الموقف السياسي
|
يكتبه عبد
اللطيف الفراتي
الدستور ليس
لعبة
ولكن كيف
تنظيم المؤسسات الدستورية ؟
تونس /
الصواب /24/09/2016
عندما تحرر
الدساتير فذلك لعشرات السنين ، فليس من المنطق أن يتم تعديلها كل سنوات قليلة ،
وإذ كان الدستور التونسي الجديد الصادر في جانفي 2014 ، قد اقتضى تنظيما للحريات ،
والتصاقا شديدا بالحقوق الكونية ، كما هو الشأن في البلدان العريقة في الديمقراطية
، وكذلك تنظيما لمؤسسات الدولة ، فقد افترق عن سابقه دستور جوان 1959 قبل أن يقع التلاعب به ويصبح عبارة عن صورة
باهتة ، افترق لا فقط من حيث التشديد على
الحريات ، وربط تونس بالحقوق التي تكفلها المواثيق الدولية بدون أي تحفظ ، بل من
حيث التنظيم المؤسساتي ، ومن حيث طرائق الانتخاب.
فقد اقتضى
حكم بورقيبة اللجوء إلى إقامة نظام رئاسي على الطريقة الأمريكية ـ بل رئاسوي ـ
تتجمع فيه كل خيوط القرار بين يدي رئيس الدولة ، دون صلاحيات رقابية تذكر لسلطة
البرلمان ، وهو نظام تجذرت مظاهره شيئا فشيئا وبلغ الأوج تحت حكم بن علي ، وزاد من
حدته اختيار طريقة انتخابية قائمة على التصويت على القائمات بالأغلبية ، تقتضي
تحقيق استقرار شديد في الحكم ، بلغ من شدته أنه قبض على رقبة البلاد مدة 55 سنة ،
زاد من حدته اللجوء المستمر لتدليس الانتخابات ، وفقا لاعترافات وزراء داخلية
سابقين ، زيادة عما عرف وأصبح أمرا معروفا.
وجاء الدستور
الجديد بتغيير في العمق من حيث أقر نظاما برلمانيا تتركز فيه السلطة في يد مجلس النواب ،
ويفوضها لسلطة تنفيذية تبقى تحت رقابته
الشديدة ، سوى منها ما أفلت وبقي بين يدي رئيس الدولة ، الذي لا يعرف وفي الأحوال
العادية ، إن كان خاضعا للمساءلة
والمحاسبة أم لا في الصلاحيات التي خولها له الدستور .
ومما زاد
الطين بلة أنه بعكس ما يجري في غالب الأنظمة
البرلمانية ، فإن رئيس الجمهورية في تونس ينتخب بالاقتراع العام ، وبالتالي ونظريا
فإنه يتمتع بشرعية منفردا تماثل شرعية البرلمان مجتمعا ، وإذ النظام الذي اختارته
النهضة ليس متفردا في العالم ، فإنه شبيه
بما يسمى بالنظام البرلماني المعدل كما هو البرتغال مثلا ـ ومختلفا عن الانظمة
البرلمانية في ألمانيا أو إيطاليا أو إسرائيل أو النمسا ، فإنه يضع حقيقة السلطة
بالوكالة لدى الحكومة التي يشكلها رئيس للحكومة.
ومثل كل نظام
فإن الأنظمة السياسية كلها لها حسناتها وسيئاتها ، ولكنها كلها تعتبر ديمقراطية.
وقد أعطت
التجربة القصيرة للنظام البرلماني المعدل ، صنفان من السلوكات السياسية :
أولهما
حكومات ما قبل وحتى بعد إعلان الدستور ما خضع منها وما لم يخضع للدستور الصغير
متمثلة في حكومات حمادي الجبالي وعلي العريض ( بنفس النفس مع الدستور الدائم ) ،
وحكومة المهدي جمعة ، وكانت الخيوط كلها بيد رئيس الحكومة ( الذي لم يعد وزيرا أول
حتى تسمية ومضمونا ) وكلها في زمن الرئيس
منصف المرزوقي الذي لم يتمتع حتى بصلاحياته الدستورية بالكامل .
وثانيهما
الحكومات الثلاث التي خضعت من وجهة نظرنا لقيادة مشتركة إن لم تكن بسطوة
رئاسية ، بعد انتخابات 2014 ، فقد أدت هذه
الانتخابات إلى فوز الرئيس الباجي قائد السبسي بالرئاسة ، ولاحقا لفوز حزبه (نداء
تونس ) بأغلبية تشريعية نسبية أهلت الحزب
لاستلام السلطة ، وتعيين رئيس للحكومة.
وإذ نص
الدستور على تولي تعيين الحزب الفائز ( الأول أصواتا في البرلمان ) لرئيس الحكومة ، فإن المراقبين
يتفقون على أن ذلك لم يكن إلا إجراء شكليا ، حيث إن الرئيس الجديد للجمهورية هو
الذي اختار رئيس الحكومة الحبيب الصيد الوفي له بين الأوفياء ، وحتى من خارج صفوف حزبه ، بحيث لا يتمتع بقوة
ذاتية ، وما كان من قيادات نداء تونس إلا أن قبلت بالأمر الواقع ، وقد تجدد ذلك مع
حكومة الشاهد ( وإن لم يكن رئيس الجمهورية هذه المرة مطالبا بترشيح رئيس للحكومة
بترشيح من حزب الأغلبية ) ، وهو ما سيحصل مع حكومة الشاهد الثانية قبل أقل من شهر.
ولم يقع
احترام حتى الشكليات ، فقد أعلن رئيس الحكومة عن تركيبتها من قصر قرطاج ، مما يوحي بأن الحكومة استمرت في عهد الباجي
تتشكل في قصر قرطاج ، مثلما كان عليه
الأمر زمن بورقيبة وبن علي ، مما يفترض أن أصابع سي الباجي كانت والغة في تلك
التشكيلة ، ولعلها كانت هي العنصر الأقوى لتركيبتها.
ولعل للمرء
أن يتصور فرضا ، أن الأغلبية الرئاسية والأغلبية التشريعية لم تكونا متماثلتين ،
أي لو أن الانتخابات أفرزت انتخاب سي الباجي رئيسا للحكومة ، وانتخاب أغلبية نسبية
من حركة النهضة ، فماذا كان يحدث ، وهل كان الرئيس الباجي يتدخل في تشكيل الحكومة
التي يتولاها أحد زعماء النهضة ، وهو احتمال وارد باعتبار طبيعة النظام السياسي
البرلماني المعدل ، هل سنسقط في تعايش على مثال ما حصل مرات خلال سير الجمهورية الفرنسية
الخامسة ، كان ذلك في بلد من نمط مجتمعي واحد ، أما في تونس فإننا أمام تصورات
أنماط مجتمعية مختلفة ، حداثية ، ودينية.
**
هذا من ناحية
الحقوق والحريات وتنظيم السلط ، وسير دواليبها ومؤسسات الحكم فيها ، ولكن ألا ينبغي أن نتوقف قليلا عند مؤسسات
الدولة الدستورية التي اقتضاها الدستور ،
وإلى جانب مجلس النواب الذي يزداد اسمه تعقيدا بنعته بمجلس نواب الشعب ، بدل ما
كان عليه اسمه قبلا أي مجلس النواب أو ما درجت عليه عدة دول من تسميته مجلس الشعب
، بعد أن كان ينعت باسم مجلس الأمة وهو ما تم التخلي عنه لأسباب إيديولوجية ، من
حيث إنه لا تونس ولا مصر مثلا ولا غيرها تعتبر نفسها أمة ، بل هي جزء من أمة سواء
كانت عربية أو إسلامية حسب الميول والإيديولوجيات.
غير أن
الأعمق من ذلك يتمثل من وجهة نظرنا في أمرين اثنين :
1/ تضخم مجلس
النواب عدديا ، وإذ كان ذلك مبررا لكتابة الدستور ، فإن الأمر لم يعد ضروريا ، بعد
استقرار الدولة ومؤسساتها ، وليس الأمر فقط مسألة اقتصاد في النفقات ، فالنواب
التونسيون لا ينالون أعلى المرتبات بالمقارنة مع نواب الدول المجاورة ، وإنما
لمزيد النجاعة والحسم الأسرع ، ولعل للمختصين والقانون المقارن أن يجدوا الحجم
الملائم لمجلس النواب ، وفي محاولة غير معمقة ولكن وبالمقارنة يبدو لي أن عدد
النواب ينبغي أن يعتمد على مقياس عملي مثل نائب عن كل مائة ألف ساكن مع إضافة نائب عن كل عدد يزيد عن 50 ألفا
بحيث لا يتجاوز عدد النواب 130 نائبا (217 حاليا ) ، مع تمتيع كل نائب بمكتب
وسكريتيرية ليتمكن من القيام بعمل جدي قوامه البحث والتعمق والمقارنة وهو عمل لا
يستطيع أن يضطلع به النائب الجلسات العامة
و جلسات اللجان والتواصل المطالب به في دائرته .
2/ اعتبار أن
الهيئات الدستورية ومن الناحية الشكلية خاضعة للمراقبة البرلمانية ، ولمحكمة
المحاسبات كما هو الشأن في أعتى الديمقراطيات ، أما من ناحية المضمون فتبقى لها
حريتها المطلقة ، كل واحدة حسب اختصاصها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق