Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأحد، 11 يناير 2015

من الذاكرة

من الذاكرة

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
البشير بن محمود الفراتي
رجل ليــــــس ككل الرجال
تونس/ الصواب /11/01/2015
كنا  حوله ، محسن وأنا وسعاد والوالدة خديجة  ومحمد الصحبي الحفيد المفضل ، وعدد آخر من أفراد العائلة، عندما أسلم الروح في هدوء و سكينة ، سحب الممرض الذي لازمه لمدة شهر السيد  عبد العزيز دحمان الأجهزة التي كانت تربطه بالحياة ، وطلب منا الانسحاب للقيام بما يجب القيام به في هذه الأحوال.
سالت الدموع غزيرة في صمت ، بدون ضجيج ، ولا صياح إيمانا بمشيئة الله ، والمصاب مضاعف، فوفاة عميد العائلة جاء بعد الوفاة الفجئية  المؤلمة في حادث مرور للصحفي المتميز محمد الفراتي رئيس قسم الأخبار ومدير إذاعة صفاقس، قبل ذلك بستة أشهر .
انتشرنا للقيام بالإجراءات التي يتطلبها الحدث، فيما بدأ المعزون في التوافد.
وفي مصالح البلدية بدت المفاجأة ، فقد حدد يوم الدفن للثلاثاء 11 جانفي 1988، أي بالضبط اليوم المصادف ليوم الميلاد كما ورد في بطاقة التعريف أي يوم 11 جانفي 1906.
كانت الجنازة مهيبة ، وسواء صباحا في جامع بوعكازين ، أو في ضريح اللخمي، أو في المقبرة في ساقية الزيت ، كان عدد المشيعين كبيرا إلى الحد الذي وقفنا فيه نتقبل العزاء لمدة تفوق الساعتين.
**
من هو الحاج البشير بن محمود الفراتي ؟

هو البشير بن محمود بن عبد العزيز الفراتي (1)، ليس هناك اتفاق على موعد مولده ، وإن كان مسجلا بحجة عادلة بتاريخ 11 جانفي 1906، ويعتقد أنه من مواليد شهر جانفي 1903، فقد سبق أن سمعت شخصيا أنه كان وليدا في عمر ثلاثة أشهر يوم وفاة عالم من علماء تونس ، الشيخ طريفة ، وقد صادف يوم وفاة الشيخ طريفة خلال شهر أفريل 1903 ، حصول كسوف كامل للشمس، يذكر أن ما أصاب البلاد من ظلام دامس خلال النهار يعود لحزن السماء بمناسبة وفاة الشيخ طريفة(؟)، وقد تأكدت من العالم التونسي الطاهر القلالي(2)  أن كسوفا كاملا للشمس حصل في الشهر الرابع  من سنة 1903، بحيث من المفروض أن يكون الحاج البشير الفراتي من مواليد شهر جانفي 1903 ، وليس 1906.
تابع البشير الفراتي دراسته الإبتدائية والمتوسطة في مدينة صفاقس ، حيث نال شهادة الأهلية ، ثم انتقل إلى العاصمة وانخرط في الجامعة الزيتونية ، لينال شهادة التطويع في سنة 1345، ويبدو أنه زامل في الدراسة أبو القاسم الشابي ومحمد الحليوي ومحمد الفائز القيرواني أو أنه كان يدرس معهم في نفس الفترة ربما في درجات مختلفة  ، وخاصة صديقيه الطيب الميلادي المحامي  والصالح المهيدي، ولقد تعرفت خلال عملي الصحفي على الرجلين ، وكان الطيب الميلادي يدعوني باستمرار للحديث عن صديقه ، معتبرا أن صداقته لي مع فارق السن هي استمرار لصداقته مع الوالد، أما الأستاذ الصالح المهيدي ، فقد تعرفت عليه في مجالس الأستاذ الهادي العبيدي رئيس تحرير الصباح الليلية ، وكنت سكرتير التحرير الليلي، و سألني مرة عما إذا كنت أعرف البشير الفراتي ، من صفاقس وعندما  قلت له إنه والدي تحمس ، وأكاد أقول إنه تبناني ، وكان رجلا موثقا يملك من الوثائق الكثير ، ويملك تقريبا أعداد كل الصحف ، ولا أدري أين ذهب التراث الكبير الذي كان يملكه ،  وقد ترك لي كتيبا يخص إصلاح التعليم الزيتوني يعود لسنة 1348/1928.

البشير الفراتي سنة التخرج في الصف الأول وقوفا السادس من اليمين والخامس من اليسار الجبة الغامقة واشاشية بالنوارة كما كان يقال
وقد دعي الوالد للعمل في العدالة ، وحدد له مركز عمل في "ترياقة" منزل شاكر حاليا ، قبل أن ينقل لصفاقس ، ومنذ سنة 1934 ، خير أن يشتغل بالتجارة والصناعة ، فأنشأ أول مصنع للوازم الجبائب والبرانس ، واشتهر بالثقة المطلقة ، وكان له شركاء  وخاصة المرحوم عبد السلام المصمودي والد المرحوم مصطفى المصمودي كاتب الدولة الأسبق للإعلام ، والصادق إدريس والد السيد محمد إدريس رجل الأعمال المعروف ، وأيضا المرحومان عبد الرحمان والحبيب الفراتي.
وكان محله في قسارية العشر(4) بنهج العدول منتدى لتبادل الرأي في السياسة والآداب وقرض الشعر وكان من رواده صديقه وصهره وجاره الأستاذ حامد قدور الذي أصدر مجلة مكارم الأخلاق ، ومن بين أفراد عائلته من آل الفراتي ممن تشيعوا للحزب القديم يكاد يكون الوحيد الذي تشبع لبورقيبة ، وكان في المناسبات الوطنية والدينة يصحبنا شقيقي المرحوم محمد الفراتي وأنا إلى مكتب الشهيد الهادي شاكر للتهنئة ، وكان يوشح صدورنا بنياشين الحزب الجديد ، فكان ذلك محل فخر لنا ونحن في تلك السن الغضة التي لم تتجاوز الثامنة أو التاسعة من العمر.
**
حكاية وذيولها
من ذكريات الطفولة ، حكى لنا الوالد قصة طريفة قال :
في سنة النجاح في التطويع سنة 1925 ، كانت دفعتنا اتخذت قرارا بالقيام بجولة في الإيالة (3)
وفعلا انطلقنا ، وكانت المحطة الأولى هي القيروان ، وهناك وبينما كنا ننتظر في مقهى قريب من بروطة ، وقف رجل مهيب ، وسأل من منكم البشير الفراتي ابن محمود الفراتي، قال الوالد : وقفت مستغربا وقلت : أنا هو .
قال لي : أنا أيضا اسمي محمود الفراتي ولي ابن يحمل اسم البشير الفراتي وإن كان أصغر منك سنا. ، وأضاف "بالحرام أنت وأصدقاؤك ضيوف بالعشاء عندي الليلة "
ليلتها أجلسني  محمود الفراتي  إلى جانبه وكان ابنه ما زال طفلا صغيرا، وأفادني بأن والده الحاج علي الفراتي هو الذي جاء بالعائلة من صفاقس إلى القيروان بمناسبة العدوان على صفاقس، حال فرض الحماية وامتناع المدينة عن فتح أبوابها، فغادرتها عائلات كثيرة منها عائلات المعلول ودربال وتقتق وغيرها زم بينها عائلة الحاج علي الفراتي.
مرت فترة طويلة ، وفي منتصف التسعينيات ، قرأت إعلان وفاة في جريدة الصباح ، مفاده أن السيد البشير الفراتي وافاه الأجل المحتوم ، وصدرت تعزية لعدة شخصيات من بينهم السيد عبد الرزاق الكافي.
تذكرت القصة كما رواها لي الوالد ، فخاطبت السيد عبد الرزاق الكافي ، وسألته عن مدى قرابته بالمرحوم وإن كان والده هو محمود الفراتي ، فأجابني بأنه لا يعرف وأن التعزية الصادرة له مع آخرين ، جاءت بمناسبة أن المتوفي هو عم زوجته ، وقد خاطبني بعد ذلك مؤكدا أن جدها اسمه فعلا محمود، وإذ طلبت منه إن كان للمرحوم البشير الفراتي أبناء نربط بهم علاقة عائلية أجابني بأنه مات عن غير عقب.
رحم الله الحاج البشير الفراتي هذا وذاك  وجعلنا نحن أولاده وأحفاده جديرون به.
 


(1)الرجل الذي كان ارتقى في مدارج العلوم الدينية فتصدر للتدريس، وعين مفتيا في صفاقس ، وشارك في الثورة التي اندلعت سنة 1864 ، ولقد كان بين الذين تم إلقاء القبض عليهم ، بعد أن سيطر الجنرال زروق على صفاقس الثائرة ، فنقل إلى ســــــوسة التي كانت تتمركز بها ( محلة البايات) فتم فقء عينيه ووضع في سجن ليس هناك اتفاق فيما إذا كان في سوسة أو المنستير، وكان يقوم على شؤونه  ابنه الحاج أحمد ، هو جد زوجة الحاج البشير الفراتي ، وذلك حتى وفاته أسيرا، ونقله على ظهر بغلة من الساحل حتى مدينة صفاقس حيث تم دفنه.   
(2) الطاهر القلالي أستاذ جامعي يعتبر من كبار علماء تونس، وقد تسلم لمدة سنوات مدينة العلوم ، ووقف على إنشائها وضبط أنشطتها ، وقد انحدرت أنشطة المدينة ، منذ أقيل الطاهر القلالي لأسباب سياسية من إدارتها خلال التسعينيات.
(3) الإسم الذي كان يطلق على المملكة
(4) قسارية العشر كان يجمع فيها عشر الزكاة لبيت مال المسلمين قبل فرض الأداءات والجباية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق