قرأت
لكم
|
تسليم المحمودي للتعذيب و الموت
خطأ ســـيــاســي و أخـــلاقــــــي
د.أحمد القديدي
تونس/ الصواب / 16/08/2015
حكمت
هذه الأيام محكمة ليبية غريبة التركيب و الأطوار على بعض رموز نظام القذافي
بالإعدام و من بينهم كما كان متوقعا السيد البغدادي المحمودي أخر رئيس حكومة في
عهد الفاتح وهو طبيب مدني حاول إصلاح ما يمكن إصلاحه في ليبيا، كما أنه من قبيلة
المحاميد الأصيلة المشتركة بين ليبيا و تونس و الجزائر، و كانت الترويكا الحاكمة
في تونس مباشرة بعد الثورة ، اتفقت على تسليمه "للسلطات الليبية" وهي تعلم أن ليبيا لم تكن فيها سلطات بل تسلطات
ميليشيات ، ترتع إلى اليوم وتقتل، قدمتها لنا حكومة تونس حينئذ ظلما و
بهتانا على أنها "الشرعية الليبية"، بل أضافت ـ سامحها الله ـ أنها تيقنت من "عدالة القضاء الليبي" !! و أن
لديها ضمانات لمحاكمة عادلة شفافة تراعي حسب زعمها كل أصول العدل !!! و من موقعي
البعيد آنذاك نشرت مقالتي بعنوان (تسليم المحمودي وصمة عار) ،
و أرسلت لأصدقاء
المنفى القدامى ، و أصحاب الأمر آنذاك ، أنبه إلى مخاطر ارتكاب هذا الخطأ
الذي يدشن لممارسات غريبة ، أبعد ما تكون عن التقاليد التونسية ، التي كانت
في عهد بورقيبة تراعي الأصول الإنسانية ، و تقرأ حسابا للأخلاق السياسية .
فالزعيم لم يسلم
طيلة عهده لأي كان من الدول الصديقة و الشقيقة ، لاجئا استجار بنا أو معارضا فر
بجلده من الاستبداد و الظلم ، و الأمثلة معروفة لدى التوانسة ، وهو ما رفع مقام
بورقيبة ، و أنا نفسي تابعت قضية الصديق
الأستاذ الدكتور محمد فاضل الجمالي رحمة
الله عليه رئيس وزراء العراق (من 1952 الى 1954) ، ورئيس البرلمان العراقي في عهد
الملك فيصل طيب الله ثراه ، وهو الذي وقع على الميثاق المؤسس لمنظمة الأمم المتحدة
*، وهو المدافع الأصيل عن تحرير المغرب العربي الكبير، وربطته بالزعيم بورقيبة
علاقة كفاح طويلة ، وهو مفكر في التربية والحضارة كان لي شرف نيل صداقته في
الثمانينات ، و نشرت له دراساته على صفحات
الجريدة التي كنت أرأس تحريرها.
هذا الطود الشامخ مثل بقية أعضاء الحكومة العراقية تعرض
للسجن وحكم الاعدام ، بعد اغتيال الملك فيصل ورئيس وزرائه نوري السعيد ، و أفراد
عائلتيهما ، بل و سحلت الجثث و العياذ
بالله ، ثم حكمت عليه محكمة قيل أنها محكمة الثورة ! يرأسها عقيد في مجموعة
الإنقلاب اسمه عباس ، و تألم الزعيم بورقيبة لمصير صديقه وشرع يسعى لدى الحكام
الجدد لإصدار عفو عليه ، مستعينا بكل من يعرف من الشخصيات العربية و العالمية ، ثم
حدث أن دعي الرئيس بورقيبة لزيارة بغداد، فأبلغ حكامها أنه لن يقبل أية دعوة ، و
لن يقيم أية علاقة مع العراق ، إلا حين يطلق سراح محمد فاضل الجمالي، و حدثني الصحفي القدير في جريدة الصباح محمد
المختار الخضراوي ، أنه كان سنة 1959 في بغداد و دعاهم رئيس الانقلاب (و الجمهورية
!) عبد الكريم قاسم للغداء ، وصادف أن جلس الخضراوي قبالة عبد الكريم قاسم ، فسأله عن سبب تأخر بورقيبة عن زيارة بغداد ؟
فأجابه الصحفي بأن بورقيبة ينتظر إطلاق سراح صديقه الجمالي ،
فتحرك رئيس العراق في نفس اللحظة و نادى وزيره (للعدل أو الداخلية ) و أذنه بترحيل
الجمالي إلى تونس.
هذه أخلاق تونس و أخلاق الاسلام ، و لم يحد عنها أي حاكم
تونسي في التاريخ الحديث
و جاءنا محمد فاضل الجمالي ، و دخل تونس آمنا وعاش فيها ، و
تولى التدريس في جامعتها إلى أن توفاه الله فيها سنة 1997 ، و يحمل أحد شوارع تونس
اسمه تخليدا للرجل و لوفاء بورقيبة ، و كذلك فعل الزعيم مع العقيد طاهر الزبيري و
لم يسلمه للجزائر، و مع الرائد عمر المحيشي و لم يسلمه للقذافي .
إلى أن
جاء بعد الثورة من لم يمارسوا السلطة و لا يفقهون نواميس الدولة ، بل كانوا هم أنفسهم
ملاحقين مضطهدين مثلنا نحن، و لم يدركوا ثوابت العلاقات الخارجية التونسية التي
تأسست على بعض المبادئ ، فحدث ما كنا نخشاه و لم يسمعنا أحد منهم كما كانوا
يفعلون قبل فوزهم بأغلبية الأصوات ، و صموا آذانهم عمن ينصحهم ، واليوم يحاول كل
واحد منهم أن يتبرأ من تسليم البغدادي بمنطق سقيم لم يعد يقنع التوانسة ، فقد وقـــــع
الفأس في الرأس، و الرجل البريء بين أيدي جلاديه، و لم يعد له إلا الله تعالى ،
وهو حسبه و نعم الوكيل.
و الغريب أن بعض
هؤلاء عوض أن يعتذر بجرأة المناضل، اختار
التبرير الأجوف بالمنطق السياسوي، فقال قائل منهم أن "القضاء وحده هو الذي
قرر مصير المحمودي ! " أي نفس
ديماغوجيا من كان سجنهم و اضطهدنا جميعا بحجة أن القضاء مستقل !
و قال قائل أخر منهم
أن المحمودي هو دكتاتور ليبيا !!! والحقيقة أن الدكتور المحمودي هو محمد الغنوشي
ليبيا رجل مدني هارب لله ، حاول ما استطاع إنقاذ وطنه بما أتيح له ، والله سبحانه أعلم بالسرائر.
كيف و بأي قانون
نفسر ما حصل للرجل المستجير بنا ثقة فينا، لأنه بن عمنا من قبيلة المحاميد الأصيلة
التي كانت الفنانة صليحة تغني عنها (بخنوق بنت المحاميد عيشة ريشة بريشة و عامين
ما يكملوش النقيشة) ؟ كيف نسجن سياسيا لجأ إلى وطنه الثاني طالبا فقط المرور
للجزائر ؟ ماذا كان يضرنا لو سمحنا للمستجير بنا أن يبلغ مأمنه، كما أمرنا الله
سبحانه في كتابه المبين ، متحدثا عن مشرك ، فما بالك و البغدادي مسلم معروف بتقوى
الله قال الله تعالى )وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام
الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (التوبة
أية 6). ثم إني أنصح الذين ورطونا في هذا الخطأ أن يرجعوا إلى فيديو يقع تداوله هذه الأيام على
الفايسبوك ، نرى فيه و العياذ بالله حصة تعذيب رهيب للساعدي نجل القذافي ، لندرك ما الذي حصل للبغدادي المحمودي بعيدا عن
الكاميرات !
و أذكر أن الرئيس السابق بن
علي لم يسلم رئيس الحكومة الإيطالية (بتينو كراكسي) ، الذي لجأ إلى بلادنا ، و
استقر في منتجع الحمامات ، إلى أن جاء أجله فيها ، و نفع تونس بعديد المشاريع
الإيطالية التونسية المشتركة و الله أعلم ، فأنا نفسي كنت في منفاي النوفمبري و لا
أعلم الخفايا. إن السياسات عموما تؤسس على عقد أخلاقي ذي قيم إنسانية عليا يخطأ كل
من يعتقد أنها تأتي بعد المصالح !
*
كان محمد الفاضل الجمالي ثالث ثلاثة وقفوا إلى جانب القضية
التونسية بقوة في الأمم المتحدة والمحافل الدولية وهم محمد صلاح الدين وزير خارجية
مصر وظفر الله خان وزير خارجية باكستان وفاضل الجمالي وزير خارجية العراق ثم رئيس
حكــــومتها ( الصواب)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق