قرأت لكم
|
لنبني معا خطة نقابية جديدة
للدفاع عن الحقوق
الإقتصادية و الإجتماعية للأجراء
بقلم الحبيب قيزة
الأمين العام للجامعة العامة التونسية للشغل
بترخيص من الكاتب كما تقتضيه
الأصول ومقتضيات الأخلاق الصحفية وشرف المهنة ننشر في ما يلي هذا المقال القيم
للنقابي الواسع الثقافة الملهم الحبيب قيزة ، وفيه يقدم إضاءة جديدة عن موقف
نقابي مسؤول يجمع بين روح المسؤولية الوطنية والحفاظ على حقوق العاملين
تعيش بلادنا أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة تتمثل حسب الإحصائيات
الرسمية في تواصل تدهور نسبة النمو في حدود 1,5 بالمائة وتجاوز
نسبة التداين الـ 60 بالمائة من الناتج الوطني الخام إلى جانب ارتفاع التضخّم مسجّلا 4,3 بالمائة، كما فقد الدينار
50 بالمائة من قيمته التبادلية مقارنة باليورو ، وشهدت المقدرة الشرائية تدهورا بنسبة 40 في المائة مقارنة بـسنة 2010، في حين بلغت
نسبة البطالة حوالي 15,3 بالمائة وبلغ عجز الميزانية 6,5 بالمائة.
كما أصبح القطاع غير المنظم يشكّل نصف حجم الاقتصاد الوطني
و ارتفع عجز صندوق التعويض إلى 7 مليار دينار، و بلغ عجز الصناديق الاجتماعية حوالي
المليار دينار ، إضافة إلى رداءة الخدمات
الاجتماعية التي تميّز قطاعات الصحة والسّكن والتعليم والنقل والثقافة أيضا ...
ضمور الطبقة الوسطى
وتزداد الوضعية سوءا عندما نتطرّق إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية
بين الفئات والجهات وخصوصا مع ضمور الطبقة
الوسطى ، قوّة التوازن في المجتمع الّتي
تقلّصت من 80 إلى 67 بالمائة ، مقابل ارتفاع شريحة أثرياء ما بعد الثورة الّذي بلغ
عددهم 6500 مليونيرا بالدولار طبعا و سبعين مليارديرا، ثروة هؤلاء تتجاوز ميزانية
الدولة بـ38 مرة حسب مكتب الدراسات البريطاني New World Wealth وبذلك احتلّت تونس المرتبة السابعة
إفريقيا في قائمة الأثرياء متجاوزة الجزائر والمغرب و ليبيا.
من النتائج الأبرز لهذه الحصيلة السلبية تراجع مكانة
الدولة ، وفسح المجال واسعا لابتزازها ، وإقدام أعداد متزايدة على عدم اِحترام
القانون والتطاول على ممثلي الدولة والهيئات الرسمية ، وإطلاق العنان للاحتجاجات
الاجتماعية العنيفة وغير المؤطرة ، كما لا ننسى ما أصبحنا نعيشه من تغوّل لبارونات
الفساد والإفساد ، وتسلّطهم على المجتمع وتوظيفهم لمنظماته المدنية وابتزاز بعضها
بقوّة المال.
وضع كارثي
هذا الوضع الكارثي، يحمّل الحركة النقابية التونسية مسؤولية
تاريخية للدفاع عن مصالح الوطن والأجراء ،
بكل الوسائل المشروعة النضالية منها والمعرفية ، وأن تكون قوة اقتراح ضمن تصوّر
مجتمعي مواطني ، والتّمسك برفض مطالبة الأجراء دون سواهم بالتضحية وتحميلهم فاتورة
فشل سياسات لم يكونوا شركاء فيها.
ونسجّل في هذا الإطار بكلّ مرارة فشل الخطّة المطلبية
النقابية التقليدية الحالية القائمة على المطالبة بالزيادة في الأجور في غياب
مقاربة متكاملة ، فهي تقوم على مفارقة تتمثّل في الزيادة في الأجور من ناحية ، و
تدهور المقدرة الشرائية من ناحية أخرى، ممّا أدّى ولا يزال يؤدّي إلى تفقير
العمّال وتفاقم تداينهم ، وتدهور مقدرتهم
الشرائية بنسبة 40 في المائة مقارنة بسنة 2010 ، بالرغم من تضاعف حجم الأجور في الوظيفة العمومية خلال السنوات الخمس
الأخيرة، حيث ارتفعت من 6,7 مليار دينار سنة 2010 إلى 13,4 مليار دينار سنة 2016
مما اضطرار الحكومات المتعاقبة إلى التداين لتسديد الأجور والاستهلاك ، الأمر
الّذي فاقم المديونية والتضخم ، و تدهور قيمة صرف الدينار ، وأنزل المقدرة
الشرائية عدّة درجات ، رغم ما صاحب هذا الحراك الاجتماعي والاقتصادي من إضرابات واعتصامات و احتجاجات
غطّت كافة الميادين و القطاعات ، مما أنهك المواطن العادي و نفره من العمل النقابي
و الاجتماعي ، و جعله يحنّ إلى الماضي الاستبدادي ، وإلى منطق
الحزم ، وهو ما يشكّل أكبر تهديد لمسار الانتقال الديمقراطي.
نجاحات لا ينبغي إغفالها
إلاأن هذه الحالة الكارثية التي وصلنا إليها ، لا يجب أن
تحجب عنّا الكم الهائل من الإنجازات والنجاحات الّتي تحققت بفضل الثورة في مجال
الحقوق المدنية والسياسية ، والمطلوب اليوم هو استنباط طريقة تكفل التوازن بين
الحقوق المدنية والسياسية من جهة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى ، بما يضمن نجاح
الانتقال الديمقراطي.
مراجعة إستراتيجية للمطلبية بأي ثمن
انطلاقا من هذه الخلفية و من خلال قراءة هادئة و متزنة للوضع العام بالبلاد ، دعت الجامعة العامة
التونسية للشغل إلى مراجعة الإستراتيجية المطلبية للحركة النقابية ، على اعتبار
أنها خاطئة و مجانبة للواقع ، واعتماد مقاربة جديدة للدفاع عن مصالح الأجراء تأخذ
بعين الاعتبار التحولات التي شهدها مجتمعنا في العشرية الماضية ، و رفض اِحتكار التفاوض من قبل منظمة واحدة ، مهما
بلغت شرعيتها التاريخية ومهما كانت تمثيليتها قطاعيا و، نحن في الجامعة العامّة
ندير الشأن اليومي النقابي بعقلانية ، و نغلّب المصلحة العامة للحركة النقابية
التونسية بمختلف روافدها على المصالح التي تدخل ضمن خانة الشعبوية و المزايدات ، و
نؤكد أنّ لكل منظمات الحركة النقابية المؤسسة قانونيا و المتواجدة على أرض الواقع ،
حق المشاركة من أجل بلورة إستراتيجة مطلبية نقابية جديدة ، تمكّن من الدفاع عن
مصالح الأجراء
و ضعاف الحال بصورة فعلية ، و تقطع مع موجات الشعبوية والديماغوجيا .
إنّ التحوّلات
الجارية في مفهوم العمل والناتجة عن الثورة التكنولوجية والرقمية والعولمة تطرح
على الحركة النقابية التونسية بمختلف منظماتها تجديد مفهومها للعمل النقابي، و
تحديث آليات عملها ، و الإرتقاء بأدائها إلى مستوى النقابة المواطنية الشبكية
القائمة على الشراكة ،والتي لا تنفي تباين المصالح و المقاربات لكنها تتفق في
القطع مع الفوضوية النقابية.
الدور الصحيح للعمل النقابي
ولقد بات مطلوب اليوم من الحركة النقابية التونسية ألا
تقتصر على البعد الإحتجاجي على أهميّته ، بل عليها ضمن الخطة الجديدة أن تزاوج بين البعد
النضالي والبعد المعرفي-التربوي حتى تتحول إلى قوة اقتراح ، وتخرج من سجن الماضي والحلقة المفرغة التي
تعيشها اليوم نتيجة التصور التقليدي والشعبوي ، الذي أدى
إلى المأزق الّذي وجدت نفسها فيه ، والمتعلق بثنائية تدهور المقدرة الشرائية في ظل
الزيادات في الأجور، إنّها دوّامة لا مخرج منها تنهك المتعاطين معها.
إنّ الواقع يحتّم اليوم على الحركة النقابية وضمن خطتها
الجديدة إلى ضرورة مطالبة الحكومة بالكف عن تحميل الأجراء وحدهم عبئ الأزمة عبر
تجميد الأجور والإقدام على اجراءات علاجية نوعية و عاجلة تتعلق بالمعاش اليومي
للتونسيين و بإجراءات استراتيجية وقائية تهمّ الملفات الكبرى، فالحكومة مطالبة
اليوم بعقد مؤتمر حوار مع الشركاء الإجتماعيين من ممثلي العمّال و أصحاب العمل
ومنظمات المستهلكين بدون استثناء لاتّخاذ حزمة من الإجراءات العاجلة تجسّد تقاسم
كل الشركاء الاجتماعيين للتضحيات ، و لتعبئة موارد مالية
جديدة لاسيما من الأثرياء الجدد، وهي مدعوة أيضا لتنظيم حوار وطني جاد و مسؤول ، لبلورة
منوال تنمية تشاركي جديد وعادل ، يقطع مع ذلك المنوال القائم على دكتاتورية السوق
و يتجاوز في نفس الوقت رديفه القائم على احتكار الدولة لكل المقدّرات الاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذا الإطار وضمن هذا التوجّه فإنّ الجامعة العامة
التونسية للشغل، بوصفها شريكا فاعلا ومناضلا ، على أتمّ الاستعداد للمساهمة
البنّاءة للنهوض بالاقتصاد الوطني والنهوض الاجتماعي ، كشرطين متلازمين لنجاح الانتقال
الديمقراطي ، الّذي يشكل الهدف الإستراتيجي الذي يمكّن بلادنا من الدخول إلى نادي
البلدان الديمقراطية.
تونس في 26 أكتوبر 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق