سانحة
|
يكتبها عبد اللطيف الفراتي
الأخطاء المتلاحقة
بشأن المحاكمات الكبيرة
تونس/ الصواب /14/4/2014
في حياة الشعوب تأتي فترات فارقة،
تحتاج لطي صفحة وفتح أخرى، هذه الفترات تمر عبر ملاحقة القائمين على النظام السابق
فيما يوصف بالبائد، بقصد القطع مع ماض يوصف عادة بالبغيض.
فبعد الحرب العالمية الماضية، جاءت
محاكمة زعماء النازية فيما اشتهر بمحاكمات
نورمبرغ، ولم تكن تلك المحاكمات التي عقدها الغالبون ضد المغلوبين، مثالا لا في
العدالة ولا في الانصاف ولا في التقيد بالمعايير التي كانت قائمة في البلدان
الديمقراطية التي نظمت تلك المحاكمات.
وفي فرنسا تمت محاكمة الماريشال
بيتان ومساعديه، ممن تورطوا مع المحتل
الألماني، في محاكمة سياسية لم تتوفر فيها مقتضيات المعايير السليمة للمحاكمات العادلة.
وبعد الثورة المصرية سنة 1952 تراءى
للرئيس جمال عبد الناصر، محاكمة وجوه النظام الملكي السابق، غير أن الجهاز القضائي
المصري الذي كان يتمتع بسمعة دولية، رفض في رفق أن يتورط، فأنشئت محكمة ثورية
ترأسها أيامها أحد الضباط الأحرار البكباشي عبد اللطيف البغدادي، وهي محكمة تحررت
من كل مقتضيات القضاء العادل، وبالخصوص لم يتم فيها العقاب على أساس جرم سبق أن
نصت عليه وعلى عقوبته نصوص سابقة الوضع.
وفي تونس وبعيد الاستقلال اضطر الرئيس
بورقيبة عديد المرات للجوء إلى قضاء استثنائي تمثل في محاكمات تولتها إما محاكم
أمن الدولة أو محاكم شعبية تولت محاكمة اليوسفيين أو وجوه النظام الملكي أو قتلة
الهادي شاكر قبل محاكمة أحمد بن صالح أو المتورطين في مؤامرة 1962. ويبدو أنه في
تلك الفترة كان القضاء العدلي برؤوسه
وهاماته العالية عازفا عن التورط في محاكمات سياسية.
أما في العراق وبمجرد سقوط نظام
الرئيس السابق صدام حسين وتأسيره ، فقد جرت محاكمات سياسية لأعلى القيادات
السياسية، صدرت فيها أحكام عديدة بالإعدام، لعل أبرزها حكم إعدام الرئيس نفسه وهو
حكم تم تنفيذه وقامت حملة ضده لسببين اثنين:
أولهما أن حكم الإعدام بات مرفوضا
وغير مقبول وخاصة في القضايا السياسية
وثانيهما أن الحكم الصادر، لم تتوفر
فيه مقتضيات المحاكمات العادلة والشفافة والمنصفة ، بل اعترته تجاوزات وخروق لم
تعد مقبولة هذه الأيام.
**
وفي تونس وبعد الثورة التونسية التي
توجها هروب الرئيس الأسبق زين العابدين بن
علي، لم يكن مقبولا أن لا تتم محاكمات لرؤوس النظام كله، كان ذلك مطلبا شعبيا لا
يمكن الحياد عنه أو تجاهله، وليس أقرباء الشهداء والجرحى فقط الذين كانوا يطالبون
بذلك ، لإماطة اللثام على من تولى قتلهم أو جرحهم، والقصاص "العادل"
منهم، بل كان هناك توجها شعبيا ، لتحديد المسؤوليات السياسية لانخرام وضع كامل في
البلاد على مدى عشريتين .
ولما كانت الثورة بلا رأس أو رؤوس ولا
تنظير، فقد استمر النظام السابق بشكل من الأشكال.
وقد اضطرت حكومات متعاقبة للمسايرة،
دون حرص حقيقي من وجهة نظرنا لعقاب المتهمين.
وكانت الحكومات تسعى لتخفيف الاحتقان
الشعبي، والإيهام بأن المحاسبة قادمة.
وما يجهله أو يتجاهله اليوم الكثيرون
اليوم هو أنه بحكم تورط أمنيين وحتى عسكريين في الأعمال السابقة لنجاح الثورة أو
حتى بعد نجاحها ، فإن القانون التونسي ينص على أن يتم التحقيق وتتم المحاكمة في
المحاكم العسكرية ولا العدلية.
تلك حقيقة يتجاهلها البعض اليوم، رغم
المعرفة التامة بها والنصوص التي اعتمدت أيامها في ربيع 2011 .
غير أن الخرق
الأول هنا يتمثل في أنه وبحكم الدستور السابق والقوانين المنبثقة عنه ، فإنه وباعتبار
تورط رئيس الدولة وبعض وزرائه في هذه القضايا، فإن المحكمة التي كان يجب أن تتعهد
في الواقع ، هي المحكمة العليا، المؤهلة وحدها للنظر في قضايا متورط فيها رئيس
الدولة ووزراء من حكومتها، بما يجر إليها أي تلك المحكمة كل المتورطين بالتبعية في
تلك الجرائم.
وإذ يقول البعض بأنه وما دام دستور
1959 قد تم إلغاؤه، فإن النص الذي أنشأ المحكمة العليا والقانون
المتعلق به، قد سقط ، والواقع أن القانون الدستوري في القانون المقارن يجمع على أن
إلغاء دستور، لا يلغي القوانين المنبثقة عنه، وإلا أصيب البلد أي بلد بفراغ قانوني
فظيع.
ومن هنا جاء الخطأ الأول فأحيلت
القضايا كلها للمحاكم العسكرية، تبعا لتورط أمنيين وعسكريين ، وهو موقف صحيح، لو
لم يكن هناك تنصيص على محكمة عليا منشاة وكان يكفي تشكيلها مجددا.
وبالتالي فإن تكليف القضاء العسكري
بمهمة محاكمة المتورطين في قتل وجرح شهداء ومصابي الثورة، بدل القضاء العدلي، هو
صحيح بقدر ما لم يقع اللجوء للقانون الدستوري والقانون عامة بتشكيل محكمة عليا
تتشكل بالمناسبة.
**
لن نطيل هنا الحديث عن أطوار تلك
المحاكمات، في طورها الابتدائي ثم في طورها الإستئنافي ( على الأقل للبعض منها) ،
ولكن بدا غريبا أن تقع عمليات إطلاق سراح لرؤوس من النظام السابق، في أولى
القرارات الصادمة.
ذلك أن المحاكم العسكرية لا يمكن إلا
أن تتقيد بنصوص سابقة الوضع، وفي حالات كثيرة، فقد تم تسريح متهمين من وزراء
وغيرهم على أساس من أن القانون التونسي لا يتحدث مطلقا عن جرائم سياسية، فهي كم
مجهول لديه، وبالتالي فلا يمكن محاكمة أي كان بتهمة الفساد السياسي، قد يكون البعض
مورطا في فساد مالي أو في فساد اقتصادي، ولكن أن يتهم أي كان بالفساد السياسي فقد
كانت تلك تهمة لا تستقيم.
وبالتالي وفي ما
عدا قضايا قليلة متعهدة بها المحاكم العدلية للفساد المالي، وهو خطأ لأن الوزراء
لا مجال لمحاكمتهم إلا أمام المحكمة العليا، فإن القضايا الخاصة بالشهداء تحولت
بقدرة قادر للقضاء العسكري الذي بت في البعض منها إستئنافيا، في انتظار الباقي.
ولا نريد هنا أن ندخل في متاهات نقاش
مدى جدية الأحكام، فالسلطة التقديرية للقاضي هي عماد العمل القضائي، ولكننا نريد
أن نقول وبإيجاز شديد:
1/ أن الأحكام الصادرة آخر الأسبوع
الماضي كانت صادمة لا فقط لأهالي الضحايا من شهداء وجرحى فقط، بل صادمة للرأي
العام، الذي رأى فيها وكأنها وأد للثورة التي لم تستكمل مراحلها، ووصل الأمر للبعض
أن قال بأنه ليس ممكنا الحديث عن تصحيح أو استكمال مسار الثورة، بل عن ثورة جديدة
محددة الأهداف قائمة على قيادة فعلية ونظرة نظرية وفعلية محددة.
2/أنه وفي كل الأحوال فإن أحكام
المحاكم (الفعل المحكوم فيه la
chose jugée) أمرها يقوم فقط على الطعن
القانوني في درجات التقاضي المختلفة.
3/أن
المطالبة اليوم بإقامة محاكم خاصة وسحب القضايا من القضاء العسكري، هو دعوة لإنشاء
قضاء استثنائي، بينما المفروض أن دولة القانون لا تعرف معنى لمحاكم استثنائية. بما
في ذلك القضاء العسكري إلا في ما بين عسكريين.
4/أن ما بقي
هو الطعن عبر التعقيب، علما وأن محاكم التعقيب هي محاكم قانون، تنظر في مدى احترام
القانون أي في الشكل وليس في الأصل، أي إن للنيابة العسكرية أن تطعن في مدى احترام
القرار القضائي، لمنطوق القانون ونصوص الإحالة.
5/ أن
المطالبة بإعادة المحاكمة يذكرنا بالزمن السيء في آخر حياة بورقيبة السياسية، الذي
لم يعجبه الحكم الصادر بحق الشيخ راشد الغنوشي فدعا لإعادة محاكمته طلبا لإصدار
حكم بالإعدام، وكانت المحاكمة معينة ليوم السبت 7 نوفمبر 1987 لولا أن حم القضاء
واستبعد من مركزه الرئاسي، ولو حصلت تلك المحاكمة لصدر حكم بالإعدام، ولحرمت البلاد
من رجل ، مهما اتفقنا أو اختلفنا معه، فهو رجل يمثل جزء من تاريخ تونس المعاصر ومن
فكرها.
**
بقي أن
القانون أي قانون في العالم يسمح بمراجعة حكم، إذا تم توفير عناصر جديدة،
واعتقادنا جازم بأن هناك عناصر فعلية كثيرة يمكن لو صدقت الإرادة الكشف عنها،
وبالتالي المطالبة بمراجعة الأحكام الصادرة.
غير أن
الأحكام الصادرة هي أحكام اتصل بها القضاء، وهي نافدة اليوم ، مهما كان الموقف
بشأنها. وليس الرأي العام هو من يعطل القرار القضائي مهما كان سواء منصفا أو غير
منصف، وإن كان هذا الحكم بالذات قد يكون وراءه ما وراءه، قبل وخلال وبعد المحاكمة.
**
وإذ لا يمكن للمرء أن يستغرب ردود الفعل سواء
الشعبية، أو لضحايا أو أقارب الضحايا، فلعل للمرء أن يتوقف عند أمرين اثنين:
أولهما ردة
فعل النواب ولحد علمي فإن النص الذي حرره النواب في الدستور الجديد الذي لم يجف
حبره بعد وفي فصليه 109 و110 جدير بهم العودة لقراءته.
ثانيهما :
أنه ومهما خوله القانون للسلطة التنفيذية، وخاصة من صلاحيات رئيس الجمهورية بشأن
القوات المسلحة، فإنه من الفجاجة وحتى قلة
الذوق، أن يصدر ما صدر من قرار، لا مفهوم ولا مبرر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق