Citation

رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بأفضل من قولنا قبلناه. الإمام الشافعي

الخميس، 14 مايو 2020

سانحة : ....وذهب عملاق آخر إلى الخلود

سانحة

يكتبها عبد اللطيف الفراتي
واحد بعد آخر ..
الشاذلي القليبي يغيبه الموت
فيترك فراغا كبيرا في الساحتين الثقافية والسياسية
تونس / الصواب / 13/05/2020
مما يزيد من لوعة الحسرة  والفراق ، أن يـــموت رجل مثل الشاذلي القليبي ، ولا نستطيع مرافقته إلى مثواه الأخير، في هذا الزمن السيء بكل المقاييس ، مثلما حصل لي قبل أربعين يوما ، عند وفاة صهري زوج ابنتي الكبرى ، على صغر سنه نسبيا، فلا نستطيع مرافقته إلى مثواه الأخير,,
نفس الإحساس ونفس الظروف ، أن يموت قريب على صغر سنه  هو هشام المراكشي ، ونفتقده فلا نلتقيه  حتى ميتا بطعم حاد للمرارة ، مصيبة كبرى ، وأن يموت عملاق مثل الشاذلي القليبي ، مصيبة بطعم آخر في مرارته في الحلق ولا نتمكن من تشييعه .
كان الشاذلي القليبي يملأ الساحة ، بعلمه وهدوئه ، ودماثة أخلاقه ، وكفاءته وتفانيه في خدمة الصالح العام ، بدون ضجيج ولا ادعاء.
منذ أن جاء من فرنسا حاملا للتبريز في اللغة العربية وآدابها، وهو في عمل دؤوب لفائدة بلاده،  ولفائدة الأمة العربية جمعاء ، والانسانية كلها.
أقتربت منه كثيرا ، وإذ ليس غريبا أن أحمل له تقديرا بلا حدود ، فلن أكون مدعيا إذ أقول إنه كان يحمل هو نفس الشعور تجاهي ، لم يكن يفصح عن ذلك ، ولكني كنت أستشف ذلك منه شخصيا ، ومما كان ينقله لي أقرب المقربين إليه وخاصة أحمد الهرقام ومحمد المغربي .
وحتى نعرف معدن الرجل بلا رتوش سأتوقف ، عند أربع  محطات تبين عمق فكر ، وأخلاق الرجل:
أولها في السبعينيات من القرن الماضي ، وكنت صحفيا شابا، ولكني كنت لسبب ما أحوز على رضا عدد من المسؤولين وكبار القوم ، وفي نفس الوقت على استهجان بعضهم وفي كثير من الأحيان رضا واستهجان نفس المسؤولين ، في أحد الأيام ولم أكن أحمل أية مسؤولية ، لا في صحيفة الصباح ، ولا في المجتمع المدني وخاصة جمعية الصحفيين التي توليت فيها مسؤوليات عديدة ، قبل أن أصبح رئيسا لها، دعتني كاتبة السيد الشاذلي القليبي إلى مكتبه ،وكان بيننا في جريدة  الصباح والوزارة مائة متر ، بين نهج علي باش حانبة ، ونهج الجزائر ، دخلت مباشرة إلى مكتبه ، حيث وجدته مضطربا ، فكان قد صدر أمر باحتجاز جريدة تونس هبدو، استدعاني ولم أكن أحمل صفة رسمية ليقول لي : لست مسؤولا عن إيقاف الجردة ، وأنت أول من تعرف أنني ضد النيل من حرية التعبير ، وسأسعى جاهدا للرجوع في هذا القرار ، فهمت الرسالة ، وبلغتها على أنها معلومة من عندي ، وخف جو احتقان ساد يومها ، وكان له الفضل في رفع القرار.
وثانيها  وهو حديث عهد بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية في أواخر السبعينات  ، عندما دعاني إلى مكتبه ، كان أمامه مقال للدكتور كلوفيس مقصود ، وهو كاتب وسياسي لبناني مرموق ، كان كتب مقالا رائعا في صحيفة النهار العربي والدولي ، التي كنت مراسلا لها في تونس ، طلب مني الشاذلي القليبي أن أسعى بصفة غير رسمية ، للاتصال برئيس التحرير أيامها عبد الكريم أبو النصر ، وأنظم معه استقدام الدكتور مقصود إلى تونس،  من مقره في بيروت ،  لمقابلة في إطار التكتم مع أمين عام الجامعة العربية ، وفعلا تم ترتيب الأمور ، ووصل الدكتور كلوفيس مقصود إلى تونس في طي الكتمان ، وانتظرته بسيارتي أمي 8 الزرقاء  الصغير ، في المطار ، ورافقته إلى مقر الجامعة العربية في شارع خيرالدين باشا، أوصلته إلى الطابق السادس وانسحبت إلى مكتب أحد الأصدقاء الكثيرين بمقر الجامعة ، دون أن أنسى تنبيه السكريتيرية الخاصة بالأمين العام إلى حيث أنا متواجد ، دامت المقابلة ساعة ونيف ، ثم تمت دعوتي لاصطحاب الدكتور كلوفيس مقصود إلى فندق أفريكا،  حيث كنت حجزت له " سويت"، صاحبت الدكتور للفندق ، ولم يحدثني بشيء ، قدرت تحفظه ، أوصلته حتى الاستقبال واطمأننت إلى أنه تسلم مفاتيح غرفته، عشية نفس اليوم صدر عن مكتب الأمين العام  ، قرار بتعيين الدكتور كلوفيس مقصود سفيرا مندوبا للجامعة العربية في الامم المتحدة ، وكان أفضل سفير للعرب في المنتظم الأممي على مدى 10 سنوات ، بصوته الصادح وتحاليله المقنعة وقدراته الخارقة على التواصل، ولن أطيال في الحديث عن فراسة الشاذلي القليبي في اختيار المساعدين المقتدرين ، في الإدارة التونسية ، ولكن سأتوقف عند من كان له فضل اختيارهم ، وهو أمين عام للحامعة الغربية ، ومنهم حمادي الصيد كسفير للجامعة في باريس ، حيث أمكن له بعلاقاته الواسعة وفصاحته وسيطرته على أعقد الملفات ، أن يعطي للقضية العربية بعدا لم تكن له سابقة ، وثالثة الأثافي  عندما عين أحمد الهرقام سفيرا للجامعة العربية لدي ديوان الأمم المتحدة في جنيف ، حيث يتم التحضير لأهم القرارات التي تهم الصراع العربي الاسرائيلي، رافق ذلك إدارة إعلامية نشيطة في المقر بتونس بمحمد المغربي وعبدالله عمامي واللبناني وليد شميط ، وقد تفطن الشاذلي القليبي وهو رجل الثقافة والإعلام ، إلى الدور البارز لكليهما في تشكيل رأي عام مساند للقضايا العربية.
وثالث موقف شهادة هو أني وكنت في 1979 حديث عهد بالمسؤولية في جمعية الصحفيين ، عندما دعاني يوما ، وسألني عن مقر الجمعية ، وكان يراها " بالعين الكبيرة " كما يقول مثلنا الوطني ، وهو الذي تم استدعاؤه لمقرات نقابات وجمعيات الصحفيين،  للمحاضرة في نيويورك وباريس والقاهرة ، ورجاني أن أتدبر مقرا لائقا للجمعية ، على أن تتولى وزارة الثقافة والاعلام تمويل تكاليف الكراء والتأثيث ، وقبل يوم من مغادرته للوزارة ، ليتولى الأمانة العامة للجامعة العربية ، سلمني شخصيا وباسم الجمعية ، صكا بمبلغ الكراء والتأثيث ، بعد أن كنت قد قدمت فاتورة ، في تلك التكاليف ، وكانت تلك أول مرة تنتصب فيها الجمعية في مقر لائق في نهج النمسا في قلب العاصمة.
ولن أطيل أكثر ولكني سأذكر أن الشاذلي القليبي ، كان هو محرروكاتب الخطب الرسمية للرئيس بورقيبة ، وكان تأثيره كبيرا فيها ، ولعل أبرزها ذلك الخطاب ، الذي أعلن فيه بورقيبة ،عن أنه لا " يرى مانعا في قيام أحزاب غير الحزب الحاكم ، وهو نص تاريخي باعتبار ظروف ذلك الزمن في 1980/1981 ، تم تصوره في الصيغة المقبولة من الرئيس بورقيبة ، بالتعاون بين الشاذلي القليبي ومحمد مزالي الوزير الأول آنذاك.
وخلاصة القول ، أن الشاذلي القليبي لم يكن أقل من مؤسسة قائمة الذات بشخصه وهدوئه وسلامة سريرته ووطنيته ونجاعته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق