من الذاكرة
|
يكتبها عبد
اللطيف الفراتي
أيام الأخطاء
القاتلة ( الحلقة الثانية )
تونس /
الصواب/ 22/3/2014
في اليوم
الموالي ( 5 أوت 1990) وبعد الظهر حسب الموعد، كنت في بيت إسماعيل خليل، وهو رجل
مهاب، دبلوماسي بأتم معنى الكلمة، اقتصادي كما ينبغي لاقتصادي أن يكون، متحفظ كما
ينبغي لوزير في دولة يدرك أنها ليست دولة ديمقراطية، ولكنه عميق في صداقاته
ويستطيع أن يكون صريحا عندما يريد، وعندما يكون واثقا في الطرف المقابل.
استقبلني في
صالونه المطل على البحر في سيدي بوسعيد، أجمل المدن، وأجمل الضواحي، التي تذكرني
دوما بمدينة بلوفديف البلغارية.
لم تكن بعد
فرضت حراسة على مداخل البيت وعلى زواره، فقصر سيدي بوسعيد لم يكن جاهزا وقته،ا
وبالطبع لم تسكنه عائلة بن علي بوصفه ملكا خاصا ولكن تم بناؤه على أكتاف الجيش
وبمعداته وسلعه، ولعله كان باسم محمد بن زين العابدين بن علي النجل الصغير .
تحدثنا قليلا
في الصالون في حديث أذكر أنه وجهه نحو الطقس، وكل الكلام الذي يعرف بأنه لا يفيد
شيئا عندما،لا يراد الخوض في عمق الأشياء.
وفجأة وقف
إسماعيل خليل واصطحبني إلى فيراندا كبيرة أعتقد أنها لم تكن مسقوفة، وهناك تحدثنا
بكل حرية، تحرجت عن سؤاله ما إذا طلب منه التزام بيته، وعدم الذهاب إلى الوزارة
التي ما زال يشغل فيها منصب الوزير، ولكني استنتجت أن الأمر كذلك، كما استنتجت أنه
رافقني إلى الخارج حتى يكون حرا ، فلعله كان يشك في أن يكون بيته مبثوثا
بالميكروفونات ، وربما حتى بأجهزة الكاميرا.
تحدث بصراحة،
واكتفيت بحديثه دون أن أحاول إحراجه، وفهمت كل شيء، كما فهمت أنه ستقع إقالته ،
ولكني لم أجرؤ على سؤاله، وفهمت أن موقفنا في جريدة الصباح هو الموقف الصحيح، موقف
بعيد عن أن يكون شعبويا.
بقي إسماعيل
خليل وزيرا للخارجية دون أن يمارس مهامه الوزارية حتى يوم 26 أوت 1990، ثم "سقط"
بلاغ قصير على التيليكس، يفيد بأن وزيرا جديدا عين مكانه ، هو الحبيب
بولأعراس الذي كان مرشحا باعتبار أن موقفه
كان ملائما في هذه المسألة لموقف رئيس الدولة ، إن لم يكن هو الذي أوحى به إليه ودفعه نحوه دفعا.
الحبيب
بولأعراس ، رجل عميق الثقافة، انضم لفترة إلى صالح بن يوسف ، وكان أقرب المساعدين إليه،
قبل أن يعيد حساباته وينضم إلى بورقيبة، لكنه حافظ منذ تلك الفترة على ميوله
القومية العربية، والناصرية ، التي كانت منغرسة عند صالح بن يوسف، وهو إلى هذا رجل
متجذرة لديه الديمقراطية، وكان لفترة ما من المناصرين للزعيم أحمد المستيري.
إسماعيل خليل
غادر الحكومة، وانكفأ على نفسه ، حتى جاء زمن وقع الاحتياج فيه إليه هو وقاسم
بوسنينة ، بعد ذلك بأسابيع قليلة.
وإذا عرفنا
قصة إسماعيل خليل، فلعله يجدر بنا أن نتعرف على قصة قاسم بوسنينة، ولماذا جاء وقت
الحاجة إليه، قاسم بوسنينة هو أحد قلائل خطب في مجلس النواب هو والمرحوم مصطفى المصمودي وغيرهما قلائل ، في رفق وبكلمات بسيطة بأن المسار الذي سارت فيه البلاد تجاه الكويت هو مسار خاطئ، وأنه لا ينبغي لعن
المستقبل، ثم إن قاسم بوسنينة كان ولمدة طويلة سفيرا لتونس في جدة ثم وبعد نقل
السفارات في الرياض ، وكانت له علاقات متينة، مع أفراد من العائلة المالكة هناك،
ومن بينهم عميد العائلة الابن الأكبر للملك عبد العزيز ، والذي رفض استلام الملك
بعد وفاة أبيه، وله مكانة كبيرة بين إخوته الخمسين من الأمراء من الجيل الأول، كما
إن له تأثيرا كبيرا داخل أوساط الحكم وهو الذي زهد فيه.
دارت الأيام
دورتها، وجاء منتصف جانفي 1991 ، وبين يوم وليلة اندلعت الحرب قاسية، بعكس كل ما
توقعه صدام حسين، الذي ظن وأقنع الكثيرين بمن فيهم القادة التونسيين آنذاك بأن
أمريكا لن تتجرأ لا هي ولا حلفاؤها الثلاثين على شن الحرب، فيما إنها جمعت 500 ألف
من الجنود على الحدود العراقية شمالا وجنوبا وغربا، أرضا وبحر وجوا.
يوم 28 فيفري
تم دحر القوات العراقية خارج التراب العراقي، وتحت خيمة في قرية صفوان جنوب العراق،
تم توقيع وثيقة استسلام مهين وقعه جنرالات
صدام حسين، لم يعترف به لاحقا، وحصل ما سمي بتحرير الكويت في نفس مناسبة عيد
استقلال الدولة الكويتية.قبل ذلك ب 28
سنة.
ابتلعت
السلطة التونسية القائمة الموقف الذي جاء على عكس توقعاتها، فقد قيل مرارا وتكرارا
أن الكويت خرجت من الجغرافيا ودخلت التاريخ،
كما إن الرئيس السابق بن علي عندما وجه مبعوثيه، سواء من السلطة القائمة أو من
زعماء المعارضة إلى العواصم العربية، للتبشير بموقفه ضد التدخل الأمريكي، أي
للإبقاء على الكويت تحت سيطرة بغداد، غفل قصدا عن إرسال مبعوث للحكومة
الكويتية المستقرة بالطائف ، على أساس أنه
لم تعد هناك حكومة كويتية ولا دولة كويتية، ولا هم يحزنون..
ولقد علمت
لاحقا أن الكويتيين غفروا كل شيء، إلا هذا الإغفال الذي كان يساوي إنهاء وجود
دولتهم.
إذن وبعد
الهزيمة الدبلوماسية التي منيت بها تونس، نتيجة الحسابات الخاطئة، والعزلة العربية
والدولية التي وجدت نفسها فيها ، كان لا
بد من القيام بشيء معين قصد ترقيع ما انفتقت خيوطه، واعتقد القائمون على
الدبلوماسية التونسية التي تبعثرت أوراقها، وفقدت كل تأثير ووجود، بعدما كانت
فاعلة بل شديدة الفاعلية زمن بورقيبة.
اختار
المحيطون ببن علي رجلين اثنين ليتوليا رتق الفتق:
أولهما
إسماعيل خليل ، الرجل الذي وضع على الرف وأطرد من وزارته بصورة مهينة، ليكون
القادر على إعادة ما يمكن إعادته في العلاقات مع الولايات المتحدة، وهي علاقات
تدهورت أيامها إلى أبعد الحدود، وباتت تونس تعد في صف الأعداء الذين لا رجاء منهم،
بينما تونس تعتمد في التحديات التي تواجهها على واشنطن إلى أكبر الحدود، ألم يأت
الأسطول السادس إلى مشارف المياه الإقليمية التونسية في جانفي 1980، لمواجهة محتملة مع ليبيا
القذافي والجزائر، التي لم تكن محكومة فعلا بعد الوفاة المفاجئة للرئيس بومدين.
إسماعيل خليل
كانت له حظوة في الولايات المتحدة، فقد اشتهر باعتدال مواقفه، ثم إنه من الذين
عملوا طويلا في البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وهو رجل ينال ثقة وافية في
واشنطنّ، وكان دوما يعتبر حكيما، وقد تم اللجوء إليه في أكثر من مناسبة، وخاصة سنة
1986 عندما أوشكت البلاد على الإفلاس في آخر فترة حكم محمد مزالي، وهي في كل
الأحوال لم تصل آنذاك إلى سوء الأحوال التي وصلتها حاليا.
كان محل ثقة
لدى الإدارة الأمريكية، وقد وصل الليل بالنهار من أجل ، إنجاح رفع الحصار السياسي
الدبلوماسي عن تونس ونجح في ذلك إلى الحدود التي يسمح به ما وصل إليه الأمر.
أما الثاني
فهو قاسم بوسنينة لما له من دالة على أعداد من كبار المسؤولين السعوديين، وخصوصا
الأمير محمد عميد الأمراء من أبناء الملك عبد العزيز، وصاحب الكلمة المسموعة لدى
إخوته ، لنزاهته ونظافة يده.
كانت
الاتصالات الأولى غير مشجعة، ففي الرياض وفي غيرها من العواصم الخليجية، مضافة
إليهما مصر وسوريا ، كانت كلها شطبت بالقلم الأحمر لا على تونس فحسب ، ولكن أيضا على الحاكمين فيها، ألم يتوجه بن علي بصفعة قوية
للرئيس المصري آنذاك حسني مبارك، عندما لم يكتف بمقاطعة القمة التي دعا إليها في القاهرة للنظر في شأن الاحتلال العراقي
للكويت، بل دعا لمقاطعتها.
وإزاء هذه
الحسابات الخاطئة من أجل ترضية شعبوية زائفة وجد بن علي نفسه، بعد استعادة الكويت
لسيادتها و رجوع حكومتها، معلقا في الهواء، وقد انعزل عن العالم.
وكان عليه أن
يقوم بمساع مذلة للخروج من عزلته وعزلة تونس.
ولم يدرك قط
مدى أهمية الخطإ الذي ارتكبه، فقد جفت منابع المدد المالي الذي كان يأتي من
الكويت، والذي كان الأعلى قبل الموقف
التونسي الغير مدروس.
وإني لأذكر
يوما كنت فيه في زيارة لمحمد الغنوشي الذي كان آنذاك وزيرا للمالية وقدم لي جدولا بقيمة المدد الذي جاء تونس بين
1963 و1990 ما بين هبات واستثمارات وقروض، وكانت الكويت التي راهنت على تونس، في
مقدمة الدول والمؤسسات المالية الدولية المانحة. وهو جدول توليت نشره آنذاك في
جريدة الصباح طبعا دون ذكر المصدر.
ولم يكن محمد
الغنوشي وحده من الوزراء من كان يقف ضد سياسة الرئيس الأسبق بن علي من طرف خفي، في
هذا الشأن بل إن عددهم كان مهما إلا أنه لم يتجرأ أحد على مواجهته بالحقيقة ،
وبالضرر الذي نال تونس وما زال يضر بها، وقد تمثل اليوم بعد 24 سنة فيما بدا من
قلة استعداد لإسعاف تونس أو مد يد المساعدة إليها على غرار مصر.
ولله في خلقه
شؤون ، ومنها قصر النظر وغياب البصر والبصيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق