الدّول والأنظمة؟ وهل تشمل السّاعين للانعتاق والتخلّص من هيمنة المحتلّ والمغتصب أم إنّها تنسحب فقط على من يستهدف التّوازن الدّولي المهيمن منذ سقوط جدار برلين؟ وهل تبرّر دمويّة الظّاهرة الحلول الفردية لبعض الدّول التي ارتأت في نفسها مؤتمنا على القانون الدّولي وناطقا باسمه؟ أسئلة مُربكة لا يضاهيها إرباكا إلاّ الهوّة المُرعبة والآخذة في التّنامي بين شقّين من العالم: شقّ ينعم في الرّفاهة وشقّ يسوده الفقر المدقع والمجاعة والعطش؛ شقّ ينعم بالصّحة والرّعاية الاجتماعية وآخر استوطنته الأمراض والأوبئة؛ شقّ ينعم بالمعرفة والتكنولوجيا وآخر استبدّت به الأمّية والشّعوذة؛ ثمّ شقّ ينعم بالسّلم وآخر تتناهشه الحروب والنّزاعات المسلّحة.. فكان أن أدّى التصدّع المتفاقم، في تقديرنا، إلى ردود فعل ثلاثة: الهجرة بكلّ أشكالها ومسمّياتها (لجوء اقتصادي/ سياسي/..) و العنف ببُعديه العملي والخطابي و الانكفاء على الذّات رفضا للآخر لا فقط للحوار معه. وفي الأثناء تخندق الطّرفان ورفضّ كلّ منهما مراجعة نفسه والشّك في ما اعتبره "حقيقة" و "حقّا". وعندما يُبتنى الخطاب على قناعة لا يرقى إليها الشكّ في نظر أصحابه يشبّ عن عقال العقل ويفتح على مطلق العنف عاملا في الشّيطنة والتجريم والتكفير والتّتفيه والتكميم واللّجم واستباحة الآخر. يتبيّن إذن خطورة أن يصبح الخطاب جزءا من المشكلة لا جزءا من الحلّ، يُشيع التّرهيب في النّاس ويُنتج بيئة طبيعية للكراهية والعنف حتّى قبل حصوله في الواقع، بحيث تصبح دراستُه والوقوفُ على مضامينه وآليات عمله وتداعياته ضرورة منهجيّة (إن لم تكن حيويّة) لفهم الظّاهرة، ومدخلا لمعالجتها. بمعنى أنّ الهرولة إلى الحلّ الأمني-العسكري وحده لا تعدو أن تكون سوى دورانا في حلقة جهنّمية: عنف يَستنبت عنفَاً وترويعٌ يُؤسّس لآخر. لذلك آثرنا الانطلاق من محاولة فهم المنطق الذي يسوس العنف والعنف المضاد من خلال الخطاب والخطاب المضاد، وسنبيّن أنّه فيما دأب خطاب الإرهاب على تجديد نفسه وميادين وآليات عمله، ظلّ خطاب التصدّي يعيد إنتاج نفس المضامين ويستنسخ نفس المعالجات بل وقد أخفق في تحقيق أهدافه في التواصل والإقناع عندما أدّى إلى نتيجة عكسيّة (وهي الترهيب المُسبق (خاصّة عبر الإعلام) و توفير بيئة للعنف في المجتمع (الكراهية...))، ممّا يستوجب مراجعة الخيارات، والانتقال من الخطاب المتصدّي المنفعل إلى الخطاب المقاوم الفاعل الذي يقوم على تشريك المجتمع بأسره في الذّود عن نفسه وعن هويّته المستهدفة.
وسنعمل في هذه الورقة على الإيجاز والالتزام بعدم إرهاق المتلقّي بالتنظير والإحالات الأكاديمية.
II. معالم خطاب الجماعات الإرهابية
سنركّز في هذا المبحث على الجماعات الإقليمية التي اتّخذت من المنطقة العربية ساحة ومنطلقا لعملياتها سواء في المشرق أو بلاد المغرب، وهي المصنّفة دوليا تنظيمات إرهابية لاسيّما (أنصار الشريعة في تونس وليبيا والمغرب وموريطانيا)، و(القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)، و(تنظيم القاعدة في جزيرة العرب)، و(الدّولة الإسلامية في العراق والشّام) إنطلاقا من مدوّنة بياناتها وتصريحات قادتها و بعض خطب خطبائها و بعض المواقع الإلكترونية و خطاب أنصارها اليومي في الأحياء القصديرية والجهات المهمّشة (مثال تونس).
وهي تنظيمات مختلفة بنيويا، مؤتلفة إيديولوجيا، تتماهى (s'identifie) في أطروحات وخطاب التّنظيم العالمي الأمّ (القاعدة) وتتبنّى آلية عمله الرّئيسية أي العنف المسلّح كما مورس خلال مرحلة بن لادن. أمّا الاستقلال البنيوي لكلّ من هذه التنظيمات فهي السّمة الأساسية للمرحلة الأخطر، في تقديرنا، وهي مرحلة أيمن الظّواهري، حيث حرص التنظيم الأمّ على تجديد أدواتِ عمله معلنا انتهاء الحقبة الآسيوية (أفغانستان/ باكستان/ جنوب شرق آسيا) بسماتها العمودية (مركزية القرار) و مؤذنا بابتداء الحقبة العربية وطور التّوسع الأفقي (من العراق إلى موريطانيا) حيث الرّهان على الفضاء المغاربي الكبير بوّابة على إفريقيا (مالي مثلا) وأور¬وبا (فرنسا و المملكة المتّحدة) لاسيّما في ضوء المستجدّات السياسية النّوعية التي انطلقت من تونس أواخر 2010. ويبدو أن مركز الثّقل في هذه الحقبة تمتدّ إحداثياته الجغرافية من العمق الليبي إلى الحدود الصّحراوية مع تونس والجزائر، وما اختيار القطر اللّيبي عُمقاً إلاّ استثمارا في الحلقة الأضعف (حيث ضعف الدولة و غياب المؤسّسات و سلطة الميليشيات) ولِما توفّره من مؤونة عسكرية لا مسبوقة و أرضيّة نوعية تتقاطع فيها مصالح هذه التنظيمات مع قوى الجريمة المنظّمة من المهرّبين وتجّار السّلاح والمخدّرات.
تتضح الآن مدى قتامة المشهد وما يفتح عليه من مخاطر استراتيجية ظاهرها "نصرة الشّريعة " وباطنها " تغيير هويّة المجتمع ". ولا أحسبني مُغاليا في قناعتي بأنّ المرحلة المقبلة سيقلّ فيها استهداف الغرب ليقع التفرّغ للحلقة الأضعف وهي المنطقة العربية، وما تناسل هذه التنظيمات وتنوّع أساليب عملها بين الأهالي وفي المجتمعات الرّازحة تحت وطأة الثّالوث المصائبي: الفقر المدقع و الأميّة و الاستبداد إلاّ دليلا على هبوب العنقاء من رمادها، بعد خيباتها الآسيوية، لتجنّد الأنصار في وضح النّهار، وتروّج خطابها لما تعدّه " مقاومةً للمنكر" و " إقامةً للدّين و " وعودةً للقرآن " مستفيدة في ذلك من القدرة التّحشيدية للشّعارات الشعبوية مثل " الإسلام قادم" و " الحكم بما أنزل اللّه" و " جيل الصّحوة " و" الفوز بسعادة الآجل والعاجل". وبذلك كان أوّل الخطوات التّسويق لصورة جديدة "لأحباب الرّسول" الذين يهبّون لمكافحة عقوق الأمّهات، ويَصِلون الليلَ بالنّهار "خدمة للمستضعفين" في مدن الصّفيح، وينشئون الكتاتيب لتحفيظ القرآن للصّبية، وينفّذون "حكم الشّرع" في " اللّصوص والمُرابين والزّناة وبائعي الخمور" ويروّجون في أحياء المُفقَّرين والمهمَّشين ولدى "التّائبين " من ضحاياهم أنّ " الانتساب إليهم عبادةٌ وقُربةٌ، لما فيه من نُصرة لدين اللّه". وبذلك تحوّل الخطاب من خطاب جهادي إلى خطاب شعبوي دعوي- تحشيدي ينفُذ إلى النّاشئة من حاجاتهم الحيويّة و من هشاشة بنيانهم النّفسي الذي تشرّب الغُبنَ المعرفي-الثقافي و خَبِرَ البؤسَ الاجتماعي- الاقتصادي. وهو خطاب ينطلق من الكتاتيب ومحاضن الأطفال لِيَشيعَ في المنابر الدّينية والإعلامية والمدرّجات الجامعيّة، مستفيدا أيّما استفادة من مناخ الحرّيات الوليد ومن وسائل الاتصال الاجتماعي ومؤسّسات العمل الخيري، ناهلا من الإحباطات الجمعية وتقزّم الذّات بفعل ما اُعتُبر "انحرافاً عن شرع اللّه " و " سطوةً للجبّارين والطّواغيت والشّيطان الأكبر" و " مصّاصي الدّماء" في "ديار الإسلام "..
ويمكن اختزال أهمّ سمات هذا الخطاب في النّقاط الخمس التّالية:
1. دينيّا، هو خطاب ينطلق من مضامين عقائدية مستهدفا تغيير هويّة المجتمع بالقوّة، بناءً على مسلّمة الائتمان على النّص القرآني فهمًا وتطبيقا. أي إنّ أصحاب الخطاب يطرحون أنفسهم أوصياء على الدّين والمُراد القرآني، مفوَّضين لفرض شرع اللّه، لا قراءة غير قراءتهم ولا صواب لغير رأيهم، بما في التّسليم بذلك من مصادرة لحقّ فهم النّص المرجعي (القرآن) واغتيال لحقّ الاختلاف والمغايرة، لاسيّما أنّ "المفهوم" ليس حقائق رياضيّة مُفحِمة وإنّما مدوّنة قيمية تفتح على التأويل والاجتهاد في تبيان المقاصد المسوّغة للتنزيل ومنطوق الحديث الشّريف. ولا شكّ أن التّاريخ الإسلامي حافل بالفرق السنية والشّيعية المغالية التي مارست كتم الأنفاس باسم "النّصوص".
2. معرفيّا، هو خطاب استبدادي متورّم يحتكر أهليةَ النّصح وسدادَ الرّأي والتّوجيه والقِوامة على شؤون النّاس. فالقول فيه قول فصل لا يحتمل الخطأ، والشّكُّ فيه رِدّة تستوجب إقامة الحدّ.
3. سياسيّا، هو خطاب إقصائي للآخر المختلف (العلمانيون/ الحداثيون/ اللاّمتديّنون/ أتباع الدّيانات الأخرى...)، يعمل تصاعديّا في التّتفيه والشّيطنة والتجريم والسّحل والتّفخيخ والاغتيال.
4. أخلاقيّا، هو خطاب مِكيافيلّي انتهازي يقطف ثمار الدّيمقراطية ويرفض الاعتراف بها، وهو يقوم لدى البعض (غُلاة الشّيعة) على "عصمة الإمام"، وعلى البَيعة وسيادة أهل الحلّ والعقد منهجا في سياسة النّاس. وَوَصل وُلُوغُه في دم المسلمين حدّ الإفتاء بتصفية مُبايع الأمير عند انسلاخه عن الجماعة - أيّا كانت درجة إيمانه أو مسوّغات قراره.
5. عمليّا، هو خطاب يقتات من الحاجات الحيوية للفئات الاجتماعيّة الهشّة، ويستثمر في مخزونهم الإيماني وبؤسهم الاجتماعي مدخلاً لبسط نفوذهم على الدّولة والمجتمع؛ وهو بذلك أشدُّ فتكاً من "السيّارات المفخّخة" و "الأحزمة النّاسفة" والاغتيالات السّياسية.
6. تواصليّا، هو خطاب سلبي لا ينطلق من حسن الظّن بالنّاس وإنّما يعمل في الترويع وتضخيم "المفاسد" و"المعاصي" و "الكبائر" و"الغفلة عن الدّين" و"البِدع" و"العصبية" و يخلو من اللّين والرّفق والرّحمة التي هي سِمة سمات الدّين الحنيف. وما تضخيم ما اُعتُبِر تجلّياتِ "الضّلالة" و "الكفر" إلاّ مقدّمة لتسويق شعارهم المركزي "أسلمة الدّولة والمجتمع" .
يتّضح من هذا أنّ الأمر لا يتعلّق بجماعات نخبوية متطرّفة تستوجب الحلّ الأمني والجهد الاستخباري، وإنّما بعقليّة أفسحنا لها مجالا واسعا للحركة عندما سمحنا باغتيال قراءة النّص القرآني، وتنازلنا عن حقّنا في القراءة المقاصدية لديننا الحنيف بالرّغم من أنّ الخطاب المُغالي خطاب ساذَجٌ وهشّ معرفيّا، لم يُولد تاريخيّا من رحم المدوّنة الإسلامية المرجعية وإنّما استباحها بعد أن نفذ إليها من هوامش تأويليّتها. ولا شكّ عندي أنّ أولوية الأولويات في هذه المرحلة، ليس الانخراط في شيطنة هذه الجماعات أسوة بالخطاب السّائد غرباً، وإنّما أن ينطلق ردُّنا من تحرير القرآن الكريم من أسر غلواء القراءة بدءً بمراجعة مناهجنا التّربوية، وإعادةِ الاعتبار لحركة البحث في المدوّنة الفقهية المالكية، ورصدِ الاعتمادات اللاّزمة لإسناد الباحثين في الإنسانيات، ووضعِ تصوّرات جديدة لمجالات عمل وزارات الشّؤون الدّينية والثّقافة والتّعليم، لا على المستوى الوطني فقط وإنّما على المستوى الإقليمي – البَيْني (الفضاء المغاربي) وهذا ما سنعود إليه في توصيات المبحث الختامي.
III. الخطاب المضاد كما هو سائد في الغرب
اللاّفت للنّظر غربا أنّه على العكس من محيطنا العربي الذي يسود فيه خطاب مضادّ واحد وهو الخطاب الرّسمي (خطاب السّلطة) المحكوم بالهواجس الأمنية، فإنّ النّخب الأوروبيّة توفّقت في تطوير خطاب ثاني مضادٍّ للخطاب الرّسمي الذي يصاغ في دوائر القرار السياسي لاسيّما في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد ركّزت النخب على ضرورتين: (ثنائية الأمن و التنمية) و (ضرورة التعريف القانوني للإرهاب)، بمعنى أنّ نجاعة التّصدّي للظّاهرة تستمدّ مقوّماتها من وضوح الرّؤيا منطلقا (تحديد من هو الإرهابي؟) ومن ضرورة تمثّل الأسباب العميقة للظّاهرة، وعدم اختزالها في الغلوّ العقائدي لدين بعينه؛ فلا أمنَ عالمي دون تنمية عالمية عادلة ولا تنمية عالمية دون ضمان أمن الطّرفين: (الشمال والجنوب). وقد كان لهذه المقاربة (مقاربة النّخب) أصداء إيجابية في سياسات بعض الدّول لاسيّما كندا والدنمارك. إذ نقرأ في بيان سياسة كندا الدولية في مجال التنمية ما يلي: " لا يمكن للكنديين أن يظلّوا آمنين في عالم لا مستقرّ، ولا أن يضلّوا أصحّاء في عالم مريض، كما لا يمكن أن نرتجي دوام تنميتنا في عالم فقير ((CIDA 2005. أمّا الوثيقة الدّنماركية وهي من النصوص المرجعية لسياسة الدنمارك الخارجية فهي تقول " إنّ أمن الدّول النّامية متطلَّب حيوي للتنمية فيها" . وهو ما ترجمته الدّولتان أكثر من غيرهما في تدفّق الدّعم التنموي (لا العسكري) للعديد من الدول النّامية.
ما عدا ذلك ظلّ الخطاب المضاد خطابا أورتودكسيّا يعمل في الشّيطنة كما يعبّر عنه خير تعبير خطاب ج. بوش الابن الموجّه للأمّة بتاريخ 20/9/2011 والذي نُترجم منه هذا المقطع الصّغير:
" الأمريكيون يتساءلون لماذا هم يكنّون لنا الكراهية؟ إنّهم يكرهون ما نرى في هذا المجلس أنّه حقّ، أي حكومة منتخبة ديمقراطيا. فقادتهم نصّبوا أنفسهم تنصيباً. وهم يكرهون حرّياتنا – حرّيتنا الدّينية، حرّية الكلمة، حرّية التصويت والاجتماع وحرّية الاختلاف في ما بيننا... هؤلاء الإرهابيون لا يقتلون فقط لوضع حدّ لحياة النّاس، وإنّما ليقوّضوا ويضعوا حدّا لنظامنا في الحياة "
وهي نفس المضامين التي ستتكرّر من بعدها في وسائل الإعلام لاسيّما تلك التي تؤثّر كثيرا في صياغة الرّأي العام، من ذلك مقال لأستاذ في الكلّية الحربية الأمريكية (Prof. Marvin Ott) نشره في النيويورك تايمز في الذّكرى السنوية الأولى لأحداث التّاسع من سبتمبر وعنونه بالسّؤال-الجواب " لماذا يكرهون؟ لأنّ الحداثة قد جانبتهم" والذي يركّز فيه على أنّ العرب فشلوا فشلا تاريخيا في التمكّن من المنجز الحداثي في الدّيمقراطية والرأسمالية والعلوم، حسب عباراته.
وهذه عيّنة محدودة جدّا لخطاب انكفأ على رؤيته الضّيقة واختزل الحلّ في التصدّي العسكري لأعداء " نظام الحياة السّائد في الغرب "، بل إنّه تطوّر في السّنوات الأخيرة إلى خطاب متوعّدٍ، رثٍّ معرفياً، ينمّ عن قراءة عرقيّة تنظّر للاستبداد وتنذر بالويل، إلى درجة أنّ "الإرهاب" أصبح ذريعة لتصفية الحسابات مع الأنظمة والشّعوب، بل وعُذرا يُحصِّن من المساءلة القانونية. ومن رثاثة حال هذا الخطاب الأورتودكسي اعتبار الإرهابيين " مجبولون على الشرّ بحكم طبيعتهم" أي إنّهم " لا بشر non persons"، لا تتوفّر فيهم مقوّمات "جدارة مقاسمتنا الحياة"، وأنّ هذا الشرّ ينهل من دين بعينه لا يمكن درؤه إلاّ " بحرب صليبية جديدة " كما ورد في عبارة جورج بوش الشّهيرة.
وعندما نتمعّن في هذا الخطاب نتبيّن ابتناءَه على ثنائيتي (الأنا والآخر) و (الخير والشرّ). وفيما يُسبَغُ على الأنا الخيّرة كمّ هائل من الفضائل والقيم الإعلائية التي تغرف من "الفضيلة" و"الحرّية" و"الرّفعة" و"الاستقامة" و"العلم والعمل والإبداع والمثابرة"...، تتحدّد رذائل الآخرين الأشرار في "التطرّف" و"الأصولية" و"معادة الحرّية والديمقراطية والحضارة"، و"الولوغ في الدّم" و"الجريمة" و حتّى"الجنون". فكان أن أدّت هذه المقاربة – معرفيّا - إلى نشأة مدوّنة لا بريئة تنظّر لتصادم الحضارات، وعمليّا إلى تدعيم مقاربة الحديد والنّار كما تجلّت في تدفّق الدّعم العسكري لبعض الأنظمة (لا الشّعوب كما في حالتي الدنمارك وكندا) كإسرائيل وباكستان، وافغانستان، وكولومبيا، والفليبين وضخّ الاعتمادات الهائلة للتّجسّس على أنفاس العالم بمن فيه من حلفاء؛ حتّى إنّ انخراط بعض المنظّمات الأممية والإقليمية في التسويق لخطاب بديل يروم حوارا حقيقيا بين الأديان والثقافات والحضارات بَدا في أَتون المعركة أشبه بالدّعوة لحوار الصّم، وأقرب لأن يكون مِرهما جلديا يُطَبَّبُ به جرح غائر أو نزيف داخلي.
ويمكن اختصار السّمات البانية لهذا الخطاب في أربع خصائص:
1. سياسيا، هو خطاب إقصائي انفعالي مغلق على نفسه، ساهم في تأجيج المعركة وإشاعة مناخ من الكراهية والخوف والتوّجس من الآخر.
2. معرفيّا، هو خطاب متعالي يعمل في تأميم الحقيقة والحقّ ويفتح على الاستبداد والمقاربات العرقية وتدجين الشّعوب.
3. أخلاقيّا، هو خطاب تُعوزه النّزاهة، يستبيح المحاذير باسم الحق في العيش الآمن، ويتناقض مع القيم الإنسانية والتحررية ومدوّنة الحقوق التي انبنت عليها الدساتيرفي الغرب. وبذلك فهو يؤسّس لقراءة انتقائية لتلك المبادئ والقيم، وللكيل بمكيالين منهجاً في الأداء.
4. تواصليّا، أخفق الخطاب في إثبات نجاعته، بل إنّه أدّى إلى نتائج عكسية أهمّها إشاعة مناخ ظلّ يستنبت الخوف في المجتمعات المسالمة ويؤجّج مشاعر الكراهية والضّغائن والغبن لدى الطّرفين، لاسيّما في المجتمعات العربية والإسلامية (العراق/ فلسطين/ باكستان/...) حيث أدّى إلى تقلّص مصداقية الخيارات السياسية لمسوّقي هذا الخطاب حتّى لدى الذين وقفوا إجلالا لضحايا الإرهاب في نيويورك وبعض العواصم الأوروبيّة.
ويبقى الرّهان على الذّكاء الجمعي كما تشكّل في الغرب عبر قرون من الفتوحات العلمية والمعرفية والحقوقية، وعلى إيمان نخبه ومجتمعاته بأنّ الحقيقة تُبنى جماعة لا فرادى، وأنّ الحقّ لا لون أودين أو عرق له، وأنّ العنف بقدر ما ينشأ في مناخات الغبن والبؤس فإنّ عوده يشتدّ أيّما اشتداد عندما يتهافت العقل ويصمت الحكماء.
VI. معالمُ الخطاب المقاوم (المنشود)
ينبغي في تقديرنا أن ينبني خطاب المقاومة المنشود على الوعي بفشل الخطاب السّائد وخطورة منطلقاته، وأنّ كلّ ما "أنجزه" الطّرفان – إن عُدَّ هذا إنجازا – هو تبادل دور الضّحية وتسويغ العنف، ولذلك تقاطع خطاب الطّرفين إلى حدّ التّشابه في المضامين والمبرّرات. ولأنّ الخطابين المتوازيين كلاهما ينهل من اليقين و الإطلاق و الأنا الإثنيّة المتورّمة، وكلاهما يفتح على العنف و الكراهية و رفض الآخر ، فإنّ مهمّة الرّد عليهما ينبغي أن تنهض بها قوى العقل و النّسبية و الأنا الجمعية المؤمنة بوحدة مصير الإنسانية وبجدارتها في حياة آمنة، حيثما كانت هذه القوى في الغرب والشرق والشمال والجنوب. فَتَغْييبُ قوى العقل التي أهدت للإنسانية مُنجَزَها العلمي الفذّ ومدوّنتها القِيَمية السّامية وفرادتها النّوعية من شأنه أن يُفسح المجال إلى سطوة المنطق الاستبدادي الذي جلب لنفس الإنسانيّة عقيدة التفوّق العرقي، والتفويض الإلاهي لتحقيق خَلاصَ العالم، وويلاتَ النّازية والفاشية والخمير الحمر، وحروب الإبادة الجماعية في البوسنة وروندا وصبرا وشاتيلا.
ولعلّ أهمَّ ما في هذه المقاربة أنّها لا تحتكر أهلية الرّد على الإرهاب في جزء من العالم دون الآخر، وأنّها تفرّق بين الذّكاء الجمعي لدى الطّرفين (الشمال والجنوب) و بين المنطق السّياسي الذي يقوم على الهيمنة والغَلَبة.
وإنّي على قناعة بأنّ تونس اليوم لها من المقوّمات و الرّمزية ما يؤهّلها لأن تتنادى إليها النّخب المفكّرة و المبدعة من كلّ الأصقاع والمشارب الفكريّة لصياغة مدوّنة عالميّة جامعة لا مفرّقة، عنوانًا للوعي بحقّ النّوع البشري في إرادة الحياة و الكرامة؛ عندها نكون قد أسّسنا لمقاربة جماعية مقاومة يتماهى فيها المختلفون لغويّا ودينيا وثقافيا وسياسيا.
أمّا على الصّعيد المحلّي/الإقليمي فنقترح المقاربة التّالية وهي تتضمّن الخصائص البانية لهوية الخطاب المنشود، وذلك من خلال محاولة الإجابة على هذه الأسئلة المنهجيّة: لِمن يتوجّه الخطاب وما منطلقاته؟ ماهي مبرّراته ؟ بماذا سيُقنع؟ وما نطاق عمله؟
• لمن يتوجّه الخطاب وما منطلقاته؟
يُفترض في الخطاب المقاوِم أن يكون خطاب وجود يتجنّد إليه المجتمع بأسره، لاسيّما إذا كان المقاوَم (الإرهاب) يستهدف فرض هويّة جديدة عليه، هويّة اُستُمِدّت من فهم أفراد للنّصوص، لا من سيرورة التاريخ و الثّقافة. فالإرهاب في منطقتنا ممارسة منهجية للعنف المنظّم ، تستند إلى أجندة إيديولوجية عقائدية و سياسية دغمائيّة قائمة على مسلّمة الإئتمان على المُراد القرآني وعلى نفي الآخر. ولذلك ينبغي تشريك كلّ المجتمع بدءً بالتّوجّه إليه حيثما وجد في الحواضر و الأرياف و بلاد الهجرة، ومن ثمّ يُتوجَّه إلى الآخر المختلف (لغويّا و ثقافيا)حيثما وُجد؛ انطلاقاً من كون الإرهاب إساءة للدّين ومعتنقيه، وخروج عنه قبل أن يكون استهدافا لنظام حياة الغير كما فُهم غربا. المُنطلق الثّاني هو الوعي لا فقط بالحقّ في الدّفاع عن النّفس وإنّما بضرورة أنسنة هذا الحقّ، رفضا لمبدإ "الغاية تبرّر الوسيلة" - الذي يمارس في المعتقلات والسّجون وعلى نطاق واسع دوليا وإقليميا.
• مبرّرات الخطاب؟
معرفيّا، يتنزّل الخطاب المقاوم رفضا للفكر الوِصائي الاستبدادي الذي يحتكر أهلية تسيير النّاس، ويصادر حقّهم في إعمال العقل، ويُلغي جدارتهم بالتّكريم الإلهي الذي حَبَا به الخالق عباده " ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء/ آية 70). كما يُبَرَّر الخطابُ برفض أن يُختزَلَ الدّين الحنيف في إقامة الحدود و تطبيق الشّريعة و التذكير المُمنهج بعذاب القبر وأهوال الآخرة، كما لو أنّ الإسلام، مَعاذَ اللّه، مجرّدُ مدوّنة عقابية تعجّ بإكراهاتٍ صِيغت لترويع النّاس! أَوَلم يُخاطب الله رسولَه الكريم (في سورة يونس /آية 99) " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" أم إنّ البعض أَعلَمُ بحكمته منه سبحانه وتعالى!؟
ثالثا، يُبَرَّر الخطاب المقاوم برفضه العُنف منهجا في الحياة ووسيلة لإشاعة القيم مهما كانت رفعتها ونبلها.
أخلاقيّا، يستمدّ خطاب المقاومة مبرّراته من رفض الانتهازية واستغفال العامّة بالاستثمار في حاجاتهم الملحّة والغرف من بؤسهم الاجتماعي ومن مخزونهم الإيماني الذي جُبِلوا عليه جيلاً بعد جيل، ورفض الماكيافيلية المتمثّلة في توظيف الدّين لتحقيق اجندة سياسيّة-دنيوية، ورفض هيمنة القويّ على الضّعيف باسم الحقّ والحقيقة، ورفض المتاجرة بعذابات النّاس و براءة الأطفال و تجنيد الأحداث و والشباب المهمّش في بلدان الهجرة. ثمّ إنّ الخطاب يجد له مبرّرات في تمسّكه بقيم المواطنة والحقّ في المغايرة.
سياسيّا، من المبرّرات السياسية للخطاب نَذْكر: رفضُ الإقصاء والتّكفير والشّيطنة و رفض الأنساق الشّمولية التي تعمل في التجنيد وتحويل المواطنين إلى رعايا والتّمسّك بالدّيمقراطية والتداول السلمي على السّلطة خيارا سياسيا ناضلت من أجله الشّعوب وسقط الشّهداء و الإيمان بالحوار والرّهان على ذكاء الآخر والذّود عن حقّه في المُغايرة.
ولا شكّ أنّ هناك مبرّرات أخرى، لكن يبقى الدّفاع عن الحقّ في الحياة ممّا يتهدّدنا من اغتيال وألغام وتفخيخ وتسميم وكتم للأنفاس، هو المبرّر الحيوي الذي تنهل منه باقي المبرّرات.
• بماذا سيقنع؟
لا يكفي أن يكون خطابُ المقاومة مبرَّرًا اخلاقيا وسياسيا لينجز مهامه في التواصل و الإقناع، وإنّما عليه أن يُثبت نجاعته في تقويض خطاب التّرويع و في تمثُّلِ حاجاتِ النّاس ، وأن تَرقَى مضامينُه وحُجَجُهُ إلى قوّةِ مبرّراته المعرفية والسياسية والأخلاقية، ونبل أهدافه الإنسانية؛ وبذلك يضمن اتّساقَه coherence ولا تناقضَه. وتبقى مجالات الإقناع مفتوحة على الإثراء والتدبّر الجماعي، لاسيّما أنّ ورقَتنا هذه ورقة محدودة النّطاق تبحث في معالم الخطاب المنشود لا في تفاصيله وثناياه. وهي أقرب إلى الدّعوة المفتوحةِ التي تستزيد إعمالَ الرّأي. لذلك سنكتفي بتعديد ثماني مضامين من شأنها التأسيس لنجاعة الخطاب:
أوّلا، الإقناع بالأفق الإنساني للمقاربة و عمقِها المُجتمعي و منهجها العقلاني نقيضًا للأفق الإثني الضيّق للخطاب المضاد السّائد (في الغرب) و سطحيةِ منطلقاته و دُغمائيّةِ مضامينه وخياراته.
ثانيا، الإقناع بأنّ خطاب الجماعات الإرهابيّة خطاب فتنة يقوم على ذرائع دينية وينتهي بأصحابه إلى الخروج عن تعاليم الدّين و إشاعةِ الرّعب في النّاس و استباحةِ الآخر المختلف و الوَلَغِ في دماء المسلمين وغير المسلمين.
ثالثا، الإقناع بالقراءة المقاصدية للإسلام و إيجابيةِ العقيدة الإسلامية كما تمثّلَها الرّسولُ الأكرمُ ومارسها في مَعِيشِه اليومي – تسامحًا وليناً ورحمةً ورهانا على الحكمة الإلهية في إكرام البشر وتفضيلهم على العالمين. ولا شكّ أنّ مدونةَ السيرة الشريفة حافلة بالشواهد والتفاصيل الدّقيقة على التزامه - صلّى الله عليه وسلّم - بمبدإ عدم الإكراه في أمور الدّين والدّنيا.
رابعا، الإقناع بثقافة الحوار والعقل والمعرفة العلمية التي تفتح كلُّها على جوهر العقيدة الإسلامية كما أفصح عليها النّص القرآني وترجمها الحديث والسّيرة.
خامسا، الإقناع بثقافة التسامح وثراء اللاّتجانس نقيضا لبؤس التجانس، انطلاقا من قوله الكريم: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ " (سورة هود/ الآية 118)، فمشيئتُه تعالى غير قاصرة على جعل الناّس كافّة أمّة واحدة على الدّين الإسلامي، إنّما اقتضت حكمته الاختلافَ، وبالتّالي الإقناع بمخاطر الشّطط وغَلْواءِ القراءة وما يؤدّيان إليه من فتنة و احتراب .
سادسا، الإقناع بأنّ الحياد في معركة الإرهاب هو حياد سلبي سنجني أشواكه جماعةً وفُرادى، وأنّ المطلوبَ مجتمعيّا يبدأ بخطوة صغيرة في ظاهرها ، عملاقة في جوهرها وأَثَرها، وتتمثّل في رفض العنف و رفض أحقّيةَ البعض ولا أهليةَ البعض الآخر لفهم النّص القرآني، انطلاقا من أنّ الله لم يُفوّض أحدا للنّطق باسم مشيئته وحكمته ( فحتّى خاتم الأنبياء إنّما أُرسل مبشّرا ونذيرا " فذكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر إلا من تولى وكفر فيعذبه اللهُ العذابَ الأكبر." (الغاشية) أو " فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب" (سورة الرّعد).
سابعا، الإقناع بأنّ قيما عليا كالشّهادة والدّعوة والجهاد قد فُرّغت من نُبلها ووُظّفت بكلّ انتهازية ضمن أجندة سياسية بدءً ومنتهى، فقادت إلى سفك الدّماء والتيتيم والترويع وتشريد العائلات وتشويه صورة الإسلام والعربِ والمسلمين في كلّ مكان.
ثامنا، الإقناع بأنّ المشهدَ الديمقراطي (خاصّة في تونس) مفتوح على الجميع، لا يستثني أحدا، إلاّ من استثنى نفسه برفض الدّيمقراطيةَ و رفض الالتزامَ بنبذ العنف قناعاتٍ وممارسةً و رفض القبول بصناديق الاقتراع دون غيرها طريقاً إلى الحكم.
• ما نطاق عمله؟
المقصود بنطاق الخطاب ميادينُ عمله، وسبق أن أشرنا إلى أنّ خطابَ مقاومةِ الإرهاب يتوجّه للمجتمع بأسره، وليس إلى الطّبقة السياسية أو النّخب فقط، لأنّ الظّاهرة عابرة للحدود وتعني الجميع، ولأنّ فاتورة الإرهاب تُقتطع من الجهد التّنموي وجيب المواطن، وتُدفعُ من أعصاب النّاس ودمائهم. كما يَتعيّنُ أن يُغطّي الخطابُ النّطاقين الدّاخلى و الخارجي (جهويّا، وطنيّا، إقليميا وعالميّا)، ومن شأن ذلك أن يبعث برسالة واضحة للجماعات الإرهابية أنّ المقاومة حقّ إنساني عادل ومشروع يلتقي حوله الجميع أيّا كان دينهم ولونهم.
ويُفترض في هذا الخطاب أن يغطّي كل المجالات الاجتماعيّة: الأفراد، الأسر، المؤسّسات، الجمعيات، المناهج التعليمية، البحث العلمي، السياسات الثّقافية، المنابر الدّينية والإعلاميّة، السّجون، بلاد الهجرة... وكلّ معنيّ بالدّفاع عن نفسه و حرمته الجسدية و حرّياته الأساسية. ولعلّ أنجع التقنيات لتحقيق ذلك، وأقربها للنّاس، هي الصّوت والصّورة عبر وسائل الإعلام التقليدية والبديلة، حيث تُسخّر هذه الوسائط لتعرية خطاب الإرهاب بإيصال صوت وصورة الضّحايا إلى النّاس، وتوثيق عذابات المتضرّرين من أطفال وأسر وعاملين في الفنادق ومسافرين وسائقي حافلات مدرسية وسوّاح وعلماء دين ومثقّفين وفاعلين سياسيين ومبدعين... سقطوا بيننا وغير بعيد عنّا في كلّ مكان من العالم، عندما طالتهم العيون المترصّدة والأيادي الآثمة.
الأداة الثّانية لتحقيق نجاعة الخطاب المقاوم هي التنادي إلى حوار الأفكار Debats عبر النّدوات والمناظرات التلفزية والمؤتمرات العلمية والبحث العلمي والإبداع والنّشر والأعمال الفنّية.. لأنّ صراع الأفكار أرضية زَلِقة للّذين يَبنون على اليقينيات والإطلاق والقول الفصل في شؤون الدّين والدّنيا.
عندها فقط يشدّ الخطابُ ويؤثّر فيُقنع، وتبدأ مقاومة المجتمع، فيتسلّم اللّواء من النّخب، ذودًا عن نفسه، ودفاعا مشروعا عن جدارته بالحياة.
وشكرا على الانتباه. والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد مكّن رصدنا لظاهرة الإرهاب، على امتداد عقدين، من الوقوف على حقائق عدّة أهمّها أنّه فيما دأبت قوى الإرهاب على تجديد نفسها وخطابها وآليات عملها ظلّت القوى العالمية الفاعلة في التصدّي للظّاهرة تردّد نفس الخطاب والمضامين وتسوّق نفس المقاربة العلاجية بذراعيها الأمنية والاقتصادية (تجفيف المنابع المالية)، بل وتأتي نفس ردود الفعل التحشيدية – التهويلية والتي تشيع "الترهيب" في المجتمعات المسالمة قبل حتّى أن تخيّم نذر الإرهاب الحقيقي. ولا أدلّ على ذلك من صيحة الفزع والتّحذير التي أطلقها مؤخّرا وزير داخلية فرنسا وتناقلتها وسائل الإعلام العالمية على نطاق واسع بشأن بدء عودة "الجهاديين" من معسكرات التدريب السّورية إلى أوطانهم الأوروبية مبرمجين لتنفيذ أجندة دمويّة.
ولئن تعدّدت المؤتمرات الدّولية والإقليمية حول الإرهاب بما أفضت إليه من نفس التوصيات المتكرّرة وتقريبا نفس الخطط الاستباقية إلاّ أنّ التّعاطي مع الظّاهرة لم يتجاوز الحلّ الأمني والاستنفار الاستخباري، بل إنّ الخطاب المضاد السّائد كان في حدّ ذاته جزءً كبيرا من المشكلة لاسيّما عندما قدّم المعركة مع الإرهاب على أنّها معركة بين الشّمال والجنوب أو بين عقيدة دينيّة يتناسل منها "الأشرار" ونظام حياة ارتضاه "الأخيار".
سنقف في هذه الورقة عند الخصائص البانية لهويّة الخطابين: خطاب الجماعات الإرهابية المهيمنة إقليميا و الخطاب الغربي المضاد، وسنبيّن في مرحلة ثانية أنّ التعاطي العربي مع الظّاهرة لم يرق ليفرز خطابا مضادّا وإنّما ظلّ في فلك القراءة الأمنية الضيّقة التي تشكّلت أغلب مضامينها في غرف عمليات وزارات الدّاخلية؛ ومن ثمّ سنسعى إلى تحديد معالم خطاب المقاومة المنشود كرديف للمقاربة الأمنية لا كبديل عنها.
الكلماتالمفاتيح:
التنظيمات الإرهابية، خطاب الإرهاب، خطاب التصدّي، خطاب المقاومة،
الإرهاب: الخطاب والخطاب المضاد
I. تناقضات السّياق العام للظّاهرة
مهما قيل في الغرب عن " لا بَراءة " الرّبط بين نشأة الإرهاب الدّولي والحيف التنموي في العالم فإنّ حقائق الجغرافية البشرية والتنمويّة ما فتئت تثبت أنّنا نعيش في عالم مشروخ في صميمه وبنيته، وأنّ الشّرخ طال حتّى الخطاب المتّصدّي للإرهاب لا سيّما في الغرب، ممّا كان له تداعيات على نجاعة التّصدّي، بل إنّ المتصدّين انخرطوا في مكافحة الظّاهرة حتّى دون الاتّفاق على تعريف قانوني لها: أهي فعل أفراد مَرَقوا على القوانين والشّرائع أم إنّ المروق ينسحب أيضا على الدّول والأنظمة؟ وهل تشمل السّاعين للانعتاق والتخلّص من هيمنة المحتلّ والمغتصب أم إنّها تنسحب فقط على من يستهدف التّوازن الدّولي المهيمن منذ سقوط جدار برلين؟ وهل تبرّر دمويّة الظّاهرة الحلول الفردية لبعض الدّول التي ارتأت في نفسها مؤتمنا على القانون الدّولي وناطقا باسمه؟ أسئلة مُربكة لا يضاهيها إرباكا إلاّ الهوّة المُرعبة والآخذة في التّنامي بين شقّين من العالم: شقّ ينعم في الرّفاهة وشقّ يسوده الفقر المدقع والمجاعة والعطش؛ شقّ ينعم بالصّحة والرّعاية الاجتماعية وآخر استوطنته الأمراض والأوبئة؛ شقّ ينعم بالمعرفة والتكنولوجيا وآخر استبدّت به الأمّية والشّعوذة؛ ثمّ شقّ ينعم بالسّلم وآخر تتناهشه الحروب والنّزاعات المسلّحة.. فكان أن أدّى التصدّع المتفاقم، في تقديرنا، إلى ردود فعل ثلاثة: الهجرة بكلّ أشكالها ومسمّياتها (لجوء اقتصادي/ سياسي/..) و العنف ببُعديه العملي والخطابي و الانكفاء على الذّات رفضا للآخر لا فقط للحوار معه. وفي الأثناء تخندق الطّرفان ورفضّ كلّ منهما مراجعة نفسه والشّك في ما اعتبره "حقيقة" و "حقّا". وعندما يُبتنى الخطاب على قناعة لا يرقى إليها الشكّ في نظر أصحابه يشبّ عن عقال العقل ويفتح على مطلق العنف عاملا في الشّيطنة والتجريم والتكفير والتّتفيه والتكميم واللّجم واستباحة الآخر. يتبيّن إذن خطورة أن يصبح الخطاب جزءا من المشكلة لا جزءا من الحلّ، يُشيع التّرهيب في النّاس ويُنتج بيئة طبيعية للكراهية والعنف حتّى قبل حصوله في الواقع، بحيث تصبح دراستُه والوقوفُ على مضامينه وآليات عمله وتداعياته ضرورة منهجيّة (إن لم تكن حيويّة) لفهم الظّاهرة، ومدخلا لمعالجتها. بمعنى أنّ الهرولة إلى الحلّ الأمني-العسكري وحده لا تعدو أن تكون سوى دورانا في حلقة جهنّمية: عنف يَستنبت عنفَاً وترويعٌ يُؤسّس لآخر. لذلك آثرنا الانطلاق من محاولة فهم المنطق الذي يسوس العنف والعنف المضاد من خلال الخطاب والخطاب المضاد، وسنبيّن أنّه فيما دأب خطاب الإرهاب على تجديد نفسه وميادين وآليات عمله، ظلّ خطاب التصدّي يعيد إنتاج نفس المضامين ويستنسخ نفس المعالجات بل وقد أخفق في تحقيق أهدافه في التواصل والإقناع عندما أدّى إلى نتيجة عكسيّة (وهي الترهيب المُسبق (خاصّة عبر الإعلام) و توفير بيئة للعنف في المجتمع (الكراهية...))، ممّا يستوجب مراجعة الخيارات، والانتقال من الخطاب المتصدّي المنفعل إلى الخطاب المقاوم الفاعل الذي يقوم على تشريك المجتمع بأسره في الذّود عن نفسه وعن هويّته المستهدفة.
وسنعمل في هذه الورقة على الإيجاز والالتزام بعدم إرهاق المتلقّي بالتنظير والإحالات الأكاديمية.
II. معالم خطاب الجماعات الإرهابية
سنركّز في هذا المبحث على الجماعات الإقليمية التي اتّخذت من المنطقة العربية ساحة ومنطلقا لعملياتها سواء في المشرق أو بلاد المغرب، وهي المصنّفة دوليا تنظيمات إرهابية لاسيّما (أنصار الشريعة في تونس وليبيا والمغرب وموريطانيا)، و(القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي)، و(تنظيم القاعدة في جزيرة العرب)، و(الدّولة الإسلامية في العراق والشّام) إنطلاقا من مدوّنة بياناتها وتصريحات قادتها و بعض خطب خطبائها و بعض المواقع الإلكترونية و خطاب أنصارها اليومي في الأحياء القصديرية والجهات المهمّشة (مثال تونس).
وهي تنظيمات مختلفة بنيويا، مؤتلفة إيديولوجيا، تتماهى (s'identifie) في أطروحات وخطاب التّنظيم العالمي الأمّ (القاعدة) وتتبنّى آلية عمله الرّئيسية أي العنف المسلّح كما مورس خلال مرحلة بن لادن. أمّا الاستقلال البنيوي لكلّ من هذه التنظيمات فهي السّمة الأساسية للمرحلة الأخطر، في تقديرنا، وهي مرحلة أيمن الظّواهري، حيث حرص التنظيم الأمّ على تجديد أدواتِ عمله معلنا انتهاء الحقبة الآسيوية (أفغانستان/ باكستان/ جنوب شرق آسيا) بسماتها العمودية (مركزية القرار) و مؤذنا بابتداء الحقبة العربية وطور التّوسع الأفقي (من العراق إلى موريطانيا) حيث الرّهان على الفضاء المغاربي الكبير بوّابة على إفريقيا (مالي مثلا) وأور¬وبا (فرنسا و المملكة المتّحدة) لاسيّما في ضوء المستجدّات السياسية النّوعية التي انطلقت من تونس أواخر 2010. ويبدو أن مركز الثّقل في هذه الحقبة تمتدّ إحداثياته الجغرافية من العمق الليبي إلى الحدود الصّحراوية مع تونس والجزائر، وما اختيار القطر اللّيبي عُمقاً إلاّ استثمارا في الحلقة الأضعف (حيث ضعف الدولة و غياب المؤسّسات و سلطة الميليشيات) ولِما توفّره من مؤونة عسكرية لا مسبوقة و أرضيّة نوعية تتقاطع فيها مصالح هذه التنظيمات مع قوى الجريمة المنظّمة من المهرّبين وتجّار السّلاح والمخدّرات.
تتضح الآن مدى قتامة المشهد وما يفتح عليه من مخاطر استراتيجية ظاهرها "نصرة الشّريعة " وباطنها " تغيير هويّة المجتمع ". ولا أحسبني مُغاليا في قناعتي بأنّ المرحلة المقبلة سيقلّ فيها استهداف الغرب ليقع التفرّغ للحلقة الأضعف وهي المنطقة العربية، وما تناسل هذه التنظيمات وتنوّع أساليب عملها بين الأهالي وفي المجتمعات الرّازحة تحت وطأة الثّالوث المصائبي: الفقر المدقع و الأميّة و الاستبداد إلاّ دليلا على هبوب العنقاء من رمادها، بعد خيباتها الآسيوية، لتجنّد الأنصار في وضح النّهار، وتروّج خطابها لما تعدّه " مقاومةً للمنكر" و " إقامةً للدّين و " وعودةً للقرآن " مستفيدة في ذلك من القدرة التّحشيدية للشّعارات الشعبوية مثل " الإسلام قادم" و " الحكم بما أنزل اللّه" و " جيل الصّحوة " و" الفوز بسعادة الآجل والعاجل". وبذلك كان أوّل الخطوات التّسويق لصورة جديدة "لأحباب الرّسول" الذين يهبّون لمكافحة عقوق الأمّهات، ويَصِلون الليلَ بالنّهار "خدمة للمستضعفين" في مدن الصّفيح، وينشئون الكتاتيب لتحفيظ القرآن للصّبية، وينفّذون "حكم الشّرع" في " اللّصوص والمُرابين والزّناة وبائعي الخمور" ويروّجون في أحياء المُفقَّرين والمهمَّشين ولدى "التّائبين " من ضحاياهم أنّ " الانتساب إليهم عبادةٌ وقُربةٌ، لما فيه من نُصرة لدين اللّه". وبذلك تحوّل الخطاب من خطاب جهادي إلى خطاب شعبوي دعوي- تحشيدي ينفُذ إلى النّاشئة من حاجاتهم الحيويّة و من هشاشة بنيانهم النّفسي الذي تشرّب الغُبنَ المعرفي-الثقافي و خَبِرَ البؤسَ الاجتماعي- الاقتصادي. وهو خطاب ينطلق من الكتاتيب ومحاضن الأطفال لِيَشيعَ في المنابر الدّينية والإعلامية والمدرّجات الجامعيّة، مستفيدا أيّما استفادة من مناخ الحرّيات الوليد ومن وسائل الاتصال الاجتماعي ومؤسّسات العمل الخيري، ناهلا من الإحباطات الجمعية وتقزّم الذّات بفعل ما اُعتُبر "انحرافاً عن شرع اللّه " و " سطوةً للجبّارين والطّواغيت والشّيطان الأكبر" و " مصّاصي الدّماء" في "ديار الإسلام "..
ويمكن اختزال أهمّ سمات هذا الخطاب في النّقاط الخمس التّالية:
1. دينيّا، هو خطاب ينطلق من مضامين عقائدية مستهدفا تغيير هويّة المجتمع بالقوّة، بناءً على مسلّمة الائتمان على النّص القرآني فهمًا وتطبيقا. أي إنّ أصحاب الخطاب يطرحون أنفسهم أوصياء على الدّين والمُراد القرآني، مفوَّضين لفرض شرع اللّه، لا قراءة غير قراءتهم ولا صواب لغير رأيهم، بما في التّسليم بذلك من مصادرة لحقّ فهم النّص المرجعي (القرآن) واغتيال لحقّ الاختلاف والمغايرة، لاسيّما أنّ "المفهوم" ليس حقائق رياضيّة مُفحِمة وإنّما مدوّنة قيمية تفتح على التأويل والاجتهاد في تبيان المقاصد المسوّغة للتنزيل ومنطوق الحديث الشّريف. ولا شكّ أن التّاريخ الإسلامي حافل بالفرق السنية والشّيعية المغالية التي مارست كتم الأنفاس باسم "النّصوص".
2. معرفيّا، هو خطاب استبدادي متورّم يحتكر أهليةَ النّصح وسدادَ الرّأي والتّوجيه والقِوامة على شؤون النّاس. فالقول فيه قول فصل لا يحتمل الخطأ، والشّكُّ فيه رِدّة تستوجب إقامة الحدّ.
3. سياسيّا، هو خطاب إقصائي للآخر المختلف (العلمانيون/ الحداثيون/ اللاّمتديّنون/ أتباع الدّيانات الأخرى...)، يعمل تصاعديّا في التّتفيه والشّيطنة والتجريم والسّحل والتّفخيخ والاغتيال.
4. أخلاقيّا، هو خطاب مِكيافيلّي انتهازي يقطف ثمار الدّيمقراطية ويرفض الاعتراف بها، وهو يقوم لدى البعض (غُلاة الشّيعة) على "عصمة الإمام"، وعلى البَيعة وسيادة أهل الحلّ والعقد منهجا في سياسة النّاس. وَوَصل وُلُوغُه في دم المسلمين حدّ الإفتاء بتصفية مُبايع الأمير عند انسلاخه عن الجماعة - أيّا كانت درجة إيمانه أو مسوّغات قراره.
5. عمليّا، هو خطاب يقتات من الحاجات الحيوية للفئات الاجتماعيّة الهشّة، ويستثمر في مخزونهم الإيماني وبؤسهم الاجتماعي مدخلاً لبسط نفوذهم على الدّولة والمجتمع؛ وهو بذلك أشدُّ فتكاً من "السيّارات المفخّخة" و "الأحزمة النّاسفة" والاغتيالات السّياسية.
6. تواصليّا، هو خطاب سلبي لا ينطلق من حسن الظّن بالنّاس وإنّما يعمل في الترويع وتضخيم "المفاسد" و"المعاصي" و "الكبائر" و"الغفلة عن الدّين" و"البِدع" و"العصبية" و يخلو من اللّين والرّفق والرّحمة التي هي سِمة سمات الدّين الحنيف. وما تضخيم ما اُعتُبِر تجلّياتِ "الضّلالة" و "الكفر" إلاّ مقدّمة لتسويق شعارهم المركزي "أسلمة الدّولة والمجتمع" .
يتّضح من هذا أنّ الأمر لا يتعلّق بجماعات نخبوية متطرّفة تستوجب الحلّ الأمني والجهد الاستخباري، وإنّما بعقليّة أفسحنا لها مجالا واسعا للحركة عندما سمحنا باغتيال قراءة النّص القرآني، وتنازلنا عن حقّنا في القراءة المقاصدية لديننا الحنيف بالرّغم من أنّ الخطاب المُغالي خطاب ساذَجٌ وهشّ معرفيّا، لم يُولد تاريخيّا من رحم المدوّنة الإسلامية المرجعية وإنّما استباحها بعد أن نفذ إليها من هوامش تأويليّتها. ولا شكّ عندي أنّ أولوية الأولويات في هذه المرحلة، ليس الانخراط في شيطنة هذه الجماعات أسوة بالخطاب السّائد غرباً، وإنّما أن ينطلق ردُّنا من تحرير القرآن الكريم من أسر غلواء القراءة بدءً بمراجعة مناهجنا التّربوية، وإعادةِ الاعتبار لحركة البحث في المدوّنة الفقهية المالكية، ورصدِ الاعتمادات اللاّزمة لإسناد الباحثين في الإنسانيات، ووضعِ تصوّرات جديدة لمجالات عمل وزارات الشّؤون الدّينية والثّقافة والتّعليم، لا على المستوى الوطني فقط وإنّما على المستوى الإقليمي – البَيْني (الفضاء المغاربي) وهذا ما سنعود إليه في توصيات المبحث الختامي.
III. الخطاب المضاد كما هو سائد في الغرب
اللاّفت للنّظر غربا أنّه على العكس من محيطنا العربي الذي يسود فيه خطاب مضادّ واحد وهو الخطاب الرّسمي (خطاب السّلطة) المحكوم بالهواجس الأمنية، فإنّ النّخب الأوروبيّة توفّقت في تطوير خطاب ثاني مضادٍّ للخطاب الرّسمي الذي يصاغ في دوائر القرار السياسي لاسيّما في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد ركّزت النخب على ضرورتين: (ثنائية الأمن و التنمية) و (ضرورة التعريف القانوني للإرهاب)، بمعنى أنّ نجاعة التّصدّي للظّاهرة تستمدّ مقوّماتها من وضوح الرّؤيا منطلقا (تحديد من هو الإرهابي؟) ومن ضرورة تمثّل الأسباب العميقة للظّاهرة، وعدم اختزالها في الغلوّ العقائدي لدين بعينه؛ فلا أمنَ عالمي دون تنمية عالمية عادلة ولا تنمية عالمية دون ضمان أمن الطّرفين: (الشمال والجنوب). وقد كان لهذه المقاربة (مقاربة النّخب) أصداء إيجابية في سياسات بعض الدّول لاسيّما كندا والدنمارك. إذ نقرأ في بيان سياسة كندا الدولية في مجال التنمية ما يلي: " لا يمكن للكنديين أن يظلّوا آمنين في عالم لا مستقرّ، ولا أن يضلّوا أصحّاء في عالم مريض، كما لا يمكن أن نرتجي دوام تنميتنا في عالم فقير ((CIDA 2005. أمّا الوثيقة الدّنماركية وهي من النصوص المرجعية لسياسة الدنمارك الخارجية فهي تقول " إنّ أمن الدّول النّامية متطلَّب حيوي للتنمية فيها" . وهو ما ترجمته الدّولتان أكثر من غيرهما في تدفّق الدّعم التنموي (لا العسكري) للعديد من الدول النّامية.
ما عدا ذلك ظلّ الخطاب المضاد خطابا أورتودكسيّا يعمل في الشّيطنة كما يعبّر عنه خير تعبير خطاب ج. بوش الابن الموجّه للأمّة بتاريخ 20/9/2011 والذي نُترجم منه هذا المقطع الصّغير:
" الأمريكيون يتساءلون لماذا هم يكنّون لنا الكراهية؟ إنّهم يكرهون ما نرى في هذا المجلس أنّه حقّ، أي حكومة منتخبة ديمقراطيا. فقادتهم نصّبوا أنفسهم تنصيباً. وهم يكرهون حرّياتنا – حرّيتنا الدّينية، حرّية الكلمة، حرّية التصويت والاجتماع وحرّية الاختلاف في ما بيننا... هؤلاء الإرهابيون لا يقتلون فقط لوضع حدّ لحياة النّاس، وإنّما ليقوّضوا ويضعوا حدّا لنظامنا في الحياة "
وهي نفس المضامين التي ستتكرّر من بعدها في وسائل الإعلام لاسيّما تلك التي تؤثّر كثيرا في صياغة الرّأي العام، من ذلك مقال لأستاذ في الكلّية الحربية الأمريكية (Prof. Marvin Ott) نشره في النيويورك تايمز في الذّكرى السنوية الأولى لأحداث التّاسع من سبتمبر وعنونه بالسّؤال-الجواب " لماذا يكرهون؟ لأنّ الحداثة قد جانبتهم" والذي يركّز فيه على أنّ العرب فشلوا فشلا تاريخيا في التمكّن من المنجز الحداثي في الدّيمقراطية والرأسمالية والعلوم، حسب عباراته.
وهذه عيّنة محدودة جدّا لخطاب انكفأ على رؤيته الضّيقة واختزل الحلّ في التصدّي العسكري لأعداء " نظام الحياة السّائد في الغرب "، بل إنّه تطوّر في السّنوات الأخيرة إلى خطاب متوعّدٍ، رثٍّ معرفياً، ينمّ عن قراءة عرقيّة تنظّر للاستبداد وتنذر بالويل، إلى درجة أنّ "الإرهاب" أصبح ذريعة لتصفية الحسابات مع الأنظمة والشّعوب، بل وعُذرا يُحصِّن من المساءلة القانونية. ومن رثاثة حال هذا الخطاب الأورتودكسي اعتبار الإرهابيين " مجبولون على الشرّ بحكم طبيعتهم" أي إنّهم " لا بشر non persons"، لا تتوفّر فيهم مقوّمات "جدارة مقاسمتنا الحياة"، وأنّ هذا الشرّ ينهل من دين بعينه لا يمكن درؤه إلاّ " بحرب صليبية جديدة " كما ورد في عبارة جورج بوش الشّهيرة.
وعندما نتمعّن في هذا الخطاب نتبيّن ابتناءَه على ثنائيتي (الأنا والآخر) و (الخير والشرّ). وفيما يُسبَغُ على الأنا الخيّرة كمّ هائل من الفضائل والقيم الإعلائية التي تغرف من "الفضيلة" و"الحرّية" و"الرّفعة" و"الاستقامة" و"العلم والعمل والإبداع والمثابرة"...، تتحدّد رذائل الآخرين الأشرار في "التطرّف" و"الأصولية" و"معادة الحرّية والديمقراطية والحضارة"، و"الولوغ في الدّم" و"الجريمة" و حتّى"الجنون". فكان أن أدّت هذه المقاربة – معرفيّا - إلى نشأة مدوّنة لا بريئة تنظّر لتصادم الحضارات، وعمليّا إلى تدعيم مقاربة الحديد والنّار كما تجلّت في تدفّق الدّعم العسكري لبعض الأنظمة (لا الشّعوب كما في حالتي الدنمارك وكندا) كإسرائيل وباكستان، وافغانستان، وكولومبيا، والفليبين وضخّ الاعتمادات الهائلة للتّجسّس على أنفاس العالم بمن فيه من حلفاء؛ حتّى إنّ انخراط بعض المنظّمات الأممية والإقليمية في التسويق لخطاب بديل يروم حوارا حقيقيا بين الأديان والثقافات والحضارات بَدا في أَتون المعركة أشبه بالدّعوة لحوار الصّم، وأقرب لأن يكون مِرهما جلديا يُطَبَّبُ به جرح غائر أو نزيف داخلي.
ويمكن اختصار السّمات البانية لهذا الخطاب في أربع خصائص:
1. سياسيا، هو خطاب إقصائي انفعالي مغلق على نفسه، ساهم في تأجيج المعركة وإشاعة مناخ من الكراهية والخوف والتوّجس من الآخر.
2. معرفيّا، هو خطاب متعالي يعمل في تأميم الحقيقة والحقّ ويفتح على الاستبداد والمقاربات العرقية وتدجين الشّعوب.
3. أخلاقيّا، هو خطاب تُعوزه النّزاهة، يستبيح المحاذير باسم الحق في العيش الآمن، ويتناقض مع القيم الإنسانية والتحررية ومدوّنة الحقوق التي انبنت عليها الدساتيرفي الغرب. وبذلك فهو يؤسّس لقراءة انتقائية لتلك المبادئ والقيم، وللكيل بمكيالين منهجاً في الأداء.
4. تواصليّا، أخفق الخطاب في إثبات نجاعته، بل إنّه أدّى إلى نتائج عكسية أهمّها إشاعة مناخ ظلّ يستنبت الخوف في المجتمعات المسالمة ويؤجّج مشاعر الكراهية والضّغائن والغبن لدى الطّرفين، لاسيّما في المجتمعات العربية والإسلامية (العراق/ فلسطين/ باكستان/...) حيث أدّى إلى تقلّص مصداقية الخيارات السياسية لمسوّقي هذا الخطاب حتّى لدى الذين وقفوا إجلالا لضحايا الإرهاب في نيويورك وبعض العواصم الأوروبيّة.
ويبقى الرّهان على الذّكاء الجمعي كما تشكّل في الغرب عبر قرون من الفتوحات العلمية والمعرفية والحقوقية، وعلى إيمان نخبه ومجتمعاته بأنّ الحقيقة تُبنى جماعة لا فرادى، وأنّ الحقّ لا لون أودين أو عرق له، وأنّ العنف بقدر ما ينشأ في مناخات الغبن والبؤس فإنّ عوده يشتدّ أيّما اشتداد عندما يتهافت العقل ويصمت الحكماء.
VI. معالمُ الخطاب المقاوم (المنشود)
ينبغي في تقديرنا أن ينبني خطاب المقاومة المنشود على الوعي بفشل الخطاب السّائد وخطورة منطلقاته، وأنّ كلّ ما "أنجزه" الطّرفان – إن عُدَّ هذا إنجازا – هو تبادل دور الضّحية وتسويغ العنف، ولذلك تقاطع خطاب الطّرفين إلى حدّ التّشابه في المضامين والمبرّرات. ولأنّ الخطابين المتوازيين كلاهما ينهل من اليقين و الإطلاق و الأنا الإثنيّة المتورّمة، وكلاهما يفتح على العنف و الكراهية و رفض الآخر ، فإنّ مهمّة الرّد عليهما ينبغي أن تنهض بها قوى العقل و النّسبية و الأنا الجمعية المؤمنة بوحدة مصير الإنسانية وبجدارتها في حياة آمنة، حيثما كانت هذه القوى في الغرب والشرق والشمال والجنوب. فَتَغْييبُ قوى العقل التي أهدت للإنسانية مُنجَزَها العلمي الفذّ ومدوّنتها القِيَمية السّامية وفرادتها النّوعية من شأنه أن يُفسح المجال إلى سطوة المنطق الاستبدادي الذي جلب لنفس الإنسانيّة عقيدة التفوّق العرقي، والتفويض الإلاهي لتحقيق خَلاصَ العالم، وويلاتَ النّازية والفاشية والخمير الحمر، وحروب الإبادة الجماعية في البوسنة وروندا وصبرا وشاتيلا.
ولعلّ أهمَّ ما في هذه المقاربة أنّها لا تحتكر أهلية الرّد على الإرهاب في جزء من العالم دون الآخر، وأنّها تفرّق بين الذّكاء الجمعي لدى الطّرفين (الشمال والجنوب) و بين المنطق السّياسي الذي يقوم على الهيمنة والغَلَبة.
وإنّي على قناعة بأنّ تونس اليوم لها من المقوّمات و الرّمزية ما يؤهّلها لأن تتنادى إليها النّخب المفكّرة و المبدعة من كلّ الأصقاع والمشارب الفكريّة لصياغة مدوّنة عالميّة جامعة لا مفرّقة، عنوانًا للوعي بحقّ النّوع البشري في إرادة الحياة و الكرامة؛ عندها نكون قد أسّسنا لمقاربة جماعية مقاومة يتماهى فيها المختلفون لغويّا ودينيا وثقافيا وسياسيا.
أمّا على الصّعيد المحلّي/الإقليمي فنقترح المقاربة التّالية وهي تتضمّن الخصائص البانية لهوية الخطاب المنشود، وذلك من خلال محاولة الإجابة على هذه الأسئلة المنهجيّة: لِمن يتوجّه الخطاب وما منطلقاته؟ ماهي مبرّراته ؟ بماذا سيُقنع؟ وما نطاق عمله؟
• لمن يتوجّه الخطاب وما منطلقاته؟
يُفترض في الخطاب المقاوِم أن يكون خطاب وجود يتجنّد إليه المجتمع بأسره، لاسيّما إذا كان المقاوَم (الإرهاب) يستهدف فرض هويّة جديدة عليه، هويّة اُستُمِدّت من فهم أفراد للنّصوص، لا من سيرورة التاريخ و الثّقافة. فالإرهاب في منطقتنا ممارسة منهجية للعنف المنظّم ، تستند إلى أجندة إيديولوجية عقائدية و سياسية دغمائيّة قائمة على مسلّمة الإئتمان على المُراد القرآني وعلى نفي الآخر. ولذلك ينبغي تشريك كلّ المجتمع بدءً بالتّوجّه إليه حيثما وجد في الحواضر و الأرياف و بلاد الهجرة، ومن ثمّ يُتوجَّه إلى الآخر المختلف (لغويّا و ثقافيا)حيثما وُجد؛ انطلاقاً من كون الإرهاب إساءة للدّين ومعتنقيه، وخروج عنه قبل أن يكون استهدافا لنظام حياة الغير كما فُهم غربا. المُنطلق الثّاني هو الوعي لا فقط بالحقّ في الدّفاع عن النّفس وإنّما بضرورة أنسنة هذا الحقّ، رفضا لمبدإ "الغاية تبرّر الوسيلة" - الذي يمارس في المعتقلات والسّجون وعلى نطاق واسع دوليا وإقليميا.
• مبرّرات الخطاب؟
معرفيّا، يتنزّل الخطاب المقاوم رفضا للفكر الوِصائي الاستبدادي الذي يحتكر أهلية تسيير النّاس، ويصادر حقّهم في إعمال العقل، ويُلغي جدارتهم بالتّكريم الإلهي الذي حَبَا به الخالق عباده " ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (الإسراء/ آية 70). كما يُبَرَّر الخطابُ برفض أن يُختزَلَ الدّين الحنيف في إقامة الحدود و تطبيق الشّريعة و التذكير المُمنهج بعذاب القبر وأهوال الآخرة، كما لو أنّ الإسلام، مَعاذَ اللّه، مجرّدُ مدوّنة عقابية تعجّ بإكراهاتٍ صِيغت لترويع النّاس! أَوَلم يُخاطب الله رسولَه الكريم (في سورة يونس /آية 99) " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" أم إنّ البعض أَعلَمُ بحكمته منه سبحانه وتعالى!؟
ثالثا، يُبَرَّر الخطاب المقاوم برفضه العُنف منهجا في الحياة ووسيلة لإشاعة القيم مهما كانت رفعتها ونبلها.
أخلاقيّا، يستمدّ خطاب المقاومة مبرّراته من رفض الانتهازية واستغفال العامّة بالاستثمار في حاجاتهم الملحّة والغرف من بؤسهم الاجتماعي ومن مخزونهم الإيماني الذي جُبِلوا عليه جيلاً بعد جيل، ورفض الماكيافيلية المتمثّلة في توظيف الدّين لتحقيق اجندة سياسيّة-دنيوية، ورفض هيمنة القويّ على الضّعيف باسم الحقّ والحقيقة، ورفض المتاجرة بعذابات النّاس و براءة الأطفال و تجنيد الأحداث و والشباب المهمّش في بلدان الهجرة. ثمّ إنّ الخطاب يجد له مبرّرات في تمسّكه بقيم المواطنة والحقّ في المغايرة.
سياسيّا، من المبرّرات السياسية للخطاب نَذْكر: رفضُ الإقصاء والتّكفير والشّيطنة و رفض الأنساق الشّمولية التي تعمل في التجنيد وتحويل المواطنين إلى رعايا والتّمسّك بالدّيمقراطية والتداول السلمي على السّلطة خيارا سياسيا ناضلت من أجله الشّعوب وسقط الشّهداء و الإيمان بالحوار والرّهان على ذكاء الآخر والذّود عن حقّه في المُغايرة.
ولا شكّ أنّ هناك مبرّرات أخرى، لكن يبقى الدّفاع عن الحقّ في الحياة ممّا يتهدّدنا من اغتيال وألغام وتفخيخ وتسميم وكتم للأنفاس، هو المبرّر الحيوي الذي تنهل منه باقي المبرّرات.
• بماذا سيقنع؟
لا يكفي أن يكون خطابُ المقاومة مبرَّرًا اخلاقيا وسياسيا لينجز مهامه في التواصل و الإقناع، وإنّما عليه أن يُثبت نجاعته في تقويض خطاب التّرويع و في تمثُّلِ حاجاتِ النّاس ، وأن تَرقَى مضامينُه وحُجَجُهُ إلى قوّةِ مبرّراته المعرفية والسياسية والأخلاقية، ونبل أهدافه الإنسانية؛ وبذلك يضمن اتّساقَه coherence ولا تناقضَه. وتبقى مجالات الإقناع مفتوحة على الإثراء والتدبّر الجماعي، لاسيّما أنّ ورقَتنا هذه ورقة محدودة النّطاق تبحث في معالم الخطاب المنشود لا في تفاصيله وثناياه. وهي أقرب إلى الدّعوة المفتوحةِ التي تستزيد إعمالَ الرّأي. لذلك سنكتفي بتعديد ثماني مضامين من شأنها التأسيس لنجاعة الخطاب:
أوّلا، الإقناع بالأفق الإنساني للمقاربة و عمقِها المُجتمعي و منهجها العقلاني نقيضًا للأفق الإثني الضيّق للخطاب المضاد السّائد (في الغرب) و سطحيةِ منطلقاته و دُغمائيّةِ مضامينه وخياراته.
ثانيا، الإقناع بأنّ خطاب الجماعات الإرهابيّة خطاب فتنة يقوم على ذرائع دينية وينتهي بأصحابه إلى الخروج عن تعاليم الدّين و إشاعةِ الرّعب في النّاس و استباحةِ الآخر المختلف و الوَلَغِ في دماء المسلمين وغير المسلمين.
ثالثا، الإقناع بالقراءة المقاصدية للإسلام و إيجابيةِ العقيدة الإسلامية كما تمثّلَها الرّسولُ الأكرمُ ومارسها في مَعِيشِه اليومي – تسامحًا وليناً ورحمةً ورهانا على الحكمة الإلهية في إكرام البشر وتفضيلهم على العالمين. ولا شكّ أنّ مدونةَ السيرة الشريفة حافلة بالشواهد والتفاصيل الدّقيقة على التزامه - صلّى الله عليه وسلّم - بمبدإ عدم الإكراه في أمور الدّين والدّنيا.
رابعا، الإقناع بثقافة الحوار والعقل والمعرفة العلمية التي تفتح كلُّها على جوهر العقيدة الإسلامية كما أفصح عليها النّص القرآني وترجمها الحديث والسّيرة.
خامسا، الإقناع بثقافة التسامح وثراء اللاّتجانس نقيضا لبؤس التجانس، انطلاقا من قوله الكريم: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ " (سورة هود/ الآية 118)، فمشيئتُه تعالى غير قاصرة على جعل الناّس كافّة أمّة واحدة على الدّين الإسلامي، إنّما اقتضت حكمته الاختلافَ، وبالتّالي الإقناع بمخاطر الشّطط وغَلْواءِ القراءة وما يؤدّيان إليه من فتنة و احتراب .
سادسا، الإقناع بأنّ الحياد في معركة الإرهاب هو حياد سلبي سنجني أشواكه جماعةً وفُرادى، وأنّ المطلوبَ مجتمعيّا يبدأ بخطوة صغيرة في ظاهرها ، عملاقة في جوهرها وأَثَرها، وتتمثّل في رفض العنف و رفض أحقّيةَ البعض ولا أهليةَ البعض الآخر لفهم النّص القرآني، انطلاقا من أنّ الله لم يُفوّض أحدا للنّطق باسم مشيئته وحكمته ( فحتّى خاتم الأنبياء إنّما أُرسل مبشّرا ونذيرا " فذكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر إلا من تولى وكفر فيعذبه اللهُ العذابَ الأكبر." (الغاشية) أو " فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب" (سورة الرّعد).
سابعا، الإقناع بأنّ قيما عليا كالشّهادة والدّعوة والجهاد قد فُرّغت من نُبلها ووُظّفت بكلّ انتهازية ضمن أجندة سياسية بدءً ومنتهى، فقادت إلى سفك الدّماء والتيتيم والترويع وتشريد العائلات وتشويه صورة الإسلام والعربِ والمسلمين في كلّ مكان.
ثامنا، الإقناع بأنّ المشهدَ الديمقراطي (خاصّة في تونس) مفتوح على الجميع، لا يستثني أحدا، إلاّ من استثنى نفسه برفض الدّيمقراطيةَ و رفض الالتزامَ بنبذ العنف قناعاتٍ وممارسةً و رفض القبول بصناديق الاقتراع دون غيرها طريقاً إلى الحكم.
• ما نطاق عمله؟
المقصود بنطاق الخطاب ميادينُ عمله، وسبق أن أشرنا إلى أنّ خطابَ مقاومةِ الإرهاب يتوجّه للمجتمع بأسره، وليس إلى الطّبقة السياسية أو النّخب فقط، لأنّ الظّاهرة عابرة للحدود وتعني الجميع، ولأنّ فاتورة الإرهاب تُقتطع من الجهد التّنموي وجيب المواطن، وتُدفعُ من أعصاب النّاس ودمائهم. كما يَتعيّنُ أن يُغطّي الخطابُ النّطاقين الدّاخلى و الخارجي (جهويّا، وطنيّا، إقليميا وعالميّا)، ومن شأن ذلك أن يبعث برسالة واضحة للجماعات الإرهابية أنّ المقاومة حقّ إنساني عادل ومشروع يلتقي حوله الجميع أيّا كان دينهم ولونهم.
ويُفترض في هذا الخطاب أن يغطّي كل المجالات الاجتماعيّة: الأفراد، الأسر، المؤسّسات، الجمعيات، المناهج التعليمية، البحث العلمي، السياسات الثّقافية، المنابر الدّينية والإعلاميّة، السّجون، بلاد الهجرة... وكلّ معنيّ بالدّفاع عن نفسه و حرمته الجسدية و حرّياته الأساسية. ولعلّ أنجع التقنيات لتحقيق ذلك، وأقربها للنّاس، هي الصّوت والصّورة عبر وسائل الإعلام التقليدية والبديلة، حيث تُسخّر هذه الوسائط لتعرية خطاب الإرهاب بإيصال صوت وصورة الضّحايا إلى النّاس، وتوثيق عذابات المتضرّرين من أطفال وأسر وعاملين في الفنادق ومسافرين وسائقي حافلات مدرسية وسوّاح وعلماء دين ومثقّفين وفاعلين سياسيين ومبدعين... سقطوا بيننا وغير بعيد عنّا في كلّ مكان من العالم، عندما طالتهم العيون المترصّدة والأيادي الآثمة.
الأداة الثّانية لتحقيق نجاعة الخطاب المقاوم هي التنادي إلى حوار الأفكار Debats عبر النّدوات والمناظرات التلفزية والمؤتمرات العلمية والبحث العلمي والإبداع والنّشر والأعمال الفنّية.. لأنّ صراع الأفكار أرضية زَلِقة للّذين يَبنون على اليقينيات والإطلاق والقول الفصل في شؤون الدّين والدّنيا.
عندها فقط يشدّ الخطابُ ويؤثّر فيُقنع، وتبدأ مقاومة المجتمع، فيتسلّم اللّواء من النّخب، ذودًا عن نفسه، ودفاعا مشروعا عن جدارته بالحياة.
وشكرا على الانتباه. والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*مستشار رئيس لدى الأمم المتّحدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق