Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الأحد، 23 أغسطس 2015

صفاقسيات إهمال الدولة ، أصاب بالتقهقر جهات بأكملها

صفاقسيات
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
تقهقر فاضح
تونس / الصواب /20/08/2015
منذ غادرت مسقط رأسي صفاقس قبل حوالي 55 سنة ، لم يتسن لي أن أقضي حوالي 10 أيام  متتابعة فيها،  وهو ما حصل خلال الأيام القليلة الماضية لشأن هام اضطرني للبقاء ، وقد حاولت خلالها أن أسترجع ما أمكن من ذكرياتي ، سواء من الأماكن التي كنت أرتادها ، أو تلك التي كنت أمر منها جيئة وذهابا للمدرسة أو الليسي ، أو سبيلي إلى جمعية الثقافة أو التعاون المدرسي التي كنت أمارس فيها نشاطا ثقافيا أقدر أنه غاب من المدينة وعلى أبنائها ، أو جمعية الطالب الزيتوني التي كنت أستلف منها الكتب تماما كما جمعية الثقافة أو اللخمية ، وكنت ألتهم تلك الكتب التهاما وأعود لأستلف غيرها ، وكان أمناء المكتبة في هذه وتلك من الجمعيات الأهلية التطوعية محمد الفريخة ، أو الهادي الفراتي يعجبان لسرعة إعادة الكتب المستعارة  الموثقة أسماؤها وتواريخ استعارتها علي بطاقة خضراء أو حمراء.
سواء في فترة الاستعمار أو بعد الاستقلال كان المرء يتمتع بالمناظر الخلابة في تلك الحدائق المتناثرة ، هنا وهناك بزهورها  وروائح ورودها ، وفي المقدمة منها الحديقة العمومية التي كانت تعرف بجنينة بنت الري ، والتي كانت النزهة فيها متعة فعلية ، والإطلال على فسقياتها الواسعة التي اختلفت بشأنها تواريخ الانشاء، وكانت المدينة على قدر كبير من النظافة ، وإذا صحت مني الذاكرة ، فلعل صفاقس هي التي فازت في بداية الاستقلال تباعا وعلى مدى سنوات بجائزة نظافة المدن ، حتى تدخلت السياسة وباتت الجائزة دائرية حتى لا يقع حرمان مدينة منها أو تحتكرها مدينة بعينها مهما كانت نظافتها،
لم يكن سور صفاقس يثير انتباهنا إلا لما عرف عنه من أنه أحد خمسة أسوار عربية دائرية متكاملة ، بل وكذلك فهو أقدمها و أعلاها ويعود لأكثر من اثني عشر قرنا ، وله أصلا فتحتان واحدة في باب الديوان أيام كان البحر يلطم الجهة الشرقية الجنوبية للمدينة والثاني في جهتها  الشمالية هو باب الجبلي ، ولأسباب " أمنية " وتجنبا من الفرنسيين لاحتمالات ثورة أخرى كتلك التي جعلت المدينة ، تقاوم احتلال الفرنسيين لها في سنة 1881 لمدة أشهر تم في وقت لاحق فتح أبواب جديدة ، وتم الحكم على أهل البلد  ـ بعد أن فرضت عليهم غرامات حربية ثقيلة من قبل المستعمر الفرنسي  ـ ، بأن لا تغلق أبواب السور لا ليلا ولا نهارا.
كان السور شاهق العلو يوحي بما كانت عليه المدينة على مدى التاريخ  من أهمية ، وعلى مدى الزمن زمن السلم والحرب كانت العناية به موصولة مستمرة ، حتى جاء الاستقلال فناءت البلدية تكاد تكون وحدها بعب صيانته العالية الكلفة ، حتى تجاوز الأمر حدود طاقتها.
واليوم و صفاقس  تعد ولاية ما بين 900 ألف ومليون ساكن  إضافة للمعتمديات التي اقتطعت منها لتكون جزء من ولايات أخرى و إضافة إلى الولايات التي تعتبر المدينة  نقطة الجلب الكبرى لشأنها الاقتصادي والاجتماعي، تنوء بأعباء ، جعلتها في وضع متردي ، وبعد أن كانت مدينة النظافة بامتياز ، أصبحت أكداسا من القمامة حتى في ما يسمى بالأحياء الراقية ، لا لتقصير من بلدياتها فقط ، ولكن لتقصير من سلطة مركزية بالنسبة لها صفاقس ليست لا في العير ولا في النفير، وبعد أن كان سورها  الذي يشكل مظهرا من مظاهر التراث العالمي ، بات متداعيا ، أحجاره التي شهدت مرور 1200 سنة في عز واهتمام وعناية ، تكاد تنهار وقد تعرت من ملاطها بفعل رطوبة شديدة وإهمال أشد وطأة، وإذ عدت لأقرأ الكتاب الشيق للدكتور رضا القلا ل " باب بحر  صفاقس .. التاريخ ، الذاكرة ، الهوية "، فقد اكتشفت البون الشاسع لما كانت عليه المدينة من حيوية ونشاط ونظافة، وحياة ثقافية نشيطة ، عبر جمعيات أهلية ـ تم حلها زمن التعاضد وأقيمت على أنقاضها لجنة ثقافية جهوية قتلت المجهود الأهلي ، فانتهى دور كشك الموسيقى أمام فندق صفاقس سنتر ، ولم تعد الفرق تشنف الأسماع في العشايا مجانا ، وغاب حفل انتخاب ملكة جمال صفاقس، وفي الكتاب صورة لملكة جمال المدينة سنة 1953 وهي إيطالية الأصل ( ماري تيريز مايوليني) ،  بدل كل ذلك سادت فوضى معمارية أفقدت المدينة شخصيتها .
عندما يتجول المرء في صفاقس  اليوم ، التي كان يعتقد أنه يعرفها ، وأن الحنين يشده إليها ، يكتشف أنه يقف في مدينة لا يعرفها ، فقدت شخصيتها وظلها ، وشبعت إهمالا، فلا المطار الدولي الذي كان مبرمجا قبل الاستقلال ، لم ينجز، وشركة صفاقس قفصة الفوسفاطية التي كان مقرها بالمدينة ، تغير اسمها إلى شركة قفصة ، ونقل مقرها من صفاقس إلى قفصة ، قبل أن تحرم قفصة منه وينقل بعد أشهر  إلى العاصمة زمن بن صالح ، في إطار سياسة مبرمجة  لتهميش كل من صفاقس وقفصة في آن واحد.
ولعل مدينة صفاقس هي المدينة الوحيدة من الدرجة الأولى أو حتى الثانية أو الثالثة سكانا ، أي أكثر من 20 ألف ساكن التي لا تتمتع بمدخل جدير بمدينة لا يقل عدد سكانها المقيمبن عن 400 ألف ساكن وسكانها نهارا عن 500 أو 600 ألف ، سواء من القادمين من العاصمة تونس أو من الجهة الجنوبية القادمين من قابس وما بعدها.
ولعل من غرائب الأمور ، أن يكون مغادر العاصمة تونس عبر الطريق السريعة ملاحظا أن الإشارات المرورية كلها تشير إلى  اتجاه سوسة ، فيما العادة أن الإشارة المرورية تشير إلى نقطة النهاية ، ويقول لي أحد المهتمين بصفاقس وشدة إهمالها ، أنه وبمجرد وصول الطريق السريعة إلى قابس بعد بضعة أشهر ، بعد سنوات ، من التأخير ، فإن الإشارة المرورية على تلك الطريق السريعة ستشير إلى قابس  كمنتهى لتلك الطريق ، وهذا هو الأمر الطبيعي.
قد يعتقد البعض ، أن هناك نبرة جهوية مقيتة ، ولكن دافع ذلك هو الحنين إلى مسقط الرأس ، التي عاش فيها المرء أحلى سني حياته قبل ولوج عهد المسؤولية ، من طلب للعلم ، ومن عمل بكل مسؤولياته ، وزواج بكل تبعاته وولادة أطفال تزداد بقدومهم المسؤولية ثقلا وتزداد بهم الحياة حلاوة وطعما سائغا.
وفي عصر لم تعد فيه مظاهر إعلان الجهوية والتشبث بتلابيبها كما كانت مظهرا سلبيا ، وباتت المناداة بها لا تنفصل عن مظاهر الحياة الجماعية ، وإن كانت من قبل ممارسة فعلية استفادت منها جهات بعينها وحرمت جهات أخرى، وأقدر أن جهة صفاقس الواسعة التي تمتد على عدة ولايات من البلاد كانت محرومة أشد الحرمان بقصد كما يقول البعض أو عن غير قصد كما يقول آخرون ، أو اعتبارا لأنها جهة يمكن أن تكتفي بذاتها بسبب ثرواتها البشرية الكبيرة التي أشعت على البلاد كلها ،  وذلك رغم فقرها الطبيعي من ثروات مادية ، وندرة المياه وشحها ، وانعدام  الموارد الطبيعية منجمية أو غير منجمية ، لولا عزيمة أبنائها وإقبالهم على العمل مهما كان مضنيا ، وانصرافهم إلى بذل الجهد ، دليل ذلك أن الولاية بالذات تأتي دائما في المرتبة الأولى ترتيبا في الامتحانات الوطنية  وخاصة الباكالوريا وذلك سنة بعد سنة ، كما إن التلاميذ من أصيلي الولاية ولو كانت ولادتهم في ولايات أخرى تميزوا بتصدر المراتب الأولى في معاهدهم.
ولعل الولاية بالذات والمحيط الدائري لها ، هي الأفقر إلى المشرعات الوطنية ، التي تولتها الدولة على مدى 60 سنة ، فلم يقم فيها رغم المؤهلات والكوادر لا مصنع إسمنت ولامركزية  كهربائية ولا مصنع حكومي في المجال الميكانيكي أو غيرها، كما إنها أي الولاية مثل ولاية القيروان وربما أكثر لم تحظ بأي اهتمام  سياحي أو توجيه في ذلك المجال رغم الثراء الثقافي من أسوار عالية الارتفاع والقيمة، ومدينة عتيقة بمباني ذات تاريخ ، وأبراج تعود لمئات السنين ، كان يمكن أن تزدهر معها إن لم يكن نشاط سياحي لمدن غير ساحلية مثل فلورنسا أو بولونيا في إيطاليا أو قرطبة وإشبيلية في إسبانيا أو أنجي وليموج في فرنسا كل ذلك على سبيل الذكر لا الحصر ، فعلى الأقل سياحة ترانزيت عبر ألجم وقابس والمدن البربرية قبل الوصول إلى جربة.
وبدل أن تكون صفاقس وجهتها قاطرة للنمو ، كما كانت ماضيا باتت عبئا من الأعباء على كاهل الدولة ،فهجرها أبناؤها أو جانب مهم منهم إلى العاصمة وتركوها فريسة  للإهمال والإقصاء.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق