اقتصاديات
|
الصين العملاق الاقتصادي المنهار *
الأسباب والتداعيات
تونس/ الصواب / 03/02/2016
كتب عبد اللطيف الفراتي
خلال أكثر من
20 سنة اعتبرت الصين ، معجزة اقتصادية ، فريدة في نوعها واستطاعت أن تتحول من دولة فقيرة متخلفة إلى
دولة صاعدة ، تنجز في غالب السنوات نسبة نمو من رقمين ، أي بما يتجاوز 10 في
المائة ، في الناتج الداخلي الخام.
وهذا الوضع
مكن الصين من أن تتفوق على دول كانت في مراتب متقدمة في الترتيب بين الدول الأغنى
عالميا ، وان تتجاوزها لتصـــبح ثاني أكبر قوة اقتصادية ، متقدمة على ألمانيا
وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا ، وكثير من العمالقة الآخرين ، ولا تسبقها في حجم
الثروة إلا الولايات المتحدة التي تبقى أهم قوة اقتصادية في العالم ، هذا دون أن
نغفل القول إن الصين تتفوق بحجمها السكاني على كل الدول في العالم ، ولا تلاحقها
إلا الهند، ما يعني أنها أيضا ومن ناحية الناتج للفرد ليست في المراتب الأولى ولا
حتى المتقدمة ، ما يوجب الحذر عند التعامل مع الأرقام ، و تنسيب كل الظواهر.
غير أن
العملاق الاقتصادي الصيني بدت تظهر عليه علامات الوهن ، فتختل توازناته ، ويهدد
بأن تختل تبعا لذلك التوازنات الاقتصادية ، ليس فقط بين البلدان المتقدمة مثل
الولايات المتحدة أو أوروبا بل ربما حتى البلدان الآسيوية التي كانت توصف بالنمور
الجديدة وكذلك الدول العربية خاصة النفطية ، وجانب مهم من الدول الإفريقية التي
تعاظمت معاملاتها مع بيكين .
هذا الأمر
المهدد للتوازنات الاقتصادية و المالية العالمية دفعنا لأن ، نطرح أسئلة معينة
تحاول الإجابة على هذا القادم غير المتوقع وتداعياته العالمية على الأستاذ
الجامعي الدكتور عزام محجوب ، وهو رجل معروف ببحوثه الكثيرة ، وصاحب الخبرة
الواسعة التي أهلته لأن تقع مشورته من قبل عدة مؤسسات أممية ودولية وجامعية.
**س / أولا
ولمحاولة فهم ما يجري ، كيف وصلت الصين إلى هذه الأزمة ، التي تتهددها داخليا و
تتهدد العالم خارجيا ، وهل هي امتداد لأزمة العارمة التي اندلعت في أمريكا وأوروبا
في العام 2008 ، وكانت لها تبعات هي الأخرى بما فيها علينا ؟
ج / أود أن أقول وفق وجهة نظري أن هذه
الأزمة، ليست ظرفية كما يعتقد البعض، بل هيكلية ، وبالتالي وكما أن أعراضها مختلفة
فإن الحلول لمعالجتها أصعب وأعقد مما يظن الكثيرون.
لذلك ينبغي
أن نقف عند الأسباب الحقيقية والعميقة، بما فيها من تشخيص لما يجري في الصين،
والاحتمال الأول هو أن تدخل الصين بهذا المنعرج مرحلة ركود قد تطول، بما لذلك من
تداعيات على الاقتصاد العالمي، والاحتمال الثاني هو أن تنجح الصين في الخروج من
عنق الزجاجة، وتتمكن من اجتياز أزمتها وتمر إلى مرحلة إيجابية. ورغم ما يبدو من
وعي القيادة الصينية بالظرف الدقيق جدا الذي تعيشه بلادها، وتأمل في أن تمر بمرحلة
انتقالية تدوم ما بين 5 وعشر سنوات تعيد فيها حساباتها وتصل بعدها إلى منوال
اقتصادي جديد، une
nouvelle normalité، حسب المصطلح الرسمي
الصيني، لتعود لعافيتها، فإني أعتقد أن الصين قد دخلت مرحلة صعبة، وأن الاخلالات
القائمة ومنذ مدة يعسر حلها في ظرف وجيز.
** دكتور ، ولكن ما هو أصل المشكل الذي أدى
لتركيع هذا العملاق ؟
ج / استنتجنا
من وجهة نظري أننا أمام أزمة هيكلية وليست ظرفية في الصين ، أزمة اتخذت
بعدين رئيسيين ( هذا بدون التطرق إلى المسائل السياسية السياسية في الحكم) وكلا
البعدين يصب في الآخر ويؤثر فيه:
أ/ بعد مالي، برز من خلال انهيار البورصة في الصين (شانغهاي وشانزان)، ولكن
أيضا مشاكل التمويل والاستثمار العقاري بالخصوص، وانعدام الحوكمة الرشيدة في هذا
الباب.
ب/إخلالات كبيرة في الاقتصاد الفعلي بكل جوانبه الانتاجية.
وقد ظهر البعد المالي في أعراض، ليست غريبة على الملاحظين الفطنين، فقد عاشت
الصين خلال 2015 وبدايات 2016 انهيارا مدمرا لبورصاتها، يعتبر غير مألوف ، ولعله
ينبغي العودة لسنوات الثلاثين من القرن الماضي لمشاهدة أمر مشابه ، في الولايات
المتحدة وأوروبا. وإذ تتميز الصين بوزن ثقيل جدا لبورصاتها الثلاث (هونغ كونغ
وشانغهاي وشانزان)، فإن انهيارا مماثلا لا يمكن أن يمر دون أن يترك بصمات غائرة.
وحتى لا ندخل في تفاصيل مهمة ولكنها معقدة، فإن الدول، تعتمد على مؤشرات تبرز
أهمية رأسمال البورصات أي مجموع قيمة الأوراق المالية إلى الناتج الداخلي الخام ، وفي الصين فإن رسملة
الأوراق المالية تمثل بين 40 و50 في المائة من الناتج الذي يبلغ حوالي 10 آلاف
مليار دولار. أي إن قيمة الأوراق المالية عندما تنهار البورصة بـ30 إلى 50 في
المائة ، فإن خسارة الاقتصاد في الحالة الصينية قد تصل نسبة عالية من الناتج
الداخلي الخام ، بمعنى أن الصين في ظرف سنة خسرت حوالي ثلث إلى نصف رأس المال
المتاح في البورصة والذي من شانه ان يخلق الثروة.
والنتيجة الفعلية لذلك هو أن عدة عشرات الملايين من الأسر الصينية التي انخرطت
في لعبة البورصة أصبحت على الحديدة ، أي ضاعت ثروتها ، وهؤلاء هم في الغالب من
الطبقة الوسطى التي كان متاحا لها التملك واكتساب ثروة بالاقتراض السهل والمضاربة.
وفي بلدان أخرى منفتحة وديمقراطية كان متوقعا في مثل هذه الحال ، أن تقع
اضطرابات اجتماعية كبرى ، ولكن حالة الصين مختلفة ، نظرا لطبيعة الحكم بالبلاد.
س / دكتور عمليا ماذا حدث ؟
ج / لنتصور أن
بيدك بالونة منتفخة ، ومن شدة الانتفاخ ْ انفجرت فجأة بين يديك. فهذا ما وقع في
الصين. ولكن لنقل إن ذلك لم يكن حقيقة مفاجئا ، من هنا تأتي هيكلية ما جرى وما
أصاب الصين كما سبق أن استنتجنا ، فالنمط الذي اتبعته الصين والنسق الذي سارت عليه
ومنوال التمويل الذي دأبت على اتّباعه ، وعدم وجود آليات التصحيح المناسبة ، عوامل
أدت إلى أخطاء لم يكن هناك من ينبه لها.
فقد اتبعت الصين منوالا يعتمد على الاستثمار وأهملت الاستهلاك
الداخلي أو لم تعتمده بما فيه الكفاية ، وهو أحد المحركات الثلاثة لنسق النمو.
واعتمد الاستثمار على اقتراض واسع ، تم توفير كل مسهلاته بما فيه التساهل المفرط
في منح القروض بنسب فائدة منخفضة جدا ، وفتح باب الاقتراض خاصة للأفراد الذين
اتجهوا للاستثمار في العقار على نطاق واسع ، فارتفعت أسعار الأسهم وارتفعت أسعار
العقارات فارتفع الاقتراض بدوره من جديد وهكذا دواليك حتى وصل الأمر إلى طاقة
الإشباع ولم يعد العقار مربحا ولا مطلوبا ، فانهار الصرح ، كما حصل في الولايات
المتحدة وبعض دول أوروبا في عام 2008 ، ولكن بهزة أكبر نظرا للهشاشة التي يتميز
بها الاقتصاد الصيني ، وبذلك انهار كل شيء.
س/ والدولة أين الدولة لتوقف النزيف ؟
ج / الدولة نفسها في محاولة للإنقاذ اتخذت تدابير نقدية ومصرفية ( ضخ أموال لشراء
الأسهم للتصدي للهبوط المطرد لأسعارها وتخفيض قيمة العملة الى حد استنزاف
احتياطاتها المالية الضخمة ، فانخفض المخزون الذي كان الأكبر في
العالم قبل سنة ونصف من ما بين 3 آلاف وأربعة آلاف مليار دولار إلى 500 مليار
دولار) فنتج عن ذلك ارتفاع مشط للمديونية ، إلى الحد الذي بلغت فيه نسبة التداين العمومي
350 في المائة من الناتــج الداخلي الخام مقابل 100 في المائة قبل اندلاع
الأزمة ( حوالي 50 في المائة في تونس ولو بهيكلية سيئة). وقد تزامن ذلك بحجم كبير
لتهريب العملة ورؤوس الأموال. ومن هنا جاء الانهيار .
س / ثانيا قلنا أولا ولكن وثانيا ما
هي آثار البعد الاقتصادي ، بعد المالي ، في تطور الأزمة ووصولها لهذا المنعرج
الخطير ؟
ج / الصين ، مع الانفجار في نسق النمو ،
بقيت تجر أوضاعا غير طبيعية ، فإلى جانب البورصات ، هناك مالية خفية أو موازية ،
لا تخضع لأي رقابة أو تأطير، وهمها الإثراء السريع ، وهناك أيضا المضاربات ، وهناك
الفقاعة العقارية ( la
bulle immobilière ) التي وصلت
بالمقتنين، اعتمادا على قروض وراء قروض لا سيما في المجال العقاري ، إلى
الوصول إلى مرحلة العجز عن السداد ، وانهيار سوق المبيع . من هنا فإن البورصة
انهارت إلى حد وصلت الخسارة في حصة واحدة إلى حدود 1300 مليار دولار ، وبلغت
عملـــــية تمويل
الاقتصاد la
financialisation de l’économie حدودا لا تطاق ولم تخضع للضوابط
المتعارف عليها .
وجوابا على سؤالك فإن الصين عرفت 20 سنة من
نسق نمو عال إلى حد كبير ، ولكن ذلك النسق وصل إلى حدوده. مع التذكير أن بين 1994
و 2001 تراجعت نسبة النمو التي كانت 13 بالمائة إلى نسبة 7 إلى 8 في المائة ، وبعد
هذا الانحدار تعافى الاقتصاد الصيني الى حدّ سنتي 2006-2007 ثم عاد لينمو بنسب
عالية وصلت في سنة معينة حتى 14 في المائة ، ثم عاد إلى الانحدار مجددا وبصفة
متواصلة ، وهذه المرة لا يبدو أنه توجد
مؤشرات على تعافيه قريبا ، أما فيما
يخص نسبة النمو الحالية ، المعلن عنها رسميا ( 6 او 7 بالمائة ) فإن كثيرا من
المحللين يعتقدون انها ليست صحيحة ، وأن النسبة الحقيقية الحالية تحوم
حول 3 في المائة.
س / كيف تم هذا التراجع ، ووضع الصين في حال لا تحسد عليه ، وما هي عوامله الداخلية ؟
ج / يشكو الاقتصاد الصيني من تراجع انتاج
الصناعات المعملية وصناعات التعدين بعد أن كان ينعت على حد وصف الصين
بأنه ورشة العالم ، كما يشكو من تراجع في الصادرات وفي الواردات بينما تمثل
هذه جزءا هاما من الناتج ، وقد انخفض إنتاج واستهلاك الكهرباء وهو مؤشر مهم للركود
، إلى جانب تراجع واردات النفط.
وقد بلغ الاقتصاد الصيني مداه الأعلى ثم أخذ
بالتدهور ، فمنوال الانتاج بلغ حدوده و أصابه الوهن.
وكان لا بد أن يحدث ذلك لطبيعة الاقتصاد
الصيني ، فهو اقتصاد موجه، وهو اقتصاد إداري أي خاضع لقرارات إدارية (الأسعار –
سعر الفائدة – سعر الصرف)، وهو بذلك ليس اقتصاد سوق بالمفهوم المألوف ويلعب فيه
القطاع العام الدور الكبير إلى جانب الخاص، وبالتالي فهو اقتصاد هجين hybride قام على خلل واعتمد على توظيف كثيف برواتب ضعيفة ( الريفيون
النازحون الى المدن )، بالإضافة الى حجم كبير من الفساد في عديد المستويات
والقطاعات. زد على ذلك وجود قطاع زراعي قليل الانتاجية يشغل 36 في المائة من اليد
العاملة ولا يمثل سوى 10 في المائة من الناتج.
اما القطاع الصناعي فانه يستأثر بـ30 من
العمالة، و44 بالمائة من الناتج المحلي مع ضعف في نسبة القيمة المضافة نظرا لضعف
قسط القطاعات ذات التكنولوجيا العالية نسبيا فيه. ويستأثر قطاع الخدمات بـ 36 في
المائة من العمالة و46 بالمائة من الناتج المحلي. ويعتبر هذا المؤشر الأخير
ضعيفا بالمقارنة مع البلدان المتقدمة وحتى الصاعدة وهذا يمثل نقطة ضعف بارزة حيث
ان قطاع الخدمات يعتبر مؤشرا على تطور التكنولوجيات الحديثة التي تعد اليوم من
أبرز قاطرات النمو. فبالتالي تُعد إعادة هيكلة التوزيع القطاعي لصالح قطاع الخدمات
خاصة في المجالات الواعدة تحديا كبيرا للمرحلة المقبلة. كما إنه، وكما الشأن في
البلدان المتخلفة فإن الفوارق الجهوية كبيرة بين المناطق الساحلية والعواصم
والجهات الداخلية. كما انه لم يقع اعتبار الاستهلاك الداخلي محركا للتنمية حيث بقي
شاملا لطبقات دون طبقات خاصة أن 1 في المائة يستأثرون بـ 25 في المائة من الثروة،
و25 في المائة من السكان لا ينالهم منها سوى 1 في المائة. أما بالنسبة للتصدير وهو
المعتمد عليه، فإن 40 بالمائة منه ناتج عن مؤسسات مملوكة للخارج تماما و20 منه من
مؤسسات مملوكة بالشراكة بين الداخل والخارج.
س / وفي النهاية ، ما هي التأثيرات المحتملة
عالميا وعربيا وإفريقيا وتونسيا لانهيار اقتصادي صيني ، مقبل أو محتمل
إن لم يكن قائما حاليا ، ويكون قد بدأ في إفراز نتائجه ؟
ج/ إن الانهيار الاقتصادي الصيني من وجهة
نظري قائم الآن، وقد ظهرت عدواه في هبوط ملحوظ في بورصات آسيا وأمريكا وأوروبا
وأستراليا.
أما على الاقتصاد الحقيقي ( l’économie
réelle )
المعولم فإنه أمر واقع في مستقبل غير بعيد، لنذكر أن الاقتصاد العالمي لم يتعاف
بعد من أزمة 2008 التي انطلقت من الولايات المتحدة ، وبالتالي فإن الاقتصاد
العالمي يتميز حاليا بالهشاشة ، وكل أزمة جديدة قد تؤثر فيه تأثيرا كبيرا ،
وقد تصيبه بمرحلة ركود وانكماش جديدين. وإذا استمرت حالة الركود والانكماش الصينية
فإن ذلك سيكون له أثره الواضح ، فالشركاء الكبار للصين سيجدون أنفسهم وقد تراجعت
صادراتهم إليها، وهي مصدر دخل كبير لهم ، وكل هذا مرتبط بالكيفية التي ستواجه بها
الصين أزمتها ، فإن اقدمت على إصلاحات موجعة ، حول منظومة التمويل والمديونية ،
وإعطاء دور اوسع للقطاع الخاص ، ومعالجة قضية الفساد ، ودفع الاستهلاك الداخلي،
وإرساء نوع من العدالة بين الأفراد والجهات ، وتطوير صناعاتها نحو صناعات ذات قيمة
مضافة عالية مرتبطة بالتكنولوجيات الحديثة ، فإنها ستنجح على مدى متوسط ، رغم
أهمية التحديات .
على أن الصين تشكو أيضا من تكلس سياسي، يمنع
من تصور ديمقراطي فيه حرية تعبير تمكن من الإصلاح في الوقت المناسب ، فالقادة
الصينيون ما زالوا يرفضون كل إشارة لدمقرطة بلادهم ، معتمدين على ما يسمونه
الكفاءات المناضلة méritocratie ) (، ومع هذا فإذا تواصل انعدام الثقة في مدى كفاءة النظام وقدرته
على رفع التحديات فقد تدخل الصين في فترة اضطرابات وركود.
وفي الانتظار فإن هناك بلدان متضررة، فأسعار
البترول المتدنية ، وليست الصين سببا رئيسيا في تدهورها ، ولكنها كمستورد انخفضت
وارداته بما أضر بدول الخليج النفطية ولكن أكثر منها بدول مثل فنزويلا أو
نيجيريا التي باتت على أبواب الإفلاس ، أو الجزائر المتضررة كثيرا. كما إن عددا من
البلدان الافريقية التي طورت علاقاتها التجارية والاستثمارية مع الصين إلى درجة
تفوق 50 في المائة من مبادلاتها ستتضرر خاصة مع تزامن تراجع النمو والواردات
والاستثمارات الصينية مع تدهور الأسعار العالمية للمواد الأولية.
أما بالنسبة لتونس فلا يبدو أن هناك أثرا
مباشرا عليها نتيجة الأزمة الصينية ، نظرا لضعف مبادلاتها مع الصين نسبيا ومحدودية
الاستثمارات الصينية بها. ولكن ذلك يمكن أن يحصل بصورة غير مباشرة إذا أصاب الضرر
الدول التي تتعامل معها تونس في أوروبا
·
تم النشر في تزامن مع ليدرز العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق