من الذاكرة
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
أيام الأخطاء القاتلة
تونس/ الصواب / 22/3/2014
في 2 أوت 1990 كنت في ثاني أيام
إجازتي السنوية، كانت تلك الأيام مدلهمة، والأخطار تتهدد المنطقة، والخلاف بين
العراق والكويت على أشده، ولكن ما من أحد كان يتوقع أن تقدم دولة أيا كانت قوتها
على اجتياح دولة أخرى، واحتلال أرضها، وطرد قيادتها، وإلحاقها، خصوصا إذا كانت
تشترك معها في معاهدة دفاع مشترك، وتنخرط معها في منظمات إقليمية ودولية، ابتداء
من جامعة الدول العربية، إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، إلى منظمة الأمم المتحدة،
وغيرها كثير من التنظيمات.
كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا،
وكنت في بيتي على شاطئ البحر، أمني النفس بالنزول إلى الشاطئ، عندما أخبرت الإذاعة
عن اجتياح صدام للكويت، واحتلالها، وخروج حكومتها منها.
حزمت أمري على الذهاب مباشرة إلى العمل في دار الصباح، ووطنت النفس لا
لقضاء وقت ممتع من خلال إجازة أستحقها، بل على عمل يتواصل فيه الليل
بالنهار، بعد ساعة كنت في مكتبي بالجريدة
في الشارع الذي كان اسمه شارع 7 نوفمبر، وتحول حاليا إلى شارع محمد طارق
البوعزيزي.
بسرعة التحق بالجريدة كل أركانها، وفي
مكتب الحبيب شيخ روحه المؤسس والرئيس
المدير العام الذي جاء على عجل، والمدير العام وقتها رؤوف شيــــخ روحه ، والرجل
المثقف والمرجع في المؤسسة منصف شيخ روحه وكان يدير أيامها أحد أكبر البنوك في
البلاد، وكان في المكان صالح الحاجة نائب رئيس التحرير وعبد السلام الحاج قاسم
نائب رئيس التحرير أيضا، ورئيس تحرير لوتون مصطفى الخماري. وثلاثتهم كان لهم موقف
متميز بالنسبة للبقية.
تم تدارس الوضع بسرعة وتم الانتهاء
إلى أن الموقف لا بد أن يعتمد الشرعية الدولية، وتولى الحبيب شيخ روحه على ما أذكر
التذكير بموقف بورقيبة وعبد الناصر عند إعلان استقلال الكويت في سنة 1963، وما ذهب إليه الرئيس العراقي آنذاك
الجنرال عبد الكريم قاسم من مطامح في إلحاق الكويت ببلاده، على أساس حق تاريخي،
وكان موقف الزعيمين الكبيرين متفقا حول
ضمان استقلال دولة الكويت والدفاع عن سيادتها.
هذا الموقف المبدئي هو الذي اعتمدته جرائد دار الصباح في سنة 1990، على ما كان فيه من تعارض مع الموقف
الحكومي المعلن أو غير المعلن، والموقف الشعبي الكاسح، وعلى ما أذكر فإن الحبيب
شيخ روحه قبل وخلال هذه المناسبة، كان يؤكد دوما على أن النخبة تسير في مقدمة
الركب، ولا تسير خلفه ، وأن عليها أن لا تساير التيار الشعبي عندما يكون خاطئا.
كانت الحكومة برئاسة زين العابدين بن
علي، قد اختارت طريقها، وكان تأثير القوميين العرب أو من هم كذلك كاسحا، على مواقف الحاكم الفرد ، وأستطيع أن أذكر هنا
الحبيب بولأعراس الذي كان يشغل مستشارا للرئيس السابق وقتها ، وصالح البكاري الذي
كان محرر خطابات زين العابدين بن علي ، وخاصة أمين عام الحزب آنذاك عبد الرحيم
الزواري ، الذي كان يعضده في موقفه بحماس مدير عام الشؤون السياسية في وزارة
الداخلية سعيد ناصر رمضان.
تم إحراق علم الولايات المتحدة في
مظاهرة قادها أمين عام التجمع الدستوري الديمقراطي عبد الرحيم الزواري، وهو الذي
سيعين لاحقا وزيرا للخارجية، غير أن الولايات المتحدة عملت بقوة على إسقاطه ، وهو
ما حصل بسرعة.
في المقابل وفي القاهرة، وبمناسبة انعقاد
مجلس وزراء خارجية الدول الإسلامية، في دورته العادية وهو مجلس انتهى إلى التنديد ،
انعقدت جلسة طارئة لمجلس وزراء الخارجية العرب ، كان يمثل فيها تونس وزير الخارجية
آنذاك إسماعيل خليل، وهو أحد الأدمغة السياسية والاقتصادية المرموقة في البلاد وفي
المحافل الدولية، كان من جهة بلا تعليمات من حكومته، وكان من جهة أخرى معتقدا بأن
الموقف الطبيعي لأي حكومة تحترم نفسها هو أن تكون ضد اجتياح دولة لدولة أخرى بل
احتلالها بالكامل، ومن هنا جاء الموقف التنديدي الذي اتخذته تونس في مجلس وزراء
الخارجية العرب الطارئ، بالتنديد بالخطوة التي اتخذها صدام حسين، والتي سيبدو
لاحقا أنه لم يستشر بشأنها حتى أعمدة نظامه التوتاليتاري. والذي سيؤدي إلى كارثة
عظمى ستصيب العراق، وستصيب التوازنات الدولية،
لكن هذا الموقف الذي كان يراه إسماعيل
خليل الموقف الطبيعي، باعتماد تقاليد الدبلوماسية التونسية ، وباعتماد منطق
الأشياء، وباعتماد التجربة التاريخية لحادثة قفصة في جانفي 1980 التي كان يراد بواسطتها احتلال تونس وإخضاعها ،
بقرار من العقيد القذافي ، وبتواطئ جزائري لا يعرف للآن مستوى القرار فيه، وإن بدا
أن الرئيس بن جديد كان غائبا عنه، هذا الموقف لم يكن ليعجب القيادة العليا في
تونس، ولذلك كان رد فعلها سريعا وحاسما، وبدا مع التغليف غير المقنع، وكأنه رغم كل
ما قيل آنذاك مؤيد لصدام حسين على حساب دولة الكويت، أو على الأقل ممالئ له.
من هنا تم إعلامي عن طريق عبد الحفيظ
الهرقام الملحق الصحفي أو المستشار الصحفي لرئيس الدولة ، أن هناك بلاغا للنشر
سيوجه لوضع الأمور في نصابها .
جاءني بلاغ الرئاسة في مقر الجريدة بعد ساعة ، بعد أن أفادني المكلف
بالصحافة آنذاك بشأنه أنه سيأتي سريعا،
جاء به رجل من الحرس الرئاسي وصل على عجل على دراجة نارية من الدراجات الكبيرة،
وأصر على أن يبلغه لي شخصيا بحسب ما صدر
إليه من تعليمات. فتم اصطحابه إلى مكتبي.
استلمت البلاغ، وصدمني أي صدمة، وما
كنت أنتظر لبلادي أن تخرج عن التقاليد المرعية، ولا عن الشرعية الدولية، ولا على
مواقفها السابقة والمبدئية التي عرفت بها.
يومها وصل إسماعيل خليل من القاهرة،
ولاحظ أنه وهو الوزير لم يستقبله أحد، وفي
اليوم الموالي كنت أحاول الحصول عليه تليفونيا في الوزارة ولكن دون جدوى، وحصلت
على رقم بيته من أحد معارفه، وأخذت لنفسي موعدا معه في بيته، وقد أخذ يسري خبر
بأنه قد طولب بأن يلازم مسكنه ، ولا يذهب لوزارة الشؤون الخارجية التي يشرف عليها
.
في اليوم الموالي صدر البلاغ الصادر
عن الرئاسة في صحيفة الصباح، و"المصحح" لموقف إسماعيل خليل، ومنذ الصباح
الباكر اتصل بي عبد الحفيظ الهرقام،
والرجل أعرفه منذ زمن لما كان يشتغل في وكالة تونس إفريقيا للأنباء، ثم إنه
لقرابته بوزير الإعلام والثقافة عبد الرزاق الكافي(ابن بلده القيروان) فقد ألحقه بديوانه ، وهو رجل دمث الأخلاق على
قدر واسع من الثقافة ولكن تنقصه جرأة السياسيين.
عندما عين زين العابدين بن علي
وزيرا للداخلية طلب من صديقه آنذاك ، عبد
الرزاق الكافي أن يدله على شخص جيد، يتولى خطة ملحق صحفي لديه، فأشار عليه بعبد
الحفيظ الهرقام ، الذي التحق بوزارة الداخلية، وقد زرته في مكتبه مرة واحدة.
ثم وعندما تم تعيين زين العابدين بن
علي وزيرا أول، اعتقد كثير من المراقبين السياسيين في البلاد وكنت منهم ، أن
بورقيبة وقع بيده تنازلا عن خطته كرئيس للجمهورية.
و هو ما سيحصل فعلا بعد شهر يكاد يكون
يوما بيوم منذ تعيين بن علي رئيسا للوزراء.
وسيصاحب عبد الحفيظ الهرقام زين
العابدين بن علي إلى الوزارة الأولى ، ثم إلى رئاسة الجمهورية بوصفه الملحق الصحفي
أو المستشار الصحفي، وليس الناطق الرسمي.
وخلال فترة تولي بن علي لمنصبه كرئيس
للحكومة، وفي يوم تنصيبه في مجلس النواب كان عبد الحفيظ الهرقام هو الذي أدخلني
إليه بطلب منه في جلسة قصيرة، ليس هذا مجال الحديث عن مضمونها.
إذن وفي يوم نشر البلاغ الوارد من
رئاسة الجمهورية عن احتلال العراق للكويت، خاطبني عبد الحفيظ الهرقام معبرا عن
استيائه للمكان الذي تم فيه النشر في الصفحة الأولى من الجريدة، وليس في صدرها كما
حصل لنشر الموقف التونسي الذي عبر عنه إسماعيل خليل قبل ذلك بيوم ، وبدا لي يومها
أن عبد الحفيظ كان يؤدي واجبا ثقيلا، من ذلك أن غضبه لم يكن في مستوى ما كنت أنتظر،
فلم يستعمل الكلمات التي تعودت على سماعها في الكثير من المرات، التي تعرضت فيها
لغضب المسؤولين، فهو رجل لطيف بطبعه، ولكنه بدا لي وقد أكون مخطئا غير مقتنع بما
كان يسوقه لي، وبيني وبين نفسي فكرت بأنه ربما لم يكن مقتنعا بالموقف التونسي، بعد
سنوات ذلك هو الانطباع الذي حصل لي، وكم يتحمل كبار الموظفين من عنت، في تبليغ ما
قد لا يؤمنون به وتفرضه عليهم مواقعهم،
والله أعلم .
ما أعرفه جيد أن عبد الرزاق الكافي لم
يكن من المؤيدين للموقف الرسمي وقتها، رغم أنه لم يعلن ذلك.وما أعرفه أيضا أن
العديد من الوزراء الذين كانوا يحملون عقولهم في رؤوسهم لم يكونوا موافقين ولكن لم
يجرؤ واحدا منهم عن التعبير عن رأي مخالف.
(يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق