بكل هدوء
|
يكتبه عبد
اللطيف الفراتي
هل بورقيبة
هو تونس ؟
تونس / الصواب /- 01/06/2016
في أفريل
1989 تمت دعوتي من قبل الخارجية الأمريكية للقيام بزيارة للولايات المتحدة ، في
إطار ما كان مخصصا للشخصيات المرموقة ، أي زيارة في أفضل الظروف بالنسبة للمنحة
المخصصة ، وبالنسبة لطول المدة ، وبالنسبة لتعيين مركز الاهتمام الذي يتعين علي
اختياره.
غير أن الأمر
لم يتوقف عند ذلك الحد ، بل أكاد أزعم أنني من القلائل الذين تمت دعوتهم رسميا
أكثر من مرة لمثل تلك الزيارة ، وقد درجت أمريكا على توفير فرصة وحيدة طيلة الحياة
لمثل هذه الزيارات ، وكنت قمت بزيارة للولايات المتحدة رفقة صديقي وزميلي المرحوم
البشير طوال ، رئيس تحرير جريدة العمل ضمن وفد صحفي عربي من 26 فردا في سنة 1966.
وفي سنة 1989 دعيت منفردا ، واخترت كموضوع للزيارة " كيفية اتخاذ
القرار في الولايات المتحدة " ، وكنت زمانها في حيرة لمعرفة من يحكم فعلا
أمريكا ، وقد زالت غشاوة عن عيني بأن الرئيس الأمريكي هو الحاكم الناهي في واشنطن ،
غير أنه بقي عندي سؤال محـــــــــــير ، إذا لم يكن الرئيس المنــتــخب ( بصورة
غير مباشرة بعكس ما يتخيل الأغلب من الناس) هو حاكم أعظم دولة في العالم ، فمن هو
صاحب القرار.
كنت أيامها
رئيس تحرير جريدة الصباح ، الصحيفة الأولى في تونس توزيعا وتأثيرا ، ولقد أقدمت
وقتها على كتابة مقالات اعتبرها الأمريكان في غاية الأهمية وأهمها ولا شك ذلك
الحديث الذي أجريته مع الأستاذ راشد الغنوشي في 17 جويلية 1988 ، ثم الافتتاحية
التي دعوت من خلالها في انتخابات أفريل 1989 لعدم انتخاب الاتجاه الاسلامي ، وما
بدا للأمريكان من أني صحفي له مداخل كثيرة في السلطة وفي المعارضة ، وصداقات ما زلت أعتز ببعضها لحد اليوم ، وعلى اعتباري أيضا أني كنت في تلك
الفترة ، مراسلا لعدد من الصحف العربية
الواسعة الانتشار ، في وقت ما زال مقر الجامعة العربية ومقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس ، وقد نسجت مع زعماء وقيادات كليهما علاقات وثيقة ، ولعلي كنت الصحفي
الوحيد الذي تقابل مع رئيس الدولة الجديد آنذاك أكثر من مرة دون أن يكون لي موقع رسمي أو
تمثيلي.
سقت كل هذا
الكلام لأخلص لا فقط لما استفدت منه في
تلك الزيارة ، التي شملت 15 ولاية ، و13
جامعة وعددا من مؤسسات البحث والاستشراف ، من شخصيات اللوبيات ، التي تشارك في صنع
القرار ، وفهمت ما فهمت ، من أن خطورة موقع الرئيس الأمريكي ، تأتي من قدرته
الفائقة على اختزال كل التفاعلات لصنع سياسة دولة ، هي في النهاية دولة مؤسسات أكثر
من أن تكون دولة رئيس دولة ، إذن سقت هذا الكلام لأخلص إلى شيء بقي في نفسي تمثل
في تلك الجلسة التي عقدتها في سان فرانسيسكو مع رئيس جامعة منظمات إلغاء الخــــدمة
العسكرية ، وهي جمعية عتيدة وناقدة كلمتها ، وبعكس من تقابلت معهم بمعدل اثنين من
كبار الشخصيات في الخارجية أو البنتاعون أو الهضبة – ذي هيل - (الكونغرس) ، أو الجامعات أو قادة الرأي ، فلقد
وجدت محدثي يومها ،كالكثير من الأمريكان قليل المعرفة بما يجري خارج بلاده ،
وبمجرد أن قدمني مرافقي ومترجمي وهو أستاذ جامعي متقاعد ، أقدر أنه كان من جملة
مهامه أن يرصد حركاتي وأقوالي ، سألني مضيفي من أي بلد أنت ، أجبته تونس ، ارتفعت
حواجبه وسأل مجددا من أين ، وأسعفه المرافق : من تونس ، من تونس بلد بورقيبة ،
أجاب بسرعة آه تونس بلد بورقيبة ، تونس في شمال إفريقيا.
كان ذلك بعد
عام ونصفا منذ استبعاد بورقيبة من السلطة
، سنة ونصفا أو أكثر بعد أن استخلص الرئيس الأسبق بن علي الحكم لنفسه ، في وقت
كانت فيه جذوة الحماس لبن علي ما زالت متقدة ، والبعض كان يقول ، بن علي أنقذ
بورقيبة من نفسه.
اليوم وبعد
27 سنة ، ما زلت أذكر كيف ابتلعت ريقي
وكدت أغص به ، حانقا لأن شخصا يعتبر من
زعماء أمريكا في ذلك الوقت لم يكن يعرف تونس ، إلا عبر اسم بورقيبة ،في وقت كنت
وما زلت معتزا بتونسيتي التي تجري في عروقي معتقدا ، أنه ليس على وجه الأرض من لا
يعرفها.
تذكرت ذلك
اليوم بالذات ، يوم غرة
جوان ، وأنا أشهد عودة بورقية إلى شارع
بورقيبة ممتطيا صهوة جواده الذي لم يترجل عنه قـــط في نظر الكثيرين الكثيرين ، بورقيبة الذي رغم
هناته لا بد أن نعترف له بأنه باني الدولة الحديثة ، بورقيبة الذي لا بد أن نعترف
له بأنه حمل مشروعا للمجتمع ، نجح في نحت ملامحه المشرقة ، مثل التعليم وتحرير
المرأة ، وقصر في جزئه الآخر وهو بناء الديمقراطية.
وعلى أهمية
بورقيبة في تاريخنا المعاصر ، وهو زعيم قل أن يجود الزمان بمثله ، فهو نجم لامع في
سماء زاخرة بالنجوم من يوغرطا إلى حنبعل إلى أحمد باي إلى خير الدين إلى الثعالبي
إلى محمود الماطري إلى صالح بن يوسف إلى فرحات حشاد إلى الهادي شاكر ، وغيرهم
كثيرون ممن لم أنس ولكن يضيق المقام عن ذكرهم كلهم ، وهؤلاء كلهم وغيرهم يستحقون
تماثيل تحيي ذكرهم في مخيالنا الجمعي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق